
يندرج القانون رقم 43.22 المتعلق بالعقوبات البديلة في سياق استكمال ورش إصلاح منظومة العدالة وتنزيل مضامين دستور المملكة لسنة 2011، الذي يحظى باهتمام كبير من طرف صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله منذ توليه العرش، الذي ما فتئ في مختلف خطبه وتوجيهاته السامية يدعو إلى نهج سياسة جنائية حديثة ومتطورة تقوم على مراجعة وملاءمة القانون الجنائي والمسطرة الجنائية ومواكبتهما للتطورات والتحديات، خاصة ما يتعلق منها بتطوير السياسة العقابية عبر مقاربات تساهم في تعزيز التأهيل والاندماج داخل المجتمع، إضافة إلى الحد من مشكل الاكتظاظ وانسنة العقوبة.
وقد حضي هذا القانون بنقاش دام لسنوات قبل أن يصادق عليه من قبل البرلمان وينشر بالجريدة الرسمية[1] وإن كان تنفيذ هذا القانون يرتبط بنصوص تنظيمية توضح وتفصل كيفية دخوله حيز التنفيذ، سيما أن تنفيذه على أرض الواقع يقتضي التعامل والتعاقد مع مجموعة من الشركاء الذين سيساهمون بدورهم في تنزيل هذا القانون الجديد وجعله بديل ناجع وناجح.
وعليه فإن الرهان اليوم تجاوز مرحلة النقاش والتشريع إلى مرحلة تنزيل قانون حديث قانون يدفع نحو المزيد من الانسنة، قانون يُعلي من مكانة الحرية ويجعل من العقوبات السالبة للحرية ملاذا أخيرا لا يلجأ إليه إلا استثناء في خطوة تشريعية وحقوقية متقدمة تسمو بالتشريع الوطني إلى مصاف التشريعات الحديثة.
وتصنف العقوبات البديلة ضمن العقوبات التي يمكن أن تحكم بها المحكمة حسب ما ورد في المادة الأولى من القانون 43.22 التي تنسخ وتعوض الفصل 14 من مجموعة القانون الجنائي، إذ جاءت لتنص على أن العقوبات تكون إما أصلية أو بديلة أو إضافية، مما يسمح لنا بالقول على أن ما يسري على العقوبات الأصلية والإضافية من أحكام يسري حتى على العقوبات البديلة إلا ما استثني بنص خاص.
وعليه فإن الحديث بشأن هذا القانون يقتضي منا الوقوف على مرجعياته المختلفة حتى ننطلق من دواعي وغايات تشريعه، حتى ننتقل بعدها إلى الآفاق المنتظرة من هذا القانون ليكون بذلك لبنة من لبنات بناء سياسة عقابية حديثة متطورة.
وبغية الحديث في هذا الإطار، يتطلب منها الأمر تقسيم هذا المقال إلى محورين وفق التقسيم الاتي:
- المحور الأول: من منطق العقوبة إلى فلسفة البديل قراءة في المرجيعة المؤطرة للقانون 43.22.
- المحور الثاني: من التنصيص إلى التنزيل العقوبات البديلة في اختبار الفعالية.
المحور الأول: من منطق العقوبة إلى فلسفة البديل قراءة في المرجيعة المؤطرة للقانون43.22.
يعد القانون 43.22 من القوانين المتعدد المرجعيات، بحيث نجد أن أولى هذه المرجعيات الخطاب الملكي السامي 20 غشت 2009 الذي دعا فيه صاحب الجلالة محمد السادس إلى الأخذ بالعقوبات البديلة من خلال دعوته إلى إصلاح شامل لمنظومة العدالة.
وبعد ذلك نجد من أبرز المرجعيات الاستشارة الموسعة والانفتاح على كل الفاعلين في منظومة العدالة، والتي صدر عنها ميثاق وطني لإصلاح منظومة العدالة الذي حظي بالموافقة الملكية السامية بمقتضى خطاب العرش ليوم 30 يوليوز 2013، الذي جاء فيه:
"وفي هذا الصدد، نسجل بارتياح التوصل إلى ميثاق لإصلاح المنظومة القضائية، حيث توافرت له كل الظروف الملائمة، ومن تم فإنه يجب أن نتجند جميعا، من أجل إيصال هذا الإصلاح الهام إلى محطته النهائية".
كما سجل دستور المملكة لسنة 2011 مجموعة من الأسس الداعية إلى تكريس مزيد من الحقوق وتجويد الحريات، إذ جاء الباب الثاني منه معنونا بباب الحريات والحقوق الاساسية، كما خصص الباب السابع كاملا للسلطة القضائية ليؤكد على استقلالية السلطة القضائية، وكذا التأكيد على حقوق المتقاضين وحسن سير العدالة عبر إقرار مبادئ كونية راسخة تحمي الحريات أكثر من الدساتير السابقة.
عطفا عن كل هذه المرجعيات فقد نص دستور المملكة في تصديره الذي يعد جزءا لا يتجزأ من الدستور على سمو الاتفاقيات الدولية المصادق عليها على التشريعات الوطنية في خطوة جد متقدمة نحو المزيد من الحقوق والحريات المتفق عليها دوليا.
وتجد الإشارة في هذا السياق أن المغرب يعد عضوا منخرطا ونشيطا في المنتظم الدولي، بحيث صادق على مجمل الاتفاقيات الدولية ذات الصلة منذ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان كأول صك دولي يفصل في حقوق الأفراد وحريتهم ولازال إلى حدود يومه منخرطا في كل ما يعزز حقوق وحريات الأفراد، وهو ساهم بشكل كبير في توحيد مجموعة من القوانين والمساطر، ما يؤسس لتوجه جديد نحو رسم معالم سياسة جنائية موحدة، وذلك في إطار تعزيز التعاون الدولي في مواجهة المد المهول للجريمة عبر العالم.
بالإضافة إلى كل هذه المرجعيات سواء منها الدولية وكذا الوطنية نجد أن هناك مرجعيات واقعية تدعوا إلى تجديد وتصويب السياسة العقابية نحو تغيير جدري في التعامل مع العقوبة السالبة للحرية ومنها مسألة الاكتظاظ بالسجون، إذ تؤكد المعطيات أن نسبة مهمة من المعتقلين محكومين بعقوبات سالبة للحرية قصيرة المدة يمكن أن تشملهم هذه العقوبات البديلة حال تطبيقها مما سينعكس إيجابا على وضعية السجون وبالتبعية على وضعية التأهيل و وإعادة الإدماج.
ذلك أن هذه البدائل توفر للمحكوم عليه معاملة عقابية خارج أسوار السجن من شأنها تسهيل عملية إدماجه داخل النسيج الاجتماعي مع توفير مقومات هذا الاندماج ليحتفظ المحكوم عليه بكل أوضاعه الاجتماعية والاقتصادية ومكتسباته وروابطه الأسرية والاجتماعية.
المحور الثاني: من التنصيص إلى التنزيل العقوبات البديلة في اختبار الفعالية
للحديث عن آفاق وفعالية تنزيل القانون 43.22 وجب استحضار الشروط المشروطة بنص هذا القانون للإستفادة من هذه البدائل، إذ اشترط المشرع أن تكون المدة المحكوم بها لا تتعدى خمس سنوات، وهنا يثار إشكال بخصوص مدى قابلية تطبيق هذه العقوبات البديلة في مادة الجنايات خاصة لما تكون العقوبات مخففة إلا أن النص جاء واضحا لما اقتصر على الجنح دون الجنايات.
ولما كانت الغاية سامية في مقاصدها قبل مبانيها ولا تتعلق بحل أو تخفيف أزمة الاكتظاظ بالدرجة الأولى نجد أن القانون 43.22 اشترط شرطا آخر وهو المتعلق بسجل السوابق القضائية، بحيث أن حالة العود[2] تعد مانعا من موانع الاستفادة من هذه البدائل بنص صريح.
وبالتالي فإن الاستفادة من هذه البدائل من شأنه تعزيز قيمة الردع باعتباره الغرض الأساسي الذي لا يمكن بأي حال من الأحوال الاستغناء عنه أو تجاهله عند توقيع العقاب أو البديل، وذلك عبر تأهيل المستفدين ومساهمتها في الكف عن الجريمة وفتح المجال أمام تغيير المسار.
وما يزيد من آفاق تنزيل هذا القانون هو أنه لم يأتي على إطلاقه ليسري على جميع الجنح بل استثنى بعض الجرائم من إمكانية الاستفادة نظرا لخطورتها واستنكار المجتمع أو الرأي العام لها، وهي المحددة في الفصل 35.3 وهي:
ـ الجرائم المتعلق بأمن الدولة والارهاب
ـ الاختلاس أو الغدر أو الرشوة أو استغلال النفوذ أو تبديد الأموال العمومية
ـ غسيل الأموال
ـ الجرائم العسكرية
ـ الاتجار الدولي في المخدرات
ـ الاتجار في المؤثرات العقلية
ـ الاتجار في الأعضاء البشرية
الاستغلال الجنسي للقاصرين أو الأشخاص في وضعية إعاقة.
وبالنسبة لمسألة تنفيذ العقوبات البديلة فإن الاختصاص وبالتبعية ينعقد بالأساس للمحكمة الابتدائية باعتبارها الجهة المختصة للبت في الجنح، إلا أنه وبتعا لقواعد الاختصاص فإن محكمة الاستئناف يمكنها كذلك أن تحكم بهذه البدائل لما تكون درجة ثانية وهي بصدد البت في الجنح الاستئنافية.
علاوة على ذلك، يمكن لغرفة الجنايات أو الجنايات الاستئنافية أن تحكم بالعقوبات البديلة في حالتين، الأولى لما تعرض عليها قضية تتعلق بجناية مرتبطة بجنح غير قابلة للتجزئة وتحكم بالبراءة بخصوص الجناية، هنا يمكنها أن تحكم وتطبق العقوبة البديلة باعتبارها صاحبة الولاية العامة وفقا للفصل 418 من قانون المسطرة الجنائية[3].
والحالة الثانية تكون لما تطبق غرفة الجنايات أو الجنايات الاستئنافية مقتضيات المادة 432 من قانون المسطرة الجنائية، بإعادة تكييف الجناية إلا جنحة كما هو مخول لها قانونا، مما يتضح معه أن الإمكانية كائنة وقائمة ويمكن اللجوء إلى العقوبة البديلة ولو كان الملف معروضا أمام غرفة الجنايات أو غرفة الجنايات الاستئنافية حسب ما بسطنا أعلاه.
وتجدر الإشارة إلى أن مهمة القاضي بتفريد العقاب هو تفريد مزدوج إذ أن القاضي يفرد العقوبة الأصلية أولا وفق المحدد في الفصل 141 وما يليه من مجموعة القانون الجنائي وبعدها ينتقل إلى تفريد العقوبة البديلة بناء على التفريد الأول، وهو ما يفتح المجال أمام القاضي لتفعيل مقتضيات العقوبات البديلة بعد إعطائها سلطة التفريد بشقيها وتعديد الاختيارات أمامه بحيث أن له الحق أن يحكم بأكثر من عقوبة بديلة.
ويبقى الرهان كل الرهان على التعامل القضائي والتجاوب مع كل ما يمكن أن يثار من إشكاليات عملية شأنه شأن باقي القوانين إلا أن التوجه العام اليوم وفي مناسبات عديدة يؤكد أن الإرادة الجماعية حاضرة من أجل تطبيق هذا القانون الذي يشكل لا محالة منعطفا مهما في مسار تطوير السياسة الجنائية المغربية.
الخاتمة:
إن تحقيق العدالة الجنائية وتوفير الثقة للمتقاضين لا يتأتى إلا إذا توجت العقوبات بمختلف تصنيفاتها أصلية أو بديلة إلى واقع ملموس عن طريق تحقيق الغاية المتوخاة من إصدارها بتحقيق الردع وإعادة تأهيل المحكومين وإدماجهم إذ بدونها تبقى بدون جدوى، ومن أجل ذلك فقد عمل التشريع الوطني على وضع مجموعة من الآليات والتدابير التي يسعى من خلالها إلى إعادة الاعتبار للعقوبة وبدائلها للغرض التي سنت من أجله، وذلك من خلال مجموعة من الإصلاحات والأوراش الكبرى وعلى رأسها مشروعي القانون الجنائي وقانون المسطرة الجنائية، دون أن ننسى القانون 43.22 المتعلق بالعقوبات البديلة باعتبار آلية من آليات العدالة الجنائية.
الهوامش
[1] ـ صدر هذا القانون بموجب الظهير الشريف رقم 1.24.32 صادر في 18 من محرم 1446 ( 24 يوليوز 2024) بتنفيذ القانون رقم 43.22 المتعلق بالعقوبات البديلة.
[2] ـ عرف الفصل 154 من مجموعة القانون الجنائي مفهوم حالة العود على أنها:
" يعتبر في حالة عود، طبقا للشروط المقررة في الفصول التالية، من يرتكب جريمة بعد أن حكم عليه بحكم حائز لقوة الشيء المحكوم به، من أجل جريمة سابقة".
" يعتبر في حالة عود، طبقا للشروط المقررة في الفصول التالية، من يرتكب جريمة بعد أن حكم عليه بحكم حائز لقوة الشيء المحكوم به، من أجل جريمة سابقة".
[3] ـ تنص المادة 418 من قانون المسطرة الجنائية على :
" تبت غرفة الجنايات ابتدائيا، ولا يمكن لها أن تصرح بعدم الاختصاص ما عدا في القضايا التي يرجع النظر فيها إلى محكمة متخصصة".
" تبت غرفة الجنايات ابتدائيا، ولا يمكن لها أن تصرح بعدم الاختصاص ما عدا في القضايا التي يرجع النظر فيها إلى محكمة متخصصة".