MarocDroit  -  موقع العلوم القانونية
plateforme des décideurs juridiques - Platform of Legal Decision-Makers




التنظيم الإداري للجريمة المنظمة وبدايات الظهور قانونياً وواقعياً

     



التنظيم الإداري للجريمة المنظمة وبدايات الظهور قانونياً وواقعياً
إعداد
د: محمد عدلي رسلان
أستاذ القانون المساعد بكلية القانون جامعة لوسيل
استشاري قانوني عام
تشكل الجريمة المنظمة أحد أخطر التحديات التي تواجه نظم الحكم والاقتصاد والمجتمع في العصر الحديث. إذ تتجاوز هذه الظاهرة حدود الجريمة التقليدية بمظاهرها الفردية أو العشوائية، لتأخذ شكلًا مؤسساتيًّا ذا تنظيم إداري وهيكل هرمي يهدف إلى الاستمرارية وتحقيق أرباح ممنهجة بوسائل غير مشروعة. وقد أفضت العولمة والتطور التكنولوجي وتعقّد العلاقات الاقتصادية إلى اتساع أنماط الجريمة المنظمة وتعقيد آلياتها، ما استلزم استجابة قانونية وإدارية وطنية ودولية توجيهية وفعّالة. يهدف هذا البحث إلى دراسة التنظيم الإداري للجريمة المنظمة من منظورٍ قانوني وواقعي؛ أي قراءة القواعد القانونية المنظمة ومقارنتها بالهيكلة الفعلية لهذه التنظيمات في الميدان، مع استخلاص الدروس التشريعية والإجرائية التي تُعزِّز كفاءة المكافحة والوقاية.
أهمية الدراسة
  1. أهمية نظرية وقانونية: تملأ الدراسة فراغًا تحليليًا في فهم العلاقة بين بنية التنظيم الإداري للجريمة المنظمة والفراغات التشريعية أو قصور الآليات الرقابية، ما يسهم في بلورة مقترحات تشريعية واستراتيجية مبنية على فهم دقيق للواقع.
  2. أهمية عملية/إجرائية: تسهم الدراسة في تحسين ممارسات أجهزة الضبط والعدالة الجنائية من خلال توصيات تنظيمية وإجرائية قابلة للتطبيق في ساحات التحقيق، المتابعة، والتعاون الدولي.
  3. أهمية اقتصادية واجتماعية: بتحديد الآليات التي تمكّن من تقويض نماذج التمويل والنهب المنظم، تدعم الدراسة جهود حماية الاقتصاد الوطني والنسيج الاجتماعي من التأثيرات السلبية للجريمة المنظمة.
  4. أهمية إستراتيجية: تساعد صانعي القرار في تصميم سياسات متكاملة (قانونية، مؤسسية، اقتصادية) لمكافحة الجذور البنيوية للجريمة المنظمة، لا الاكتفاء بمكافحة أعراضها.
أهداف الدراسة
  1. تحليل مفهوم التنظيم الإداري للجريمة المنظمة وخصائصه القانونية والواقعية.
  2. استعراض بدايات ظهور الاعتراف القانوني والتنظيمي بالجريمة المنظمة في التشريعات الوطنية والدولية.
  3. مقارنة بين الأطر القانونية النظرية والهيئات والحوادث الفعلية لتكوينات الجريمة المنظمة (الفجوة بين النص والتطبيق).
  4. اقتراح توصيات تشريعية وإجرائية لتعزيز فعالية مكافحة التنظيم الإداري للجريمة المنظمة على المستويين الوطني والدولي.
  5. وضع آليات لقياس كفاءة التدابير الرقابية والوقائية المرتبطة بقطع مصادر التمويل والتجنيد والامتداد المؤسسي لتلك التنظيمات.
إشكالية الدراسة (مشكلة البحث)
رغم التطور التشريعي الدولي والمحلي في الاعتراف بظاهرة الجريمة المنظمة، تبرز إشكالية مركزية تتمثل في: "إلى أي مدى تستجيب الأُطر القانونية والإجرائية القائمة لطبيعة التنظيم الإداري الفعلية للجريمة المنظمة؟" تنبثق عن هذه الإشكالية أسئلة فرعية: هل تكفي التعريفات القانونية الحالية لتغطية أشكال التنظيم الإداري المتغيرة؟ ما الفجوات المؤسسية التي تسمح باستمرار التنظيمات؟ ما دور التعاون الدولي في معالجة البُنى الإدارية العابرة للحدود؟
فرضيات الدراسة
  1. الفرضية الأساسية: هناك فجوة بين النص القانوني المتاح حول الجريمة المنظمة وطبيعة التنظيم الإداري الفعلية لتلك الجماعات، ما يقلل من فعالية مكافحتها.
  2. فرضية فرعية (تمويل): قدرة التنظيمات على الابتكار المالي واغتراف الموارد بطرق معقدة تُضعف أدوات مصادرة الأموال التقليدية.
  3. فرضية فرعية (التنظيم الداخلي): التنظيم الإداري للجريمة المنظمة يعتمد على أساليب مؤسسية وتوزيع مهام محفوف بالتدرج والتمويه، مما يصعّب تعقب القيادات الحقيقية عبر الإجراءات الجنائية التقليدية.
  4. فرضية فرعية (التشريعات والتعاون الدولي): عدم تناغم التشريعات والإجراءات بين الدول يزيد من قدرة التنظيمات على الاستفادة من الفضاءات القانونية المتباينة.
منهجية الدراسة
  1. المنهج التحليلي القانوني: لتحليل النصوص التشريعية الوطنية والدولية، تعريفات الجريمة المنظمة، والاتفاقيات الدولية (منهج نقدي يقارن التعريفات والآليات القانونية المختلفة).
  2. المنهج الوصفي-الوثائقي: جمع وعرض البيانات المتعلقة بحالات تطبيقية، تقارير جهات إنفاذ القانون، ودراسات سابقة حول بنى التنظيم الإداري.
  3. المنهج المقارن: مقارنة النماذج الوطنية لاختبارات الفعالية القانونية والإجرائية، مع التركيز على تجارب دولية مختارة كنماذج تطبيقية.
  4. منهج الحالة (Case Study): دراسة حالة/حالتيْن تطبيقيتيْن لهيكل تنظيمي إجرامي محدد من حيث الإدارة الداخلية وإدارة الموارد والتوسّع عبر الحدود.
  5. المنهج الاستنباطي والتوصيفي: استنباط استنتاجات وتوصيات تشريعية وتنظيمية من خلال جمع النتائج وتحليلها.
أدوات البحث
  • التحليل النصي للتشريعات والاتفاقيات.
  • مراجعة الأدبيات والبحوث السابقة (مقالات، كتب، تقارير دولية).
  • مقابلات ميدانية قصيرة مع خبراء (قانونيون، عناصر تنفيذية) عند الضرورة.
  • تحليل بيانات حالة/قضايا جنائية منشورة ومؤرشفة.
خطة الدراسة
المبحث الأول: الإطار النظري والقانوني للتنظيم الإداري للجريمة المنظمة
المطلب الأول: مفهوم التنظيم الإداري في الجريمة المنظمة وخصائصه القانونية
المطلب الثاني: بدايات الاعتراف القانوني بالتنظيم الإداري ومسارات تطوره التشريعي
المبحث الثاني: الواقع العملي للتنظيم الإداري وفاعلية الآليات القانونية والإجرائية
المطلب الأول: تجليات التنظيم الإداري في الميدان — دراسات حالة وتحليل عملي
المطلب الثاني: فاعلية أدوات المكافحة والتوصيات المؤسسية والتشريعية

المبحث الأول

الإطار النظري والقانوني للتنظيم الإداري للجريمة المنظمة

في هذا المبحث ننتقل من الإطار العام لموضوع الجريمة المنظمة إلى تحليل مركزي يقوم على فهم التنظيم الإداري كعنصر جوهري مميّز لهذه الظاهرة. الهدف هنا واضح ومباشر: قراءة نظرية وقانونية للتنظّم الداخلي لهذه الكيانات الإجرامية، وفكّ شيفرة الخصائص التي تجعلها شبيهة بالمؤسسات الاقتصادية من حيث الهيكلية والوظائف والتمويل، ومن ثم استخلاص الدلالات القانونية التي تفرضها هذه الخصائص على تشكّل السياسة الجنائية وآليات الإنفاذ.
المبحث يقسم إلى مطلبين متكاملين: الأول يقدّم تعريفًا وتحليلاً معمّقًا لمفهوم التنظيم الإداري وخصائصه القانونية والواقعية، والثاني يتناول بدايات الاعتراف القانوني بهذا التنظيم ومسارات تطوره التشريعي. سنبدأ بالمطلب الأول تفصيليًا مع عرض أمثلة معيارية واستنتاجات نقدية تسهّل لاحقًا صياغة توصيات تشريعية وإجرائية عملية.

المطلب الأول

مفهوم التنظيم الإداري للجريمة المنظمة وخصائصه القانونية

1. مدخل تعريفي وأهمية التفرقة المنهجية

عند محاولة فهم الجريمة المنظمة لا يكفي الوقوف عند أعمالها الظاهرة (تهريب، غسل أموال، تهريب مخدرات...)، بل ينبغي التعمّق في بنيتها الإدارية: نظام اتخاذ القرار، آليات توزيع المهام، أساليب التمويل والتمويه، واستراتيجيات الاستمرارية. تسمية هذه البنية بـ«التنظيم الإداري» تؤكد أننا إزاء كيان إداري-تشغيلي أكثر منه مجرد مجموعة من مرتكبي الجرائم المتقطعة. من هنا تنبع ضرورة مقاربة القانون لهذه الظاهرة بأساليب تختلف عن مقاربة الجريمة الفردية التقليدية — فهي تتطلب أدواتٍ تشريعية واستراتيجية تتعامل مع الحوكمة الداخلية للكيان الإجرامي، وليس فقط مع الفعل الإجرامي المحدّد.

2. التعريفات القانونية: بين النص الدولي والنصوص الوطنية

2.1 التعريف الدولي (مرجع باليرمو كنموذج)

الاتفاقية الدولية المعروفة بوثيقة باليرمو 2000 قدّمت تعريفًا عمليًا وملزِمًا بدرجة كبيرة عندما صنفت «الجماعة الإجرامية المنظمة» كجماعة تتألف من ثلاثة أفراد فأكثر، قائمة لفترة زمنية، وتعمل بتنسيق بهدف ارتكاب جرائم خطيرة بغرض تحقيق منفعة مالية أو مادية. هذا التعريف يركز على ثلاثة أركان: الجماعية، الاستمرارية، والغاية الربحية.

2.2 التعريفات الوطنية

تفاوتت التشريعات الوطنية في الدقة والشمول: بعضها ركّز على تجريم تشكيل أو الانضمام إلى جماعات إجرامية، أو استخدام مصطلحات مثل «عصابة» أو «تشكيل إجرامي»، مع إعطاء سلطات استثنائية للتحقيق والمصادرة. كثير من القوانين الوطنية لم تدخل في تفاصيل «التنظيم الإداري» بما يشمله من وظائف إدارية، هياكل تنفيذية، أو شبكات تمويل متداخلة[[1]] .

2.3 ملاحظة منهجية

الفرق بين تعريفات الوطنية والدولية ليس مجرّد نزعة لغوية، بل يعكس اختلافًا استراتيجياً في كيفية استهداف الدولة للظاهرة: تعريفات دولية أوسع تفتح باب التعاون والادعاء الدولي، بينما تعريفات ضيقة تسمح بمرونة تطبيقية محلية لكنها قد تترك ثغرات أمام التنظيمات المرنة والمتعدّدة الفروع.

3. عناصر ومكوّنات التنظيم الإداري: تحليل وظيفي

لفهم التنظيم الإداري لا بد من تفكيكه إلى عناصره التشغيلية والوظيفية:

3.1 القيادة والاستراتيجية Governance

القيادة في التنظيم الإجرامي لا تكون بالضرورة ظاهرة؛ بل تعمل غالبًا من خلف واجهات تجارية أو عبر وسطاء. هذه القيادة تحدد الأهداف، توجه الموارد، وتضع استراتيجيات المخاطرة. من منظور إداري، يمكن قراءة هذه الوظيفة كإدارة عليا (Top Management تقوم بوضع السياسات والقرارات الاستراتيجية. قانونيًا، صعوبة إثبات صلة القادة هذه بالأفعال المباشرة تُشكّل تحديًا كبيرًا أمام نظام المساءلة الجنائية التقليدي.

3.2 الهيكل التشغيلي Organizational Structure

تتوزع المهام بين خلايا تنفيذية، وحدات دعم لوجستي، وآليات مالية/محاسبية. غالبًا ما تمارس هذه التنظيمات مبدأ فصل الوظائف وتشغيل «متخصصين» في عمليات محددة: مهربون، مسؤولون عن غسل الأموال، محامون استشاريون، وحتى موظفون لتزييف الوثائق. هذا التخصيص الوظيفي يشبه هيكل الشركات، ويستدعي أدوات تحقيق وإدلة متخصصة (تحقيق مالي جنائي، تتبع شبكات).

3.3 البُنى المالية وإدارة الموارد Finance & Resource Management

امتلاك قنوات تمويلية متنوعة يُعد علامة قوة تنظيميّة: عائدات مباشرة من أنشطة إجرامية، استثمارات في كيانات شرعية كواجهات، وتحويلات مالية عبر نظام مصرفي دولي أو عبر شبكات تحويل غير رسمية. هنا يلعب غسل الأموال دورًا حاسمًا في تحويل الإيرادات الإجرامية إلى أصول تبدو قانونية[[2]] .

3.4 آليات التمويه والشرعية الشكلية Front Companies & Legal Masking

إنشاء شركات واجهة، توظيف ممارسات تجارية قانونية، والتدخل عبر مكاتب محاماة واستشارات مالية، كل ذلك يدخل في استراتيجية شرعنة النشاط. لذلك ليست الأدلة على الفعل الجنائي وحدها كافية، بل يلزم إثبات الارتباط الإداري والمالي بين الواجهات والنواة الإجرامية.

3.5 التمدد والشبكات العابرة للحدود Transnational Networks

التنظيمات الحديثة تعتمد على شبكات متنقلة، تستخدم التباينات التشريعية والاقتصادية بين الدول لتفادي الملاحقة. هذا يتطلب قوانين تعاونية دولية ونظام تبادل معلومات فعال بين أجهزة إنفاذ القانون.

4. الخصائص القانونية المترتبة على الطابع الإداري

الخصوصية الإدارية للتنظيم تفرض على القانون عدة استجابات عملية:

4.1 تجريم التنظيم بحد ذاته

لم تعد العقوبات تقتصر على الأفعال، بل شملت تجريم تشكيل الكيانات وعقد الاجتماعات بهدف ارتكاب الجرائم، ولهذا أثر وقائي استباقي على تعطيل بنى التنظيم قبل تفاقم نشاطها.

4.2 المسؤولية الجزائية للشخص المعنوي

وجود واجهات قانونية (شركات) يجعل من الضروري تحميل الكيان القانوني مسؤولية جنائية أو إدارية عند استغلاله كمؤسسة للقصد الإجرامي. هذا التوسع في نطاق المسؤولية يخطو نحو استخدام أدوات حكومية لإشراك القطاع الخاص في منظومة الحوكمة والامتثال.

4.3 أدوات التحفظ والمصادرة المالية

المصادرة الاستباقية للأصول وتجميد الحسابات والتعاون البنكي الدولي أصبحت أدوات مركزية لتقويض القوّة المالية للتنظيمات. هذه الأدوات تتقاطع مع مبادئ حقوق الملكية، ما يفرض ضمانات قضائية صارمة لمنع التجاوزات.

4.4 إجراءات تحقيق متخصّصة

التحقيق في تنظيم إداري يتطلب فرقًا متعددة الاختصاصات: خبراء ماليون، محللو شبكات، تحقيقات إلكترونية، وتعاون استخباراتي. أمام القانون أن يوفر الإطار التنظيمي لتمكين هذه الأدوات دون المساس بالحقوق الأساسية.

5. الفجوات التشريعية والتحديات الواقعية

على الرغم من توسع مجموعة الأدوات القانونية، تبقى فجوات ملحوظة:

5.1 غياب تعريف تحكيمي دقيق للتنظيم الإداري

التعريف العام يترك هامشًا لتأويلات قد تُستخدم لتسييس التحقيقات أو لتفادي المساءلة. هناك حاجة لتعريفات معيارية تقنية توضح مؤشرات الإدارة: وجود خطط مالية، أنظمة محاسبة داخلية، تدفق قرارات مركزي، إلخ.[[3]

5.2 صعوبة إثبات المسؤولية الإدارية للقيادات

القيادة غير المباشرة والوسطاء القانونيون يصنعون حاجز الإثبات. هذا يتطلب تقنيات تحقيق متقدمة تتبع الأثر المالي والتنظيمي وليس الأفعال الفردية فقط.

5.3 تطور نماذج الجريمة (الجرائم الإلكترونية والعملات الرقمية)

التحول الرقمي أضاف طبقات تعقيد: تمويل عبر عملات رقمية، أسواق مظلمة، ومنصات تشفير تدير تراخيص وهمية. التشريعات التقليدية غالبًا ما تتأخر في مواكبة هذه الابتكارات.

5.4 تفاوت استجابات الدول

تفاوت القواعد والإجراءات بين ولايات قضائية يُتيح للتنظيمات استغلال الاختلافات. التعاون الدولي لا يزال مقيدًا ببروتوكولات بطيئة وإجراءات قضائية معقدة.[[4]]

6. قراءة نقدية بين القانون والواقع: نحو إطار تحليلي متكامل

لفهم تنظيم إداري فعّال للجريمة المنظمة يجب تبني رؤية نظامية (systemic  view):   النظر إلى الكيان الإجرامي كمؤسسة لها بنية، وظائف، وعلاقات بيئية (اقتصادية، اجتماعية، قانونية). قانونيًا، هذا يعني الانتقال من أدوات المعاقبة التقليدية إلى أدوات الوقاية المؤسسية: حوكمة الأسواق، شفافية المعاملات المالية، ومعايير امتثال فعلية للشركات والمؤسسات المالية. من جهة أخرى، يبرز دور القطاع الخاص كشريك (أو مساحة مخاطرة) في آليات الوقاية: تبنّي سياسات ضد غسيل الأموال، وتعزيز حوكمة الشركات قد يعرقل قنوات التمويل.
في سياق الأعمال، يمكن قراءة مكافحة التنظيم الإداري للجريمة المنظمة كقضية إدارة مخاطرة تقليل نقاط الضعف في النظام  وإغلاق القنوات التي تستغلها التنظيمات ، مع وضع مؤشرات أداء لقياس فعالية التدابير: عدد التحويلات المتوقفة، قيمة الأصول المصادرة، مدة الإجراءات التعاونية عبر الحدود، إلخ.[[5]]
يمكن اختصار ما تقدم في ثلاث خلاصات عملية:
(1) التنظيم الإداري هو محرك القوة والمرونة للمجموعات الإجرامية، واعتباره كظاهرة إدارية يستدعي أدواتٍ إجرائية وتشريعية متخصصة؛
(2) القانون تطوّر بإدخال أدوات تجريم التنظيم والمصادرة والمسؤولية الجزائية للشخص المعنوي، لكن التطبيق يواجه تحديات إثباتية وتقنية؛
(3) الحلّ الفعّال يتطلب دمجًا بين تشريع مرن، قدرات تحقيق متخصّصة، وتعاون دولي شامل، إلى جانب إشراك آليات حوكمة السوق والقطاع الخاص لمنع شرعنة الأنشطة الإجرامية.
في المطلب التالي سننتقل إلى تتبع بدايات الاعتراف القانوني بهذه الظاهرة ومسارات تطور أدواتها التشريعية عبر التاريخ القريب والممارسات الدولية، وهو تطور يوضح كيف استجاب القانون تدريجيًا لخصائص التنظيم الإداري التي فصلناها هنا، وما يزال يحتاج إلى مزيد من التطوير لمواجهة التحولات التقنية والمالية.

المطلب الثاني

بدايات الاعتراف القانوني بالتنظيم الإداري ومسارات تطوره التشريعي

1. تمهيد تاريخي: من مكافحة الفعل إلى استهداف البنية

التحول من محاربة الجريمة كأفعال منفردة إلى محاربة الجريمة كـ«تنظيم إداري» لم يكن حدثًا لحظيًّا، بل نتيجة تراكمية لخبرات إنفاذ وصلت ذروتها في القرن العشرين. في المراحل الأولى كان تركيز التشريع منصبًا على الأفعال المجرّمة فرديًا — سرقة، تهريب، قتل — لكن تزايد ظواهر التكتلات الإجرامية المنظمة (مافيا، شبكات التهريب العابرة، عصابات مخدرات) أظهر حدود هذه النظرة. التجربة العملية، لا النظرية، دفعت المشرعين إلى إعادة صياغة الأدوات القانونية: غدا السؤال القانوني المركزي ليس فقط "من ارتكب الفعل؟" بل "من وظف وأنشأ النظام الإداري الذي يسمح بحدوث الفعل وباستمراره؟".

2. المحطات التشريعية الأولى — من التجريم الجزئي إلى التجريم المؤسس تنظيميًا

يمكن حصر بدايات الاعتراف القانوني بعدة محطات معيارية تتقاطع عبر قارات:
  1. القوانين الوطنية المبكرة وإجراءات الطوارئ
في دولٍ شهدت تفشّي عصابات منظّمة في القرن العشرين، اعتمدت الحكومات في البداية إجراءات استثنائية: قوانين الطوارئ، توسيع صلاحيات الشرطة، واعتقالات جماعية. كانت هذه الاستجابات غالبًا ردّية وذات طابع مؤقت؛ إذ لم تُطوَّر أدوات قانونية دائمة تستهدف البنية الإدارية للتنظيمات.
  1. النهج الأمريكي — قانون RICO كنموذج
الولايات المتحدة انتقلت إلى نهج جديد في أواخر ستينيات وسبعينيات القرن العشرين بتبنِّي ما عرف لاحقًا قانون «RICO» (Racketeer Influenced and Corrupt Organizations Act) لعام 1970. هذا القانون مَثّل تحوّلاً مفصليًا: لم يعد يُعاقَب الفعل الفردي فحسب، بل أُتيح الادعاء الجنائي والمدني ضدّ «المنظمة» ذاتها، مع توسيع مفهوم المؤامرة والاشتراك. من خصائص هذا النموذج: التركيز على النسيج المؤسسي، إمكانية الملاحقة المدنية لاسترداد الأضرار، واستخدام آليات مصادرة واسعة النطاق. أثر هذا الأسلوب كان مزدوجًا: منح أدوات فاعلة لردع التنظيمات، لكنه أيضاً أثار نقاشات حول المساس بحقوق الدفاع وإمكانية إساءة استعمال السلطة[[6]] .
ج. النهج الإيطالي — التجريم النوعي (الجريمة من نوع "المافيا")
إيطاليا، بفعل تجربتها مع المافيا، طوّرت نصوصًا جنائية نوعية (كمادة 416-bis في قانونها الجنائي) تعرّف «الجمعية على طراز المافيا» وتُوفّر أحكامًا تشدّد العقوبات وتوسّع أدوات المصادرة[[7]] . التميّز الإيطالي أن التشريع لم يكتفِ بالمعاقبة، بل ركّز على تجريد التنظيم من قدرته الاقتصادية عن طريق مصادرة ممتلكات يُحتمل أنّها مكتسبة من نشاط إجرامي — نهج يؤكد أن تحطيم القدرة الاقتصادية للتنظيم هو جزء من القضاء عليه.[[8]]
د. المعايير الدولية — اتفاقية الأمم المتحدة (باليرمو) 2000
التحول الدولي الملتزم جاء مع إقرار اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية (المعروفة باليرمو) عام 2000، التي ضمنت تعريفًا دوليًّا لجماعات الجريمة المنظمة وأسست إطارًا للتعاون الدولي في مجالات التجريم، تبادل المعلومات، وتسهيل التعاون القضائي. الاتفاقية لم تكن نهاية الطريق، لكنها أرسَت مرجعًا دوليًا سمح بتوحيد المفاهيم وتمكين آليات التعاون العابرة للحدود.

3. أدوات التطور التشريعي: من التجريم إلى أدوات الحرمان والوقاية

مع الاعتراف القانوني بدأ التشريع يتجه إلى تكامل أدوات جنائية وإدارية ومالية، تشمل:
  1. تجريم التكوين والقيادة: لم يعد مجرد ارتكاب فعل جرمًا وحسب، بل أصبح تشكيل أو إدارة تنظيم إجرامي فعلًا مستقلًا قابلًا للعقاب. هذا التحول أدّى إلى قدر أكبر من التدخل الاستباقي.
  2. المسؤولية الجزائية للمؤسسات (الشخص المعنوي): التعقيد في عمليات التمويه والواجهات التجارية أوجب تحميل الشركات/الجهات القانونية مسؤولية جنائية أو مدنية حين تُستخدم كأدوات للكيانات الإجرامية، ما أدخل الشركات في دائرة الامتثال القانوني والحوكمة.
  3. آليات المصادرة والتجريد المالي: توسعت صلاحيات المصادرة لتشمل أصولًا مشتبهًا في أنها ثمرة نشاط إجرامي حتى لو لم يُدان صاحبها مدنيًا، ونشأت آليات استرداد أصول عبر الحدود. هذا التوجه يجعل ضرب البنية الاقتصادية للتنظيم جزءًا من السياسة الجنائية.
  4. أدوات التحقيق المتقدّم: تشريع استخدام المراقبة الإلكترونية، التنصّت القضائي، الضبط السري، والتحقيقات المالية المعمّقة. هذه الأدوات تطلبت ضمانات حقوقية، لذلك ترافقها في بعض الأنظمة رقابة قضائية وإجراءات ضمان.
  5. الشراكات الدولية وتبادل المعلومات: المادة العملية للتعاون بين الدول تشكلت عبر أدوات مثل طلبات المعونة القانونية المتبادلة، فرق التحقيق المشتركة، وتبادل المعلومات عبر شبكات إنفاذ القانون والمنظمات المالية (مثل شبكات وحدات استخبارات مالية).[[9]]

4. مقارنة أنموذجية: مزايا وقيود النماذج التشريعية المختلفة

مقارنةٌ نقدية بين نماذج التشريع الأساسية تُظهِر فروقًا منهجية مهمة:
  • النهج الأمريكي (RICO): قوة في المرونة والإمكانات المدنية والجنائية، يسمح بتصيّد الهياكل الإدارية والاقتصادية. لكنه يواجه انتقادات تتصل باتساع سلطة الادعاء وإمكانية استخدام أدوات مدنية لإنهاء شركات بطرق قد تتجاوز المعايير الجنائية التقليدية[[10].
  • النهج الإيطالي: تركّز على الطابع النوعي للجريمة (مافيا) وعلى التفكيك الاقتصادي. يمنح نتائج عملية من خلال مصادرة الأصول وإضعاف الأساس المالي للتنظيم. لكنه قد يواجه صعوبة في التعميم لأن نصوصه مُصممة لواقع اجتماعي-تاريخي محدد.[[11]]
  • النهج الدولي (باليرمو + معايير مالية مثل توصيات مجموعة العمل المالي): يقدم إطارًا تنسيقيًا وقيًا عمليًا لتعاون الدول. قوة هذا النهج تكمن في التوافق الدولي والتشبيك، أما حدوده فهي في التنفيذ الفعلي لدى الدول التي تعاني من ضعف مؤسساتي أو استقلال قضائي محدود.

5. مسارات التطور الحديثة واستمرار الديناميكية

التطور التشريعي لم يتوقف عند سنّ النصوص؛ بل تداخل مع تطور الأدوات التقنية والمالية:
  • الاستجابة لغسيل الأموال: برزت آليات ومؤسسات متخصصة (وحدات استخبارات مالية، قواعد الإفصاح عن المالك الحقيقي beneficial ownership) استجابةً لتعمّق ربط التنظيمات بالشبكات المالية العالمية. الضغوط الدولية والإجراءات التنظيمية (إلزام المؤسسات المالية بتبني نظم امتثال) أعادت تشكيل مشهد التمويل الإجرامي[[12]] .
  • الاستجابة للجرائم الرقمية والعملات المشفّرة: التشريعات لا تزال متأخرة في كثير من الأنظمة؛ إذ تفرض التكنولوجيا السريعة وتعدد الوسائط تحديثًا مستمرًا في تعريفات الجرائم ووسائل التحقيق، بما في ذلك أدوات التحصيل الرقمي وتحليل البيانات الكبرى.
  • التركيز على التعاون متعدد القطاعات: اتّضح أن إنفاذ القانون وحده لا يكفي؛ لذلك ظهرت سياسات تدمج القطاع الخاص، المنظمات المدنية، والأجهزة التنظيمية (الضرائب، السجل التجاري، البنوك المركزية) في استراتيجية متكاملة لمكافحة التنظيم الإداري.[[13]]

6. تقييم نقدي: مكامن الفعالية والعقبات

رغم التقدّم التشريعي، ثمة عقبات منهجية وواقعية:
  1. ثغرة الإثبات: إثبات وجود تنظيم إداري قائم يتطلب أدلة تنظيمية ومالية قد تكون متفرقة ومبعثرة عبر ولايات قضائية، ما يخلق مشاكل سلطة التحقيق والاختصاص.
  2. تباين القواعد بين الدول: الاختلافات التشريعية والإجرائية تسمح بوجود مناطق آمنة قانونيًا للتنظيمات؛ فالتناغم الدولي رغم تقدمه لا يزال جزئيًا.
  3. التوازن الحقوقي: توسيع أدوات التحقيق والمصادرة يضع ضغطًا على ضمانات المحاكمة العادلة وحقوق الملكية؛ لذلك يتطلب الأمر آليات رقابة قضائية قوية.
  4. استمرارية الابتكار الإجرامي: التنظيمات تتبنى أدوات جديدة (التعامل عبر شركات واجهة رقمية، استخدام التشفير، التوظيف عبر منصات عالمية) ما يفرض تطويرًا دائمًا للتشريعات وأدوات التحقيق.
بناءً على المسار التاريخي والمقارن يمكن استخلاص خلاصة عملية: الاعتراف القانوني بالتنظيم الإداري للجريمة المنظمة مرّ بثلاث مراحل رئيسية — ردّات فعل استثنائية، تأسيس أدوات جنائية نوعية (تجريم التكوين والقيادة)، ثم استكمال ذلك بأدوات مالية وإجرائية واستراتيجية تعاونية دولية. كل مرحلة رفعت من قدرة الأنظمة على المساءلة، لكنها كشفت أيضًا قيودًا تتطلب معالجة: وضوح تعريفات معيارية للتنظيم الإداري، تكامل التشريعات الوطنية مع التزامات دولية، بناء قدرات تحقيق متعدّدة الاختصاصات، وتحديث الأطر الحقوقية لضمان توازن بين فعالية المكافحة وحماية الحقوق الأساسية.
من منظور عملي وقيادي (business-minded)، مكافحة التنظيم الإداري تتطلب إدارة مخاطر متقدمة: حوكمة مالية فعّالة، مؤشرات أداء لملاحقة موارد التنظيم، وشراكات استراتيجية مع القطاع الخاص. أما من منظور تشريعي، فالطريق الأمثل هو قانوني-تقني: نصوص واضحة ومحددة تقترن بلوائح تنفيذية وأدلة معيارية تحقق الاتساق في التطبيق وتحد من التأويلات الواسعة.
 في المبحث التالي سننتقل من العرض التاريخي والنظري إلى المبحث الثاني (الواقع العملي للتنظيم الإداري: دراسات حالة وتحليل فاعلية الآليات) حيث سنطبّق هذه الأدوات والمفاهيم على حالات عملية نمطية، ونقيس مدى نجاح الآليات التشريعية والإجرائية في تفكيك البنى الإجرامية واحتوائها.

المبحث الثاني

الواقع العملي للتنظيم الإداري وفاعلية الآليات القانونية والإجرائية

انتقالنا إلى المبحث الثاني هو انتقالٌ من الرؤية النظرية لمفهوم التنظيم الإداري إلى التجربة العملية التي تُظهِر شكلَ التنظيم وكيفية عمله على أرض الواقع. إنّ الفهم القانوني لأركان التنظيم الإداري لا يكتمل دون فحصٍ ميدانيٍ لآليات الإدارة، نماذج التمويل، وتقنيات التمويه التي تستخدمها التنظيمات كي تحافظ على الاستمرارية والربحية. المبحث الثاني يسعى إلى جسر الهوّة بين النص والقضاء من جهة، وبين بنية التنظيم وسلوكه العملي من جهة أخرى، عبر عرض دراستيْن قضيّتيْن نموذجيتين وتحليل آليات الاستمرارية التي تسمح للتنظيمات بالبقاء، والتكيّف، والتوسع. هذا الفحص العملي هو المدخل الطبيعي لتقويم فاعلية أدوات المكافحة ووضع خارطة طريق عملية تشريعية وتشغيلية في المطلب اللاحق.
 

المطلب الأول

تجليات التنظيم الإداري في الميدان — دراسات حالة وتحليل عملي

في هذا المطلب أقدم دراستيْن قضيّتيْن معياريتين تستند إلى أنماط متكررة وموثوقة في التقارير الأممية والأدبية الجنائية: (أ) تنظيم تقليدي هجين يعتمد على واجهات تجارية واستثمارية لشرعنة العائدات، و(ب) تنظيم رقمي عبر منصات إلكترونية وعملات مشفّرة. كل حالة تُفصَّل من زاوية البنية الإدارية، أُطر التمويل، آليات التمويه، وطرائق الاستمرارية، مع إبراز المؤشرات القانونية والفنية التي تساعد في كشفها ومقاربتها.

الحالة (أ): تنظيم هجين يعتمد على واجهات تجارية — «الشبكة القابضة الوهمية»

1. وصف بنيوي وظيفي

الشبكة المنشودة نموذجًا تتكون من:
  • قمة استراتيجية: مجموعة صغيرة من الأفراد (أو شخص واحد فعّال) يتخذون القرارات الاستراتيجية عبر وسطاء قانونيين وماليّين، غالبًا من جنسيات مختلفة، وتعمل كـ«مجالس توجيه» غير مسجلة علنًا.
  • هيكل تشغيلي مُجزأ: خلايا تنفيذية محلية لوجستية (نقل، تخزين، توزيع)، خلية مالية لإدارة النقد والسجلات، وخلايا واجهات تجارية (شركات استيراد/تصدير، شركات عقارات، مكاتب استشارات ومحاماة).
  • شبكة امتداد إقليمي: فروع أو شركاء في دول ذات أنظمة رقابية متفاوتة، تُستخدم لتدوير الأموال وإخفاء الملكية الحقيقية.

2. آليات التمويل وإدارة الموارد

  • تجميع العائدات: تدفق العائدات من نشاط إجرامي (مثلاً: تجارة ممنوعة أو تهريب) إلى كيانات محلية صغيرة تُحوِّلها لاحقًا عبر فواتير خدمات وهمية إلى شركات في دول ثالثة.
  • غسيل الأموال: ثلاثي المراحل التقليدي: Placement (إيداع العائدات في الاقتصاد) — Layering (فصل الأثر عبر معاملات معقدة) — Integration (إدماج الأموال في أنشطة شرعية). هنا تستخدم الشبكة شركات قابضة، عقارات، واستثمارات في تجارة التجزئة كوسائل Integration.
  • إدارة الخزانة: وجود حسابات متعددة بعملات مختلفة، استخدام سماسرة تحويلات، واعتماد معاملات نقدية جزئية لتقليل آثار الرقابة المصرفية.

3. آليات التمويه والواجهات الإدارية الوهمية

  • لجان إدارية وهمية: تشكيل مجالس إدارة أو لجان استشارية داخل الشركات الواجهة، تُدار عبر وكلاء محليين، ما يخلق شبكة من التوقيعات والمراسلات الرسمية التي تبدو قانونية أمام أي مراجعة سطحية.
  • عقود داخلية مزيفة: عقود خدمات أو توريد بين شركات الواجهة تُستخدم لإظهار سلسلة مباحة من التعاملات.
  • الاستعانة بمحترفين: محامون، محاسبون، ومكاتب تسجيل شركات تُقدّم خدمات فنية لتجميل السجل القانوني، علمًا أن بعض هؤلاء المحترفين يعملون بوعي أو بتغليب مصلحة تجارية.

4. آليات الاستمرارية والمرونة التشغيلية

  • توزيع المخاطر: فصل المهام بحيث لا يمتلك أي عنصر صورة شاملة للكيان، ما يقلل من الخسائر عند اعتقال عنصر.
  • التدوير الدوري: تبديل أسماء المدراء التنفيذيين ووكلاء الشركات، واستخدام شركات قشرة (shell companies) مؤقتة.
  • الاندماج الشرعي: شراء شركات ذات نشاط مشروع قائم واستخدامها كـ «غطاء» دائم يضفي نوعًا من الالتفاف الشرعي على النشاط.
  • التحصين القانوني المحلي: الاستفادة من ثغرات تشريعية محلية، أو بطء إجراءات المصادرة والتحقيق، ما يمنح نفَسًا زمنيًا لإعادة توزيع الأصول.

5. مؤشرات كشفية وإجرائية (Forensic Indicators)

من الناحية التقنية والقانونية، ثمة مؤشرات عملية تمكن المفتش والقاضي من الاشتباه:
  • عدم توازن بين الإيرادات المعلنة ونمط الأصول المملوكة.
  • تحويلات مالية متكررة إلى وجهات لا علاقة واضحة لها بالنشاط المعلن.
  • وجود سلسلة عقود داخلية بين شركات ترتبط بأفراد ذوي صلة.
  • إشكالية في تحديد beneficial ownership (المالك المستفيد الحقيقي).

الحالة (ب): تنظيمٌ رقمي عبر منصات ومنعطفات تشفيرية — «المنصة الظِلّ»

1. وصف بنيوي وظيفي

هذا النمط يعتمد على:
  • قمة شبكية لامركزية: مدراء تقنيون ينشرون بنية تشغيلية قابلة للتكرار عبر خوادم موزعة، لا حاجة لمكاتب فعلية أو حضور مظاهر ملكية واضحة.
  • خلايا تقنية متخصصة: مطورو برمجيات، مدراء شبكات، خبراء تشفير، ومسوقون رقميون.
  • وسائط تمويل إلكترونية: بوابات دفع إلكترونية، محافظ رقمية، وتبادلات عملات مشفّرة.

2. آليات التمويل وإخفاء المصدر

  • استخدام العملات المشفّرة: استقبال المدفوعات بعملات مشفّرة ثم شطب الأثر عبر تقنيات «mixers» و«tumblers»، وتحويلات إلى محافظ متفرقة.
  • المنصات الموازية: مواقع إلكترونية تقدم خدمات أو منتجات وهمية لكن تملك حركة مالية عالية تبدو مشروعة على السطح.
  • استغلال مزودي خدمات محافظ: التعاون مع مزودي خدمات في ولايات قضائية ضعيفة القوانين أو غير متعاونين.

3. آليات التمويه التقنية والإدارية

  • شركات تسجيل نطاقات وحسابات واجهة: إنشاء مواقع وبيانات تسجيل وهمية لتهويل الشرعية.
  • استخدام بنى عقابية ذكية (smart contracts): عقود ذكية تُنفِّذ تحويلات أوتوماتيكيًا دون رقابة بشرية مباشرة.
  • تقمص هويات رقمية: استخدام بيانات مزيفة أو مسروقة لتأسيس حسابات بنوك ومنصات دفع.

4. آليات الاستمرارية والمرونة

  • اللامركزية كآلية بقاء: إذ إن تعطيل خادم أو منصة يُستبدَل بسرعة عبر استنساخ النسخ في خوادم أخرى.
  • التحويل السريع للسيولة: قدرة على نقل قيم كبيرة بسرعة عبر منصات لا تخضع لقيود بنكية تقليدية.
  • التكيّف التقنية المستمر: اعتماد أساليب تشفير جديدة والتحديث المتكرر للبرمجيات لإحباط آليات العقاب.

5. مؤشرات كشفية وإجرائية (Forensic Indicators)

  • أنماط تحويل متكررة بين محافظ رقمية صغيرة ومتكررة.
  • نشاطات رفد مفاجئة ومركزة على محافظ محددة قبل التصفية.
  • وجود عقود ذكية تؤدي وظائف تحويلية دون مبرر تجاري مفهوم.

التحليل المقارن للحالتين: نقاط التماثل والاختلاف

  1. التشابه البنيوي: في الحالتين يوجد فصل واضح بين القيادة والاستراتيجية والتنفيذ، واستخدام «واجهات» قانونية أو رقمية لشرعنة النشاط.
  2. الاختلاف التقني: الحالة (أ) أكثر اعتمادًا على الواجهات المعلنة والملكية الحقيقية القابلة للتعقب بصعوبة، بينما الحالة (ب) تعتمد على تكنولوجيا تُعقِّد مسار التتبُّع وتستغل اللامركزية.
  3. التمويل: كلاهما يعتمد على تداخل بين قنوات رسمية وغير رسمية، لكن الحالة (ب) تزيد من صعوبة المصادرة واسترداد الأصول بسبب الطبيعة الرقمية والسريعة للحركة.
  4. استراتيجية الاستمرارية: الحالة (أ) تميل للاستمرارية عبر دمج اقتصادي وشرعي واجهوي، أما الحالة (ب) فتستند إلى سرعة التناوب واللا-قابلية للحجز المستمر كآلية بقاء.

آليات الاستمرارية: التمويه، اللجان الإدارية الوهمية، ودمج الشبكات القانونية والاقتصادية الشرعية — تحليل وظيفي قانوني

1. التمويه (Camouflage / Legal Masking)

التمويه يتخذ أشكالًا متباينة: عقود مزيفة، شركات واجهة، ومراجع محاسبية ملفقة. قانونيًا، التمويه يخلق طبقة من التعقيد الإثباتي: صيرورة الإثبات تقضي على علاقة السببية بين الفعل والفاعل الحقيقي، ولذلك يحتاج التحقيق إلى ثغرات متقدمة (chain analysis) وطلبات معلومات دولية مغلفة بدقة.

2. اللجان الإدارية الوهمية (Sham Administrative Committees)

تشكيل لجان ومجالس داخل كيانات الواجهة يقدّم وثائق رسمية تبدو وكأنها تُدير نشاطًا مشروعًا. هذه الوثائق — من مذكرات اجتماعات إلى محاضر وكفالات — تُستخدم لإضفاء مشروعية شكلية. من منظور القانون، ينبغي أن يُنظر إلى هذه اللجان بوصفها مؤشرًا على وجود بنية إدارية لديها هدف إداري ونفعي يتجاوز مجرد التستر؛ أي أن دورها الإثباتي يتحول إلى مؤشر على «التنظيم الإداري» وليس مجرد عنصر تزييني.

3. دمج الشبكات القانونية والاقتصادية الشرعية (Integration with Legal-Economic Networks)

التنظيمات تسعى لإدماج نفسها داخل قطاع الأعمال الشرعي: عقود توريد، استثمارات عقارية، تبرعات خيرية، وشراكات تجارية. هذا الاندماج يضعها في موقف يُصعّب التفريق بين الأعمال المشروعة وغير المشروعة. منهجيًا، فإن استراتيجية مكافحة هذا الاندماج تتطلب أدوات امتثال (Compliance) متقدمة: قواعد KYC، قواعد الإفصاح عن المالك المستفيد (Beneficial Ownership), ومراجعة معاملات الشركات عبر نظام تبادل معلومات سريع وموّحد.

4. آليات إدارية مساعدة للاستمرارية

  • دور المحترفين المتواطئين أو المغفّلين: وجود شبكة من المحامين والمحاسبين الذين يقدّمون غطاءً تقنيًا.
  • الاستثمار في «شرعنة الثقة»: تمويل مؤسسات ثقافية أو خيرية لكسب سمعة وغطاء اعتبار.
  • التأثير السياسي والإداري: شراء ولاء محلي عبر عقود خدمات أو رشاوى تُسهم في إبطاء الإجراءات الرقابية (capture of regulators).[[14]]
يتضح مما سبق  أن التنظيم الإداري ليس نمطًا واحدًا، بل مجموعة من التصاميم التشغيلية المتنوِّعة القادرة على التكيّف مع بيئات قانونية وتقنية متغيرة. دراستان حالتانا أظهرتا أن قلب الاستمرارية يكمن في إدارة المخاطر: توزيع المهام، إنشاء واجهات قانونية أو رقمية، وتطوير قنوات تمويلية لا تخضع للمراقبة التقليدية. من منظور العدالة الجنائية، هذا يضع التحدّي المزدوج: تطوير تقنيات إثبات جديدة وربطها بإطار تشريعي مرن يوازن بين فعالية المكافحة وحقوق المتهمين.[[15]]
في المطلب التالي سننتقل إلى تقويم فاعلية أدوات المكافحة: تقييم التحقيقات، المصادرة، التعاون الدولي، وبرامج الشراكة بين القطاعين العام والخاص، ثم سنعرض توصيات تشريعية ومؤسسية وخارطة طريق تنفيذية (Business Case) للتعامل مع هذه التحديات بصورة عملية ومحدثة.

المطلب الثاني

فاعلية أدوات المكافحة والتوصيات المؤسسية والتشريعية

بعد كشف بنية التنظيم الإداري في الميدان (المطلب الأوّل)، ينتقل السؤال المحوري هنا إلى تقييم أدوات المكافحة: أيٌّ من الأدوات أثبت فعاليته في إضعاف بنيات التنظيم؟ وأين تكمن ثغرات التنفيذ؟ ما التدابير التشريعية والإجرائية التي ينبغي اقتراحها عمليًا لردم الفجوة بين النص والواقع؟ سنعالج الأدوات تباعًا (التحقيق الجنائي والمالي والرقمي، المصادرة/التجريد المالي، التعاون الدولي، والشراكات مع القطاع الخاص)، ثم نعرض توصيات عملية وخارطة طريق تنفيذية.

1. تقييم أدوات التحقيق الجنائي والمتخصّص

1.1 التحقيقات الجنائية التقليدية: قوة بعدم كفاية الأدلة البنيوية

التحقيقات التقليدية (الاستجواب، التحريات الميدانية، الشهادات) تبقى ضرورية، لكنها غالبًا غير كافية لحل عقدة «القيادة الغائبة» والتنظيم الإداري المموّه؛ إذ أن الدليل التقليدي يهدف لإثبات فعل محدد، بينما التنظيم الإداري يتطلب أدلة هيكلية (مراسلات إدارية، سجلات مالية مترابطة، وثائق تفصيلية عن سلاسل القرار). التجربة الدولية أظهرت ضرورة دمج التحقيق التقليدي مع أدوات مالية وسيبرانية لاستهداف القيادة والمنهج الإداري بفاعلية (نموذج RICO كمرجع عملياتي في الولايات المتحدة مثالًا على أداة قانونية تدمج بين الجرائم الفردية والبنية التنظيمية).[[16]]

1.2 التحقيق المالي والـ Forensic Accounting كعنصر حاسم

القدرة على تتبّع الأموال (follow the money) تظل من أهم معايير النجاح؛ وحدات استخبارات الأموال (FIUs) وتحقيقات المحاسبة الجنائية أثبتت أنها تكشف «شرايين» التنظيم: تحويلات مصطنعة، بنوك صغرى وسيطة، وشركات قشرية. لكن فاعلية هذه الأدوات مرتبطة بوجود سجلات شفافة عن المالك المستفيد الحقيقي (beneficial ownership) وإمكانية الوصول السريع إلى بيانات المصارف عبر حدود jurisdictions. توجيهات مجموعة العمل المالي (FATF) بشأن شفافية المالك المستفيد تُعد مرجعًا إلزاميًا لمواجهة استخدام الشركات القشرية.[[17]]

1.3 التحقيقات الرقمية والقدرات السيبرانية: ضرورة لا رفاهية

مع التنامي الرقمي للجرائم (منصات إلكترونية، عملات مشفّرة، بروتوكولات ذكية) أصبحت أدوات الـ digital forensics وتحليل سلاسل الكتل والقدرات على تتبع المحافظ الرقمية أساسية. الدول التي طوّرت وحدات سيبرانية متقدمة حققت معدلات نجاح أعلى في تعطيل المنصات الظِلية واسترداد قيم مالية، بينما الدول التي لم تطور هذه القدرات بقيت أمام عائق تقني يكسر فاعلية نصوصها التقليدية.[[18]]

2. فاعلية أدوات المصادرة وتجريد الموارد

2.1 المصادرة كإضعاف اقتصادي (Depriving the Organization of Means)

المصادرة—عند تنفيذها بسرعة وبأسانيد مالية موثقة—تثبط قدرة التنظيم على إعادة الاستثمار وشراء ولاءات. التجربة الإيطالية في استخدام مصادرات واسعة ضد المافيا تُظهر أن التفكيك الاقتصادي ينجح عندما يترافق مع آليات قضائية لسرعة التنفيذ وحماية الحقوق المشروعة للغير.[[19]]

2.2 تجميد الأصول عبر الحدود: الإشكاليات العملية

إجراءات حفظ وتجميد الأصول الدولية تعتمد على آليات المعونة القانونية المتبادلة (MLA). البطء البيروقراطي، اختلاف تعريفات الأدلة المقبولة، وحماية حقوق الطرف الثالث، كلها عوامل حدّت من استرداد الأصول في قضايا عابرة للحدود. لذلك، فإن نجاح المصادرة الدولية يتطلب آليات تسريع (urgent preservation orders) وإطار قانوني داخلي يسمح بالاستجابة الفورية..

3. فاعلية التعاون الدولي والمؤسساتي

3.1 اتفاقية باليرمو كمرجعية تعريفية وعملياتية

اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة (باليرمو) وفرت قاعدة تعريفية وإجرائية للتعاون الدولي، لكنها تظل مطبقة بفعالية فقط حيث توجد إرادة مؤسسية وقوانين داخلية متوافقة. أيّ دولة تريد فعلاً تعطيل تنظيمات عابرة القارات بحاجة لأن تحول التزاماتها الدولية إلى آليات تنفيذية مؤسسية (قوانين، وحدات متخصصة، سجلات ملكية)[[20]].

3.2 فرق التحقيق المشتركة وآليات تبادل المعلومات

الفرق المشتركة (JITs / Joint Investigation Teams) والوحدات متعددة السلطات أثبتت نجاحًا في حالات معقدة، لأنها تمكّن من العمل الميداني المشترك وتبادل الأدلة بسرعة، لكن إنشاؤها يتطلب ثقة قانونية واتفاقيات سريعة التنفيذ بين الدول المتجاورة.

4. شراكات القطاع العام/الخاص وبرامج الامتثال

4.1 البنوك والمؤسسات المالية كحائط صدّ أول

البنوك تمثل الصفّ الأول في كشف تدفق الأموال المشبوهة. إلزامها بسياسات KYC/AML وبالتعاون مع وحدات الاستخبارات المالية يُمثل ركيزة أساسية. لكن نجاح هذه السياسات مرهون بوجود إشراف تنظيمي فعال وحوافز للامتثال ومعاقبة الفشل في الإبلاغ.[[21]]

4.2 مزودو خدمات التشفير والمنصات الرقمية

إشراك مزودي خدمات الأصول المشفّرة ضمن أطر قانونية يقيّد قنوات التمويل الرقمية. دول بدأت بتحديد مزودي الخدمات وترخيصهم وإلزامهم بقواعد الإفصاح حققت قدرة أكبر على تتبع المحافظ وتحويلات العملات الرقمية.

5. مقاييس تقييم الأداء (KPIs) وأدوات القياس

أيّ برنامج مكافحة يحتاج مؤشرات أداء واضحة لقياس الفعالية؛ أمثلة عملية:
(1) زمن الاستجابة لطلبات MLA (target: < 90 يومًا)،
(2) نسبة الأصول المجمدة إلى إجمالي الأصول المشتبه بها،
(3) عدد التحقيقات المشتركة الناجحة،
 (4) نسبة الشكاوى المصرفية التي تتحول إلى إجراءات جنائية. وضع KPIs يضع مكافحة التنظيم في إطار إدارة مخاطر مؤسسية قابلة للمراجعة وتحسّن الأداء.[[22]]

6. ثغرات تطبيقية رئيسية ملحّة

  1. تعريفات غير دقيقة على مستوى وطني: غياب تعريفٍ معياري وعملي لـ «التنظيم الإداري» يجعل النصوص قابلة لتأويلات سياسية وقضائية.
  2. تفاوت قدرات الوحدات الفنية: فروق هائلة في قدرات وحدات الاستخبارات المالية والقدرات السيبرانية بين الدول.
  3. تأخير في تشريعات العملات المشفّرة: غالبية الأنظمة التشريعية لم تُكمل أطر تنظيم مزوّدي خدمات الأصول المشفّرة.
  4. التوازن الحقوقي غير المستتب: توسيع أدوات الاحتجاز والتنصت والمصادرة دون رقابة قضائية قوية يعرّض الإجراءات للطعن والانتقادات الحقوقية.[[23]]

7. توصيات تشريعية ومؤسسية عملية (قابلة للتنفيذ)

7.1 تشريع تعريف مارشالي للـ «تنظيم الإداري»

سنّ تعريف تشريعي يضم عناصر قابلة للقياس:
 (أ) وجود هيكل قيادي/إداري؛
 (ب) استمرارية زمنية؛
(ج) عمليات تمويل منظمة؛
(د) استخدام واجهات شرعية للتمويه[[24]] .
 هذا التعريف يُدرَج كمادة في قانون خاص أو تعديلات لقانون العقوبات لتقليل الطابع الفضفاض في النص.

7.2 سجل مركزي للمالك المستفيد (Beneficial Ownership Registry)

إلزام تسجيل المالكين الحقيقيين وإتاحة وصول محمي للسلطات المختصة — استجابة لتوجيهات FATF — سيخفض قدرة الواجهات على إخفاء السيطرة.

7.3 تنظيم مزودي خدمات الأصول المشفّرة وإلزامهم بـKYC/AML

تعريف مزودي الخدمات، فرض تراخيص، واشتراط التعاون مع وحدات الاستخبارات المالية، مع آليات تنفيذ وعقوبات فاعلة.

7.4 إنشاء وحدات تحقيق مشتركة دائمة (مالية – سيبرانية)

تأسيس فرق عمل مشتركة تضم شرطة، مدعين، محللي بيانات، ومختصين سيبرانيين تعمل بمذكرات قضائية مسبقة الصلاحية لتنفيذ إجراءات حفظ واسترداد فورية.[[25]]

7.5 بروتوكول Fast-track للـ MLA وصيغة للطوارئ

اتفاقات شراكة ثنائية/إقليمية تتيح إجراءات حفظ طارئة وتأمين أدلة موقتة إلى حين استكمال تبادل الأدلة.

7.6 حوكمة الحقوق: رقابة قضائية مرنة وسريعة

أي توسيع لصلاحيات الضبط أو المصادرة يجب أن يقترن بمراجعة قضائية سريعة لتفادي انتهاكات وضمان شرعية الأدلة.[[26]]
خلاصة القول إن أدوات المكافحة متاحة وذات قدرات مثبتة، لكن فاعليتها الحقيقية تتوقف على توازن ثلاثي: تشريعٍ واضح وقابل للتطبيق، قدرات فنية متقدمة (ماليّة وسيبرانية)، وتعاون دولي سريع وموثوق. المناخ القانوني يجب أن يمدّ وحدات التحقيق بصكوك تنفيذية سريعة مع ضمان رقابة قضائية تحمي الحقوق. التحول الأكثر جدوى هو تحويل مكافحة التنظيم الإداري من نشاطٍ طارئ إلى برنامج دائم لإدارة المخاطر الوطنية، يتضمّن سجلات ملكية، وحدات متخصّصة، وبروتوكولات تعاون سريعة.

الخاتمة

خلصت الدراسة إلى أن التنظيم الإداري للجريمة المنظمة ليس مجرد تسمية وصفية بل هو واقع مؤسساتي قابل للقياس: يتسم بهيكلية قيادية، توزيع وظائف متخصّصة، قنوات تمويل معقّدة وآليات تمويهٍ مدروسة. هذا الطابع الإداري هو الذي يمنح التنظيمات القدرة على الاستمرارية والتكيّف، ويجعل النصوص الجنائية التقليدية غير كافية بمفردها. كشف البحث عن وجود فجوة منهجية بين النصّ والتطبيق: التشريعات تطورّت باتجاه أدوات استباقية (تجريم التكوين، المصادرة، المسؤولية الجزائية للشخص المعنوي)، لكن التنفيذ العملي يعرقله ضعف قدرات التحقيق المالي والسيبراني، وتباين التعاون الدولي، وثغرات في شفافية الملكية. لمواجهة هذه الظاهرة لا يكفي إجراء تعديلات نصّية؛ بل مطلوب تكامل استراتيجي بين التشريع، القدرات المؤسسية، التكنولوجيا، وشراكات القطاع الخاص مع ضمانات قضائية تحمي الحقوق الأساسية. هذه المقاربة المؤسسية-التقنية-التشريعية هي ممرّ التحوّل من ردة فعل اضطرارية إلى إدارة مخاطر وطنية مدروسة ومستدامة.

نتائج الدراسة

  1. التنظيم الإداري يملك عناصر متكررة: قيادة استراتيجية غير ظاهرية، خلايا تنفيذية متخصصة، وحدات تمويل وغسيل أموال، وواجهات شرعية/رقمية.
  2. تعاريف النصوص الوطنية غالبًا عامة ولا تحتوي مؤشّرات إثبات إدارية معيارية، مما يفتقد أدوات إثبات واضحة أمام القضاء.
  3. أدوات المصادرة والتجميد أثبتت فاعلية جزئية في إضعاف القاعدة الاقتصادية، لكنها تفشل كثيرًا في استرداد كامل العائدات بسبب بطء التعاون الدولي وتشتت الأدلة.
  4. وحدات الاستخبارات المالية (FIUs) والـ forensic accounting محورية لفعالية التحقيق، لكن قدراتها غير متوازنة بين الدول والمناطق.
  5. الجرائم الرقمية والعملات المشفّرة أحدثت فجوة تقنية تشريعية وتنفيذية كبيرة؛ التنظيمات التي توجّهت للفضاء الرقمي أقل قابلية للتتبع والاسترداد.
  6. الشراكة مع القطاع الخاص (بنوك، منصات رقمية، مزوِّدو خدمات) تُعدّ عاملًا حاسمًا في تعطيل قنوات التمويل عند وجود التزام تنظيمي واضح وثقافة امتثال فعلية.
  7. التوسع في أدوات التحقيق دون ضوابط قضائية يعرّض مسارات المكافحة للطعن والإبطال، ما يؤثر سلبًا في الاستدامة المؤسسية للجهود.

توصيات الدراسة (عملية، تشريعية ومؤسسية — بصيغة قابلة للتنفيذ)

أ. توصيات تشريعية (قواعد واضحة وقابلة للتطبيق)

  1. تبني تعريف تشريعي معياري للتنظيم الإداري يتضمن عناصر قابلة للقياس: (أ) قيادة/إدارة، (ب) استمرارية زمنية، (ج) آليات تمويل منظمة، (د) استخدام واجهات شرعية أو رقمية للتمويه.
  2. تجريم قيادة/إدارة التنظيم بصيغ تدمج المسؤولية الجنائية بالمسؤولية المدنية (نماذج شبيهة بـRICO أو 416-bis) مع ضمانات قضائية.
  3. إنشاء سجل مركزي للمالك المستفيد (Beneficial Ownership Registry) إلزامي ومحمٍ للاطلاع للسلطات المختصة، مع عقوبات على الإفصاح الكاذب.
  4. تنظيم مزوّدي خدمات الأصول المشفّرة (VASPs) وإلزامهم بإجراءات KYC/AML وإبلاغ وحدات الاستخبارات المالية.
  5. تسريع آليات المصادرة الطارئة عبر نصوص تسمح بأوامر حفظ/تجميد مؤقتة قابلة للمراجعة القضائية الفورية.

ب. توصيات مؤسسية وتشغيلية (قدرات وتحالفات)

  1. تأسيس وحدات تحقيق متعدّدة التخصصات دائمة (جنائية ـ مالية ـ سيبرانية) داخل هيكل الادعاء العام أو كهيئة مشتركة بين الوزارات.
  2. برنامج وطني لبناء القدرات: تدريب محللين ماليين، خبراء بلوك تشين، وصحفيين تحقيق، مع شراكات جامعية.
  3. بروتوكول Fast-Track للـ MLA: اتفاقيات ثنائية/إقليمية تنصّ على زمن استجابة محدد (KPI: ≤90 يومًا لقضايا الطوارئ).
  4. منصّة وطنية لتبادل البيانات بين الجهات الرقابية (بنوك، سجل الشركات، الجمارك، FIU) مع حوكمة وصول وآليات حماية الخصوصية.
  5. آليات شراكة مع القطاع الخاص: برامج امتثال مشجعة، حوافز للإبلاغ، وقنوات سرية لحماية المبلغين.

ج. توصيات حقوقية وحوكمة (ضمانات ومساءلة)

  1. رقابة قضائية صارمة على أوامر التنصّت وتجميد الأصول مع آليات استئناف سريعة لضمان التوازن بين الفاعلية والحقوق.
  2. نظام شفاف للتقارير الدورية والتقييم الخارجي لقياس أداء البرامج (KPIs) ونشر نتائج سنوية لتقوية ثقة المجتمع.

المراجع

أولاً: المراجع العربية

  1. أبو الخير، جمال. الموسوعة الجنائية في شرح قانون العقوبات – القسم الخاص: الجرائم المنظمة عبر الوطنية. القاهرة: دار النهضة العربية، 2017، ص ٩٨.
  2. إبراهيم، محمد محمود. الجريمة المنظمة عبر الوطنية: دراسة في إطار القانون الجنائي الدولي. القاهرة: دار النهضة العربية، 2005، ص ٦٥.
  3. الخالدي، هيثم. مكافحة غسل الأموال والجريمة المنظمة في القانون الدولي والوطني. عمان: دار الثقافة للنشر والتوزيع، 2016، ص ٧٦.
  4. الخطيب، محمد. الجريمة المنظمة عبر الوطنية: دراسة مقارنة. عمان: دار الثقافة، 2016، ص ٥٥.
  5. الشاذلي، أحمد فتحي. الجريمة المنظمة: دراسة مقارنة في القانون الجنائي الدولي والقوانين الوطنية. الإسكندرية: منشأة المعارف، 2010، ص ٩٨.
  6. عبد الفتاح، مصطفى. القانون الجنائي الدولي: الجريمة المنظمة وغسل الأموال. القاهرة: دار المطبوعات الجامعية، 2018.
  7. الزيدي، سمير عبد الرزاق. التعاون الدولي في مكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية: دراسة تحليلية في ضوء اتفاقية باليرمو 2000. بغداد: دار الكتب العلمية، 2017، ص ١٢٣.
  8. منصور، عبد الباسط. "مكافحة الجريمة المنظمة في القانون الجنائي العربي المقارن." المجلة الجنائية القومية، العدد 42 (2019): ص 55.
  9. مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة. اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية والبروتوكولات الملحقة بها (اتفاقية باليرمو). نيويورك: الأمم المتحدة، 2004.
  10. يوسف، سامر. مكافحة الجريمة المنظمة وغسل الأموال في التشريعات العربية والدولية. بيروت: منشورات الحلبي الحقوقية، 2020، ص ٣٤.

ثانياً: المراجع الأجنبية

  1. Albanese, Jay S. Organized Crime: From the Mob to Transnational Organized Crime. 8th ed. New York: Routledge, 2017.
  2. Council of Europe. Convention on Laundering, Search, Seizure and Confiscation of the Proceeds from Crime. Strasbourg: Council of Europe, 1990.
  3. Financial Action Task Force (FATF). International Standards on Combating Money Laundering and the Financing of Terrorism & Proliferation (The FATF Recommendations). Paris: FATF/OECD, 2012 (updated 2023).
  4. Financial Action Task Force (FATF). Guidance on Beneficial Ownership of Legal Persons. FATF, 2014 (updated guidance available online). Available: https://www.fatf-gafi.org/en/publications/Fatfrecommendations/Guidance-Beneficial-Ownership-Legal-Persons.html
  5. Human Rights Watch / academic critiques of expansive surveillance and asset forfeiture regimes — on need for judicial safeguards.
  6. Letizia Paoli. Mafia Brotherhoods: Organized Crime, Italian Style. New York: Oxford University Press, 2003; see also Italian Criminal Code, art. 416-bis (Associazione di tipo mafioso). Gazzetta Ufficiale.
  7. Paoli, Letizia. Mafia Brotherhoods: Organized Crime, Italian Style. New York: Oxford University Press, 2003.
  8. Savona, Ernesto U., and Michele Riccardi, eds. From Illegal Markets to Legitimate Businesses: The Portfolio of Organized Crime In Europe. Cham: Springer, 2015.
  9. Scholarly literature on KPIs and performance measurement in criminal justice; see Jay S. Albanese, Organized Crime: From the Mob to Transnational Organized Crime, Routledge.
  10. U.S. Department of Justice. Organized Crime and Racketeering (RICO) — Overview, Justice Manual. Office of the Attorney General. Available: https://www.justice.gov/jm/jm-9-110000-organized-crime-and-racketeering
  11. United Nations Office on Drugs and Crime (UNODC). The use of technology in organized crime and responses, and UNTOC (Palermo Convention) texts and analyses. Available: https://www.unodc.org/unodc/en/organized-crime/intro/UNTOC.html
  12. UNODC reports on Member States’ capacities and gaps in investigating complex organized crime (TOCTA reports).
  13. Standards on judicial oversight of special investigative measures — International and regional human rights standards.

 

 

 

 

 
 

 

 

الفهرس

مقدمة 1
أهمية الدراسة 1
أهداف الدراسة 1
إشكالية الدراسة (مشكلة البحث) 2
فرضيات الدراسة 2
منهجية الدراسة 2
أدوات البحث. 3
خطة الدراسة 3
المبحث الأول. 4
الإطار النظري والقانوني للتنظيم الإداري للجريمة المنظمة 4
المطلب الأول. 4
مفهوم التنظيم الإداري للجريمة المنظمة وخصائصه القانونية 4
1. مدخل تعريفي وأهمية التفرقة المنهجية 4
2. التعريفات القانونية: بين النص الدولي والنصوص الوطنية 4
3. عناصر ومكوّنات التنظيم الإداري: تحليل وظيفي. 5
4. الخصائص القانونية المترتبة على الطابع الإداري. 6
5. الفجوات التشريعية والتحديات الواقعية 7
6. قراءة نقدية بين القانون والواقع: نحو إطار تحليلي متكامل. 8
المطلب الثاني. 9
بدايات الاعتراف القانوني بالتنظيم الإداري ومسارات تطوره التشريعي. 9
1. تمهيد تاريخي: من مكافحة الفعل إلى استهداف البنية 9
2. المحطات التشريعية الأولى — من التجريم الجزئي إلى التجريم المؤسس تنظيميًا 9
3. أدوات التطور التشريعي: من التجريم إلى أدوات الحرمان والوقاية 10
4. مقارنة أنموذجية: مزايا وقيود النماذج التشريعية المختلفة 11
5. مسارات التطور الحديثة واستمرار الديناميكية 12
6. تقييم نقدي: مكامن الفعالية والعقبات. 12
المبحث الثاني. 13
الواقع العملي للتنظيم الإداري وفاعلية الآليات القانونية والإجرائية 13
المطلب الأول. 14
تجليات التنظيم الإداري في الميدان — دراسات حالة وتحليل عملي. 14
الحالة (أ): تنظيم هجين يعتمد على واجهات تجارية — «الشبكة القابضة الوهمية». 14
الحالة (ب): تنظيمٌ رقمي عبر منصات ومنعطفات تشفيرية — «المنصة الظِلّ». 16
التحليل المقارن للحالتين: نقاط التماثل والاختلاف.. 17
آليات الاستمرارية: التمويه، اللجان الإدارية الوهمية، ودمج الشبكات القانونية والاقتصادية الشرعية — تحليل وظيفي قانوني. 18
المطلب الثاني. 19
فاعلية أدوات المكافحة والتوصيات المؤسسية والتشريعية 19
1. تقييم أدوات التحقيق الجنائي والمتخصّص... 20
2. فاعلية أدوات المصادرة وتجريد الموارد 21
3. فاعلية التعاون الدولي والمؤسساتي. 21
4. شراكات القطاع العام/الخاص وبرامج الامتثال. 22
5. مقاييس تقييم الأداء (KPIs) وأدوات القياس.. 22
6. ثغرات تطبيقية رئيسية ملحّة 22
7. توصيات تشريعية ومؤسسية عملية (قابلة للتنفيذ) 23
الخاتمة 24
نتائج الدراسة 25
توصيات الدراسة (عملية، تشريعية ومؤسسية — بصيغة قابلة للتنفيذ) 25
أ. توصيات تشريعية (قواعد واضحة وقابلة للتطبيق) 25
ب. توصيات مؤسسية وتشغيلية (قدرات وتحالفات) 26
ج. توصيات حقوقية وحوكمة (ضمانات ومساءلة) 26
المراجع. 27
أولاً: المراجع العربية 27
ثانياً: المراجع الأجنبية 28
الفهرس.. 30
 
 
[[1]] أبو الخير، جمال. الموسوعة الجنائية في شرح قانون العقوبات – القسم الخاص: الجرائم المنظمة عبر الوطنية. القاهرة: دار النهضة العربية، 2017.ص ٩٨
[[2]] الخطيب، محمد. الجريمة المنظمة عبر الوطنية: دراسة مقارنة. عمان: دار الثقافة، 2016. ص ٥٥
[[3]] عبد الفتاح، مصطفى. القانون الجنائي الدولي: الجريمة المنظمة وغسل الأموال. القاهرة: دار المطبوعات الجامعية، 2018.
[[4]] Council of Europe. Convention on Laundering, Search, Seizure and Confiscation of the Proceeds from Crime. Strasbourg: Council of Europe, 1990.
[[5]] منصور، عبد الباسط. "مكافحة الجريمة المنظمة في القانون الجنائي العربي المقارن." المجلة الجنائية القومية، العدد 42 (2019): ص 55.
[[6]] Albanese, Jay S. Organized Crime: From the Mob to Transnational Organized Crime. 8th ed. New York: Routledge, 2017
[[7]]Paoli, Letizia. Mafia Brotherhoods: Organized Crime, Italian Style. New York: Oxford University Press, 2003
[[8]] مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة. اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية والبروتوكولات الملحقة بها (اتفاقية باليرمو). نيويورك: الأمم المتحدة، ٢٠٠٤.
[[9]] Savona, Ernesto U., and Michele Riccardi, eds. From Illegal Markets to Legitimate Businesses: The Portfolio of Organized Crime In Europe. Cham: Springer, 2015.
[[10]] Albanese, Jay S. Organized Crime: From the Mob to Transnational Organized Crime. 8th ed. New York: Routledge, 2017.
[[11]] Paoli, Letizia. Mafia Brotherhoods: Organized Crime, Italian Style. New York: Oxford University Press, 2003.
[[12]] يوسف، سامر. مكافحة الجريمة المنظمة وغسل الأموال في التشريعات العربية والدولية. بيروت: منشورات الحلبي الحقوقية، 2020.ص ٣٤
[[13]] Financial Action Task Force (FATF). International Standards on Combating Money Laundering and the Financing of Terrorism & Proliferation (The FATF Recommendations). Paris: FATF/OECD, 2012 (updated 2023).
[[14]] إبراهيم، محمد محمود. الجريمة المنظمة عبر الوطنية: دراسة في إطار القانون الجنائي الدولي. القاهرة: دار النهضة العربية، 2005.، ص ٦٥
[[15]] الخالدي، هيثم. مكافحة غسل الأموال والجريمة المنظمة في القانون الدولي والوطني. عمان: دار الثقافة للنشر والتوزيع، 2016. ص ٧٦
[[16]] U.S. Department of Justice, Organized Crime and Racketeering (RICO) — Overview, Justice Manual, Office of the Attorney General. Available: https://www.justice.gov/jm/jm-9-110000-organized-crime-and-racketeering
[[17]] Financial Action Task Force (FATF), Guidance on Beneficial Ownership of Legal Persons, FATF, 2014 (updated guidance available online). Available: https://www.fatf-gafi.org/en/publications/Fatfrecommendations/Guidance-Beneficial-Ownership-Legal-Persons.html
[[18]] United Nations Office on Drugs and Crime (UNODC), The use of technology in organized crime and responses, and UNTOC (Palermo Convention) texts and analyses. Available: https://www.unodc.org/unodc/en/organized-crime/intro/UNTOC.html
[[19]] Letizia Paoli, Mafia Brotherhoods: Organized Crime, Italian Style, Oxford University Press, 2003; see also Italian Criminal Code, art. 416-bis (Associazione di tipo mafioso). Gazzetta Ufficiale.
[[20]] الزيدي، سمير عبد الرزاق. التعاون الدولي في مكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية: دراسة تحليلية في ضوء اتفاقية باليرمو 2000. بغداد: دار الكتب العلمية، 2017، ص ١٢٣
[[21]] FATF Recommendations (40 Recommendations) on AML/CFT and role of financial institutions.
[[22]] Scholarly literature on KPIs and performance measurement In criminal justice; see Jay S. Albanese, Organized Crime: From the Mob to Transnational Organized Crime, Routledge.
[[23]] Human Rights Watch / academic critiques of expansive surveillance and asset forfeiture regimes — on need for judicial safeguards.
[[24]] الشاذلي، أحمد فتحي. الجريمة المنظمة: دراسة مقارنة في القانون الجنائي الدولي والقوانين الوطنية. الإسكندرية: منشأة المعارف، 2010. ص ٩٨
[[25]] UNODC reports on Member States’ capacities and gaps in investigating complex organized crime (TOCTA reports).
[[26]] Standards on judicial oversight of special investigative measures — International and regional human rights standards.



الاربعاء 26 نوفمبر 2025
MarocDroit منصة مغرب القانون "الأصلية"

تعليق جديد
Twitter