المقدمة
منذ الاستقلال، شهد المغرب سلسلة من المشاريع التنموية الرامية إلى تحسين أوضاع مواطنيه، سواء في مجال التعليم أو الصحة أو البنية التحتية. ومع ذلك، استمر التفاوت بين الجهات، بين المدن الكبرى والمناطق النائية، وبين المراكز الاقتصادية والمناطق المهمشة. وقد جاء النموذج التنموي الجديد الذي طرحه الملك محمد السادس في 2019 ليضع الإنسان في صلب التنمية، مؤكدًا على أهمية العدالة الاجتماعية والمجالية، وتمكين المواطن من التعليم والصحة والشغل كركائز أساسية لبناء مستقبل مستدام.
غير أن الواقع يشير إلى فجوة بين الخطاب الرسمي والممارسات العملية، فبينما تُضخ استثمارات ضخمة في مشاريع ذات طابع رمزي، مثل الملاعب الكبرى والتحضير لكأس العالم 2030، ما تزال بعض المناطق مثل جهة الشرق تواجه مشاكل عميقة تتعلق بالتوظيف، البنية التحتية، الخدمات الصحية والتعليمية، الأمر الذي أدى إلى حالة من الاحتقان الاجتماعي، خاصة لدى فئة الشباب المعروفين بـ"جيل Z".
جيل Z، المولود في عصر الرقمنة والانفتاح الإعلامي، أضحى يمتلك وعياً سياسياً واجتماعياً متقدماً، ويمكنه التعبير عن مطالبه بطريقة منظمة وواسعة الانتشار عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وقد عبّرت الاحتجاجات الأخيرة في مدن مثل وجدة وجرادة عن رفض هذا الجيل لترتيب الأولويات الذي يضع الاستثمار الرمزي في مقدمة المشاريع على حساب الأساسيات، مثل التعليم والصحة وفرص الشغل.
إن دراسة هذه الظاهرة تتطلب مقاربة تحليلية تربط بين اختلالات الصحة والتعليم، والتفاوت المجالي والعدالة الاجتماعية، واحتجاجات الشباب، مع مراعاة سياق النموذج التنموي المغربي وظهور رهانات سياسية ورمزية من خلال الرياضة والمشاريع الكبرى.
المبحث الأول: اختلالات الصحة والتعليم وأثرها على الثقة بالمؤسسات الوطنية
المطلب الأول: التعليم المغربي بين ضعف البنية، غياب الحكامة، والزبونية في التوظيف
يشكل التعليم الركيزة الأساسية لأي عملية تنموية مستدامة، وهو جوهر رؤية النموذج التنموي الجديد الذي يؤكد الملك محمد السادس على ضرورة وضع المواطن في قلب السياسات الوطنية. ومع ذلك، يكشف الواقع عن هشاشة كبيرة في المنظومة التعليمية.
فالمدارس المغربية، خاصة في الجهات النائية والشرقية، تعاني من اكتظاظ الفصول، ضعف التجهيزات، وتهالك البنى التحتية، في حين تظل المناهج بعيدة عن متطلبات العصر الرقمي وسوق الشغل الحديث. ويزيد من حدة الأزمة غياب الحكامة الحقيقية، حيث تتكرر البرامج الإصلاحية دون متابعة فعالة، مما يضعف قدرة الدولة على تحقيق أهدافها.
كما أن توزيع المناصب التعليمية والإدارية يعاني من الزبونية والمحسوبية، حيث تُمنح فرص التوظيف والتدرج الوظيفي بناء على العلاقات أو الانتماء السياسي، وليس على الكفاءة والاستحقاق. هذا الوضع يؤدي إلى فقدان الثقة في المؤسسات التعليمية ويجعل الشباب يشعرون بالتهميش، خصوصاً في الجهات المهمشة التي تفتقر إلى فرص الشغل الأكاديمي والمهني.
المطلب الثاني: الصحة العمومية بين الشعارات والواقع المأزوم والتفاوتات المجالية
يشير الواقع الصحي في المغرب إلى أزمات متراكمة، فالمستشفيات العمومية تعاني من نقص الأطر الطبية المؤهلة، ضعف التجهيزات، وتفاوت الخدمات بين المدن الكبرى والمناطق النائية. جهة الشرق، على سبيل المثال، تعاني من نقص مراكز صحية متخصصة، مما يضطر المواطنين للسفر لمسافات طويلة لتلقي العلاج، وهو ما يضاعف معاناتهم ويؤثر على جودة حياتهم.
هذه الوضعية تمثل إخفاقاً في تحقيق العدالة المجالية، وهو المبدأ الذي أكد عليه الملك محمد السادس في خطابه حول النموذج التنموي الجديد، معتبرًا أن التنمية يجب أن تشمل جميع الجهات بشكل متوازن. كما أن ضعف الحكامة الصحية يجعل الاستثمارات غير فعالة، ويزيد الاحتقان الاجتماعي، ويعزز شعور المواطن بعدم المساواة في الحصول على الخدمات الأساسية.
المبحث الثاني: احتجاجات جيل Z والسياق الاجتماعي والجهوي بالمغرب
المطلب الأول: التهميش المجالي لجهة الشرق وغياب العدالة الاجتماعية
جهة الشرق مثال واضح على التفاوت المجالي في المغرب. فهي تعاني من ضعف الاستثمارات الصناعية والبنية التحتية، وارتفاع البطالة بين الشباب، وغياب المشاريع التنموية الكبرى. هذا التهميش يولّد شعوراً بالحرمان ويزيد من حدة الاحتجاجات، كما أن المقارنة بالمدن الكبرى تكشف التفاوت الكبير في جودة الحياة وفرص التطوير الاقتصادي والاجتماعي.
غياب العدالة المجالية يؤدي إلى شعور الشباب بأن الدولة تعطي الأولوية للمشاريع الرمزية في المراكز الحضرية على حساب تحسين الظروف الأساسية في الجهات المهمشة، وهو ما يمثل تهديداً للاستقرار الاجتماعي إذا لم تُعالَج هذه الفجوة.
المطلب الثاني: جيل Z بين حب الوطن، الرقمنة، ورفض القمع والهجرة
جيل Z هو جيل الرقمنة والمعرفة، يمتلك قدرة عالية على التواصل والتنظيم عبر المنصات الرقمية، ويستطيع توسيع دائرة الاحتجاج والتعبير عن مطالبه بسرعة. هذا الجيل يرفض الأساليب القمعية كوسيلة لحل الخلافات الاجتماعية، ويؤكد أن حب الوطن لا يتعارض مع النقد المشروع للسياسات الرسمية.
كما أن الهجرة، رغم كونها خياراً لبعض الشباب، لم تعد الحل المفضل، لأنهم يدركون أن الإصلاح الحقيقي يبدأ من الداخل، وأن التغيير ممكن إذا ما تم التركيز على العدالة الاجتماعية والمجالية، وهو ما ينسجم مع الرسائل الملكية حول حقوق الإنسان والتنمية المستدامة.
المبحث الثالث: الرياضة وكأس العالم بين الرهان السياسي وتجاهل الأولويات التنموية
المطلب الأول: الاستثمار في الملاعب بدل الاستثمار في الإنسان
الرهان على كأس العالم 2030 يعكس استثمار الدولة في الرمزية الدولية على حساب الاستثمار في الإنسان. فالملاعب والبنية التحتية الرياضية الكبرى تتطلب مليارات الدراهم، بينما المدارس والمستشفيات في العديد من المناطق، خصوصاً الشرقية، تفتقر إلى أدنى الاحتياجات.
هذا الانحراف عن أهداف النموذج التنموي الجديد يعكس مفارقة بين الاستثمار الرمزي في الصورة الخارجية وبين الأولويات الأساسية للمواطن، مما يفاقم الاحتقان الاجتماعي ويقوي شعور الشباب بالإقصاء.
المطلب الثاني: البعد السياسي لصناعة صورة المغرب مقابل الواقع اليومي
تسعى الدولة من خلال هذا الحدث إلى تعزيز مكانتها الدولية وصورتها السياسية، غير أن هذه الصورة تتعارض مع الواقع المعيشي للشباب في الجهات المهمشة. فالكرة والملاعب أصبحت رموزاً سياسية، بينما المواطن يظل يبحث عن تعليم جيد، صحة متاحة، وفرص شغل لائقة. هذا التناقض يوضح أن التنمية الحقيقية لا تتحقق إلا إذا وُضع الإنسان في مركز الأولويات، وفقاً لمبادئ النموذج التنموي الجديد.
خاتمة
احتجاجات جيل Z ليست مجرد مطالب آنية، بل مؤشر على الحاجة إلى مراجعة الأولويات الوطنية. فالاستثمار في الإنسان، عبر التعليم والصحة والشغل، يجب أن يكون أساس أي سياسة تنموية، بينما الرهان على الصورة الرمزية والسياسة الخارجية لا يمكن أن يعوض الواقع اليومي للمواطن.
جيل Z، بوعيه الرقمي وتمسكه بحقوقه، يفرض على الدولة الاستماع، ويؤكد أن الإصلاح الحقيقي يبدأ من الإنسان قبل أي شيء آخر، وأن العدالة المجالية والاجتماعية ليست ترفاً، بل شرط أساسي لأي استقرار وتنمية مستدامة.
قائمة المراجع
1. المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، تقرير حول وضعية المنظومة التعليمية بالمغرب، 2023.
2. المندوبية السامية للتخطيط، التفاوتات الاجتماعية والمجالية في المغرب، تقرير 2022.
3. وزارة الصحة والحماية الاجتماعية، الخطة الوطنية للصحة 2022-2025.
4. الخطابات الملكية: محمد السادس، الخطاب الملكي حول النموذج التنموي الجديد، 2019 و2023.
5. البنك الدولي، تقرير حول التعليم والصحة في المغرب، 2021-2024.
6. Castells, Manuel. Networks of Outrage and Hope: Social Movements in the Internet Age. Polity Press, 2015.
7. تقارير صحفية: هسبريس، Le360، 2M حول احتجاجات وجدة والدار البيضاء 2024-2025.