
مقدمة
تعد الضريبة الأداة الأساسية لتمويل النفقات العامة وتحقيق التضامن الوطني. غير أن تعقّد الاقتصاد المعاصر، وتزايد المعاملات الرقمية، واتساع رقعة الاقتصاد غير المهيكل، جعلت من الوسائل التقليدية للتحصيل والمراقبة محدودة الفعالية. في المقابل، برز الذكاء الاصطناعي كآلية مبتكرة لإعادة صياغة العلاقة بين الدولة والملزم، ليس فقط عبر تحسين مردودية التحصيل، بل أيضًا من خلال ترسيخ مبادئ العدالة والشفافية.
كما أن للتقنيات الحديثة قدرة كبيرة على تحسين العلاقة بين الحكومات والمواطنين. فقد أسهمت البوابات الضريبية، وأنظمة المعلوميات الجمركية، والخدمات الإلكترونية في تبسيط التفاعل مع السلطات العمومية، والتقليص من العقبات البيروقراطية، وتعزيز الشفافية. واليوم يبرز الذكاء الاصطناعي التوليدي (GenAI) باعتباره القوة التحويلية الجديدة. فهذا الذكاء، المعروف بقدرته على فهم اللغة البشرية وإنتاجها، يفتح آفاقا تتجاوز حدود الرقمنة. غير أنه، في مجال شديد الحساسية سياسيًا مثل الضرائب، يثير أيضًا تساؤلات جوهرية قد تُقوّض الثقة بسرعة.
فالذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence) يستند إلى تقنيات متقدمة لمحاكاة الذكاء البشري، مما يسهم في تبسيط سير العمل بقدر أكبر من الكفاءة والدقة. ويعد الذكاء الاصطناعي التوليدي تطبيقا أكثر تخصصا لهذه التقنية، صُمّم لإنتاج المحتوى والأفكار، وقد أصبح يكتسب أهمية متزايدة في القطاع الضريبي. وتتيح هذه الأدوات مزايا كبيرة من خلال تبسيط عمليات الامتثال، ورقمنة المهام المعاملاتية، وتحسين استراتيجيات التخطيط الضريبي.
من هنا تبرز إشكالية مركزية: إلى أي حد يمكن للذكاء الاصطناعي أن يشكل رافعة لإصلاح النظام الضريبي في المغرب، وما هي التحديات التي يطرحها بالمقارنة مع التجارب الدولية الرائدة؟
المحور الأول: تكلفة الفجوة الضريبية بالمغرب
تشير التقديرات الرسمية إلى أن الفجوة الضريبية في المغرب تمثل حوالي 7% من الناتج الداخلي الخام. وإذا كان هذا الناتج قد بلغ ما بين سنتي 2014 و2023، تطورا كبيرا، وبلغ وفق أرقام رسمية صادرة عن المندوبية السامية للتخطيط، ولأول مرة 140 مليار دولار. فإن ذلك يعني أن الدولة تخسر ما يقارب 90 مليار درهم سنويا بسبب التهرب الضريبي وضعف آليات المراقبة. هذه الخسارة ليست مجرد رقم مالي جاف، بل تحمل أبعادا سياسية واقتصادية عميقة: فهي تعادل تقريبا الميزانية المرصودة للتعليم العالي بكامله، أو تكفي لتشييد 10آلاف مدرسة أو 200مستشفى جهوي. وبذلك يصبح أي إصلاح ضريبي غير قادر على معالجة هذه الفجوة مجرد إصلاح شكلي لا يلامس جوهر المشكلة.
في هذا السياق، يبرز الذكاء الاصطناعي كأداة حاسمة للحد من هذا النزيف المالي. فالتجارب الدولية تثبت أن توظيف الخوارزميات والتحليل الذكي للبيانات قادر على مضاعفة مردودية التحصيل الضريبي، وإغلاق منافذ الغش، وتعزيز الشفافية.
ففي فرنسا مثلا، أطلقت الإدارة الضريبية مشروعًا سنة 2021 اعتمد على صور الأقمار الصناعية المدمجة بخوارزميات ذكاء اصطناعي لاكتشاف العقارات غير المصرح بها. وقد أسفر ذلك عن اكتشاف 20 ألف مسبح غير مصرح به، مما وفر للخزينة حوالي 10 ملايين يورو في سنة واحدة فقط.
أما الولايات المتحدة، فقد استثمرت مصلحة الضرائب (IRS) في خوارزميات تعلم آلي لرصد الاحتيال في استرداد الضرائب. وبين 2017 و2020، مكّن هذا النظام من تقليص الخسائر بحوالي 5.2 مليار دولار، إضافة إلى خفض زمن التحقيقات من شهور طويلة إلى بضعة أيام فقط، وهو ما يعكس الأثر المزدوج للتكنولوجيا: اقتصاد للوقت وتحصيل للموارد.
وفي الصين، تم اعتماد نظام "الفاتورة الذكية" المدمج بتقنية Blockchain والذكاء الاصطناعي، وهو ما أدى إلى تقليص التهرب الضريبي التجاري بنسبة 30% خلال أربع سنوات فقط. وقد أثبتت هذه التجربة فعالية الذكاء الاصطناعي في تعزيز الرقابة على اقتصاد ضخم ومعقد كان يُعد من أكثر الاقتصادات عرضة لظاهرة التهرب الضريبي.
أما في كندا، فقد كان التركيز على تحسين العلاقة مع الملزمين عبر إطلاق المساعد الافتراضي "Charlie"، وهو روبوت محادثة قادر على معالجة ملايين الاستفسارات الضريبية. وقد أسهم هذا النظام في خفض نسبة الأخطاء في التصريحات الضريبية بحوالي 12%، فضلًا عن تخفيف العبء البشري على الإدارة، مما مكنها من التركيز على الملفات المعقدة ذات القيمة المضافة العالية.
إن هذه التجارب مجتمعة تؤكد أن الذكاء الاصطناعي ليس مجرد خيار تقني ثانوي، بل هو رافعة استراتيجية لإصلاح المنظومات الضريبية. وإذا كان المغرب يخسر ما يعادل 90 مليار درهم سنويا، فإن استثمارا مدروسا في الحلول الرقمية والذكاء الاصطناعي يمكن أن يغلق جزءا معتبرا من هذه الفجوة، ويوفر موارد إضافية قادرة على تمويل المشاريع الكبرى، ودعم الاستثمار الاجتماعي، وتعزيز ثقة المواطن في عدالة النظام الجبائي.
المحور الثاني: الفرص أمام المغرب
تظهر التجارب الدولية أن المغرب قادر على تحقيق مكاسب هامة من خلال إدماج الذكاء الاصطناعي في نظامه الجبائي. فإذا تم تقليص الفجوة الضريبية من 7% إلى 4% فقط، فإن ذلك يعني استرجاع حوالي 40 مليار درهم سنويًا. وهو مبلغ ضخم يمكن أن يُحدث نقلة نوعية في تمويل المشاريع العمومية، إذ يكفي لمضاعفة ميزانية البحث العلمي ثلاث مرات، أو لبناء آلاف المؤسسات التعليمية، أو لتمويل مشاريع استراتيجية كبرى مرتبطة بتنظيم كأس العالم 2030. ومن ثمة، فإن الاستثمار في الذكاء الاصطناعي لا يمثل مجرد تحديث إداري محدود، بل هو خيار تنموي استراتيجي يضع الرقمنة في قلب السياسات العمومية.
إلى جانب ذلك، فإن الأدوات المدعومة بالذكاء الاصطناعي تتيح تحسين الأداء الداخلي للإدارة الضريبية نفسها. ففي السابق، كان العثور على إجابات لأسئلة ضريبية معقدة أو الغوص في نصوص المدونة الضريبية يتطلب ساعات طويلة من البحث اليدوي. أما اليوم، فإن الذكاء الاصطناعي التوليدي قادر على مسح كميات هائلة من النصوص والمحتويات بشكل فوري، وتقديم خلاصات دقيقة وموجزة للمعلومات ذات الصلة، مما يختصر الوقت ويعزز جودة القرار الإداري.
غير أن هذه الفرص الواعدة لا تخلو من تحديات. فـ تجميع البيانات من الأبناك، وشركات الاتصالات، والتجارة الإلكترونية يثير مخاوف جدية بشأن الخصوصية، وهو ما يجعل القانون المغربي رقم 08.09 المتعلق بحماية المعطيات الشخصية غير كافٍ لمواكبة تعقيدات الذكاء الاصطناعي. كما تبرز إشكالية شفافية الخوارزميات، حيث يطرح السؤال حول كيفية تمكين المواطن من الطعن في قرار اتخذته خوارزمية، وهل يمكن مساءلة برنامج حاسوبي عن أخطاء أو تحيزات قد تؤثر على مصالح الملزمين. وهذا يستدعي إعادة النظر في قواعد الطعن الإداري والقضائي بما يواكب هذا التحول.
إضافة إلى ذلك، تواجه الإدارة الضريبية المغربية فجوة رقمية داخلية، إذ تشير التقديرات إلى أن أكثر من 70% من الموظفين لم يتلقوا بعد تكوينًا متخصصًا في مجالات Big Data أو الذكاء الاصطناعي. وهو ما يجعل نجاح أي إصلاح ضريبي ذكي رهينًا باستثمار مكثف في تكوين الموارد البشرية وتأهيلها لمواكبة متطلبات الحكامة الجبائية الحديثة.
المحور الثالث: نحو عدالة ضريبية رقمية
إن العدالة الضريبية التي نص عليها الدستور المغربي في الفصل 39 لا يمكن أن تتحقق بمجرد رفع العائدات أو تضييق الفجوة الضريبية، بل تستلزم تأطير الإصلاح في إطار حكامة مالية ذكية تقوم على التوازن بين النجاعة التقنية وضمان الحقوق الأساسية. فالتجارب المقارنة أظهرت أن التكنولوجيا مهما بلغت من تطور قد تتحول إلى أداة لإعادة إنتاج التفاوتات إذا لم تُؤطر بضوابط قانونية وأخلاقية واضحة.
ويقتضي هذا التحول نحو "العدالة الضريبية الرقمية" اتخاذ ثلاث خطوات أساسية:
1. جعل الخوارزميات شفافة وقابلة للمساءلة، بحيث يعرف الملزم الأسس التي بُني عليها القرار الجبائي، ويُمنح الحق في الطعن فيه مثلما هو الحال مع القرارات الإدارية التقليدية.
2. إرساء آليات فعالة لحماية المعطيات الشخصية، بما يضمن أن استعمال البيانات البنكية أو التجارية أو الرقمية لن يتحول إلى انتهاك لخصوصية الأفراد، وأن يتم استخدامه فقط لتحقيق الغاية الضريبية العادلة.
3. إشراك المواطن في النقاش العمومي حول الجباية الذكية، وذلك عبر تعزيز ثقافة الحوار والشفافية، وتبسيط لغة التواصل حول أهداف الإصلاح الجبائي الرقمي، بما يرسخ الثقة بين الدولة والملزمين.
بهذا المعنى، فإن العدالة الضريبية في زمن الرقمنة ليست مجرد مسألة تقنية أو مالية، بل هي أيضا قضية ديمقراطية تمس صميم العلاقة بين الدولة والمجتمع.
خاتمة
إن الضريبة والذكاء الاصطناعي يشكلان اليوم ثنائيا استراتيجيا لمستقبل المالية العمومية. فالتجارب الدولية تبرهن على أن اعتماد هذه التكنولوجيا يمكن أن يغلق فجوات مالية كبرى ويعيد الثقة بين الدولة والمواطن. غير أن نجاح التجربة المغربية يظل مشروطا بثلاثة عوامل مترابطة: إرادة سياسية واضحة، تشريع حديث يحمي الحقوق، وتأهيل بشري وتقني للإدارة.
إذا تحققت هذه الشروط، فإن المغرب سيكون قادرا ليس فقط على تقليص فجواته المالية، بل أيضا على الارتقاء إلى مصاف الدول الرائدة في الحكامة الجبائية الذكية.