يعد القرار الأخير الصادر عن مجلس الأمن الدولي بشأن قضية الصحراء منعطفا مهما في مسار هذا النزاع الإقليمي الذي طال أمده منذ نصف قرن. فبعد سنوات من المراوحة في دائرة إدارة الأزمة دون التقدم نحو حل سياسي فعلي، يبدو أن المجتمع الدولي، عبر هذا القرار، قد اختار بوضوح نهج الواقعية السياسية، حيث يكرس المقاربة المغربية القائمة على الحكم الذاتي باعتبارها الإطار الأكثر جدية ومصداقية للتسوية النهائية. فالقرار، من خلال لغته المتدرجة ومضامينه الدقيقة، يعكس تحولا نوعيا في توازن المواقف داخل مجلس الأمن، ويؤشر على بداية مرحلة جديدة تضع حدا لمنطق التأجيل الذي طبع هذا الملف منذ وقف إطلاق النار سنة 1991. اللافت في القرار هو أنه لم يقتصر، كما كان مألوفا في القرارات السابقة، على تجديد ولاية بعثة المينورسو لسنة إضافية، بل تجاوز ذلك إلى رسم ملامح طريق نحو تسوية سياسية دائمة، قائمة على التوافق والواقعية. فهو يشير بوضوح إلى أن "الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية يمكن أن يشكل أحد أكثر الحلول واقعية"، ويدعو الأطراف إلى تقديم الدعم اللازم للمفاوضات والمشاركة فيها بحسن نية"، و"دون شروط مسبقة"، و"على أساس خطة الحكم الذاتي المقترحة من المغرب بغية التوصل إلى حل سياسي نهائي من الطرفين يضمن تقرير مصير شعب الصحراء الغربية". وهذا التطور في الصياغة يعكس انتقالا تدريجيا من مرحلة إدارة النزاع إلى مرحلة البحث الفعلي عن الحل، بما يعني أن الأمم المتحدة لم تعد تتعامل مع مبادرة الحكم الذاتي كمجرد مقترح من بين مقترحات أخرى، بل كأرضية تفاوضية أساسية تتقاطع حولها المواقف الدولية الكبرى. يستمد هذا القرار قوته من كونه يأتي في سياق سياسي إقليمي ودولي مغاير. فالمشهد السياسي المغاربي يعيش حالة من التوتر غير المسبوق بين المغرب والجزائر، في ظل قطع العلاقات الدبلوماسية، واحتدام الشحن السياسي والإعلامي بين البلدين، والمناخ الدولي يتسم بتغيرات عميقة في أولويات القوى الكبرى التي باتت تميل إلى الحلول الواقعية بدل "الشعارات الإيديولوجية". ومن هذا المنظور، يمكن القول إن دعم مجلس الأمن لخطة الحكم الذاتي لم يعد تعبيرا دبلوماسيا شكليا، بل أصبح يعكس قناعة متزايدة لدى المجتمع الدولي بأن الحل الوحيد الممكن هو الذي يحافظ على وحدة التراب المغربي، ويضمن، في الآن ذاته، نوعا من الإدارة الذاتية لسكان الأقاليم الجنوبية في إطار السيادة الوطنية. كما أن القرار يؤكد بوضوح دعم المجلس للأمين العام للأمم المتحدة ومبعوثه الشخصي ستيفان دي ميستورا، ويشيد بجهوده من أجل دفع العملية السياسية قدما، عبر مواصلة المشاورات مع المغرب وجبهة البوليساريو والجزائر وموريتانيا. غير أن هذا الدعم لا يخفي التوجيه الصريح الذي يمنحه القرار للمبعوث الشخصي، إذ يشير بوضوح إلى ضرورة العمل على أساس خطة الحكم الذاتي المغربية، وهو ما يشكل تقليصا ضمنيا للهامش الذي كانت تستند إليه الأطراف الأخرى للمناورة أو لفرض أجندات أصبحت متجاوزة، مثل فكرة الاستفتاء التي يبدو أنها فقدت أي مضمون واقعي منذ سنوات طويلة. فالمجلس، من خلال هذا القرار، يربط مستقبل العملية السياسية بمبادرة الحكم الذاتي، ويغلق الباب أمام محاولات إحياء مشاريع لم تعد قابلة للتطبيق كحل يرضي طرفي النزاع. من الناحية السياسية، يعتبر إدراج "تقرير المصير" في القرار بصيغة عامة وغير ملزمة تطورا دلاليا بالغ الأهمية. فالمجلس لم يربط هذا المبدأ، كما كان في السابق، بخيار الاستفتاء، بل أدرجه في سياق احترام ميثاق الأمم المتحدة ومبادئه العامة، مما يعني أن مفهوم تقرير المصير في حالة قضية الصحراء بات يفهم في إطار داخلي، أي في شكل حكم ذاتي موسع داخل السيادة المغربية. إنها إعادة تعريف هادئة للمبدأ الأممي بما يتناسب مع تطور الوقائع السياسية والحقائق الميدانية. وهذا ما يؤشر على تحول عميق في فهم الأمم المتحدة نفسها لطبيعة النزاع، إذ لم يعد الأمر يتعلق بـ "تصفية استعمار"، كما ظل يردد ذلك الطرف الآخر، بقدر ما أصبح نزاعا إقليميا يحتاج إلى تسوية سياسية مبتكرة ومتوازنة. وفي مقابل هذا التقدم في تبني المقاربة المغربية، يوجه القرار رسائل غير مباشرة إلى الجزائر، الراعي الرسمي لجبهة البوليساريو، من خلال دعوته جميع الأطراف إلى دعم المفاوضات والمشاركة فيها بـ "حسن نية ودون شروط مسبقة". فالمجلس لم يعد يقبل بموقف الجزائر كـ "طرف مراقب" بل يعتبرها طرفا معنيا، وهو ما يتوافق مع موقف المغرب الذي ظل يؤكد أن الحل يمر عبر حوار مباشر مع الجزائر بصفتها الطرف الرئيسي الذي يحتضن ويدعم جبهة البوليساريو سياسيا وماليا وعسكريا. كما يشير القرار إلى الترحيب باستعداد الولايات المتحدة لاستضافة المفاوضات المقبلة، وهي إشارة رمزية تعني أن الدولة حاملة القلم في هذا الملف أصبحت مستعدة لتولي دور أكثر فعالية فيه، انسجاما مع موقفها المؤيد لسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية منذ إعلان إدارة ترامب سنة 2020. ولا يغفل القرار الجوانب الأمنية والإنسانية، حيث يشدد على "أهمية احترام وقف إطلاق النار وتجنب أي أعمال قد تقوض العملية السياسية"، في إشارة واضحة إلى المناوشات العسكرية المحدودة التي تقوم بها جبهة البوليساريو شرق الجدار الأمني، والتي تريد تسويقها على أنها نهاية لاتفاق وقف إطلاق النار المبرم مع المغرب سنة 1991. كما يسجل "بقلق بالغ النقص في التمويل المخصص للاجئين الصحراويين، ويحث المانحين بشدة على تقديم مساهمات إضافية"، و"يكرر دعوته إلى تسجيل اللاجئين على النحو الواجب". وهذه الفقرة الأخيرة تكتسب أهمية خاصة، لأنها تمس جوهر واحدة من أكثر القضايا حساسية بالنسبة للجزائر، إذ أن تسجيل هؤلاء من شأنه أن يكشف الأرقام الحقيقية المتعلقة بعددهم، ويضع حدا لاستخدامهم كأداة سياسية ودعائية في النزاع. أما فيما يتعلق ببعثة المينورسو، فإن القرار يمدد ولايتها لسنة إضافية، لكنه يربط مستقبلها بتقييم استراتيجي سيقدمه الأمين العام خلال ستة أشهر يأخذ بعين الاعتبار نتائج المفاوضات، بعدما كانت مسودة سابقة للمشروع تروم أن ينحصر ذلك التمديد في ستة أشهر فقط. وهذا يعني أن الأمم المتحدة بدأت تفكر في إعادة صياغة دور البعثة. فالبعثة تأسست في بدايتها من أجل الاشراف على وقف إطلاق النار وتنظيم الاستفتاء، ولكن القرار الأخير لمجلس الأمن ركز على خيار تسوية سياسية أساسها الحكم الذاتي. ومن شأن ذلك أن يفتح الباب أمام مراجعة شاملة لمضمون المهمة الجوهرية للمينورسو، بل ولمفهوم وجودها نفسه، وهي التي ظلت محل انتقاد منذ سنوات بسبب عجزها عن تحقيق أي تقدم فعلي في مسار التسوية. إن القراءة الشاملة لهذا القرار تكشف عن تحول في ميزان المواقف داخل مجلس الأمن. فالدول الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة وفرنسا، أصبحت مقتنعة بأن استمرار الوضع الراهن لم يعد مقبولا، وأن الحل الواقعي الوحيد هو الذي يضمن الاستقرار الإقليمي ويحفظ مصالح القوى الكبرى في منطقة الساحل والصحراء. وبذلك، لم يعد من الممكن العودة إلى مربع الصفر أو إعادة طرح خيار الاستفتاء، لأن السياق الدولي الجديد، الذي يتسم بتحديات أمنية متزايدة في المنطقة، يفرض حلولا سريعة ومستقرة لا تزيد من حدة التوتر. وإذا كان يبدو واضحا أن المغرب خرج من هذا القرار منتصرا دبلوماسيا، بعدما أضحت رؤيته تحقق اختراقا مهما داخل المنظومة الأممية، وبعدما نجح في تحويل مبادرته للحكم الذاتي من مجرد مشروع وطني إلى مرجعية دولية معترف بها، فإن جبهة البوليساريو، تجد نفسها اليوم أمام وضع دبلوماسي صعب، إذ لم يعد هناك في القرارات الأممية ما يبرر استمرار خطابها الانفصالي، في وقت تتراجع فيه قدرتها على التأثير الميداني والسياسي. نفس الأمر ينطبق على الجزائر التي تجد نفسها مضطرة إلى مراجعة موقفها بعد أن فقدت الكثير من الدعم داخل مجلس الأمن، وأصبحت تواجه عزلة متزايدة نتيجة تمسكها بخطاب جامد يفتقر إلى الواقعية، وتمسكها بفكرة "دعم تقرير المصير" التي تربطها بمناخ سياسي دولي يحل على عهد الحرب البرادة، وأصبح جزء من الماضي. باختصار، يمثل قرار مجلس الأمن الأخير تتويجا لمسار طويل من التحولات في الموقف الدولي من قضية الصحراء، ويؤشر على بداية مرحلة جديدة عنوانها الواقعية السياسية والتوافق الإقليمي. فالمجلس لم يفرض حلا، لكنه وجه بوضوح الأطراف نحو خيار أساسي عنوانه التفاوض على أساس الحكم الذاتي في إطار السيادة المغربية. وهو ما يعني، في الجوهر، أن المسار الأممي يسير بثبات نحو الاعتراف الكامل بأن مبادرة المغرب ليست مجرد اقتراح سياسي، بل هي الحل الوحيد الممكن لإنهاء أحد أقدم النزاعات الإقليمية في إفريقيا والعالم العربي. غير أن هذا القرار، على أهميته السياسية والدبلوماسية، لا يغلق الملف بقدر ما يفتحه على مرحلة جديدة من التحديات التي سيتعين على المغرب إدارتها بحكمة وواقعية، سواء على مستوى المفاوضات مع الطرف الآخر، الذي سارع منذ صدور القرار إلى التعبير عن رفضه في "أن يكون طرفا في أي عملية سياسية أو مفاوضات تقوم على مقترحات لا تحترم حق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره"، بحسب تعبيره، أو في ما يتعلق بتثبيت مكاسب هذا التحول الأممي في الميدان، وهو ما سيكون موضوع مقالنا المقبل. أحمد بوز



الدكتوراه في قانون العقود والعقار ـ إشراف الدكتور إدريس الفاخوري
قرار مجلس الأمن حول الصحراء: من إدارة النزاع إلى أفق الحل السياسي

