MarocDroit  -  موقع العلوم القانونية
plateforme des décideurs juridiques - Platform of Legal Decision-Makers




"مركزية التمثيل والدفاع القضائي عن الدولة: رهان مؤسسي لتحقيق التوازن بين المصلحة العامة وحقوق المواطن"

     

الدكتور محمد المعطاوي
باحث في القانون العام والعلوم الإدارية



"مركزية التمثيل والدفاع القضائي عن الدولة: رهان مؤسسي لتحقيق التوازن بين المصلحة العامة وحقوق المواطن"
تقديم:

يقوم التنظيم القانوني للدولة الحديثة على مسعى دؤوب إلى تحقيق معادلة دقيقة بين سمو المصلحة العامة باعتبارها غاية وجود الدولة، وبين حماية حقوق المواطن بوصفها أساس شرعية السلطة. وفي هذا الإطار برز اعتماد مركزية التمثيل والدفاع القضائي عن الدولة كخيار مؤسسي واع يترجم إرادة المشرع في إحاطة منازعات الدولة بضمانات خاصة، تكفل تدبيرها بكفاءة وشفافية، وتحصن الصالح العام من كل أشكال التلاعب أو سوء التصرف.

لقد أدركت التشريعات المقارنة، من خلال التجارب التي سارت في اتجاه تكريس النموذج المركزي، أن تشتيت الوظيفة الدفاعية للدولة أمام القضاء يؤدي في كثير من الأحيان إلى تضارب المقاربات، واختلاف الأساليب، وتفاوت مستوى الجودة في الدفاع، وهو ما قد ينعكس بشكل سلبي على مصالح الدولة ويربك انتظام المرفق العام. كما أن هذا التشتيت لا يخلو من آثار مباشرة على مراكز الأفراد القانونية، إذ يوسع هوامش الغموض ويضعف قابلية مساءلة الإدارة ويعسر أحيانا سبل مقاضاتها بصورة فعالة ومنسجمة.

ومن ثم، جاء خيار المركزية ليجسد توجه تشريعي يروم ضبط مسار المنازعات التي تكون الدولة طرفا فيها ضمن إطار مؤسسي موحد، يضمن جمع الخبرة القانونية، وتوحيد الاجتهاد في الدفاع، وترشيد الطعون، وتعزيز الحكامة القضائية. وهو توجه لا يحقق فقط حماية للمصلحة العامة باعتبارها حقا مشتركا للجماعة الوطنية ككل، بل يشكل كذلك دعامة أساسية لترسيخ الثقة بين المواطن والدولة عبر توفير دفاع متوازن، منظم، ومبني على قواعد المشروعية والإنصاف.

وهكذا، فإن مركزية الدفاع القضائي عن الدولة ليست مجرد تقنية تنظيمية، بل رهان مؤسسي يهدف إلى إقامة بنية دفاعية متقدمة توفر للدولة نجاعة أكبر في حماية ممتلكاتها وحقوقها، وفي الوقت ذاته تضمن للمواطن مسالك واضحة لمقاضاة الإدارة، ضمن إطار منضبط، شفاف، ومتكامل. إنها آلية تترجم فهم المشرع العميق لضرورة وجود جهاز موحد قادر على الجمع بين مقتضيات حماية الصالح العام، ومتطلبات احترام الحقوق والحريات، في انسجام يرسخ دولة القانون والمؤسسات.

أولا: تحصين الدفاع عن الصالح العام.

إن تحصين الدفاع عن الصالح العام أحد أهم المبررات التي قادت التشريعات الحديثة، ومن ضمنها التجربة المغربية إن صح الاعتقاد، إلى تبني أسلوب مركزية التمثيل والدفاع القضائي عن الدولة. فحماية حقوق الدولة لا يمكن أن تتحقق إلا عبر جهاز قانوني مؤسسي قوي قادر على تأطير هذا الدفاع بشكل فعال، مدعوم بوسائل تنظيمية وبشرية ومادية واضحة ومتخصصة وجاهزة، تتيح له التمتع بالاستمرارية والخبرة اللازمة للتعامل مع المنازعات المتنامية في حجمها وتعقيدها.

وقد أثبتت التجارب المقارنة، خاصة تلك التي تبنت هذا النهج بعد المرور بمرحلة التمثيل الحر للدولة، أن ترك مهام الدفاع موزعة بين مختلف الوزارات والمؤسسات العمومية كان يؤدي إلى نتائج سلبية تمس جوهر الصالح العام. فقد كانت المصالح الإدارية المكلفة بالنيابة عن الدولة تعاني ضعف التأطير القانوني، وغياب التخصص، وتشتت الجهود، وهو ما كان يدفعها في غالب الأحيان إلى الاستعانة بمحامين أو مستشارين خارجيين دون رؤية دفاعية موحدة أو استراتيجية مؤسساتية متماسكة. ونتيجة لذلك أصبحت قضايا الدولة تعرف تكرار الأخطاء، وغياب التنسيق، وقلة المتابعة، وانعدام وحدة الدفاع أمام مختلف الدوائر القضائية.

وفي مقابل هذا الواقع، يستند أنصار التمثيل الحر إلى حجة مؤداها أن كل وزارة أدرى بشؤونها، وأن كفاءات موظفيها – بحكم قربهم من النشاط الإداري – أكثر قدرة على مباشرة الدفاع. غير أن هذه الحجة تبدو من الناحية العملية غير قائمة على أساس علمي أو واقعي، فالإلمام بالجوانب التقنية المرتبطة بعمل الإدارة لا يعوض الخبرة القانونية المتخصصة في فنون الدفاع، ولا يكسب هؤلاء الموظفين القدرة على تبني الوسائل المسطرية الملائمة، أو اتخاذ التدابير التحفظية الضرورية، أو التوجهات الاستراتيجية المناسبة في الوقت الملائم. كما أن طبيعة النزاع القضائي ذاتها تتطلب تتبع مستمر ومواكبة دقيقة للملفات، وهي عناصر لا تتوفر غالبا في الإدارات القطاعية بحكم الانشغالات بالوظائف الأساسية.

أما في النموذج المركزي، فإن توحيد التمثيل القضائي داخل جهاز متخصص – كما هو الحال في المغرب مع الوكيل القضائي للمملكة والوكيل القضائي للجماعات الترابية – يؤدي إلى تراكم خبرة واسعة نتيجة تشابه القضايا وتعددها، سواء تعلق الأمر بقضايا نزع الملكية من أجل المنفعة العامة، أو المسؤولية الإدارية عن الأضرار، أو المنازعات التعاقدية والإدارية. هذه الخبرة المتراكمة تسمح للجهاز المركزي باعتماد خط دفاع موحد، وبناء قاعدة اجتهادية واضحة، وضمان التنسيق بين مختلف الملفات، بما يعزز الانسجام القانوني والنجاعة المؤسساتية.

كما يتيح هذا النهج إقامة علاقة مؤسساتية مستمرة مع القضاء، من خلال تتبع الأحكام والقرارات، ورصد توجهات الاجتهاد القضائي، وتقييم المخاطر القانونية قبل تفاقمها. وهو ما يمكن الجهاز المركزي من وضع استراتيجيات دفاعية محكمة، خاصة في القضايا الكبرى التي تمس المالية العمومية أو ترتبط بمشاريع حيوية ذات حساسية عالية. وتتميز هذه المقاربة بقدرة واضحة على اتساع نطاق الرؤية والتصرف، بشكل لا يمكن أن يتوفر لدى الإدارات القطاعية التي تتعامل مع عدد محدود من المنازعات وفي سياقات ضيقة ومن ثم، فإن اعتماد مركزية التمثيل القضائي للدولة يشكل آلية مؤسساتية فعالة لتحصين الصالح العام، وضمان حسن تدبير المنازعات، وترشيد الموارد المالية والبشرية، وتوفير دفاع متخصص ومتماسك يحقق الحماية القانونية للدولة وفي الآن نفسه يعزز حقوق المتقاضين من خلال وضوح المخاطب وتجويد الممارسة القضائية.

ثانيا: تحصين حقوق المواطن.

إن بنية التنظيم الإداري في الدول الحديثة – ومنها المغرب – تظهر قدر كبير من التعقيد وعدم الاستقرار، سواء من حيث توزيع الاختصاصات أو من حيث التسميات البنيوية للقطاعات الحكومية. فالخريطة الإدارية تخضع بشكل مباشر للخيارات السياسية، ولاتجاهات الإصلاحات الحكومية، وللتغير المستمر في أولويات الدولة. ويترتب عن كل عملية إحداث لوزارة جديدة أو حذف أخرى إعادة تقسيم الصلاحيات وتغيير أسماء البنيات الإدارية، وهو ما ينعكس مباشرة على قدرة الأفراد على تحديد المخاطب الإداري المختص عندما يكونون طرف في نزاع معين مع الدولة.

وفي هذا السياق، يشكل اعتماد جهاز مركزي موحد للدفاع عن الدولة أمام القضاء خطوة جوهرية في اتجاه تعزيز حماية حقوق المواطن، لأنه يرفع اللبس والارتباك المتولد عن تعدد الجهات الإدارية وصعوبة تحديد الإدارة المعنية عند رفع الدعوى. فوجود مخاطب وحيد ومركزي يساعد المواطن على سلوك المساطر القضائية بوضوح أكبر، ويضمن انتظام علاقة التقاضي بينه وبين الدولة، ويكرس مبدأ الولوج السهل والمنصف إلى العدالة.

وفضلا عن دوره التيسيري، فإن الفصل بين الجهة الإدارية مصدر النزاع وبين الجهة المكلفة بالدفاع عن الدولة يوفر ضمانة إضافية للمواطن، خاصة في القضايا ذات الحساسية المرتفعة التي تقتضي استقلالية الدفاع عن الإدارة نفسها. ذلك أن الجهاز المركزي لا يمارس مهامه بوصفه محامي خاص للإدارة، بل باعتباره هيئة عمومية مخولة قانونا حماية المصلحة العامة في إطار الالتزام بمبادئ الشرعية والإنصاف. وهذه الطبيعة العمومية تخول له هامش أوسع للنظر المتوازن في المنازعات، وتبعده عن التأثر المباشر بالمصالح القطاعية الضيقة التي قد تتشبث بها بعض الإدارات.

ويسهم هذا الاستقلال النسبي في تحصين حقوق المتقاضين من الانزلاقات المحتملة التي قد تنشأ عن محاولة الإدارة الدفاع عن قراراتها بأي وسيلة، إذ يعمل الجهاز المركزي وفق نهج مؤسساتي يحترم مقتضيات النزاهة، ويوازن بين الدفاع عن الصالح العام واحترام الضمانات القانونية المقررة للأفراد. إن المواقف التي يتخذها هذا الجهاز لا يمكن أن تتناقض أو تختلف من نزاع لآخر، لأنه ملزم بالتحرك وفق تفسير موحد للقانون، ما يرسخ الأمن القانوني ويعزز الثقة في الدولة، ويحد من التأويلات المتباينة التي قد تمس حقوق المواطنين أو تربك المساطر.

ولا ينبغي أن يقتصر دور جهاز الدفاع القضائي للدولة على ممارسة الدفاع أمام المحاكم فقط، بل يمتد – من منظور حكامة قانونية حديثة – إلى الإسهام في تعزيز دولة القانون من خلال رصد الاختلالات القانونية داخل الإدارة، وتقييم الظروف الاجتماعية والسياسية التي تحيط بالنزاع، وبناء مواقف دفاعية تستند إلى فهم شامل للواقع الإداري من جهة، والوضعيات الفردية للمواطنين من جهة أخرى. فالجهاز المركزي، في النهاية، مؤتمن على إيجاد توازن دقيق بين الصلاحيات المخولة للإدارة باعتبارها صاحبة السلطة العامة، وبين الحقوق الأساسية للمواطنين التي لا يمكن المساس بها إلا وفق مقتضى مشروع ومبرر.

ومن ثم، يمثل هذا الجهاز إحدى الأدوات المحورية لتحقيق عدالة إدارية ناجعة، وضمانة مؤسساتية تعزز الثقة بين المواطن والدولة، وتساهم في رفع جودة القرارات الإدارية عبر إلزام المرافق العمومية بإعمال الشرعية، واحترام قواعد الحكامة، وتوحيد التأويل القانوني داخل أجهزة الدولة. وهو دور جوهري في بناء علاقة سليمة ومتكافئة بين السلطة العامة وحقوق الأفراد، في سياق دولة تسعى إلى ترسيخ قيم الشفافية والمشروعية وتكريس حق التقاضي باعتباره أحد ركائز دولة القانون.

خاتمة:

إن المتتبع لمسار النقاش حول مركزية التمثيل والدفاع القضائي عن الدولة يتبين له بما لا يدع مجالا للشك أن هذا الأسلوب لم يعد مجرد خيار تنظيمي من بين خيارات أخرى، بل تحول إلى ضرورة مؤسساتية تمليها اعتبارات الحكامة القانونية، ومتطلبات حماية الصالح العام، وضمان حقوق المواطن واستقرار المعاملات. ومن هذا المنظور، أؤمن أن الانتقال الحاسم نحو ترسيخ نمط المركزية يمثل خطوة جوهرية لبناء منظومة دفاعية موحدة وفعالة، قادرة على مواكبة تحولات الدولة الحديثة وتعقد منازعاتها.

ويقتضي هذا الاختيار القطع النهائي مع أسلوب التمثيل الحر الذي أثبت محدوديته في التجارب المقارنة، وأظهر في الحالة المغربية أيضا جوانب خلل متعددة، سواء على مستوى تشتت الدفاع، أو عدم وضوح منهجية العمل، أو تعارض التأويلات القانونية بين الإدارات. ولتجاوز هذه الاختلالات، لا بد من تقوية الجهاز المركزي المكلف بالدفاع القضائي عبر تأطيره بمنظومة قانونية متميزة، تراعي خصوصية المهام الرئيسية المنوطة به، وتضمن له الاستقلالية البنيوية والموقع الواضح داخل الهيكلة الإدارية للدولة، بما يجعله بعيدا عن التأثيرات القطاعية ويحافظ على طبيعته كهيئة عمومية محايدة هدفها حماية الشرعية وتحقيق التوازن بين المصلحة العامة وحقوق المتقاضين.

كما يستلزم الإصلاح الحقيقي تأهيل الموارد البشرية داخل هذا الجهاز، بما يكفل توفر كفاءات قضائية وقانونية عالية، تمتلك خبرة تراكمية وقدرة على استيعاب تقنيات التقاضي، والبحث، وتتبع الاجتهاد القضائي، وصياغة استراتيجيات دفاعية دقيقة في القضايا الكبرى ذات الأثر المالي أو المؤسسي. فالدفاع عن الدولة ليس مهمة إدارية محضة، بل هو معرفة مركبة تتطلب الجمع بين القانون الإداري والمالي، وقواعد المرافعة، وتقنيات التفاوض، وآليات الوقاية من المنازعات.

وإلى جانب البنية البشرية، فإن مستقبل هذا النموذج لن يتحقق إلا عبر الانفتاح الجريء على الرقمنة والذكاء الاصطناعي، باعتبارهما رافعتين أساسيتين لتحسين جودة التتبع القضائي، وإدارة قواعد المعطيات، ورصد المخاطر القانونية، وتحليل اتجاهات الأحكام، وتطوير أنظمة دعم القرار. إن بناء منصة رقمية وطنية موحدة لتدبير منازعات الدولة، مدعومة بخوارزميات ذكية، سيمنح الجهاز المركزي سند تقني متقدم يجعل منه فاعل مؤسساتي حديث قادر على الاستباق بدل رد الفعل.

أما في التجربة المغربية، فإن استكمال مسار التطوير يقتضي الانفتاح على التجارب المقارنة الرائدة التي بلغت مستوى عالي من النجاعة، سواء في النموذج الإيطالي أو الإسباني أو الأنجلوساكسوني أو المصري، قصد الاستفادة من آليات التأطير، ومساطر العمل، وأدوات التقييم، وأشكال التعاون بين الجهاز المركزي والأجهزة الحكومية الأخرى. فالتقدم في هذا المجال لا يتحقق إلا عبر تمثل الخبرات الدولية وإعادة تكييفها مع الخصوصية الدستورية والمؤسساتية للمغرب.

وفي المحصلة، فإن ترسيخ مركزية الدفاع القضائي عن الدولة يعد رهان إستراتيجي لبناء دولة القانون، وضمان حكامة قضائية رصينة، وتجنب التشتت والإخلال بالمساواة بين المتقاضين، وبناء دفاع وطني موحد يرسخ الثقة بين المواطن والإدارة. إنه مشروع مؤسساتي كبير يتطلب رؤية واضحة، وتشريع متقدم، وبنية تنظيمية حديثة، وكفاءات عالية، وتوظيف ذكي للتكنولوجيا، لكنه في الوقت ذاته استثمار في مستقبل الدولة وفاعلية مؤسساتها، واستثمار في حقوق المواطنين واستقرار تعاملاتهم، وتحصين لمفهوم الشرعية في أسمى معانيها.
 
 
 
  Réservé: 6
 



السبت 22 نوفمبر 2025
MarocDroit منصة مغرب القانون "الأصلية"

تعليق جديد
Twitter