MarocDroit  -  موقع العلوم القانونية
plateforme des décideurs juridiques - Platform of Legal Decision-Makers




نظرية المساهَمة في القانون الجنائيّ المُقارن

     

فريد أمعـضشو
باحث مغربي



نظرية المساهَمة في القانون الجنائيّ المُقارن
لا تخلو التشريعات الجنائية على الصعيد العالمي من الحديث عمّا يسمى المساهمة (أو المُساهِم Coauteur) تجريما وعقابا، بشكل صريح أو ضمني. وما ذلك إلا للرغبة الأكيدة، لدى المشرّعين، في تحميل المسؤولية الجنائية لأي متدخل، ذي يد، في ارتكاب جانب من الفعل المادي للجُرْم. كما أن "الجرائم التي يتعدد فيها الأشخاص تكون أكثر خطورة من الجرائم التي يرتكبها شخص بمفرده. ولهذا، يجب التشديد فيها، واعتبار كلّ شخص فيها مساهما، بغض النظر عن الدور الذي يكون له"[1].

إنّ المساهمة تتحقق في حال وجود جريمة واحدة، يشترك ويتعاون في ارتكاب أفعالها التكوينية أكثرُ من شخص عقب الاتفاق على ذلك مسبّقا؛ بمعنى أنها تقتضي "إعانة الفاعلين بعضَهم لبعض في تنفيذ الجريمة مادّيا". ولهذا، يعدّ كل مساهم، في أغلب التشريعات، "فاعلا أصليا للجريمة بدوره، يعاقب مبدئيا بالعقوبة المقرَّرة للجريمة، كأنه هو الذي اقترفها منفردا"[2]؛ كما في القانون الجنائي المغربي مثلا، الذي أخذ، في هذا الإطار، بنظرية "الاستعارة المطلقة"، متأثرا بالمشرّع الجنائي الفرنسي، وإنْ كانت ثمة تشريعات أخرى لم تُسَوِّ بين عقوبتَيِ الفاعل الأصلي والمُساهِم، بل جعلت عقوبة الأول أشَدّ.  

وبعد أن رأينا نظرية المساهمة في القانون المغربي، ننتقل الآنَ إلى تسليط الضوء على الموضوع نفسِه في قوانين جنائية أخرى، عربية وغير عربية، باختصار. ففي قانون العقوبات الفرنسي، تحت فصل بعنوان "المساهمون في الجريمة"، أنه "يعتبر فاعلا كل من ساهم مساهمة مباشرةً في تنفيذ الجريمة، أو حرّض على ارتكاب الفعل بالهبة أو الوعد أو التهديد أو إساءة استعمال السلطة أو الولاية أو التحايُل أو التدليس الإجرامي"[3]. فاللاّفتُ للنظر في هذا النص أن المشرّع الفرنسي لم ينظر إلى مَنْ يحرّض على الجريمة بوصفه مجرد شريك (مُساهم تبعي/ ثانوي)؛ كما نجد مثلا في القانون الجنائي المغربي (الفصل 129)، بل إنه عَدّه فاعلا أو مساهما أصليا.

وقد ردّد المشرّع الجنائي الجزائري هذه المادة بحذافيرها، عند تعديله قانونَه العقابيَّ بتاريخ 13/02/1982. ويُقصد بالتحريض، اصطلاحا، "قيام الشخص بدفع غيره إلى اقتراف جريمة معينة، وتقوية تصميمه على ارتكابها؛ من أجل تحقيق هدف معين"[4]. ومن المعلوم أن أكثر التشريعات الجنائية العربية الحديثة قد تأثرت بهذا القانون، وبالفقه الفرنسي كذلك؛ كما في حالة القانون الجنائي المغربي، الذي يبدو تعريفه للمساهم(ة)، ونصُّه - كما أسلفنا - كالآتي: "يعتبر مساهما في الجريمة كل من ارتكب شخصيا عملا من أعمال التنفيذ المادي لها" (الفصل 128 ق.ج.)، أقربَ من التعريف الذي قدّمه الفقيه الفرنسي ديفابريس (Devabres)[5].

وتطرق المشرِّع الجنائي العراقي إلى نظرية المساهمة في الجريمة في عددٍ من موادّ الفصل الخامس من الكتاب الأول؛ فهي تتخذ حَسَبَه صورة أن يشارك أكثر من فاعل في ارتكاب ركن الجريمة المادي، سواء أكان الركنُ المادي متكوِّناً من فعل واحد ساهم في إتيانه أكثر من فاعل، أم من أكثر من فعل، يأتي كل مساهم بأحد الأفعال المكوّنة له (المادة 47 من ق. ع. العراقي). ويتحقق ذلك عبر صورتين:

أ- إذا قام كل مساهم بفعل يكفي وحده لوقوع الجريمة، فإنه يعدّ مساهما أصليا فيها؛ كما لو اتفق مجموعة من الأشخاص على سرقة منزل، وحمل كل منهم قسما من المال المسروق. وبما أن جريمة السرقة تتحقق بالاستيلاء على مال الغير، فإنّ كلاّ منهم يُعد مساهما أصليا في هذه الجريمة؛ لأن فعل كل مساهم من هؤلاء يشكل جريمة بمفرده.

ب- إذا كان فعل كل مساهم لا يكفي وحده لتحقق جريمة، ولا يهمّ أنْ تكون أفعالهم متماثلة أو غير متماثلة، وإنما تقع الجريمة، ويحصل ركنها المادي، متى اجتمعت جميع أفعال المساهمين؛ كما لو حرّر أحدهما السَّنَد المزوّر، وقام الثاني بالتوقيع عليه؛ فهُنا ساهم الاثنان في الركن المادي للجريمة، ووقعت الجريمة باجتماع عمليْهما معا، وليس بأحدهما فقط.
وفيما يتعلق بعقاب المساهمة، فإن المشرّع المذكور يعاقب الفاعل أو المساهم الأصلي بالعقوبة التي يقرّرها القانون للجريمة التامّة (المادة 50 من ق. ع. العراقي). ولا يهمّ ما إذا كان الفاعل قد ارتكبها وحده، أو بالاشتراك مع غيره، حتى لو كان العمل الذي قام به المساهم الأصلي لا يعدو أن يكون مجرد شروع فيها؛ كما لو أطلق شخصان النار على المجني عليه، وكانت إصابة أحدهما هي التي أرْدَتْهقتيلا؛ فهنا يُعاقَب الاثنان بعقوبة القتل العمد. وهذا ما أخذت به محكمة تمييز العراق في قرارها رقم (ب 1966 جنايات)، المؤرّخ بـ 23 /1 / 1965، ومما جاء فيه أنه "إذا تحققت المساهمة الأصلية، فلا عِبْرة بالفعل المنسوب إلى كل واحد من المساهمين في الجريمة".

ويُلاحَظ أن قانون العقوبات العراقي لا يَعتبر تعدد الفاعلين الأصليين ظرفا مشدِّدا للجريمة بشكل مطلق، ولكنه جعل تعدد الفاعلين في بعض الجرائم ظرفا مشددا؛ كما في جريمة السرقة مثلا.

وبالعودة إلى قراءة متن "قانون العقوبات الجزائري"، يتضح بجلاءٍ أنه، في تعريف المساهم (المادة 41)، قد كرّر بالحَرْف ما ورد في القانون الجنائي الفرنسي، مُدْخِلا التحريض، ومعه شتى الوسائل التي يتحقق بها، ضمن نطاق المساهمة لا المشاركة. وبذلك، يغدو عالة على هذا التشريع في تناول مسألة المساهمة في الجريمة. ورتّب للمساهم العقوبة التي يستحقها فاعل الجُرْم الأصلي تماما، كما لو أنه مرتَكِب ذلك الفعل الإجرامي وَحْدَه، والمشرّع الجزائري في هذا إنما يساير أكثر التشريعات الجنائية، وإنْ كان تأثره، ها هنا، بنظيره الفرنسي بالتحديد؛ هذا المشرّع الذي شكّل مرجعية قانونية للمشرّع الجزائري في كل ما يتعلق بنظرية المساهمة، وفي أبواب وقضايا أخرى من الكثرة بمكان[6].

ونكتفي بالتدليل على هذا الأمر بالإشارة إلى أن هذا المشرّع قد وافق قانون العقوبات الفرنسي في النقطة المتعلقة باعتبار تعدد المساهمين الأصليين ظرفا يُفضي إلى تشديد العقوبة، بخلاف جانب من الفقه قال بخلاف ذلك. وإن القائلين بتشديد العقوبة ذهبوا إلى ذلك، في الواقع، لكون "عنصر تعدُّد الجُناة، أو المساهمين الأصليين، يؤدي بالضرورةِ إلى سهولة تنفيذ الجريمة؛ وبالتالي يحفّز إمكانيتهم، ويُدْخِل الرُّعْب في نفس المَجني عليه؛ مما يجعله عاجزا عن الدفاع؛ فيكونون من بين الضحايا دائمًا لسبب عَجْزهم، وبالتالي يُتيح تعدُّد الجُناة ارتكابَ أخطر الجرائم؛ لأن تعاوُنهم هذا في سبيل الجريمة يكون، في الغالب، بين أشخاص غريقين في الإجرام؛ ممّا يجعلهم أكثر جُرْأة"[7].

ونصّت المادة 39 من قانون العقوبات المصري (الباب الرابع من الكتاب الأول) على أنه "يعد فاعلا للجريمة:  

أولا- مَنْ يرتكبها وحده أو مع غيره.
ثانيا- من يَدْخُل في ارتكابها إذا كانت تتكون من جملة أعمال؛ فيأتي عمْداً عَمَلا من الأعمال المكوِّنة لها. ومع ذلك، إذا وُجِدت أحوالٌ خاصة بأحد الفاعلين، تقتضى تغيير وصف الجريمة أو العقوبة بالنسبة له، فلا يتعدّى أثرها إلى غيره منهم. وكذلك الحال إذا تغيَّر الوصفُ باعتبار قصْد مرتَكِب الجريمة، أو كيفية علمه بها"، إلخ.
تلكم إلمامةٌ سريعة بنظرية المساهمة في جملة من التشريعات الجنائية، أثبتت أنها تلتقي في أكثر عناصرها ومقتضياتها، على مستويي التجريم والعقاب، وأنها متأثرة - فيما يبدو- بقوانين زجرية غربية؛ كالتشريع الجنائي الفرنسي، الذي تأثر به مشرِّعُو المنطقة المغاربية على نحو واضح.
 
[1]- د. محمد ملياني: دروس في القانون الجنائي العام، دار النشر الجسور، وجدة، ط.2، 1998، ص 237.
[2]- د. عبد الواحد العلمي: شرح القانون الجنائي المغربي (القسم العام)، مطبعة النجاح الجديدة، البيضاء، ط.8، 2018، ص 200.
[3]- المادة 41 (القانون رقم 82-04 المؤرّخ في 13 فبراير 1982).
[4]- فغول عربية، المساهمة الجنائية في قانون العقوبات الجزائري، مذكرة لنيل الماجستير (مرقونة)، جامعة بن عكنون، الجزائر، 2002، ص 22.
[5]- عبد الواحد العلمي: شرح القانون الجنائي المغربي (القسم العام)، ص 200، ها.301.
[6]- لمزيد من التفاصيل، يمكن الرجوع إلى رسالة الماستر الموسومة بـ"المساهمة الجنائية في القانون العقابي الجزائري"، إعداد الباحثة: لادي سامية، كلية الحقوق، جامعة عبد الرحمان ميرة، بجاية/ الجزائر، الموسم الجامعي 2013/2014م (118 ص).
[7]- محمود نجيب حسني: المساهمة الجنائية في التشريعات العربية، دار النهضة العربية، القاهرة، ط.2، 1992، ص 224.
 
 



الاثنين 1 أبريل 2024

تعليق جديد
Twitter