MarocDroit  -  موقع العلوم القانونية
plateforme des décideurs juridiques - Platform of Legal Decision-Makers



سؤال الحريات الفردية في النظام القانوني المغربي

     

محند بوكوطيس
باحث في العلوم القانونية



سؤال الحريات الفردية في النظام القانوني المغربي

تتباين مختلف النظم القانونية من مسألة الحريات الفردية، وذلك حسب النظام السياسي السائد ودرجة تقدم وتطور المجتمع، والمسألة لها ارتباط بصراع أزلي للإنسان وحتى قبل ظهور الدولة نحو الحرية، وبعد ظهور الدولة وتنظيم المجتمع، بقي الصراع نحو الحرية لكن في نطاق الدولة وداخل الأنظمة السياسية، وأضحت مسألة الحريات الفردية تناقش في إطار النظام السياسي وعلاقة الدولة بالأفراد المكونين للمجتمع، وفي إطار المرجعية التي اختارتها الدولة لنفسها.

ويجري التمييز عند مناقشة الحريات والحقوق بصورة عامة، بين الحريات والحقوق الجماعية والتي تعود للجماعة البشرية بأسرها، وبين الحقوق والحريات الأساسية التي يتمتع بها الإنسان بصفته فردا يعيش في مجتمع الدولة¡ هذه الأخيرة التي تصنف ضمن الحريات الفردية، والتي عرفت وستعرف مستقبلا نقاشا مجتمعيا كبيرا، ولاسيما على المستويين الحقوقي والقانوني.

وطرح النقاش على المستوى القانوني يثير تساؤل الحماية القانونية للحريات الفردية؟ أين تبدأ هذه الحماية وأين تنتهي؟ 

لقد طرحت في الآونة الأخيرة في المغرب العديد من قضايا الحريات الفردية، وصل البعض من هذه القضايا إلى ردهات المحاكم، هذه الحريات التي تشمل مختلف الحريات الشخصية، من حرية الرأي والتعبير، حرية التنقل، حرية الحياة الخاصة، حرية التصرف في الجسد، حرية المسكن...هذ الحريات التي من المفترض أنها منظمة ومحمية بواسطة الدستور والتشريع داخل الدولة. هذا الوجود القانوني داخل الدولة الذي يتدعم بالتزاماتها الدولية في مجال الحريات العامة وحقوق الإنسان، حيث البعد الدولي الذي اتخذته يذكر بتضمينها في المواثيق والاتفاقيات الدولية.

فالمسألة لا تتعلق بنقاش مجتمعي داخل المجتمع المغربي، وإنما تمتد تداعياتها لتصل المجتمع الدولي، وتضع الدولة في نقاش دولي، ومسؤولية أخلاقية وقانونية أمام المنتظم الدولي، مادام المغرب ينتمي إلى الأمم المتحدة، ويتأثر ويتفاعل مع ما يجري في العالم من تطورات، ما يجعله في موقف يحتم عليه تقديم إجابات عن النقاشات المجتمعية حول الحريات الفردية.

يتبوأ النظام القانوني للدولة الدستور كأسمى قانون يتربع في قمة هرم القواعد القانونية، والذي يحدد مختلف القواعد والمبادئ العامة التي تؤطر النظام المجتمعي، ومنها الحقوق والحريات، والتي تنص الدساتير عليها، والتطور الدستوري في المغرب خلال الدساتير الذي عرفها المغرب تبرز أن المغرب لم يعرف تطورا على مستوى التنصيص على الحقوق والحريات، إلا مع دستوري 1992 و1996، لتأتي محطة دستور 2011 لتجسد قفزة نوعية في تاريخ التطوري الدستوري للحقوق والحريات بتخصيص باب منفرد للحقوق والحريات الأساسية (من الفصل 19 إلى 40)، حتى أن هناك من أطلق على هذا الدستور؛ دستور الحقوق والحريات.

إلى جانب التنصيص على مبدأ سمو الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب على التشريعات الداخلية، على الرغم من أن المشرع الدستوري أقرن ذلك في نطاق أحكام الدستور، وقوانين المملكة، وهويتها الوطنية، مما يطرح إشكالية قانونية لتفسير هذه المقتضيات، وقابليتها لأكثر من تأويل. وبغض النظر عن هذه الجزئية فإن نفس الدستور يؤكد بشكل صريح على حماية منظومتي حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني والنهوض بهما، والإسهام في تطويرهما، مع مراعاة الطابع الكوني لتلك الحقوق وعدم قابليتها للتجزيء. 

والحريات الفردية في نهاية المطاف ما هي إلا منظومة حقوق، تثار دائما في سياق الحديث عن حقوق الإنسان، والتي لا يمكن عزلها عنها. وعلى الرغم من الحماية الدستورية التي تحظى بها العديد من الحقوق والحريات الأساسية، فإن النقاش لم ينتهي هنا، بل إنه وعلى ضوء ما أبانت عنه النقاشات التي تلت صدور الوثيقة الدستورية الجديدة، فالنقاش قد ابتدأ، وسمحت المقتضيات الدستورية بمناقشة العديد من الأفكار والمواقف، ومنها الموقف الذي يرى أن الوثيقة الدستورية لم تذهب بعيدا في إقرار الحماية الدستورية للحريات الفردية، وأساسا الحريات الدينية، بما فيها حرية المعتقد، مما ضاع على المغرب حسب هذا الموقف فرصة تاريخية في وضع منظومة حريات وحقوق متكاملة، وفي مقابل ذلك هناك اتجاه ثاني يرى أن الدستور والعكس ذهب بعيدا في إقرار الحريات والحقوق، ومتجاوزا حتى الممارسة والواقع الاجتماعي والفكري الذي يعيشه المجتمع المغربي.

في ظل هذا التقاطب في المواقف والاتجاهات، ستعرف التشريعات من نصوص وقوانين التي تلت صدور الدستور، والتي هي بمثابة تنزيل للمقتضيات المنصوص عليها دستوريا، ولاسيما منها تلك المتعلقة بالحريات الفردية، نقاشا حول تأويل المقتضيات الدستورية، ومدى التقدم والتراجع في القوانين المنظمة للحريات الفردية، وقد ظهر الأمر جليا عند مناقشة تعديل مقتضيات القانون الجنائي، ومن خلال وقائع وأحداث الحريات الفردية التي عرفها المغرب.

فالحرية الفردية في اللباس، والحرية في إقامة علاقات جنسية إرادية خارج مؤسسة الزواج، وحرية الاعتقاد، كلها حريات طرحت في إطار وقائع عرفها المجتمع المغربي، وانتقل النقاش الحقوقي والقانوني صوب النصوص القانونية المؤطرة للحريات، وظهرت أصوات تنادي بضرورة تطوير التشريع في اتجاه حماية أكثر للحريات الفردية تكييفا مع التحولات القيمية التي يشهدها المجتمع المغربي، ما يجعل هذه التشريعات تنتمي إلى الماضي، ولا تتوافق والتغيرات المجتمعية، وهي الأصوات التي يمثلها الاتجاه الحقوقي والذي يطلق على نفسه "التيار الحداثي"، والذي ينطلق من المرجعية الدولية لحقوق الإنسان، ومن التجارب الدولية المقارنة للدول المتقدمة، للدفاع عن طرحه في كل ما يخص حقوق الإنسان وتطورها بما فيها الحريات الفردية للمواطنين.

وفي مقابل التيار الحداثي، يوجد التيار "المحافظ" والذي يرفض هذه الحريات، التي هي خارج سياق الواقع المجتمعي، حسب تصوره، والذي لديه ضوابط معينة لا يجور الخروج عن إطارها، وينطلق هذا الاتجاه من مسألة الخصوصية الوطنية وأساسا الخصوصية الدينية والثقافية، للدفاع عن طرحه الرافض للحريات الفردية بمفهومه الغربي، كما يقول بذلك هذا الاتجاه.

ويبدو في نهاية المطاف أن مناقشة مسألة الحريات الفردية وحقوق الإنسان بشكل عام، تقود بالضرورة إلى مناقشة قضية المرجعية، مرجعية المجتمع، مرجعية الدولة التي تنطلق منها في وضع القوانين، والتي تحكم المجتمع. وهي التي من المفترض أن تكون محددة في أسمى قانون الدولة الذي هو الدستور، بشكل لا يثير أي لبس في اختيار الدولة لمرجعيتها في وضع التشريعات. وهو الأمر الذي لا يتوفر على ما يبدو في الحالة المغربية.
فالدستور يعتمد المرجعية الدينية كمنطلق وكأساس الدولة (المملكة المغربية دولة إسلامية)، وفي آن يعتمد كذلك المرجعية الدولية، ويعلن تعهده بما تقتضيه مواثيق المنظمات الدولية من مبادئ وحقوق وواجبات، ويؤكد تشبته بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا، ما يطرحه ذلك من نقاش قانوني قبل أن يكون نقاش مجتمعي وسياسي وفكري. مع ما قد يعتبر المسألة ليس فيها أي تناقض، فالمرجعيتين المذكورتين ليستا بالضرورة متناقضتين، وكل واحدة مكملة للأخرى، ويمكن أن تتعايشا دون أن يطرح الأمر أي إشكال.

لكن المسألة في عمقها لا تبدو بهذه البساطة، فاختلاف المرجيتين من نواحي عديدة، يجعل القول بإمكانية الاستناد إليهما في ذات الوقت، واعتمادهما في إقرار القوانين، قد لا يكون ممكنا، على الأقل إذا ما تم اعتبار المرجعية الدولية لحقوق الإنسان، مرجعية حقوقية وضعية، قابلة للتغيير والتبديل للأحسن أو الأسوأ، وهو ما لا يمكن قوله بالنسبة للمرجعية الدينية عموما.

ولعل ما يؤكد عدم دقة المرجعية المحددة في الدستور، وقابلية المقتضيات الواردة ضمنه لتأويلات مستندة إلى مرجعيات مختلفة، هو هذا الاختلاف في مسألة الحريات الفردية بين التيار الحداثي والتيار المحافظ، فكلا من التيارين ينطلق ويستند إلى الدستور نفسه، وأحيانا إلى نفس المقتضيات المضمنة بالوثيقة الدستورية، أي إلى مرجعيتين تتعايشان داخل نفس الدستور.

وإذا كان الدستور ومعه القوانين لا يجيب بشكل قطعي على سؤال الحريات الفردية، فإن الكلمة الأخيرة حتى في ظل هذا الوضع تبقى للقضاء الموكول له تطبيق القوانين، والتطبيق يستلزم بداية التأويل والتفسير والتكييف، وهي العلميات التي يتولاها القضاء عند النظر في النوازل التي تعرض عليه، وهو الأمر غير المستبعد فالأحداث والوقائع التي حدثت ومن الممكن أن نشهدها بشكل أكبر مستقبلا، ستصل إلى أنظار القضاء، والذي يتعين عليه أن يقول كلمته.

القضاء الذي يبقى له الكلمة الأخيرة سيجد نفسه أمام ترسانة قانونية لا تجيب عن سؤال الحريات الفردية، أو تجيبه فعلا في اتجاه ترفضه العديد من مكونات المجتمع، وعلى الخصوص الأوساط الحقوقية منها، بالإضافة إلى استحضار فكرة هامش الاجتهاد الذي يبقى للقاضي، وتباين الأمر بين القضاء العادي والقضاء الإداري، كما توضح ذلك الممارسة العملية، إلى جانب ضرورة التوفر على قضاة قادرين على الإجابة عن الإشكاليات التي تطرحها قضايا الحريات التي تعرض عليهم، مع ما يتطلبه ذلك من إلمام كبير للقاضي بالتشريعات الداخلية والدولية والتحولات المجتمعية، وتتبعه للنقاشات الفكرية والإيديولوجية لمواضيع الحريات.

وفي نهاية الأمر وكما يصرح العروي، أن المجتمعات التي تمنع الأفراد من التمتع بالحريات لسبب يعود إلى اللون أو الجنس أو الوضعية الاجتماعية أو السن...تبتعد بذلك عن العقل وعن الإنسانية فيجب إصلاحها لترجع إلى قاعدة العقل والإنسانية.

إن سؤال الحريات الفردية يظل يطرح نفسه في المنظومة القانونية المغربية، في ظل تجادب التيارات المختلفة، وصراع الأفكار والمرجعيات، في انتظار حسم تشريعي ينهي هذه الجدال حول الحريات، وينتقل بنا إلى نقاشات أخرى.



الخميس 22 سبتمبر 2016

تعليق جديد
Twitter