MarocDroit  -  موقع العلوم القانونية
plateforme des décideurs juridiques - Platform of Legal Decision-Makers



فوز المغرب.. هل تصلح الرياضة ما أفسدته السياسة؟

     

الدكتور حسن أوريد

أستاذ العلوم السياسية بجامعة محمد الخامس بالرباط.

سياسي وكاتب مغربي



أعترف بأن كأس العرب التي أقيمت في قطر، حركت فيّ ما كان راكدا، أنا من لا يأبه كثيرا لكرة القدم، ولا يرى بها إلا لعبا، وأنه لا ينبغي أن تصرف عن الأساسي، في متطلبات الشعوب أو أن تُدجنها، ولكن هذه الرؤية النقدية تغيض حين تحقق كرة القدم، والرياضة عموما، ما يراد منها، وهو التقارب بين الشعوب. وما التباري، وحتى التتويج إلا وسيلة، والهدف الأسمى، هو تعارف الشعوب، والتذكير بما يجمعها. في المونديال الأخير في قطر، تصالحتُ مع كرة القدم، وكتبت أن هجوما كرويا، وهجوما مضادا، لا يترتب عنهما ضرر كما في هجوم حقيقي، وكانت الحرب الروسية الأوكرانية قد اندلعت، ورأيت في كرة القدم أسلوبا راقيا لتصريف الطاقة السلبية، مما لا يُلقي دمارا، ولا يخلف خسارة، ولا ييتم أو يرمل. ما أثار انتباهي، خارج أرضية الملعب هو وقوف مشجعين مغاربة وجزائريين وتونسيين، في سوق واقف، بالدوحة، يحتفون بانتصار الفريق المغربي، ويؤكدون اللحمة الواحدة وحفظت في المونديال السابق ما كتبته صحفية سورية عن المنتخب المغربي: "هم مثلنا، أسماؤهم شبيهة بأسمائنا، ويسجدون حين يسجلون، ويضرعون إلى السماء كما نفعل، وأمهاتهم تشبه أمهاتنا". كان، كما لو أنها اكتشفت البارود، أو قانون الجاذبية، ولكنها معبرة عن جيل، انفصمت لديه العرى التي كانت قائمة واللحمة التي كانت تشد العالم العربي. وفي الكأس العربية التي انتظمت في قطر، وقع شيء يتجاوز مجرد مباريات كروية وأثره يمتد خارج الميدان والمدرجات. فلا يمكن إلا أن نقف عند مستوى الدورة الأخيرة، الذي يجعلها في مصاف أكبر الملتقيات الكروية الدولية، وفي مباريات شدت الأنفاس، ومنها النهائية بين المنتخب المغربي، والمنتخب الأردني، حيث أبان المنتخب الأردني عن استماتة، وكفاءات عالية، لبلد ليس له تاريخ كروي كما للمغرب، والجزائر، وتونس، ومصر، والسعودية. توجت الكأس الأخيرة، نجما صاعدا وهو الفريق الأردني، ولا يمكن للجماهير وللفرق والمدربين، إلا أن يحسبوا حسابهم، حاضرا ومستقبلا، للفريق الأردني. أثبت مدرب الفريق الأردني جمال السلامي، وهو المغربي، أن الولاء، في كرة القدم، لفريقه، وأبان أن ما للوطن للوطن، وما للفريق للفريق، وظهرت شريحة من المدربين، منهم مدرب الأردن جمال السلامي، وطارق السكتيوي، بسمت هادئ، حيث يمزجان بين التقنية، والإعداد النفسي، ولسوف يزعزعان مسلمات سوق التدريب، أو عقدة المدرب الأجنبي. فهما يحدثان اللاعبين ليس بمنطق التقنية، والأداء، وطول النفس، فحسب، بل بالاستعداد النفسي، من معين الثقافة السارية. ما أثار انتباهي، خارج أرضية الملعب هو وقوف مشجعين مغاربة وجزائريين وتونسيين، في سوق واقف، بالدوحة، يحتفون بانتصار الفريق المغربي، ويؤكدون اللحمة الواحدة، وشدتني حشود مغاربة، في الحدود المغربية الجزائرية، على مستوى نهر كيس الفاصل بين البلدين، مع جموع من الجزائريين يحتفلون بالانتصار. وكذلك صورة لوصول الفريق الجزائري إلى الفندق بالرباط، برسم الكأس الأفريقية للأمم واحتشاد الجماهير المغربية وهي تهتف: "المغرب والدزاير خاوة خاوة"؛ أي (المغرب والجزائر، إخوة). ولا يمكن إلا أن يتأثر المرء بهذا النداء، وقد امتد الجفاء بين البلدين، وسرى إلى الشعبين، ونشط مؤثرون، هنا وهناك، في تغذية البغضاء والجفاء. يمكن في نظرة تحرص أن تكون عقلانية، ألا نتأثر كثيرا للتعبيرات التي تفرزها لحظات حماس عابرة، وننظر إلى الوجه الآخر، وما يرِد من تعبيرات سلبية، وردود أفعال غاضبة، وأن البقاء ليس للحظات العابرة، ولكن للواقع، وأن تعبيرات الفرح الجماعية، في مناسبات، لن تغير شيئا من واقع الحال، وعن قريب يعود كل شيء إلى حقيقته. والمشكل ليس أن تكون هناك تحليلات عقلانية، تُنسّب من أثر تعبيرات حماسية جياشة بمناسبة لقاءات كروية. المشكل كان يمكن أن يكون في عدم ظهور المشاعر الدفينة من أخوة، وإيمان بمصير مشترك. فالمشاعر التي تبدر أثناء مباريات كرة القدم ليست إلا تعبيرا عن مشاعر ثاوية في الوجدان، فجرتها المقابلات الكروية، وأن هذه المشاعر تسفر عن حقيقة واحدة، وهي أن الأمل ممكن، وأن ضغط الشعوب ومثاليتها، من شأنهما أن يثنيا واقعية الحكام. ولو يتاح للشعوب في منطقتنا أن تعبر عن مشاعرها، عدا اللحظات الاحتفائية العابرة، لتغيرت أشياء كثيرة في الاتجاه الإيجابي. ولو اتخِذ قرار واحد، طبيعي، بين بلدين جارين، يشكلان شعبا واحدا، وهما المغرب والجزائر، بفتح الحدود، لتغير كل شيء، وتمخض عنه دينامية لن تقل عن تلك التي أحدثها سقوط حائط برلين. سيبدو ما كان مستصعبا هيّنا، وما كان معقدا سهلا. حضرت ندوة مؤخرا، في كلية الآداب بالرباط، حول من يصنع التاريخ، هل السياسي، أم الشعوب، وانبرى عميد سابق، ومؤرخ لامع، ليقول حقيقة ساطعة سطوع الشمس، مفادها أن السياسي لا يصنع التاريخ، إلا إذا انصاع في ديناميات مجتمعية، وسياق معين. وهو ما يقوله تولستوي في خاتمة رواية الحرب والسلم: إن الملوك (أو الحكام) يصنعون التاريخ، حين يسايرون اتجاهه، كما يسير صاحب القارب، في اتجاه النهر، فيبلغ حينذاك مأربه، أما إذا مخر عكس التيار، أتعب نفسه، وعرّض القارب للخطر. نعرف أين يذهب مجرى التاريخ، ونحتاج لسياسيين يعانقون اتجاهه لكي يكونوا صناع التاريخ. نحتاج العقل لفهم العالم، ونحتاج العاطفة لتغييره. والمشاعر الجياشة التي تعبر عنها الجماهير في المدرجات وخارجها، طاقة للتغير، وليس شأن السياسيين أن يحبسوا أنفسهم في رؤى جامدة، وقوالب ضيقة، وعقلانية مفرطة مثبطة. من صنعوا التاريخ كانوا ممن يحلمون، واستوحوا ذخيرتهم من الشعوب. وبهذه الروح، لن تكون كرة القدم، وأي ساحة تعبر فيها الشعوب عن مكنونها، أفيونا للشعوب. كيف نقرأ مظاهر الفرحة التي عبرت عنها جماهير من غزة، بتتويج الفريق المغربي، رغم ما تكابده، من برد وأمطار ورياح عاصفة، واستمرار التقتيل، وكيف نفسر خروج جماهير من السودان، وهي المكتوية بالحرب، والغدر والتقتيل، فرحة للفريق المغربي؟ سيكون طعم الانتصار الرياضي سمجا، إذا لم نتذكر أولئك الذين شاطروا الفريق المغربي انتصاره، على ضفاف "واد كيس"، من يذكّرون باللحمة بين المغرب والجزائر، وفي السودان حيث يستعر التقتيل، وفي غزة، حيث يحصد البرد الأطفال والشيوخ والنساء.

منشور في شبكة الجزيرة - محور المقالات




الثلاثاء 23 ديسمبر 2025
MarocDroit منصة مغرب القانون "الأصلية"

تعليق جديد
Twitter