
في البداية، فإن مسألة استقلال النيابة العامة كانت دائما مطلبا أساسيا وخيارا استراتيجيا قبل الدستور الجديد للمملكة. وأفسح الجو الحقوقي والدينامي الذي عرفته مرحلة ما بعد دستور 2011 المجال لنقاش أعمق حول الضرورة الملحة لهذا الاستقلال. باعتبارها سلطة قضائية لا يمكن أن تخضع لوصاية السلطة التنفيذية. وكان هذا المطلب من أهم المطالب والتوصيات المرفوعة بعد الحوار الوطني لإصلاح العدالة، خاصة أن هذا الأمر لم يعد اختياريا بمنطوق الفصل 107من الدستور والذي تحدث صراحة عن استقلال السلطة القضائية عن السلط الأخرى.
و إن لم يحدد الدستور الجديد للمملكة من خلال الفقرة الثانية من الفصل110، لم يحدد الجهة التي تتبع لها النيابة العامة لكن هذا يستفاد صراحة من الفصول 107 و108 إلى الفصل.116 ،والتي تكرس كلها استقلالية السلطة القضائية بقضائها الجالس والواقف. تم إن هذا الأمر يجد سنده في التعاقدات المافوق دستورية والمتمثلة في الفصل التلقائي بين السلطة القضائية والسلطة التنفيذية.
وتجدر الإشارة إلى أن استقلال السلطة القضائية لا يكون إلا بوصفها كذلك، أما إذا مارست اختصاصاتها بوصفها سلطة إدارية فإن هذا يعرض قراراتها للطعن بالإلغاء تلقائيا طبقا لمنطوق الفصل 118 من الدستور.من هنا تبرز أهمية الفصل في السلطة القضائية بين اختصاصاتها الإدارية واختصاصاتها القضائية. أما الرقابة السياسية على النيابة العامة فهذا الأمر غير مطروح من خلال المبدأ الفوق دستوري المشار إليه أعلاه أي مبدأ الفصل بين السلط.
هل استقلال النيابة العامة هو تهريب لهذا الجهاز خارج المساءلة السياسية؟الجواب نعم
وهذا عين الصواب .هل أفلتت وزارة العدل من الرقابة السياسية؟ أظن هذا غير صحيح. فبالعودة لمسودة مشروع المجلس الأعلى للسلطة القضائية لوحظ استمرار تدخل السلطة التنفيذية من خلال عدة أشكال. وأحيلكم هنا إلى المذكرة التي رفعها نادي قضاة المغرب مخاطبا الجهة المكلفة بالإشراف على مسودة مشروع قانون التنظيم القضائي من أجل تجاوز ما يلي:
"المساس بالاستقلال المالي و الإداري للمجلس الأعلى للسلطة القضائية ، و ذلك من خلال وضع يد السلطة الحكومة المكلفة بالعدل على هذا الاستقلال ؛
التدخل المباشرة و غير المباشر في شؤون السلطة القضائية من خلال وضع الآليات التي تبقي للسلطة الحكومية موطئ قدم في تسيير و تدبير و مراقبة العمل القضائي ، و خاصة من خلال الدور الذي أريد للمسير أن يلعبه من جراء فرض الرقابة عليه من طرف السلطة الحكومية المكلفة بالعدل من جهة و تمكينها من التقارير المتعلقة بالجمعيات العمومية ،
الخرق السافر للمقتضيات الدستورية من خلال جعل الخريطة القضائية التي تعتبر العصب الأساسي للسلطة التنظيمية من اختصاص السلطة الحكومية المكلفة بالعدل و التي تود ممارسة التأثير عليها بموجب آلية المراسيم التي أعطت لنفسها حق المبادرة فيها و إبقاء المجلس الأعلى للسلطة القضائية مجرد جهة استشارية ؛ و هو الأمر المخالف للدستور وفق ما جاء في الفصل 71 الذي يجعل التنظيم القضائي و إحداث المحاكم يدخل في نطاق القانون و من اختصاص السلطة التشريعية و لا يمكن بأي حال من الأحوال التسليم للمرسوم بالعبث في تلك الخريطة، لما فيه من محاولة للتأثير ، كما لن يجدي نفعا في هذا السياق التوسل باستشارة المجلس الأعلى للسلطة القضائية . كما أن اعتماد المرسوم للتأثير في الخريطة القضائية لا يدخل و لو بالإشارة في صميم مقتضيات الفصل 92 من الدستور مادام هذا الأخير قد أدخله في نطاق القانون .؛ زيادة على ذلك فإن مجرد مرسوم صادر عن جهة حكومية لتغيير معالم التنظيم القضائي كاف لجعل هذه الجهة متحكمة في القرار القضائي و استقلاليته و استقلال السلطة القضائية و يشكل مدخلا مقنعا لذلك التدخل . و مما يؤكد عليه نادي قضاة المغرب في هذا الصدد هو ضرورة احترام ما ورد بالدستور و خاصة في فصله 113 من إشارة إلى حق المجلس الأعلى للسلطة القضائية في إصدار التوصيات المتعلقة بوضعية القضاء و منظومة العدالة و التي يدخل من جملتها إمكانية إبداء الرأي في شكل الخريطة القضائية بل و اقتراح توصيات في هذا الباب .
و مما يرتبط بسلطة الجهة الحكومية المكلفة بالعدل في التأثير على القضاء ما تضمنته المسودة من توظيف لآلية المرسوم من أجل التدخل في التوزيع الداخلي للعمل القضائي للمحاكم ، وهو ما تروم المسودة إلى شرعنته من خلال إجازة إحداث غرف بالمحاكم بناء على مرسوم"
ومنه فإن الرقابة السياسية الحقيقية ينبغي ألا تهرب النقاش إلى مسألة استقلال النيابة العامة، بقدر ما ينبغي التركيز على التراجعات الخطيرة التي عرفتها هذه المسودة عن المكتسبات الدستورية.
تم كيف سيكون جلالة الملك في مواجهة المتقاضين في حال استقلال النيابة العامة وخضوعها للمجلس الأعلى للسلطة القضائية؟ ينبغي أن لا ننسى أن الرئيس المنتدب لهذا المجلس هو نفسه رئيس محكمة النقض وهو الرئيس الفعلي، ولا يمكن أن نتصور في حال انحراف النيابة العامة مساءلة جلالة الملك وإن كان يترأس المجلس وإنما يطال الأمر رئيسها المنتدب، والذي بالمناسبة يمكن الطعن في مقرراته أمام محكمة النقض لدى غرفتها الإدارية. وهنا لا يمكن تصور توجيه الطعن للملك باعتباره يرأس المجلس والشيء نفسه ينسحب على المساءلة السياسية، والتي توجس منها الدكتور حسن طارق.
تم لا ننسى أن جلالة الملك يترأس عدة مجالس ويمارس مهامه التنفيذية فهل هذا يعرضه للمساءلة السياسية أو القضائية؟
وسأختم بالتوجس الذي أبداه الدكتور حسن طارق حول تنامي ديمقراطية الرأي.وهنا وجب التأكيد أن ديمقراطية الرأي لم تكن أبدا هاجسا بقدر ما هي غاية الغايات ستدفع -بالضرورة- العمل التنفيذي والتشريعي والقضائي بالعقلانية وللالتزام بمقتضيات المشروعية وتعزيز المكتسبات.