
2024.5.16
تأملت فيما قاله وزير العدل وهو يرد على أسئلة النواب بالبرلمان قبل اسبوع، عندما تحدث عن القانون الجنائي المنتظر ، مؤكدا انه يجب أن يصاغ بعقلية أخرى وأن يأتي ليعالج الاشكالات الحقيقية للمجتمع و التي لابد من طرحها بجرءة وشفافية بدون أن تهرب او استنجاد بالماضي لحل معضلات اليوم، معلنا عن ان عقدتي العصر الجنائي الغابر تتمثلان في عقوبة الإعدام وعقوبة السجن المؤبد ...
لقد صدق وزير العدل في طرح رؤيته وتوجهه ودعوته لمستقبل تشريع جنائي يقود المغرب في اتجاه الانتقال لدولة قانون جنائي انساني حديث.
اريدا أن اعتبر، وقد يتفق معي هو كذلك، أن اجوبة الوزير السريعة والمختصرة أمام ثلة من البرلمانيين، هي رغم ذلك، رسالة سياسية اتمنى تنزيلها، تحمل جديدا للرأي العام و لمكونات حقول السياسة و الفكر و المعرفة و الثقافة و الحقوق، جميعهم وبكامل انتماءاتهم ، من اليسار واليمين ، من التقليدي والحداثي، من المحافظ و المتنور، من الملتحي و المتحرر…، رسالة تتوجه للجميع وتؤكد في تقديري، من جهة على أن السياسة الجنائية للحكومة سياسة ازمات، بها أعطاب و تشكو من عجز متعدد الزوايا، و ليبدو واضحا من جهة ثانية، أن تفعيل مقترح وزير العدل يحتاج إلى بلورة هو كذلك الى شجاعة، ربما تتحقق ببلورة خمسة عناصر جوهرية و ضرورية لقانون جنائي وعقابي يترجم تطلعات المغرب والمجتمع نحو المستقبل وهي المتمثلة في:
-
الانتقال لمرحلة الابداع التشريعي، بصياغة نص ذي توجه استراتيجي يحقق ثورة على العقل الانتقامي في سياسية المغرب الجنائية و العقابية، ولكي ينهي مع فلسفة العقاب المؤذي و المؤلم جسديا و روحيا و نفسيا من عيار الاعدام و العقاب الطويل الامد، والاعتراف بأن نظامنا الجنائي العقابي المعمول به وهو نظام رد الفعل، لم ينتج سوى اختناق السجون واختناق قاعات المحاكم الجنائية و التلبسية و العادية، و رفع اعداد المعتقلين الاحتياطيين، وفي استمرار ظاهرة العود و عجز مقاربة الإدماج…الخ مع حيرة تفتت كل مجهود لندوبية السجون تضطر معها للاستغاتة بدورها و تنادي هل من منفذ...
-
القطع النهائي مع الخلط ما بين الديني والسياسي في التشريع الجنائي، واعتبار أن المصادر الكلية والجامعة للقانون الجنائي هي المواثيق الكونية لحقوق الانسان و القانون الدولي لحقوق الانسان و مبادئ الدستور المقررة في مجال حقوق الإنسان، و الاقرار بأن المغرب لا يحتاج نظاما عقابيا بلحية و بقبعة وبمقصلة تتلذذ بقطع الأيادي و الادرع و الرجم و قطع الرؤوس، فهذه رؤية وعقيدة ولت و ماتت وليس لأحد الدعوة لاحيائها…
-
القطع النهائي مع تاريخ كل العقوبات المهينة والقاسية و الحاطة من الكرامة، الموروثة من تقاليد و عقليات الماضي، وفي مقدمتها عقوبات الاعدام والسجن المؤبد والسجن أكثر من عشرين سنة.
-
القطع النهائي من العقوبات البدنية و النفسية و المجتمعية و الغذائية، التي تحملها بعض النصوص الخاصة الخارجة عن النص الجنائي، مثل العقوبات التي أتى بها نص القانون المنظم للمؤسسات السجنية مثل العزل و المنع من الزيارة و المنع من التزود بالحاجيات الغذائية والمنع من زيارة الاهل والإبقاء على أصحاب العاهات العقلية والنفسية بعيدا عن ذويهم وعن مراكز الاستسفاء…
-
سن قواعد جنائية خاصة بالنساء تميزهن اولا من حيث منع العقاب الجنائي عنهن بمناسبة بعض الجرائم، تميزهن ثانيا من حيث تخصيص عقوبات في الجنح والجنايات للامهات والحوامل و لمن لهن ابناء اقل من اثنتى عشرة سنة...الخ
-
منع الدولة والحكومة مع وزرائها ، والادارات والوزارات و الجماعات من رفع شكايات جنائية بالمواطنين واستعمال القانون الجنائي لجبر الأضرار المترتبة بمناسبة ممارساتهم لمسؤولياتهم، و حالتهم لممارسة التقاضي المدني.
لابد من الاشارة أن العقاب الجنائي بالمغرب لا يتمتع باي منطق سليم ولا يحمل أية فلسفة، والعدالة الجنائية تائهة في فوضى نصوص سيئة الصياغة، و في إصدار عقوبات متضاربة وغير متوازنة تضرب الحرية من فوق الحزام ومن تحته ، وفي اجراءات تقبل التأويل والتأويل المضاد يتختلف من جهة وأخرى و يختلف بين الصبيحة و العشية…
أن القانون الجنائي قانون المجتمع، وليس آلية للسلطة أو للمؤسسة القضائية أو الأمنية فحسب، والمجتمع يحتاج لحماية حقيقية في حياته وحريته من خلال ترسانة جنائية قانونية صديقة مع كل الأساليب الديمقراطية و الضامنة لحقوقه كلها .
فحذاري من قانون جنائي ينزل من الفوق على رؤوسنا ، أو تكتبه عقليات بمداد يجفف أبعاد و مضامين الننصوص العصرية ، و يقربه من تجارب تجاوزتها العديد من الأنظمة الجنائية في العالم التي وضعت حدا للتهور في العقاب الذي قد يبتلع عمر الانسان بكامله.
نعم، نحن في حاجة لقانون جنائي آخر، لأننا في حاجة لمغرب آخر ، ومن لا زال يتردد و من لا زال لم يقتنع بأن قانونها متشبث بطابع عصور وسطية تقليدية Age classique كما يقول المفكر Michel Foucault ، فانه في حاجة لمراجعة نفسه، ومراجعة دروس تاريخ الفكر الجنائي و الاجتماعي الذي صنعته عقول انسانية من طينة، احمد الخمليشي، العلمي المشيشي، عياط، و باكاريا، ومنتسكيو، وفولتير، وفيكتور هيكو، و بدانتير و فوكو، وبورديو…..وغيرهم.
واخيرا لابد من التأكيد أن للسلطة القضائية ، رئاسة ونيابة عامة مسؤوليات، عليها أن تؤديها لكي تنتقل من وظيفة التطبيق لمرحلة الخلق والابداع، كما أن للقضاة بطبيعة عملهم ووظيفتهم واجب ابداع الاجتهاد بشجاعة ، وو اجب استفزاز العقل القانوني لمن يتولى التشريع، فعملهم مصدر من مصادر التشريع، وحرفتهم التعامل مع النص والوطني و المقارن لاسقاط الجمود في فهمه و في دلالاته، ولاشك أنهم سيساهمون في هذا النقاش بنشاط و بحيوية دون تحفظ.
على المحاميات والمحامين، توظيف طاقاتهم ووضع زادهم و تجربتهم عندما يحين زمن نقاش مشروع القانون الجنائي المنتظر، وعليهم أن يعلنوا تعبئة مبكرة دفاعا عن سياسة عقابية أكثر انسانية، غير همجية و لا امريكية ، تعاقب و لا تقتل و تنقذ و لا تدمر الحياة و الانسان.
فكل عقوبة ترسم أثرا سيئا ووشما بديئا في الروح والنفس و البدن والحياة، وترجعنا للعقوبات البدائية، لن تشرف احدا و لن تبقي الثقة في احد …