MarocDroit  -  موقع العلوم القانونية



"لغة الضاد" والدفع بالأمية أمام المحاكم من طرف الأجانب المقيمين بالمغرب، قراءة في قرار محكمة الاستيناف بالرباط عدد 78 الصادر بتاريخ 6 أبريل 2021 ملف 163/1302/2020

     

الدكتور محمد الودغيري
مدير المجلة المغربية للدراسات والاستشارات القانونية



نسخة للتحميل

"لغة الضاد" والدفع بالأمية أمام المحاكم من طرف الأجانب المقيمين بالمغرب، قراءة في قرار محكمة الاستيناف بالرباط عدد 78 الصادر بتاريخ 6 أبريل 2021 ملف 163/1302/2020
تعد اللغة جزءا لا يتجزأ من هوية الوطن بكل مكوناته، ومرجعا تاريخيا لكل شعب من الشعوب، ومحددا أساسيا لحضارته ورقيه، ورمزا من رموز سيادته، وصورة لوجود الأمة بدينها وقيمها وعاداتها وأفكارها وتراثها المعرفي، باعتبارها مكونا وجوديا يستمد منه الأفراد أصولهم وهويتهم.

    وإن كانت اللغة مجرد وسيلة وأداة للتواصل وربط العلاقات، والتعارف، وتبادل الثقافات، فإنه من الصعب فصلها عن دورها الأساسي كضابط للهوية، يشكل حجر الأساس في المجتمع.
    ويعتبر المغرب من بين أكثر الدول التي حافظت على هويتها وتاريخها، من خلال احترام مرجعيته اللغوية الأمازيغية والعربية، ذلك أن اللغة العربية من أكثر اللغات تحدثا ونطقاً ضمن مجموعة اللغات السامية، وأوسعها انتشاراً في العالم.   

   فإذا كانت اللغة ميثاقا مقدسا يشدنا إلى تراثنا وتاريخنا، ويربطنا بواقعنا المؤسس أصلا على التنافس وفرض الذات، ويمهد لنا الطريق إلى مستقبل أفضل، وتؤدي غرضها المنشود فإنه لابد من رعايتها، وفرضها كمظهر من مظاهر السيادة[1]

   من هذا المنطلق، إذا سلمنا بكون اللغة العربية هي جزء من سيادة الدولة، فإنه من غير المنطقي أن تفرض على مغربي داخل المغرب في تعاملاته المدنية مع أجنبي، لغة غير لغته بحجة جهل الأجنبي باللغة العربية.

    إلا أن محكمة الاستيناف بالرباط من خلال قرارها عدد 78 بتاريخ 6 أبريل 2021 كان لها توجها مخالفا، ذلك أنها اعتبرت كون الإنذار الموجه من مغربي إلى فرنسية باللغة العربية، غير منتج لأي أثر ما دام موجه الإنذار (المدعي) لم يثبت علم الموجه له(المدعى عليه) باللغة العربية، الأمر الذي أثار فضولي كباحث قانوني لإبداء وجهة نظري بخصوص الوسائل القانونية التي يمكن إثارتها بشأن تعليله، وذلك بعد  بسط وقائع وتعليل القرار بالكامل.[2]

 
الوقائـــــــــــــع
المرحلة الابتدائية:


"بمقال مسجل بالمحكمة الابتدائية بالرباط بتاريخ 02/01/2020 مؤداه عنه الرسوم القضائية عرضت فيه المدعية (المستأنف عليها) أنها وجهت إلى المدعى عليها إنذار من اجل إفراغ المحل السكني أعلاه الذي تستغله على وجه الكراء من أجل الهدم وإعادة البناء ضل بدون جدوى ملتمسة إفراغ المدعى عليها ومن يقوم مقامها أو بإذنها منه تحت طائلة غرامة تهديدية قدرها 500 درهم عن كل يوم تأخير عن التنفيذ وشمول الحكم بالنفاذ المعجل والإكراه البدني في الحد الأدنى والبت في الصائر وفقا للقانون.
وبعد انتهاء الإجراءات صدر الحكم المستأنف المثبت منطوقه أعلاه

مرحلة الاستئناف:
في هذه المرحلة وبعد عرض موجز الوقائع أسست المستأنفة استئنافها على أساس
خرق القانون وفساد التعليل: ذلك أن القاضي الابتدائي تجاهل الدفع المثار بشأن الاختلاف في الوارد في اسمها (المستأنفة) بين الإنذار والمقال والمحضر الاستجوابي ووصل الكراء المحتج به إذ أن اسمها هو ........ وهو الاسم الغير المطابق لأي مستند من المستندات المحتج بها.
ومن جهة أخرى فإنها (المستأنف عليها) أمية بالنسبة للغة العربية مما يكون معه الإنذار غير صحيح ، وجواب المحكمة على ذلك بانتفاء الحجة على جهلها باللغة العربية تعليل مردود ، مؤكدة على أن قضاء هذه المحكمة دأب على عدم اعتبار الإنذار المحرر باللغة العربية الموجه إلى الجاهل بهذه اللغة، مما يكون الحكم المستأنف قد بني على إنذار باطل فضلا عن مخالفة الإنذار المذكور للمادة 46 من القانون رقم 12.67 لعدم تضمينه كافة مرافق المحل موضوع الكراء ، مضيفة من جهة أخرى ان رخصة البناء قد مضى عليها أكثر من سنة فأصبحت ساقطة بمقتضى الفصل 12 المضمن بها، ملتمسة الحكم بإلغاء الحكم المستأنف ، وبعد التصدي الحكم بعدم قبول الدعوى وتحميل المستأنف عليها الصائر.
وبناء على إدراج الملف بجلسة 23/03/2021 حضرها نائبا الطرفين وأدلى نائب المستأنف بمذكرة إسناد النظر حاز نائب المستأنف عليه نسخة، فتم حجز القضية للمداولة لجلسة 06/04/2021

وبعد المداولة طبقا للقانون  
بناء على المسطرة المدنية ولا سيما الفصول 328 وما بعده.
في الشكـــــــــل: حيث قدم الاستيناف على الصفة وداخل الأجل القانوني، ووفق ما يوجبه القانون فهو مقبول شكلا.
في الموضوع: حيث أسس المستأنف استئنافه على ما هو مفصل أعلاه
 
وحيث إنه حقا ما نعته المستأنف على الإنذار من جهل اللغة العربية ، ذلك أنه من الثابت من بطاقة إقامة المستأنفة أنه فرنسية ، ولما كان الأمر كذلك وجب تحرير الإنذار باللغة الفرنسية، وتحريره باللغة العربية يجعله غير منتج لأي أثر في مواجهة الموجه إليها ، مما يجعل دفعها بالأمية بخصوص لغة تحرير الإنذار قائم على أساس باعتبار أن الأمي هو الشخص الذي لا يحسن القراءة والكتابة باللغة التي حرر بها الإنذار، والمحكمة مصدرة الحكم الطعين لما أجابت عن الدفع المذكور بكون المستأنف عليها لم تثبت جهلها باللغة العربية طالما أنها فرنسية الجنسية ، والحال أن المستأنف عليه من يجب عليه إثبات علم المستأنفة باللغة العربية وبذلك يكون الإنذار المذكور غير صحيح  منعدم الأثر وكانت بذلك الدعوى المؤسسة عليه غير مقبولة والمحكمة لما قضت بما فصل أعلاه لم تجعل لقضائها أساسا سليما بإهمالها صحيح القانون والثابت من أمية المستأنفة بخصوص اللغة العربية وعرضت بذلك حكمها للإلغاء.
وحيث يتعين تحميل المستأنف عليها الصائر على المرحلتين"

من خلال تعليل القرار المشار إليه أعلاه، يظهر أنه من خلال وجهة نظري قد خرق القانون وأساء التعليل الموازي لانعدامه لمجموعة من الاعتبارات يمكن إجمالها فيما يلي:

1/ خرق الدستور
بالرجوع لمقتضيات الفصل الخامس من الدستور المغربي[3] نجد أنه ينص بالحرف على ما يلي:
"تظل العربية اللغة الرسمية للدولة.
وتعمل الدولة على حمايتها وتطويرها، وتنمية استعمالها.
تعد الأمازيغية أيضا لغة رسمية للدولة، باعتبارها رصيدا مشتركا لجميع المغاربة بدون استثناء."
    من خلال هذا الفصل من الدستور الذي يعتبر أسمى تشريع في البلاد فإن اللغة العربية والأمازيغية هما اللغتان الرسميتان للبلاد، وبالتالي فإن عدم الأخذ بعين الاعتبار مقتضيات هذا الفصل يشكل خرقا جوهريا للقانون هذا من جهة.
    وحيث إنه ومن جهة أخرى فإن اللغة التي تم التعامل بها مع الأجنبية، أثناء جميع مراحل الدعوى هي اللغة العربية، وبالتالي لا يمكن استبعاد الإنذار من مسطرة الإفراغ كجزء ممهد للمرحلة القضائية التي تخضع لمبدأ التوحيد والمغربة.

2/ خرق القوانين والدوريات الخاصة بتوحيد المحاكم ومغربتها وتعريبها:
  لقد كان توحيد المحاكم ومغربتها وتعريبها[4] من بين أبرز الأحداث التي شهدها تاريخ القضاء المغربي مباشرة بعد نهاية الحماية الفرنسية وحصول المغرب على استقلاله، معتمدا على ثلاث دعائم أساسية لاستكمال السيادة المغربية من بينها اعتماد اللغة العربية في المداولات والمرافعات والأحكام.
وقد تلت هذه المبادرة التشريعية مجموعة من القرارات والإجراءات التنظيمية لاستكمال معالم السيادة الوطنية نسوق منها على سبيل المثال:
 - قرار وزير العدل رقم 65-414 بتاريخ 29/6/1965 الخاص باستعمال اللغة العربية أمام المحاكم الذي نص في فصله الأول على ما يلي:
"يجب أن تحرر باللغة العربية ابتداء من فاتح يوليوز 1965 جميع المقالات والعرائض والمذكرات وبصفة عامة جميع الوثائق المقدمة إلى مختلف المحاكم
  • منشور وزير العدل عدد 278/1966 بتاريخ 10/02/1966 الذي جاء فيه    أن على القضاء ألا يقبل أية مذكرة أو وثيقة من لدن المتقاضين متى كانت محررة بلغة أجنبية.
  • اتفاقية التنظيم القضائي الموحد بين دول اتحاد المغرب العربي الموقعة بنواكشوط بتاريخ 11/11/1992 حيث جاء في مادتها الخامسة ما يليلغة المحاكم هي اللغة العربية وتسمع المحكمة أقوال المتقاضين والشهود الذين يجهلونها بواسطة مترجم “.
  • قانون المسطرة المدنية حيث جاء في فصله431 حول مرفقات الطلب الرامي إلى تذييل الحكم الأجنبي بالصيغة التنفيذية ما يلي:” يقدم الطلب – إلا إذا نصت مقتضيات مخالفة في الاتفاقيات الدبلوماسية على غير ذلك – بمقال يرفق بما يلي:
  • 1 نسخة من الحكم الأجنبي؛
  • 2 شهادة من كتابة الضبط المختصة تشهد بعدم التعرض والاستئناف والطعن بالنقض؛
  • 3 ترجمة تامة إلى اللغة العربية عند الاقتضاء للمستندات المشار إليها أعلاه مصادق على صحتها من طرف ترجمان محلف “.
   
وتعتبر ترجمة الوثائق للغة العربية جزءا من النظام العام المغربي، أي بمفهوم المخالفة أن الحالة التي تكون فيها الوثائق المذكورة مدونة بلغة أجنبية فإن طلب التذيل يكون غير مقبول شكلا لمخالفته للنظام العام المغربي باعتبار أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية للدولة بصراحة الدستور، فضلا عما جرى عليه العمل قضائي، تطبيقا لمقتضيات الفصل 32 من قانون المسطرة المدنية، من أن عدم التقديم مستندات الدعوى يؤدي إلى عدم قبول الدعوى.[5]

3/ مخالفة التوجه القضائي السائد:
   من خلال مجموعة من الأحكام التي تعرضت لمسألة الدفع بالأمية في الشق المتعلق بعدم العلم بلغة الإنذارات أو الإجراءات الممهدة للدعاوى القضائية، نجد أن المحاكم المغربية باختلاف اختصاصها النوعي بما فيها المحاكم الإدارية اعتبرت لغة الدستور هي لغة التقاضي وتوجيه الإنذارات، وبالتالي كرست الطابع الحمائي والسيادي للغة العربية أو الأمازيغية حسب الأحوال، وليس فرض لغة أجنبية على مواطن مغربي، وبالتالي إلزامه بعبء لا يطيقه وقد يجهله في جميع الأحوال.
 فمن خلال الحكم رقم 4550 الصادر بـتـاريخ 20/10/2017 عن المحكمة الإدارية بالرباط في ملف عدد 846/7110/ 2017 نجد أنه قد جاء فيه ما يلي:
"حيث يهدف الطلب إلى الحكم بإلغاء القرار الإداري الصادر عن وزارة الصحة بتاريخ 04/08/2017 والمُبَلَّغ للطاعنة بتاريخ 23/08/2017 الحامل لعنوان ordre de recette année  مع ترتيب الآثار القانونية على ذلك.
    وحيث إنه تأسيسا على ما ذكر، فإن إصدار وزير الصحة لقرار محرر باللغة الفرنسية مؤثر في المركز القانوني للطاعنة يعد عملا مخالفا لقواعد الدستور، وهو بذلك مشوب بعيب المخالفة الجسيمة للقانون، ذلك أن اللغة الرسمية المقررة بنص دستوري تعد مظهرا من مظاهر سيادة الدولة، في بعدها الثقافي والتاريخي ذي الامتداد الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، ولذلك فإن استعمال الإدارة للغة أجنبية بديلة عن اللغة الرسمية في المجالات المذكورة أعلاه يشكل تنازلا عن هذه السيادة في أبعادها المشار إليها، وانتهاكا لإرادة المواطنين المُجسدة بنص الدستور الذين اختاروا العربية والأمازيغية لغتين لمخاطبتهم من قبل الدولة وجميع المرافق العمومية الأخرى، كما أنه تصرف لا يمكن تبريره بأي مسوغات واقعية أو قانونية جدية، لأن الحاجة للانفتاح على مختلف الثقافات بما تشتمل عليه من لغات، والحرص على تعلمها وتعليمها إلى جانب اللغتين الرسميتين، في إطار “توسيع وتنويع والمبادلات الإنسانية والاقتصادية، والعلمية والتقنية، والثقافية مع كل بلدان العالم” حسب ما ورد بديباجة الدستور، لا يتم قطعا عن طريق إحلال هذه اللغات بديلة عن اللغة الرسمية، ومن ثم فإن استعمال اللغة الفرنسية من قبل الإدارات العمومية المغربية يعد عملا مخالفا للدستور، لأن اللغة المذكورة غير منصوص على استعمالها الرسمي بأي نص قانوني، فضلا على أنها لا تمثل أي مظهر من مظاهر الهوية المغربية ماضيا وحاضرا وليس لها أي امتداد تاريخي بالمغرب ذي بعد وطني ومشروع.
وحيث إنه تأسيسا على ما ذكر يكون القرار المطعون فيه المحرر بغير اللغة الرسمية مشوبا بعيبي مخالفة القانون والشكل، مما يجعله متسما بتجاوز السلطة ويتعين تبعا لذلك الحكم بإلغائه"
 
4/ خرق قواعد الإثبات:
من المعلوم أنه من القول المأثور في قواعد الإثبات أن الشخص إذا كان ناقلا فعليه بصحة ما نقله، وإن كان مدعيا فدليل ما يدعيه[6]  
ذلك أن وقائع النازلة تتعلق بأجنبية هي من تدعي عدم علمها باللغة العربية، وبالتالي هي من كان يتعين إلزامها بإثبات جهلها لها وفقا لما ذهب إليه القضاء المغربي في العديد من القضايا نسوق منها على سبيل المثال لا الحصر
قرار المجلس الأعلى رقم 777 الصادر عن الغرفتين بتاريخ 15 دجنبر 1976[7] والذي جاء فيه:
" فيما يخص الوسيلة الرابعة:
وحيث طعن في القرار المطلوب نقضه بكونه ركز بطلان العقد المتنازع في شأنه على الفصل 427 من قانون العقود والالتزامات في حين أن هذا العقد رفع أمام ضابط رسمي شهد بمعرفته لتوقيع الحاج .........وشخصه وفي حين أنه إذا كان هذا الأخير لا ينكر توقيعه على العقد الذي سلم بمقتضاه تجزئة ...... إلى .......... وإنما بعقدين باللغة الفرنسية كتبا بنفس الآلة التي كتب بها العقد الآخر.
لكن من جهة حيث إن محكمة الاستئناف لم تصرح بأن الحاج .......... لم يوقع على العقد بل على العكس من ذلك قالت بأن العقد يحمل توقيعه غير أنها على الرغم من ذلك قضت بإبطاله بناء على الفصل 427 المشار إليه أعلاه، ذلك أن الحاج .......... الذي ادعى الأمية أي عدم معرفته اللغة المحرر بها العقد المتنازع في شأنه قد أتثبتها طبقا للمبدأ القائل بأنه من ادعى شيء يقع عليه عبء إثباته وأن محكمة الدرجة الثانية اعتبرت بما لها من سلطة تقديرية ثبوت أمية البائع الحاج ....... من عدم مجادلة ........ لهذه الواقعة التي يمكن إثباتها بأية وسيلة من وسائل الإثبات، ومن جهة أخرى حيث إن ما ورد في الفرع الثاني من الوسيلة يتعلق بمحض الواقع الذي يخرج عن حدود اختصاص المجلس الأعلى فإن الوسيلة غير مرتكزة على أساس في فرعها الأول وغير مقبولة فيما عداه."
وفي قرار آخر جاء فيه:
"في شأن الوسيلة الثانية:
حيث يعيب الطاعن القرار بانعدام التعليل وخرق الفصل 427 ق.ل.ع ذلك أن تعليلات القرار المشار إليها فاسدة وناقصة، لأن الأمية هي الأصل والأمي هو الذي لا يحسن القراءة والكتابة باللغة التي حرر بها العقد ولا يوجد بالملف ما يفيد أنه يحسنها، والفصل 427 ق.ل.ع لم يضع تعريفا للأمي ومنح بذلك للقضاء سلطات واسعة لتحديد مفهومه حسب خصوصيات الحالات المعروضة عليها، والأعمى يستحيل عليه قراءة حروف العقد فبالأحرى معرفة مضمونه، ولأن إدراك فحوى العقود هو مناط تمييز القضاء للأمي من عدمه وجهل الطاعن لفحوى العقد أمر بديهي ومؤكد لذلك لا مانع من إدخاله ضمن المفهوم الواسع للأمي كما لا علاقة بين التوقيع على وثائق وإثبات الأمية أو العلم بفحوى عقد معين.
حقا، ومن جهة أولى فإن مناط الحماية القانونية المنصوص عليها بالفصل 427 ق.ل.ع هو جهل الشخص الأمي لمضمون الورقة، ولما كان الطاعن ينفي معرفته لمضمون الوثيقة ولا دليل على أنها – الوثيقة - تعبر على إرادة الطاعن، فإنه ولئن كان عبء إثبات الأمية على مدعيها كأصل، فإن الأعمى في وضعية تمنعه من معرفة مضمون الوثيقة يجعله في حكم الأمي المعني بالفصل 427 ق.ل.ع ....." [8]
من خلال القرارين أعلاه يظهر أن الأجنبية هي من كانت ملزمة بإثبات جهلها للغة العربية، وبالتالي يكون ما جاء بالقرار قد خرق القانون عندما خرق قواعد الإثبات، الأمر الذي قد يعرضه للنقض هذا من جهة.
 وحيث إنه ومن جهة أخرى فإذا سايرنا المحكمة في طرحها كون المدعي كان عليه توجيه الإنذار باللغة الفرنسية[9]، فما أدرى المحكمة أنه على علم باللغة الفرنسية والتي تعتبر لغة أجنبية عنه، ولو افترضنا أن الأجنبي المعني بالإنذار صيني أو روسي أو هندي، فهل كانت المحكمة ستعتمد نفس التعليل؟ أو أنها كانت ستلجأ للترجمة في حالة الإدلاء بوثائق أمامها محررة بلغة تجهلها، أم
أنها كانت ستلجأ لعدم قبول الدعوى لخرق مقتضيات قانون المغربة والتوحيد والتعريب وقانون المسطرة المدنية؟

5/ عدم إعمال مبدأ المعاملة بالمثل
المعاملة بالمثل قاعدة من قواعد العرف الدولي تقضي بتعهد دولة ما بمعاملة ممثلي دولة أخرى ورعاياها وتجارتهـا بشكل مماثل أو معادل للمعاملة التي تتعهد هذه الأخيرة بتقديمها لها[10]
     ففي هذا الإطار وعلى سبيل المقارنة فإن الاجتهاد القضائي لمجلس الدولة الفرنسي ومحكمة النقض الفرنسية ذهبا إلى القول بأن اللغة الفرنسية هي لغة الوثائق وجوبا استنادا إلى مقتضيات الأمر الملكي المؤرخ في 10/08/1539 والموقع عليه من طرف الملك فرنسوا الأول والذي نص على أن جميع المستندات القانونية والموثقة  يجب أن تحرر باللغة الفرنسية وهذا الموقف تدعم بالتعديل الدستوري المؤرخ في 25-06-1992 الذي أصبح، بمقتضاه، ينص الفصل الثاني من الدستور على ما يلي: “الفرنسية هي لغة الجمهورية ” إضافة إلى أن القانون المتعلق باستعمال اللغة الفرنسية بتاريخ 4/08/1994 الذي نص على أن الفرنسية هي لغة المرافق العامة (ServiceS PublicS ). جاء في فصله الأول اللغة الفرنسية هي لغة التعليم، العمل، المبادلات والمرافق العامةويقول المجلس الدستوري الفرنسي في قراره عدد 93-373 بتاريخ 9/04/1996 بأن اللغة الفرنسية يشمل نطاقهاالأشخاص المعنوية للقانون العام وأشخاص القانون الخاص وذلك أثناء ممارسة مهمة تتعلق بمرفق عمومي وكذلك بالنسبة للمرتفقين في علاقاتهم مع الإدارات والمرافق العمومية” [11]

    من هذا المنطلق يظهر أن الدولة الفرنسية تعطي الأولوية للغتها الدستورية سواء في المعاملات بين الأفراد أو غيرهم، باعتبار اللغة مظهر من مظاهر السيادة، خاصة أن الدول الأوروبية في علاقتها بالأجانب المقيمين بأراضيها تستند إلى سياسة الاستيعاب، أو إعمال قواعد مصالحها الفضلى في تطبيق القانون في حالة وجود تنازع بين القوانين، خارج ما جرى به العمل من قواعد الإسناد وضوابطه.

    وأظن أنه من باب أولى أن يكرس القضاء المغربي بدوره هذا المبدأ، حماية لهويته وتجسيدا لسيادة الدولة، فإذا افترضنا بمفهوم المخالفة أن الأجنبي كان يكتري العقار من الدولة المغربية سواء في إطار احتلال مؤقت من طرف وزارة التجهيز والنقل واللوجستيك والماء، أو من طرف مديرية أملاك الدولة، أو إحدى الجماعات الترابية ... فقد كان من الضروري أن يتلقى الإنذار باللغة العربية استنادا إلى منشور رئيس الحكومة رقم 2018/16 بتاريخ 30 أكتوبر 2018، والذي حث من خلاله رئيس الحكومة الوزراء وكتاب الدولة والمندوبين السامين والمندوب العام، باستعمال اللغتين الرسميتين للدولة، العربية أو الأمازيغية، في جميع المراسلات بين الإدارات ومع المواطنين مادام أن الأمر لا يتعلق بمخاطبة جهات خارجية أو استعمال وثائق تقنية
    في هذه الحالة التي يوجه فيها الإنذار من الإدارة بلغة الدستور وتبعا لتعليمات رئيس السلطة التنفيذية، لأجنبي مقيم بالمغرب في إطار تعاقدي، يبقى من غير المقبول أن يفرض القضاء على الدولة تحرير الإنذار باللغة الفرنسية نظرا لخرق مبدأ أساسي وهو فصل السلط، الأمر الذي يتعين أن يسري بالتبعية على المواطنين المغاربة.

الهوامش
 
[1] "فما ذلت لغة شعب إلا ذل، ولا انحطت إلا كان أمره في ذهاب وإدبار" قول محمد الصادق الرفاعي أشار إليه:
ذ مصطفى اعليوي: ضمن مقاله "اللغة والسيادة المفقودة" منشور ب: https://www.aljazeera.net/blogs/2020/1/30
[2] قرار منشور بموقع العلوم القانونية www.marocdroit.com   
[3]  دستور المملكة المغربية صادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم1.11.91 في 27 من شعبان 1432 (29 يوليو 2011) المشور بالجريدة الرسمية عدد 5964 مكرر بتاريخ 28 من شعبان (30 يوليو 2011)
[4] قانون رقم 3.64 بتاريخ 22 رمضان 1384 (26 يناير 1965) يتعلق بتوحيد المحاكم نشر بالجريدة الرسمية العدد 2727 بتاريخ 03 فبراير 1965، ص208
 توحيد المحاكم أقره الفصل الأول من القانون المذكور الذي نص على أن:
 "جميع المحاكم المغربية باستثناء المحكمة العسكرية والمحكمة العليا للعدل المنصوص عليها في الباب السابع من الدستور أصبحت موحدة بالمملكة المغربية بمقتضى هذا القانون".
والتعريب أقره الفصل الخامس الذي نص على أن:
 "اللغة العربية هي وحدها لغة المداولات والمرافعات والأحكام في المحاكم المغربية".
والمغربة أقرها الفصل الرابع الذي نص على أنه:
 "لا يمارس وظيفة قاضي بمحاكم المملكة المغربية من لم يحمل الجنسية المغربية".
 
[5]  هشام العبودي: "لغة التقاضي في القضاء المغربي" منشور ب: https://mahkamaty.com/blog/2016/04/08
[6]  عبد الرحمن حسن حنبكة الميداني "ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة" دار القلم الطبعة الأولى 1975 بيروت ص: 368
[7]  منشور ب:  https://mahkamaty.com/blog/2013/12/30
[8] قرار عدد 1908 الصادر بتاريخ 7 يونيو 2006 في الملف المدني عدد1806/1/2/2004
[9] إذا سلمنا أن المحكمة قد تكون على علم باللغة الفرنسية، وبالتالي قد لا تستبعد إنذارا محررا بلغة قد تعلمها وفقا لما جاء في عدة أعمال قضائية، إلا أنه وكما أشرنا قد يصعب عليها الأمر إذا تعلق بلغة كالصينية مثلا، وبالتالي تلزم مغربي بتوجيه إنذار بلغة غير لغته اثناء توجيهه، تم تعود لتلزمه بترجمتها اثناء تقديم الدعوى، وهو أمر فيه عبء على مواطن مغربي وتخفيف على أجنبي
فبخصوص النقطة الأولى جاء في قرار المجلس الأعلى صادر بتاريخ 08/06/1987 في الملف المدني عدد 93159 ما يلي: “إن الإنذار بالإفراغ هو تعبير عن الإرادة بوضع حد لعقد الكراء فهو تصرف قانوني ليس بإجراء من إجراءات الدعوى لهذا فهو غير مشمول بقانون تعريب القضاء الذي يقصر الآمر على المرافعات والمذكرات التي تقدم أثناء النظر في الدعوى ولا يشمل الوثائق التي يدلى بها، ولهذا فان الإنذار بالإفراغ وإن كان قد حرر باللغة الفرنسية فقد أدى الغاية منه“.أشار إليه أحمد عاصم في مؤلفهالحماية القانونية للكراء السكني والمهنيمطبعة دار النشر المغربية الطبعة الأولى 1996.ص31
[10]  عبد الرحمن زيدان الحواجري : "المعاملة بالمثل في العلاقات الدولية في الفقه الإسلامي" رسالة ماجيستير لسنة 2002 بجامعة غزة  منشورة ب:  https://library.iugaza.edu.ps/thesis/7379.pdf
[11]  هشام العبودي: مرجع سابق
 
 
الجمعة 7 ماي 2021




تعليق جديد
Twitter