MarocDroit  -  موقع العلوم القانونية
plateforme des décideurs juridiques - Platform of Legal Decision-Makers



حقوق الإنسان في الدستور المغربي بين السمو الكوني والخصوصية الوطنية

     

الاستاذ ميمون خراط

مدير مجلة العلوم القانونية



حقوق الإنسان في الدستور المغربي بين السمو الكوني والخصوصية الوطنية
تقديم عام :

تشكل الدساتير في جل الأنظمة الديمقراطية ذلك التعاقد المؤسساتي الذي يهدف لتنظيم الحياة السياسية وإقرار التوازن بين السلط مع ربط المسؤولية بالمحاسبة وكذا احترام حقوق الإنسان ، وحرياته الأساسية بما لا يتعارض مع القوانين والنظام العام.
إلا أن ما أثار النقاش على مستوى الهيئات الحقوقية والباحثين في هذا المجال وكذا المهتمين منذ استقلال المغرب وإصدار أول دستور سنة 1962 حتى دستور 2011 هو مدى سمو الاتفاقيات الدولية في هذا المجال على القوانين الوطنية في حالة تعارضها و ما مدى الزاميتها بالنسبة للدول الموقعة والمصادقة عليها .
في هذا الاتجاه يمكن القول بأن النظريات الدستورية الحديثة في هذا المجال عرفت انقساما بين المدافعين عن سمو الاتفاقيات الدولية على الدستور وبين أنصار ضرورة احترام الخصوصية لكل بلد باعتباره أسمى قانون في البلد ويجب أن تكون جميع القواعد القانونية مطابقة معه ، وأن أي هيئة في الدولة لا يمكنها انتهاكه إلا إذا أجازها الدستور ، أما أنصار الاتجاه الأول فيعتبرون بأن مفهوم الدولة والسيادة أصبح متجاوزا ، وبأن المعاهدات هي تعهدات دولية وعلى الدولة احترامها.
إلا أن أهم تساؤل تم طرحه بعد إصدار الدستور الجديد هو ما موقع الاتفاقيات الدولة في الدستور المغربي ؟ وإلى أي حد استجاب لمطالب الهيئات الحقوقية والمنظمات الدولية في جعل حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا تسموا على القوانين الوطنية بدون استثناء ؟ وإذا جاز جدلا طرحا سؤال نقيض من هذا حول إخضاع الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان للخصوصية الوطنية هل هذا يتعارض مع القواعد الحمائية لحقوق الإنسان ؟
تلكم جملة من الأسئلة والتي سنحاول معالجتها في هذا الموضوع لفك لغز إشكالية سمو الاتفاقية الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان واحترام الخصوصية الوطنية ، وهذا سيأتي عبر معرفة التأصيل الدستوري لمبدأ الالتزام بسمو كونية حقوق الإنسان (المحور الأول)، دستور 2011 و إشكالية التوفيق بين عالمية حقوق الإنسان واحترام الخصوصية الوطنية ( المحور الثاني ).


المحور الأول : التأصيل الدستوري لمبدأ الالتزام بسمو كونية حقوق الإنسان

لا بد في البداية من معرفة التطور التاريخي للاعتراف الدستوري بحقوق الانسان والالتزام بسمو كونيتها على القوانين المحلية والخصوصية الوطنية وذلك عبر عرض نبذة تاريخية ( الفقرة الأولى ) على مسألة تطور الاعتراف بكونية حقوق الانسان بالمغرب، وكذا معرفة بداية الالتزام الدستوري بمبدأ سمو الاتفاقيات الدولية في هذا المجال ( الفقرة الثانية ).

الفقرة الأولى: نبذة تاريخية

تطور مسألة الاعتراف بكونية حقوق الإنسان في المغرب ليست وليدة اللحظة، فهذا الموضوع ظل مطروحا منذ نهاية القرن 19 ، وارتبط بفكرة الإصلاح السياسي والدستوري الذي فرض نفسه مع بعض الصراعات التي كانت تعرفها الدولة العلوية أثناء هذه الفترة مع توالي محاولات المستعمر لفرض سيطرته على المغرب.
وهكذا يمكن معه اعتبار مشروع دستور 1908 والذي تضمن إقرارا عموميا لمجموعة من الحقوق المدنية السياسية ، حيث تمت بموجبه المطالبة بإلغاء التسخير وإبطــال كل أشكال الإهانات والتعذيب ( المادة 27) ، بالإضافة إلى المطالبة بالحرية الشخصية (المادة 14) كما طالب بإقرار حرمة المسكن (المادة 25) والمساواة في تقلد المناصب والوظائف العمومية (المادة 17) .
أما على مستوى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية فقد أقر بالزامية التعليم (المادة 15) والحق في الملكية (المادة 23) كما أقر مقاضاة الإدارة ضد كل تعسف في استعمال السلطة (المادة 34) فلم يكتف بالتنصيص على الحقوق بل وضع حتى الوسائل الأساسية لحمايتها، وهذا ما شكل آنذاك بادرة في اتجاه دسترة الحقوق والحريات ونقلها من مجال الشريعة إلى مجال القانون الوضعي .
عند حصول المغرب على الاستقلال اعتبر إقرار الحقوق والحريات من أهم دعائم إرساء دولة الحق والقانون ، فكان له هذا الامتياز مقارنة بأغلب دول العالم الثالث المستقلة حديثا ، التي لم تعط لهذا الجانب كبير اهتمام ، تحت ذريعة أن لها تحديات أكثر أهمية من حقوق الإنسان ، وتتجلى في التحديث والتنمية ومحاربة الفقر... وهذا ما تعكسه الإنتاجيات القانونية.
فقد شهدت السنوات الأولى من الاستقلال ( 1956 – 1961 ) الإقرار العمومي لمجموعة من الحقوق وذلك في أجواء يطبعها التوافق بين القوى السياسية الموجودة آنذاك ( القصر والحركة الوطنية ) لإقامة دولة وطنية يشكل الإطار القانوني للحريات العامة أهم عنصر بالنسبة لها .
فقبل تجسيد عملية إقرار الحريات والحقوق قانونيا ، اعتبر العهد الملكي ، الذي صدر في شكل خطاب موجه إلى الأمة ، بمثابة قانون أساسي ، في وقت كان المغرب لازال يتهيأ لاستقبال تجربة الدستور ، وقد تضمن هذا العهد مجمل الخطوط التي سيعمل على إبرازها فيما بعد قانون الحريات العامة .
فقد رسم العهد الملكي الإطار الذي يجب أن تمارس داخله حقوق الإنسان في المغرب ، والمتمثل في نظام الملكية الدستورية ، كما حدد المبادئ التي يجب أن تسير وفقها هذه الحقوق والحريات ...، فالعهد الملكي إلى جانب إبرازه لمسألة كانت تشغل النخبة السياسية فإنه أبان بصورة واضحة أن أفضل حكم يمكن أن تعيش البلاد في ظله وتمارس من خلاله سيادتها هو الحكم الديمقراطي، واعتبر أن الأمر لن يتيسر إلا في ظل
وجود مؤسسات سياسية دستورية، وبين كيف يمكن أن تتحقق بموجب سيادة الشعب، والفصل بين السلطات، وإقرار الحريات العامة بقانون .
سيتوج الاهتمام بالحقوق والحريات ما بين 1956 و 1961 بصدور ظهير الحريات
العامة ، التي تعد أهم حدث حقوقي طبع سنة 1958 ، والتي ظلت منذئذ تحتل مكانة أساسية في الرصيد القانوني والحقوقي المغربي ، والقانون الأساسي للمملكة الصادر في يونيو 1961 ، الذي نص على عدد من الحقوق والحريات العامة في جوانبها المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية ، وأشار أيضا إلى مجال قانوني سياسي يساعد على ممارسة هذه الحقوق ، فأكد على مبدأين أساسيين هما : فصل السلط واستقلال القضاء ، مكملا بذلك الحقوق والحريات التي كرسها العهد الملكي ، الذي لم يكن إلا خطاب ولم يتخذ صورة قانون.
وما يمكن ملاحظته خلال هذه المسيرة هو أنه لم يتم الاهتمام إلا ببعض الحقوق والحريات الأساسية وليس كل الحقوق والحريات المقدم الوعد بشأنها ، إذ تم التشديد على الحريات الممارسة من طرف الفرد في مواجهة الأفراد الآخرين ، ولم يأخذ بعين الاعتبار الحريات التي تدخل في إطار العلاقات الجماعية ، وهذا المنحى لا يعكس إلا جزئيا مفهوم الحريات العامة .
في سنة 1962 دخل المغرب مرحلة جديدة بإقراره أول دستور للبلاد ضمنه أصنافا من الحقوق السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية ، كما أقر مبدأ فصل السلط والملكية الدستورية وغيرها من الركائز التي تدعم بناء دولة القانون ، وإن كان لم يأت بجديد في هذا المجال ، بل كرس ما جاء في ظهير الحريات العامة ، مما فسح المجال لمطالبات جديدة لإقرار دولة ديمقراطية اجتماعية.
وقد تميزت مرحلة نهاية الستينات والسبعينات بأجواء التوتر الاجتماعي والسياسي (أحداث 23 مارس 1965 – أحداث مارس 1973 ...)، مما انعكس على المستوى الحقوقي سواء من خلال مختلف التعديلات التي طالت بعض القوانين كقانون المسطرة الجنائية وظهائر الحريات العامة ، أو من خلال بداية البروز الواضح لبعض الملفات الحساسة ، كالاعتقال السياسي والاختفاء القسري .
فقد عرفت هذه الفترة تراجعا ملحوظا في مجال حقوق الإنسان ، عكس الانطلاقة المشجعة التي أبان عنها النظام في بداية الاستقلال ، فعلى المستوى القانوني ، إذا استثنينا المراجعتين الدستوريتين لسنوات 1970 ، والتي عرفت تراجعا كبيرا ، و 1972 التي تعتبر وسطا بين دستور 1962 و 1970 ، إذ صادق المغرب على العهدين الدوليين المتعلقين بالحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لسنة 1966 في مايو 1979 .
اذ تعتبر مصادقة المغرب على بعض المواثيق الدولية المرتبطة بحقوق الإنسان كانت ضعيفة خلال هذه الفترة ، كما أنه على مستوى الممارسة تميزت هذه المرحلة بانتهاكات سافرة لحقوق الإنسان بسبب تنامي الاحتجاجات الشعبية التي ووجهت بمحاكمات غير عادلة وعقوبات قاسية وصلت حد الحكم بالإعدام ، بالإضافة إلى الاغتيالات والاختطافات
على أن السنوات الأخيرة من فترة السبعينات ستشهد نوعا من أجواء الانفراج داخل الحقل السياسي عملت في خضمه السلطات على إعادة المسألة الحقوقية إلى واجهة الاهتمام العمومي ، خصوصا مع التحولات الدولية في سنوات الثمانينات التي ستشهد صعودا قويا وملفتا للمسألة الحقوقية بمختلف أبعادها عكست لحظة نضج واضحة على مستوى انتظام مختلف الفاعلين حول خطاب استكمال دولة الحق والقانون توجت بالاستجابة لمطالب الأحزاب والمنظمات الحقوقية بدسترة حقوق الإنسان .

الفقرة الثانية: بداية الالتزام الدستوري بكونية حقوق الانسان

جاءت نصوص الدساتير المغربية ، عند تعرضها للحقوق والحريات العامة متطابقة مع اختلاف بعض الكلمات التي لا تؤثر على المضمون ، حيث اختار المغرب نظام الملكية الدستورية مع فصل السلط، فقد ضم دستور 1962 في بابه الأول مجموعة من الحقوق لصالح المواطنين ، في حين أن دستوري 1970 و 1972 لم يأتيا بجديد في هذا المجال ، وقد أغنى دستور 1992 بصفة دقيقة مادة حقوق الإنسان بتبنيه لمجموعة من النصوص المعترف بها عالميا .
وإذا كانت الدساتير الثلاثة الأولى قد أضافت إلى النصوص الدستورية مجموعة من القوانين التشريعية كقانون الحريات العامة 1958 ، والقانون الأساسي للمملكة لسنة 1961، فإن المراجعة الدستورية لسنة 1992 سمحت بإدماج قواعد ذات أصل اتفاقي في الدستور ، وذلك من خلال إيجاد مقاربة قانونية تسمح بتدبير جدلية الخصوصية والكونية في مجال حقوق الإنسان . فأصبح المغرب ليس فقط ملزما بتطبيق الحقوق المنصوص عليها في الديباجة، ولكن أيضا الاتفاقيات والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان.
فكل موجة من التعديلات الدستورية محكومة بظروفها السياسية الوطنية والدولية الملازمة لها ، ومتأثرة بالحالة التي عليها حقوق الإنسان على المستوى الدولي ، فإذا كانت الفترة الممتدة مابين 1962 إلى حدود 1972 تتسم برجحان كفة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية على الحقوق المدنية والسياسية ، فإن لحظة الموجة الدستورية الثالثة في المغرب تزامنت مع ظهور جيل ثالث لحقوق الإنسان ، وتقليص ملحوظ لحقوق الاجتماعية والاقتصادية ، في هذا المناخ ظهر دستوري 1992 و 1996 .
تضمن الباب الأول من دستور 1996 جملة من الأحكام العام والمبادئ الأساسية المتعلقة بالمقتضيات الخاصة بحقوق الإنسان ، التي وردت على سبيل الإقرار والضمان .
فيما يخص الأحكام المتعلقة بالحقوق أكد الدستور أن :
- نظام الحزب الوحيد نظام غير مشروع .
- القانون هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة ، ويجب على الجميع الامتثال له وليس للقانون أثر رجعي.
- جميع المغاربة سواء أمام القانون.
- لكل مواطن ، ذكرا أو أنثى ، الحق في أن يكون ناخبا ، إذا كان بالغا سن الرشد ومتمتعا بحقوقه المدنية والسياسية.
وفيما يخص الضمانات التي يكلفها الدستور، أكد على :
- حرية التجول وحرية الاستقرار بجميع أرجاء المملكة؛
- حرية الرأي وحرية التعبير بجميع أشكاله وحرية الاجتماع؛
- حرية تأسيس الجمعيات وحرية الانخراط في أي منظمة نقابية وسياسية.
ولا يمكن ، أن يوضع حد لممارسة هذه الحريات إلا بمقتضى القانون.
وفيما يخص الضمانات الدستورية المتعلقة بحماية حقوق الإنسان ، تؤكد الأحكام العامة والمبادئ الأساسية على ما يلي :
- لا يلقى القبض على أحد ولا يعتقل ولا يعاقب إلا في الأحوال وحسب الإجراءات المنصوص عليها في القانون؛
- المنزل لا تنتهك حرمته ، ولا تفتيش ولا تحقيق إلا طبق الشروط والإجراءات المنصوص عليها في القانون؛
- لا تنتهك سرية المراسلات؛
- يمكن لجميع المواطنين أن يتقلدوا الوظائف والمناصب العمومية وهم سواء فيما يرجع للشروط المطلوبة لنيلها؛
- حق الإضراب مضمون ، وسيبين قانون تنظيمي الشروط والإجراءات التي يمكن معها ممارسة هذا الحق؛
- حق الملكية وحرية المبادرة الخاصة مضمونان؛
- التربية والشغل حق للمواطنين على السواء؛
- لا يمكن نزع الملكية إلا في الأحوال وحسب الإجراءات المنصوص عليها في القانون .
هذه جل الحقوق والحريات التي سبق للدستور المغربي أن تضمنها فما هو جديد ما أضافه دستور 2011 في هذا الاطار؟
انسجاما مع الاتفاقيات الموقع عليها من قبل المغرب واستجابة لمطالب العديد من الهيئات المدافعة عن حقوق الانسان وترجمة للتراكمات الاخيرة في هذا الاطار ونخص بالذكر ما توصلت اليها هيئة الانصاف والمصالحة من توصيات بدسترة مجموعة من الحريات والحقوق الاساسية، وعلى أساس كل ذلك منح وفي سابقة من نوعها في الدساتير المغربية مكانة مهمة وحيز كبير لحقوق الانسان وهو ما يمكن اعتبار معه وصف دستور 2011 بدستور الحقوق والحريات.
فبعد تصدير الدستور وتخصيص الباب الاول للأحكام العامة تلاه مباشرة الباب المخصص للحريات والحقوق الأساسية والتي تضمنت 21 فصلا همت الأجيال الثلاثة لحقوق الانسان فكانت البداية بالتركيز على المساواة بين الجنسين في الحقوق والحريات المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية الواردة في الدستور، وكذا في الاتفاقيات والمواثيق الدولية ، كما صادق عليها المغرب ، وكل ذلك في نطاق أحكام الدستور وثوابت المملكة وقوانينها.
هذا بالاضافة الى التزام الدولة بتحقيق مبدأ المناصفة بين الرجال والنساء واحداث لهذه الغاية هيئة للمناصفة ومكافحة كل أشكال التمييز.
وفي مجال الحقوق المدنية نص الدستور على الحق في الحياة واعتبره أول الحقوق لكل إنسان ، ويحمي القانون هذا الحق. وكذا لكل فرد الحق في سلامة شخصه وأقربائه وحماية ممتلكاته والتي تضمن السلطات العمومية سلامة السكان وسلامة التراب الوطني في إطار احترام الحريات والحقوق الأساسية المكفولة للجميع.
كما جاء فيه أيضا بأنه لا يجوز المس بالسلامة الجسدية أو المعنوية لأي شخص في أي ظرف ومن قبل أي جهة كانت خاصة أو عامة ، ولا يجوز لأحد أن يعامل الغير تحت أي ذريعة معاملة قاسية أو لا إنسانية أو مهينة أو إحاطة بالكرامة الإنسانية، واعتبر ممارسة التعذيب بكافة أشكاله ومن قبل أي أحد تشكل جريمة يعاقب عليها القانون.
علاوة على ما سبق فقد جاء في الفصل 23 من الدستور أنه "لا يجوز إلقاء القبض على أي شخص أو اعتقاله أو متابعته أو إدانته ، إلا في الحالات وطبقا للإجراءات التي ينص عليها القانون. الاعتقال التعسفي أو السري والاختفاء القسري ، من أخطر الجرائم وتعرض مقترفيها لأقسى العقوبات.
يجب إخبار كل شخص تم اعتقاله، على الفور وبكيفية يفهمها بدواعي اعتقاله وبحقوقه ومن بينها حقه في التزام الصمت ويحق له الاستفادة في أقرب وقت ممكن من مساعدة قانونية ومن إمكانية الاتصال بأقربائه طبقا للقانون. قرينة البراءة والحق في محاكمة عادلة مضمونان.
يتمتع كل شخص معتقل بحقوق أساسية وبظروف اعتقال إنسانية ويمكنه أن يستفيد من برامج للتكوين وإعادة الإدماج، يحظر كل تحريض على العنصرية أو الكراهية أو العنف يعاقب القانون على جريمة الإبادة وغيرها من الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وكافة الانتهاكات الجسيمة والممنهجة لحقوق الإنسان".
وفي مجال حرمة المنزل وسرية الاتصالات وحرية التنقل فقد جدد الدستور التزام الدولة بحمايتها "لكل شخص الحق في حماية حياته الخاصة ، لا تنتهك حرمة المنزل ولا يمكن القيام بأي تفتيش إلا وفق الشروط والإجراءات التي ينص عليها القانون . لا تنتهك سرية الاتصالات الشخصية كيفما كان شكلها ، ولا يمكن الترخيص بالاطلاع على مضمونها أو نشرها كلا أو بعضا أو باستعمالها ضد أي كان ، إلا بأمر قضائي ووفق الشروط والكيفيات التي ينص عليها القانون ، حرية التنقل عبر التراب الوطني والاستقرار فيه والخروج منه والعودة إليه مضمونة للجميع وفق القانون".
كما لم يغفل الدستور مسألة في غاية الأهمية ويتعلق الأمر بالحقوق والحريات الثقافية كحرية التعبير والرأي والفكر والابداع والحق في الوصول الى المعلومة وجاء التنصيص عنها في الفصول من 25الى 28.
"حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها ، حرية الإبداع والنشر والعرض في مجالات الأدب والفن والبحث العلمي والتقني مضمونة".
"تدعم السلطات العمومية بالوسائل الملائمة ، تنمية الإبداع الثقافي والفني ، والبحث العلمي والتقني والنهوض بالرياضة، كما تسعى لتطوير تلك المجالات وتنظيمها بكيفية مستقلة وعلى أسس ديمقراطية ومهنية مضبوطة".
"للمواطنات والمواطنين حق الحصول على المعلومات الموجودة في حوزة الإدارة العمومية ، والمؤسسات المنتخبة ، والهيئات المكلفة بمهام المرفق العام.
لا يمكن تقييد الحق في المعلومة إلا بمقتضى القانون بهدف حماية كل ما يتعلق بالدفاع الوطني وحماية أمن الدولة الداخلي والحياة الخاصة للأفراد وكذا الوقاية من المس بالحريات والحقوق الأساسية المنصوص عليها في هذا الدستور وحماية مصادر المعلومات والمجالات التي يحددها القانون بدقة".
"حرية الصحافة مضمونة ولا يمكن تقييدها بأي شكل من أشكال الرقابة القبلية، للجميع الحق في التعبير ونشر الأخبار والأفكار والآراء بكل حرية ومن غير قيد عدا ما ينص عليه القانون صراحة. تشجع السلطات العمومية على تنظيم قطاع الصحافة بكيفية مستقلة وعلى أسس ديمقراطية وعل وضع القواعد القانونية والأخلاقية المتعلقة به.
يحدد القانون قواعد تنظيم الإعلام العمومية ومراقبتها ويضمن الاستفادة من هذه الوسائل مع احترام التعددية اللغوية والثقافية والسياسية للمجتمع المغربي، وتسهر الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري على احترام هذه التعددية وفق أحكام الفصل 165 من هذا الدستور".
وفي مجال الحقوق والحريات السياسية تضمن الدستور فصلين وهما 29 و 30 اذ نصا على التوالي على كون "حريات الاجتماع والتجمهر والتظاهر السلمي ، وتأسيس الجمعيات والانتماء النقابي والسياسي مضمونة ويحدد القانون شروط ممارسة هذه الحريات ، حق الإضراب مضمون ويحدد قانون تنظيمي شروط وكيفيات ممارسته".
"لكل مواطنة ومواطن الحق في التصويت وفي الترشح للانتخابات شرط بلوغ سن الرشد القانونية والتمتع بالحقوق المدنية والسياسية وينص القانون على مقتضيات من شانها تشجيع تكافؤ الفرص بين النساء والرجال في ولوج الوظائف الانتخابية.
التصويت حق شخصي وواجب وطني.
يتمتع الأجانب بالحريات الأساسية المعترف بها للمواطنات والمواطنين المغاربة وفق القانون، ويمكن للأجانب المقيمين بالمغرب المشاركة في الانتخابات المحلية بمقتضى القانون أو تطبيقا لاتفاقيات دولية أو ممارسات المعاملة بالمثل. يحدد القانون شروط تسليم الأشخاص المتابعين أو المدانين لدول أجنبية وكذا شروط منح حق اللجوء".
وفي مجال الحقوق الاجتماعية فتم تخصيص لها الفصول من 31 الى 34 ومما جاء منها على سبيل المثال "تعمل الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية على تعبئة كل الوسائل المتاحة لتسيير أسباب استفادة المواطنات والمواطنين على قدم المساواة من الحق في :
- العلاج والعناية الصحية؛
- الحماية الاجتماعية والتغطية الصحية والتضامن التعاضدي أو المنظم من لدن الدولة؛
- الحصول على تعليم عصري ميسر الولوج وذي جودة؛
- التنشئة على التشبث بالهوية المغربية والثوابت الوطنية الراسخة؛
- التكوين المهني والاستفادة من التربية البدنية والفنية؛
- السكن اللائق؛
- الشغل والدعم من طرف السلطات العمومية في البحث عن منصب شغل أو في التشغيل الذاتي؛
- ولوج الوظائف العمومية حسب الاستحقاق؛
- الحصول على الماء والعيش في بيئة سليمة؛
- التنمية المستدامة".
وفي الأخير خص الفصول 35 و 36 و 37 للحقوق الاقتصادية دون اغفال ما تقتضيه ممارسة كل هذه الحقوق من واجبات وهو ما تمت الاشارة اليه في الفصول 37 الى 40.
وبالموازاة مع هذا الاعتراف الدستوري صادق المغرب على العديد من الحقوق والتي يمكن توزيعها حسب مضمونها إلى :
- الاتفاقيات العامة .
- الاتفاقيات الخاصة .
- الاتفاقيات المتعلقة بمناهضة التمييز.
- الاتفاقيات المتعلقة بحماية الفئات
فالمصادقة على هذه الاتفاقيات ترجمت رغبة السلطات المغربية في إعطاء الطابع الكوني لخطاب استكمال دولة الحق والقانون من خلال الاستجابة للالتزام الوارد في تصدير الدستور.

المحور الثاني : دستور 2011 وإشكالية التوفيق بين كونية والخصوصية.

لقد أثار تصدير دستور 2011 اشكالية ما مدى سمو الاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق الانسان على الدستور والقوانين المحلية، وهو ما أعاد من جديد النقاش حول جدلية الكونية والخصوصية ( الفقرة الأولى ) ، وكذا سيطرح اشكال على المستوى العملي والتطبيقي أثناء اثارة هذا الاشكال على القضاء المختص ( الفقرة الثانية ).

الفقرة الأولى: جدلية الكونية والخصوصية في تصدير الدستور

جاء في تصدير دستور 2011 ما يلي : "وإدراكا منها لضرورة تقوية الدور الذي تضطلع به على الصعيد الدولي ، فإن المملكة المغربية العضو العامل النشيط في المنظمات الدولية ، تتعهد بالتزام ما تقتضيه مواثيقها من مبادئ وحقوق وواجبات ، وتؤكد تشبثها بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا" .
كما أعلن الدستور المغري في نفس الإطار على التزام الدولة ب " حماية منظومتي حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني والنهوض بهما والإسهام في تطويرهما، مع مراعاة الطابع الكوني لتلك الحقوق وعدم قابليتها للتجزيء ".
هذا وأقر بصريح العبارة ب " جعل الاتفاقيات الدولية كما صادق عليها المغرب ، وفي نطاق أحكام الدستور ، وقوانين المملكة ، وهويتها الوطنيـــة الراسخة ، تسمو فور نشرها ، على التشريعات الوطنية ، والعمل على ملائمة هذه التشريعات مع ما تتطلبه تلك المصادقة".
وهنا يطرح التساؤل هل نحن أمام اعتبار النص الدولي يسمو على نظيره الوطني أم العكس ؟
باستعمالنا لتحليل سطحي سيظهر ما لا يدع مجال للشك بأن المشرع الدستوري قد تجاوز المأزق الذي رسمه في الدساتير السابقة وحاول أن يسير في اتجاه الديمقراطيات الغربية في إقراره لمبدأ سمو الاتفاقيات الدولية ، خصوصا عندما صرح بصحيح العبارة " مراعاة الطابع الكوني لتلك الحقوق وعدم قابليتها للتجزيء "، هذه الحقوق التي تعهد كما تمت لإشارة إلى ذلك بالتشبث بها كما هي متعارف عليها دوليا أي كما جاءت في المواثيق الدولية وعلى رأسها:
- الإعلان العالمي لحقوق الإنسان .
- العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية .
- العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وجميع النصوص المواثيق الدولية الصادرة في هذا الإطار بكل ما لها وما عليها .
إلا أنه بالرجوع لنفس التصدير نجد بأن الدستور يربط بين سمو الاتفاقيات الدولية في حالة عدم تعارضها مع أحكام الدستور وقوانين المملكة والهوية الوطنية .
وبمقتضى هذه الفقرة الأخيرة نستنتج بأن التدرج المتعهد من قبل الدستور في مجال حماية حقوق الإنسان يتمثل بالدرجة الأولى في الدستور يليها قوانين المملكة وبعدها الهوية الوطنية ، وعليه فإن أي حق منصوص عليه في المواثيق الدولية ويشكل تعارضا مع ما سبقت الإشارة إليه سوف لن يعتمد.
إلا أن السؤال المطروح هو هل تشكل مصادقة المغرب على بعض بنود الاتفاقيات الدولية والمتعارضة مع الهوية الوطنية إلزامية وأولية في التطبيق أخذا بصريح الفقرة الثالثة من تصدير الدستور والتي يتعهد بموجبها المغرب بالتزام ما تقتضيه المواثيق الدولية، وأكد على تشبثه بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا .
نعتقد أنه وانسجاما مع التوجهات العام التي مافتئ المغرب يرسمها في سياسته وكذا مبادئ المشروع المجتمعي الديمقراطي الحداثي الذي تبناه المغرب وأيضا ما تقتضيه المواثيق الدولية الموقعة من طرفه يدفع الى القول بالأخذ بكونية حقوق الإنسان حتى لا نصير أمام استغلال بعض التأويلات والتفسيرات الشخصية للدين والهوية والثقافة لتهميش المواثيق الدولية والتي لا يوجد فيها ما يتعارض مع هوية المغاربة، إذ تبقى الاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان مرجعا لا مفر منه لما يحتويه من مبادئ وقيم مشتركة بين الإنسانية جمعاء.
وبجانب هذا يلاحظ أن" التمسك بالقول بالخصوصية إنما هو قول حق وراءه باطل لأنه غالبا ما يكون مطية لإخفاء بعض أشكال القمع وعدم احترام حقوق الإنسان، كما يكون أحيانا مطية للتحلل من التزامات قانونية وواجبات إنسانية "
ومن بين الأمثلة التي يتداولها الدارسون حول التعارض بين الكونية والخصوصية في مجال حقوق الإنسان والتي لا تنطبق على المغرب، بعض التقاليد والممارسات التي تقوم عن طريق الإيذاء الجسدي وما ماثلها من عقوبات جسمية قاسية وضرب الأطفال والنساء، وختان النساء وهي ممارسات تتعارض مع بعض مبادئ حقوق الإنسان كالحق في سلامة الجسم وحظر التعذيب والايذاء الجسمي.
ويمكن القول بأن هذه المسألة المتعلقة بالخصوصية الوطنية وتعارضها مع سمو الاتفاقيات الدولية أصبحت أحيانا مصدر خلاف وصراع سياسي حتى في بعض المؤتمرات الدولية المنعقدة حول الموضوع.
وهكذا يبدو أن النقاش حول مسألة الكونية والخصوصية لم يبق مجرد نقاش أكاديمي أو نظــري خالص ، بل أصبح نقاشا ذا أبعاد سياسية محلية ( صراع سياسي وإيديولوجي بين النخبـة الحاكمة والمعارضة ) ودولية ( بين دول الشمال ودول الجنوب في المنظمات الدولية ) وما بينهما.
لكن ذلك لا يعني أنه نقاش مفتعل، بل على العكس ، فإن تلك الصراعات والآثار السياسية المحلية والدولية إنما تعكس في زاوية منها ، التعارض والاختلاف بين الخصوصيات الثقافية والنزعة الكونية الملازمة لمقولة حقوق الإنسان .
فالأمر في العمق ليس مجرد مجادلة في الطابع الكوني لهذه الحقوق بقدر ما هو كشف عن الاستعمال والتوظيف الإيديولوجي والسياسي لمنظومة الحقوق ، مما يجعل الكونية أمرا لا جدال فيه حتى وإن كان استعمالها محط نزاع وموطن نقاش.
كما يبدو أن مجال التعارض مهما بلغت قوته يظل محصورا في قضايا محددة يمكن حصرها والقيام باجتهادات وتأويلات للتوفيق بينهما. كما أن الطابع الكوني لحقوق الإنسان يتعزز أكثر فأكثر بتكاثر وتناسل وتنوع هذه الحقوق التي بلغت الآن ما يفوق 150 حقا ، إن هذا الطابع يتعزز كل يوم مع ظهور الأجيال الجديدة من الحقوق وخاصة الجيل الثالث الذي جاء ليعزز الطابع الكونــي للجيل الأول ( الحقوق الفردية ).
فإذا كان الجيل الأول ينص على حقوق الفرد الكوني المتمثلة في كل الفضاءات الثقافية والاجتماعية ، وكأن الأمر يتعلق بمواطن عالمي ، فإن الجيل الثالث من حقوق الإنسان ينص على ضرورة تضامن البشرية كلها تجاه المخاطر التي تتهدد بقاء الانسان سواء تمثل ذلك في الحرب أو في التقدم العلمي الذي يتهدد النوع البشري وبخاصة في ميدان الاكتشافات المتعلقة بالحياة والوراثة والتكنولوجيات الحيوية ، وتجاه الخيرات والمكاسب المشتركة بين البشر في امتلاك الفضاء وخيرات البحار وغيرها من الثروات الطبيعية والبشرية التي تدخل ضمن نطاق " المصدر المشترك والتضامن بين أفراد الجنس البشري " من أجل توفير مناخ أفضل لحياة النوع برمته وهذا يشكل نوعا من العدل ليس فقط تجاه الحاضرة فقط من بني البر بل يشكل نوعا من العدل تجاه الأجيال القادمة .
وهذا الصنف الأخير من الحقوق يحقق نقلة نوعية في مجال الكونية لأنه ينقل حقوق الإنسان من مستوى كونها حلما وأملا كبيرا لأفراد النوع إلى كونها واقعا يفرض نفسه على النوع إذا ما أراد البشر أن تستمر الحياة على ظهر هذا الكوكب.
وإذا كان تطور منظومة حقوق الإنسان قد اتجه بالتدريج قدما نحو اكتساب طابع أكبر للشمولية والكونية كما يتجلى ذلك بوضوح في الجيل الثالث من الحقوق ، فإن المنطلقات الأصلية لهذه المنظومة ظلت مطبوعة بهذه الروح الكونية المنحدرة من فلسفة الأنوار في كل من فرنسا وإنجلترا وألمانيا.
وقد استحضر ممثلو الدول وهم يناقشون بنود الإعلان العالمي لحقوق الإنسان سنة 1948 هذه الروح ، وخاصة في مناقشتهم للديباجة والبندين الأول والثاني ، وهي أكثر المقاطع التي يتجلى فيها البعد الشمولي الكوني لشرعة حقوق الإنسان ، حيث ينبري ممثلو مختلف الدول إلى مناقشة مفهوم الطبيعة الوارد في النص وهو المفهوم المرتبط بمسألة أسس هذه الحقوق وببعدها الكوني .
لذلك يبدو من الملح التأكيد على هذا البعد الكوني كما عكسته لا فقط النصوص الأممية، أو المضامين الكونية المتضمنة في النصوص، ولا فقط المصادقة عليها ، بل كما تمثل أيضا في الروح الفلسفية الكونية الضمنية المؤسسة لهذه الحقوق.
هكذا نص البند الأول من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان " يولد جميع الناس أحرارا متساوين في الكرامة والحقوق ، وقد وهبوا عقلا وضمير ، وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضا بروح الإخاء ".
أما البند الثاني فيرد فيه :
(" لكل إنسان حق التمتع بكافة الحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان دونما تمييز من أي نوع ولا سيما التمييز بسبب العنصر ، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين، أو الرأي سياسي أو غير سياسي، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي ، أو الثروة أو المولد أو أي وضع آخر " .

الفقرة الثانية: الامكانية العملية لمحاولة رد الاعتبار لسمو قاعدة الكونية

فإذا كان الدستور المغربي في تصديره يثير غموضا وتناقضا من حيث سمو المعاهدات الدولية على القوانين الداخلية فإنه يتبنى في ديباجته ما يفيد التزام المغرب بالمعاهدات والمواثيق الدولية إذ ينص على أن "المملكة المغربية إدراكا منها لضرورة إدراج عملها في إطار المنظمات الدولية، فإنها تتعهد بالتزام ما تقتضيه مواثيقها من مبادئ وحقوق وواجبات وتؤكد تشبتها بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا".
إن هذا الموقف يسير في اتجاه القاعدة العامة التي تقول بأن " المتعاقد عند تعاقده " باعتبارها قاعدة أساسية في كافة الأنظمة القانونية، ويترتب عليها أن احترام المعاهدات أمر يعلو إرادة الدول المتعاقدة . وقد عبرت عن هذه القاعدة اتفاقية فيينا حول قانون المعاهدات لسنة 1969 التي صادق عليها المغرب في 26 شتنبر 1972 والتي تنص المادة 26 منها على " أن كل معاهدة نافذة تكون ملزمة لأطرافها وعليهم تنفيذها بحسن النية ".
أما المادة 27 من نفس الاتفاقية فقد نصت على أن " الأطراف لا يمكنهم التذرع بالقانون الداخلي لتبرير عدم تنفيذ معاهدة صادقوا عليها ".
من جهة أخرى يجب التذكير بكون ميثاق هيئة الأمم المتحدة قد أعلن بصفة صريحة على " احترام الالتزامات الناشئة عن المعاهدات وغيرها من مصادر القانون الدولي".
وبما أن المغرب قد صادق على اتفاقية فيينا لسنة 1969 وتبنى في ديباجة دستور 1996 التزام ما تقتضيه مواثيق المنظمات الدولية من مبادئ وحقوق وواجبات وأكد تشبته بحقوق الإنسان كما هو متعارف عليها دوليا ، يمكننا أن نفترض بأنه يميل إلى ترجيح الاتفاقية الدولية على القانون الداخلي.
تتجلى خصوصية هذه الاتفاقية قبل كل شيء في الطبيعة الإلزامية لحقوق الإنسان التي تعد نصوصا ملزمة عالمية وعامة. وهذا الطابع الإلزامي لهذه الحقوق لا يمكن إغفالها في تطوير القانون الدولي مما أحدث تعديلات إن لم نقل " هزات " في بعض مبادئه الثابتة كمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية Principe de non Ingérence ومبدأ السيادة . كما أن روابط الجنسية أو الموطن أصبحت غير ضرورية حينما تقوم دولة بحماية أفراد انتهكت حقوقهم الفردية ، كما أن مبدأ المعاملة بالمثل ومبدأ حق الدفاع الشرعي لا يمكن استخدامها في حالة انتهاك حقوق الإنسان. يضاف إلى هذه التعديلات أن نظرية الشخصية القانونية في القانون الدولي تأثرت هي كذلك بهذا التيار وأصبح القانون الدولي اليوم يهتم بالمركز القانوني للفرد .
كما تتجلى كذلك خصوصية اتفاقيات حقوق الإنسان في التقارير التي تحتم على الدول الأعضاء تقديمها حول تنفيذ هذه الاتفاقيات وملائمة النصوص المتناقضة مع مقتضياتها إلى أجهزة أعدت لهذا الغرض في شكل لجن مكونة من خبراء في ميدان القانون وحقوق الإنسان. وهذا من شانه أن يمنح لهذه الاتفاقية قوة إلزامية بالنسبة للدول المنضمة إليها أو المصادقة عليها وبالتالي يساعد على ترجيحها على القانون الداخلي وخصوصا لما تكون المصادقة والانضمام لهذه الاتفاقيات بدون تحفظ .
ولقد أصبحت اليوم مصداقية الدول تقاس بمدى احترامها لحقوق الإنسان، والمغرب الذي صادق على جل هذه الاتفاقيات وأكد تشبته بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا في ديباجة دستور 1996 يكون قد أدخل " ضمنيا " بواسطة هذا الالتزام ، قواعد هذه الاتفاقيات الدولية إلى القانون الوضعي المغربي، فالمسألة بالنسبة للمغرب أصبحت تنحصر في ملائمة النصوص التشريعية والتنظيمية للمعاهدات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان فقط.
وفي هذا الصدد تجدر الإشارة إلى أن الظهير المتعلق باحداث المجلس الوطني لحقوق الإنسان ، بعد أن أكد من جديد ، (في بيان أسبابه)، على تشبت المغرب بالتزاماته الدولية في مجال حقوق الإنسان، قد أقر في المادة 13 من بين صلاحية المجلس " بحث ودراسة ملائمة النصوص التشريعية والتنظيمية الجاري بها العمل مع المعاهدات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان التي صادقت عليها المملكة أو انضمت إليها، وكذا في ضوء الملاحظات الختامية، والتوصيات الصادرة عن أجهزة المعاهدات الأممية الخاصة بالتقارير المقدمة لها من لدن الحكومة. ويقترح المجلس كل توصية يراها مناسبة في هذا الشأن، ويرفعها الى السلطات الحكومية المختصة".
أما فيما يخص الاجتهاد القضائي فهناك أحكام رجحت فيها المحاكم المغربية المعاهدة الدولية على القانون الداخلي وتهم هذه الأحكام اتفاقيات جماعية أو متعددة الأطراف أواتفاقيات ثنائية.
بالنسبة للصنف الأول نذكر بأنه عرضت على المجلس الأعلى تطبيق اتفاقية هامبورج لسنة 1978 والتي انضم إليها المغرب بتاريخ 17/07/81 فأكد المجلس في قراره الصادر بتاريخ 19/05/1999 في الملف عدد 4356/90 المبدأ التالي : " اتفاقية الأمم المتحدة لنقل البضائع الموقع عليها بهامبورج بتاريخ 31/03/1978 المنضم إليها المغرب بتاريخ 17/07/1981 تعتبر نافذة المفعول منذ تاريخ 01/11/1992 وقانونا ملزما في النطاق الوطني منذ هذا التاريخ ".
ويهم التناقض هنا الفصلين 221 و 262 من القانون التجاري إذ أن مسؤولية الناقل البحري حسب هذين الفصلين تمتد من تاريخ تسلمه البضاعة إلى تاريخ الوضع الفعلي لها رهن إشارة المرسل إليه بينما تشير اتفاقية هامبروج إلى أن مسؤولية الناقل تنتهي بتسليمها لمكتب استغلال الموانئ حيث تبدأ من هذا التاريخ مسؤولية هذا الأخير تجاه المرسل إليه.
أما بالنسبة للاتفاقيات الثنائية فلقد عرضت على القضاء قضيتين تهم تسجيل رعايا أجانب حاملين لجنسية فرنسية في سلك المحامين بالدار البيضاء ويتعلق الأمر بقضية " كزال Gazal " وقضية ميلان "Meylan " .
وفي كلتا الحالتين رفض مجلس الهيئة تسجيلهما لسبب كون المعنيين بالآمر لا يتكلمون اللغة العربية التي أصبحت منذ صدور قانون 26 يناير 1965 اللغة الرسمية الوحيدة المتعامل بها لدى محاكم بالمغرب.
وفي كلتا الحالتين تقدم المعنيين بالأمر باستئناف قرار الهيئة أمام محكمة الاستئناف بالرباط، وفي نفس الملفين ألغت محكمة الاستئناف قرار مجلس هيئة المحامين وذلك استنادا إلى مقتضيات الاتفاقية القضائية المغربية الفرنسية لسنة 1957 وإلى بروتكولهما الإضافي المؤرخ في 20 مايو 1965 حول القوانين الداخلية المنظمة لمهنة المحاماة بالمغرب، ولقد سار المجلس الأعلى في هذا الاتجاه في قراره الصادر بتاريخ 1 أكتوبر 1976، وأكد بدوره جهل لغة البلدين لا يحول دون تسجيل محامي فرنسي أو محامي مغربي بجدول إحدى هيئات المحامين الموجودة في البلدين، إذ يكفي أن ينيب المحامي الفرنسي الذي لا يتكلم اللغة العربية عنه زميلا يتكلم هذه اللغة في جميع مراحل المسطرة غير المكتوبة .
يضاف إلى هذه المبررات التي تسعى إلى ترجيح الاتفاقيات الدولية على القانون الداخلي التطور الذي حدث في إطار القانون الدولي الذي لم يقتصر اهتمامه على الدول فحسب بل أصبح يهتم كذلك بالأفراد وهذا ما يعد تغييرا لنطاق ومضمون هذا القانون الذي عبر عنه البعض " بقانون مشترك للأمم " .

فقانون التنمية يهم الأفراد وكل الشعوب ، نفس الشيء بالنسبة لقانون البيئة والقانون الدولي للشغل والقانون الدولي الجنائي وقانون التجارة الدولية وقانون المنافسة وبالطبع القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني إلى غير ذلك من القوانين الداخلية التي تعمل على العولمة التي أعطت منظورا جديدا للعلاقات الدولية ، وهذا الاتجاه يؤدي إلى سمو الاتفاقيات الدولية المنبثقة عن هذه المبادئ وبالتالي يساعد على الأخذ بترجيحها على القانون الداخلي.
إن هذه المبررات التي اعتمدنا عليها قصد التعرف على وضعية الاتفاقيات الدولية في القانون الوضعي تطبق كلها على اتفاقيات وآليات حقوق الإنسان في ترجيح مقتضياتها على القانون الداخلي ولا سيما أن هذه الأخيرة تكتسي خصوصية تتجلى في طبيعتها وفي الأجهزة التي تحتوي عليها لحماية هذه الحقوق.
ودائما في اطار الاجتهاد القضائي فقد طرحت على القضاء بعض القضايا اعتمدت فيها المحاكم بالخصوص على المبادئ العامة الدستورية في مجال الحريات العامة ، إلا أن في إحدى الأحكام الصادرة عن المحكمة الإدارية بالرباط اعتبرت هذه الأخيرة بأن "الحرية ليست دستورية فحسب بل هي كذلك حرية معترف بها عالميا". ولقد التجأ القاضي في هذه النازلة إلى الاتفاقيات الدولية ليأمر الإدارة بالعمل على احترام هذه الحرية بدون قيد أو شرط .
كما عرضت على أنظار المجلس الأعلى (محكمة النقض حاليا)، قضية تتعلق بتطبيق المادة 11 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية التي تنص على " أنه لا يجوز سجن إنسان على أساس عدم قدرته على الوفاء بالتزام تعاقدي فقط " ولقد توصل المجلس إلى رفض تطبيق الإكراه البدني نتيجة العجز عن الوفاء بالرغم مما يقضي به القانون الوطني ونعني هنا ظهير 20 فبراير 1961 المتعلق بممارسة الإكراه البدني في المادة المدنية على الخصوص.
وهذا التوجه أكدته الغرفة التجارية في قرار صادر بتاريخ 22 مارس 2000 تحت عدد 426 في الملف التجاري عدد 1716/99، وهكذا اعتبرت بأن "مدلول المخالفة لأحكام الفصل 11 من العهد الدولي المصادق عليه من طرف الأمم المتحدة بتاريخ 16/12/1966 ومن طرف المغرب بتاريخ 18 نوفمبر 1979 يتيح تحديد الإكراه البدني في حق المدين القادر على الوفاء أو الممتنع عنه ".
وحول هذا الاجتهاد الحديث قال السيد الرئيس الأول للمجلس الأعلى في كلمته بمناسبة افتتاح السنة القضائية 2001 أنه " بالنسبة للاتفاقيات التي تصون حقوق الإنسان وتنميتها يميل القضاء في العديد من الدول نحو سمو هذه الاتفاقيات عن القوانين الداخلية".
وهذ هو المنتظر من القضاء المغربي أن يأخذ بسمو المعاهدات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان على القانون الداخلي الشيء الذي يعزز التزامات المغرب الدولية في هذا المبدأ، ويتجاوز التناقض الموجود في تصدير الدستور وبالتالي التكيف مع الفلسفة والروح المعلنة صلب الدستور وترجيح المبادئ الكونية.

خاتمة عامة :

للخروج بخلاصة حول جدلية وإشكالية الكونية والخصوصية المتعلقة بحقوق الإنسان في الدستور المغربي لا من التأكيد على ضرورة الأخذ كقاعدة لا جدال فيها سمو الاتفاقيات الدولية في هذا المجال ويبقى الاستثناء الوحيد الذي يمكن على أساسه ترجيح الخصوصية الوطنية والقوانين الداخلية هو إذا كانت هاته الأخيرة في صالح حقوق الإنسان ، وهذا الاستثناء نصت عليه بعض القوانين المقارنة صراحة كما هو حال القانون الفرنسي ، مثلما نصت عليه بعض المواثيق الدولية.
هذا وتجدر الإشارة إلى الدور الممكن أن يلعبه القاضي الوطني من جهة باعتباره حامي الحقوق والحريات وبما يملك من صلاحيات التأويل والترجيح على الرغم من عدم إمكانية إلغاء النص المخالف للاتفاقية ، فإنه يملك مع ذلك سلطة الترجيح وبالتالي عدم تنفيذ النص المخالف.
ومن جهة ثانية ينبغي على البرلمان باعتباره يملك السلطة التشريعية والحكومة والمحكمة الدستورية التي تراقب مدى دستورية القوانين وبالتالي مدى احترامها لحقوق الإنسان ، بالإضافة إلى المجلس الوطني لحقوق الإنسان بما له من صلاحيات مرتبطة ببحث وملائمة النصوص التشريعية والتنظيمية الوطنية للمعاهدات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان التي صادقت عليها المملكة أو انضمت إليها.



النسخة الحاملة للهوامش




الاربعاء 19 سبتمبر 2012

عناوين أخرى
< >