في سياق وطني مطبوع بتحولات مؤسساتية عميقة، وبنزوع متسارع نحو إعادة بناء العلاقة بين المواطن والدولة على أسس الإنصاف والمساءلة والشفافية، يبرز التقرير السنوي لمؤسسة وسيط المملكة برسم سنة 2024، والمنشور بالجريدة الرسمية عدد 7423 مكرر بتاريخ 22 يوليوز 2025، كوثيقة محورية تعكس نبض الإدارة المغربية في تفاعلها مع انتظارات المرتفقين. فهو ليس مجرد تقرير دوري، بل يمثل تمثيلا دقيقا لرؤية مؤسساتية تتقاطع فيها الوظيفة التوفيقية مع الأفق الإصلاحي، كما يتيحها الإطار القانوني المنظم للمؤسسة، وعلى وجه الخصوص المادة 47 من القانون رقم 14.16، التي تخول للوسيط رفع هذا التقرير إلى جلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده، باعتباره أعلى سلطة ضامنة لتوازن السلط وحامية للحقوق والحريات .
ينبني التقرير على بنية علمية متكاملة تستحضر الأبعاد التفاعلية والاجتماعية والقانونية للطلب على الوساطة، كما يتوزع على كتابين أساسين، الأول يتناول اختلالات المرافق العمومية في ضوء الطلب المتزايد على الوساطة، والثاني يتطرق إلى آفاق تفعيل الوساطة المؤسساتية كأداة استراتيجية في تحسين العلاقة بين الإدارة والمواطن. وقد تمحورت مقاربة التقرير حول ثلاثية تحليلية واضحة : تتبع تدفق المطالب؛ تقييم الأداء المؤسساتي؛ وقياس الأثر الاجتماعي والإداري لهذه التدخلات .
وقد بلغ مجموع ملفات التظلم التي عالجتها المؤسسة سنة 2024 ما مجموعه 5774 ملفا، مقابل 5448 خلال السنة التي سبقتها، ما يعكس تصاعدا في الطلب الاجتماعي على مؤسسة الوسيط، وتحولها من مجرد جهاز تظلمي إلى فاعل مؤسساتي مركزي في ضبط اختلالات الإدارة المغربية. وبالموازاة مع هذه التظلمات، تلقت المؤسسة ما يناهز 2182 طلبا للتوجيه، و11 طلبا للتسوية الودية، وهو معطى يحمل دلالات واضحة وقوية على تصاعد وعي المرتفق المغربي بأهمية المساطر التوفيقية والوسائل البديلة لحل النزاعات الإدارية، ويكشف من جهة أخرى عن حاجة ملحة لتوسيع ثقافة الوساطة داخل الإدارة .
أما على مستوى مضمون الملفات، فقد تصدرت القضايا ذات الطابع الإداري مجمل التظلمات بنسبة كبيرة، تلتها الملفات ذات الطبيعة المالية والعقارية. وقد تم تسجيل تركز عال للتظلمات في مجالات تنفيذ الأحكام القضائية، وملفات ناتجة عن الأضرار المرتبطة بالكوارث الطبيعية، كما هو الشأن بالنسبة لزلزال الحوز، ما يدل على استمرار التعثر الإداري في الاستجابة للالتزامات القانونية والتنظيمية، ويطرح علامات استفهام كبرى حول نجاعة بعض المؤسسات الترابية والإدارية .
وفي مجال تفاعل مؤسسة الوسيط مع التوصيات، تم إصدار 146 توصية جديدة سنة 2024، في حين تم تنفيذ %70.15 من مجموع التوصيات التراكمية البالغ عددها 992 توصية، وهو مؤشر مهم، لكنه في الآن ذاته يعكس تفاوتا مقلقا في تجاوب القطاعات الوزارية والجماعات الترابية، لا سيما جماعة الدار البيضاء التي جاءت في مؤخرة الترتيب من حيث التفاعل. هذا التفاوت يشير إلى الحاجة الملحة إلى مراجعة آليات التنسيق المؤسساتي وتفعيل الطابع الإلزامي للتوصيات بشكل أكثر صرامة، وحماية لحقوق المرتفقين وضمانا لمبدأ استمرارية المرفق العمومي ومبدأ المساواة أمامه .
أبرز التقرير كذلك الحضور المكثف لمؤسسة الوسيط على مستوى المشهد الإعلامي الوطني والدولي، حيث عرفت سنة 2024 تغطية نوعية من قبل المنابر الصحفية، كما شكلت لحظة تنظيم المؤسسة لاجتماع مجلس إدارة المعهد الدولي للأمبودسمان بتاريخ 22 نونبر 2024 محطة دبلوماسية مؤسساتية عكست انخراط الوسيط المغربي في الحراك العالمي للوساطة، ورسخت موقعه ضمن التجربة المغربية في العدالة الإدارية .
ولم تغفل المؤسسة في تقريرها الإشارة إلى بعض المبادرات النوعية التي تم الاضطلاع بها، سواء عبر إصدار ثلاثة تقارير خاصة موجهة لرئاسة الحكومة وفق ما تسمح به المادة 42 من القانون رقم 14.16 المنظم لمؤسسة الوسيط، أو من خلال تتبعها لتظلمات تتعلق ببرامج عمومية كبرنامج "فرصة"، الذي أثار موجة من التظلمات الجماعية اعتبرتها المؤسسة ذات طبيعة فردية تستوجب المعالجة التقديرية وفق الخصوصية .
أما على مستوى الأفق المؤسساتي، عبر التقرير عن تطلع واضح لتعزيز أدوار مؤسسة الوسيط برسم الفترة 2025-2027، من خلال توسيع قدراتها التحليلية، وتقوية أثرها في تطوير علاقة الدولة بالمواطن، مع التأكيد على الانتقال من منطق التوصيف إلى منطق التأثير، وهو توجه يقتضي ليس فقط دعما سياسيا واضحا، بل إرادة إدارية حقيقية في الانفتاح على الوساطة كأداة تطوير لا كآلية امتصاص للغضب الاجتماعي .
إن القراءة الدقيقة لمضامين هذا التقرير، بكل ما تحمله من مؤشرات كمية ونوعية، معطيات وأرقام رسمية، تضعنا أمام صورة مركبة لوضعية الإدارة المغربية : إدارة تظل حبيسة أعطاب بنيوية في التواصل والتفاعل والتنفيذ، رغم محاولات الإصلاح المتعددة، وتكشف في الآن ذاته عن حاجة ماسة لإعادة صياغة فلسفة المرفق العمومي، على قاعدة الإنصاف والمحاسبة وضمان جودة الخدمة العمومية .
إن مؤسسة الوسيط، بهذا التقرير، لا تكتفي بمهمة الرصد والتتبع، بل تقدم نفسها كفاعل في قلب الدينامية الديمقراطية، وكقوة اقتراحية تشتغل على الحد الفاصل بين الفعل الإداري وحقوق المرتفق، وتساهم بفاعلية في إعادة تشكيل المعادلة بين السلطة والمساءلة في مغرب يتغير ببطء، لكنه يسير بثبات نحو ترسيخ دولة الحق والمؤسسات .
ولا شك أن المتأمل في مضامين هذا التقرير، إذا أحسن الإصغاء لنبضه التحليلي، سيدرك أنه لا يقرأ كوثيقة سنوية إدارية فحسب، بل كمرافعة مؤسساتية راقية لصالح إقرار العدالة الإدارية، وبناء مشهد إداري أكثر نجاعة، وأكثر عدلا، وأكثر قربا من المواطن .