نسخة للتحميل
ملخص تقرير عن مناقشة أطروحة في القانون العام
ناقش الطالب الباحث جمال فوزي أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون العام والعلوم السياسية حول موضوع "النخبة التكنوقراطية في دول البحر الأبيض المتوسط.. دراسة مقارنة المغرب - تونس – فرنسا، وكان قرار اللجنة المناقشة ما يلي: "منح لقب الدكتوراة للباحث بميزة مشرف جدا مع تنويه اللجنة والتوصية بالنشر".
في بداية دفاعه عن أطروحته، أكد الباحث جمال فوزي أن من أولويات البحث في مثل هذه المواضيع هو تحديد ماهية المفهوم والتي تحتاج مناقشتُه المزيدَ من الدراسات النقدية والمزيد من التمحيص؛ إذ أن استعمال هذا المصطلح أضحى غير واضحٍ وتعتريه ضبابيةٌ بسبب تسارع التطورات والتحولات التي لحقت الظاهرة على المستوى العالمي.
وتتعدد، المفاهيم التي مُنِحَت للتكنوقراطية بتعدد الإيديولوجيات واختلاف المقاربات، فهي قد تحمل مفهوما مرتبطا بجدلية العلاقة القديمة-الجديدة التي تربط السياسي والإداري، وإمكانية تغول هذا الأخير في ممارسته للسلطة على حساب السياسي؛ كما قد تعطى مفهوما يُنظر إليه من زاوية التطورات الاجتماعية والتاريخية التي يعرفها المجتمع ومدى مساهمتها في النهوض بأعمال إدارة الشأن العام للدولة؛ هذا بالإضافة إلى إمكانية ارتباطه بالمنظور الايديولوجي الذي يسعى إلى "تكنقرطة" السلطة (Technocratisation du Pouvoir).
هذا، وقد شكلت التكنوقراطية على مرِّ التاريخ تحدّيًا كبيرًا للحرية الفردية والديمقراطية، حيث تم استخدام التكنولوجيا والعلوم الحديثة لإدارة المجتمع والتحكم في القرارات الحكومية خاصة الاقتصادية منها من قبل الخبراء والفنيين غير المنتَخبين.
وتعد جذورُها ضاربةً في الحركة التكنوقراطية الأمريكية التي برزت في الثلاثينيات من القرن الماضي، والتي تطورت وانتقلت إلى المستوى العالمي. وأُعيد تقديمها في عام 1973 بِاسم "النظام الاقتصادي الدولي الجديد"، وهي معروفة الآن بأسماء متعددة مثل التنمية المستدامة والاقتصاد الأخضر...
وقد تَصدَّر المشهدَ الإعلاميَّ الوطنيَّ والدوليَّ، في السنوات الأخيرة، نقاشٌ سياسي وأكاديمي، تناول الصعودَ الواضحَ للتكنوقراط والاعتمادَ المستمرَ عليهم في إدارة الشأن العام. وأعاد هذا النقاش إلى الواجهة موضوعَ علاقةِ التكنوقراط بمسألة الحكم، وطُرحت بحدة أسئلةٌ مستجدةٌ حول مقومات وحدود الاستعانة بخبراء وكفاءات من خارج دائرة التمثيل الانتخابي.
وشكلت التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي عرفتها الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا الغربية وفرنسا على وجه الخصوص ظروفا مواتيةً جعلت من هذه الدول منطلقا ومهدا للتكنوقراط الذين استطاعوا الوصول إلى دواليب السلطة؛ ومنه انتقلت الظاهرة إلى العديد من دول العالم من بينها المغرب وتونس.
فيما يخص المغرب، فقد كان لظهور النخبة التقنية مجموعة من العوامل المتداخلة بين ما هو تاريخي وأمني من جهة، وبين ما هو اجتماعي واقتصادي من جهة ثانية. وقد ساهم عهد الاستقلال هو الآخر بتحولاته وأحداثه في تكوين هذه النخبة، وتجذرها في البنية السياسية المغربية، بحيث شكلت الخيار الأفضل للنظام السياسي الحاكم، والبديل القادر على تثبيت الحكم وإرساء أسسه ودعائمه في إطار دولة المؤسسات الجديدة.
وتأثرت تونس هي الأخرى، من موجات صعود التكنوقراط؛ فقد تَشَكَّلَت نخبةٌ مؤهَّلة في مدارس ومعاهد بفرنسا تولَّت دواليب الإدارة في عهد الاستقلال، وظهر بذلك الفاعل التكنوقراطي ضمن وزراء بورقيبة، وبرز بشكل أكثر في عهد بن علي، وإن كان ذلك ضمن فضاءات سياسية وَبِخلفيات مختلفة. كما أعيد طرح سؤال التكنوقراط وعلاقته بالحكم إلى الواجهة بعد أن تم اللجوء إليهم مرات عديدة في العشر سنوات التي تَلَتْ ثورة دجنبر 2010.
وأشار الباحث إلى أنه بالرغم من تراكم عدد لا بأس به من الدراسات التي تَهُمُّ الظاهرة النخبوية في دول البحر الأبيض المتوسط، إلا أن عددا قليلا منها عالج موضوع النخبة التكنوقراطية بحد ذاتها في تلك البلدان، ولم يسبق أن وُجِدت دراسة مقارِنَة بالشكل الذي تناوله هذا البحث. فيما سعت هذه الأطروحة إلى الاستفادة من تراكم هذه الأعمال والأبحاث من أجل فهمٍ أوسعٍ للتحولات السياسية وكيفية اشتغال الأنظمة السياسية للدول المدروسة.
ترتبط أهمية دراسة النخبة التكنوقراطية بصفة عامة، بالمكانة المتميزة التي يتصف بها هذا الصنف من النخب إذ تحتل مكانة مركزية في النسق السياسي للعديد من الدول، وتستحوذ على جل المناصب العليا في الأجهزة الإدارية، وتتواجد بالقرب من مراكز القرار وصُنّاعه، بل صارت تُشكل معطى بنيويا في نسقها السياسي.
وتكتسب دراسة النخبة التكنوقراطية بالمغرب ومقارنتها بنموذج عربيٍّ، وآخر غربي أهميةً كبرى، لأنها تساهم في فهم أنماط التغير الاجتماعي والتحولات الإدارية والسياسية والاقتصادية التي تطرأ على المجتمع ومدى مساهماتها في عمليات تحديث الدولة.
وازداد دور هذه النخبة بعد أن هيمنة الاقتصاد المُعَوْلَم الذي أضحى خارج نطاق تحكم الدولة القومية، ليصبح في يد الشركات المتعددة الجنسيات، مما ساعد على تضخم نفوذ هذه النخبة في تدبير شؤون الدولة وانحسار دور النخب السياسية.
كما تتجلى أهمية الموضوع في فهم واستيعاب الدور الذي يقوم به التكنوقراط في رسم وتنفيذ السياسات الحكومية على مستوى كل بلد، والذي يساعد على فهم وتفسير الأداء الحكومي وعلاقته بالأجهزة الأخرى للدولة.
بالإضافة إلى كل ما سبق، فإن فهم خلفيات ومسارات صعود هذه النخبة في الدول الثلاث، حسب الباحث، يساعد على تفسير العلاقة بين زيادة نفوذ التكنوقراط والتأثير المتزايد للمؤسسات المالية العالمية في طريقة اشتغال حكومات بعض هذه الدول.
جدير بالذكر، فإن موضوع النخبة التكنوقراطية يتموقع من الناحية الابستمولوجية ضمن الإطار المعرفي لظاهرة النخبوية، اذ صارت النخب قوةً فاعلةً ويَقِظَة في ممارسة دورها في توجيه المجتمع وتحديد مساراته في مختلف المجالات.
وتؤكد مختلف نظريات النخبة أن ظاهرة النخبوية ليست وضعية عارضة في حياة المجتمعات الإنسانية، بل هي سمة راسخة في صلب تكويناتها منذ القدم. كما أن مفهوم النخبة ليس مجرد مفهوم وصفي للدلالة على فئة اجتماعية محددة داخل المجتمع، بل هو أداة مهمة ووسيلة ضرورية لتحليل الظواهر الاجتماعية وتفسيرها.
كما يُمَكِّنُ مدخل صناعة النخبة من تفسير بعض الظواهر المرتبط بالتكنوقراطية؛ إذ لم يعد التكنوقراط يؤدي دور الاستشارة العلمية في مجال تخصصه فحسب، بل قد يتجاوز ذلك، بتطلعه إلى القيام بأدوار سياسية، يَعْتَبِرُ من خلالها السلطةَ كمجالٍ تُمَكِّنُهُ من المحافظة على امتيازاته داخل المجتمع.
إن مقاربة وفهم أدوار النخبة التكنوقراطية في دول حوض المتوسط، تفرض، حسب الباحث، تحديد شروط ومحددات انبثاقها والتي ارتبطت إلى حد كبير بنمط الإنتاج الرأسمالي وبالفكر الليبرالي الذي طَوَّرَ مجموعة من الآليات الجديدة في تدبير شؤون الدولة الحديثة. وقد دفعت هذه الحقيقة الأنظمة السياسية للدول الثلاث المدروسة إلى جانب أنظمة سياسة أخرى، دفعتها إلى الاعتماد وبشكل قوي على خبرة التكنوقراط في مجال تدبير السياسات الحكومية لمختلف المجالات الحيوية.
تأسيسا على كل ما سبق، قدّم الباحث إشكاليته كالآتي: إلى أي مدى حَقَّقَ الاعتمادُ على التكنوقراط النتائجَ المنتظرةَ؟ وماهي الآثار الملموسة لذاك على الحياة السياسية؟
وتتفرع الإشكالية المركزية المطروحة إلى التساؤلات التالية:
ماهي الأسباب الحقيقية التي دفعت أنظمة هذه الدول إلى الاعتماد على نظام التكنوقراط في تدبير شؤونها الحكومية؟
هل هي ظاهرة خاصة بدولة معينة أم هي ظاهرة عامة تشهدها العديد من الدول؟
هل حققت النخبة التكنوقراطية المهام المنوط بها؟
هل للموجة الثانية من الانتفاضات العربية دورٌ في صعود التكنوقراط في دول جنوب حوض المتوسط؟ وكيف ساهمت جائحة كورونا في هذا الصعود؟
ماهي مختلف تداعيات هذا اللجوء وآثارُه على التدبير العمومي ككل؟ وهل من أعراض جانبية لصعود التكنوقراط في هذه البلدان؟
ألا يمكن اعتبار التكنوقراطية تهديدا للديمقراطية التمثيلية؟ وفي مقابل ذلك هل الاعتماد على التكنوقراط يُعَدُّ انتفاءً للديمقراطية؟
ألا تشكل النزعة المفرطة نحو تطبيق التكنوقراطية في أنظمة الحكم لهذه الدول نزوحا نحو تحويل مجتمعاتنا إلى أنظمة سلطوية تحكمها نخب ومجموعات صغيرة تعتمد التقنية والنزعة العلموية عوضا عن النزعة التمثيلية والشراكة الديمقراطية؟
ارتباطا بالإشكالية المركزية والتساؤلات الفرعية المنبثقة عنها نطرح الفرضيات التالية:
- يرتبط صعود التكنوقراط وهيمنتهم على مراكز التدبير الحكومي في دول الحوض المتوسطي المدروسة بضعف الأحزاب السياسية وتراجع الثقة بها، بعد تقاعسها على القيام بدورها في التأطير، وبعد عجزها عن تقديم بدائل في الحكم؛
- إن تعاظم الاعتماد على البيانات والمؤشرات والمعلوميات في تحقيق أهداف التنمية المستدامة المرجوة في أفق 2030، وتنامي تمظهرات النيوليبيرالية في دول البحر الأبيض المتوسط المدروسة وفي اقتصاداتها، كل ذلك، يفرض اللجوء إلى خبرات وكفاءات التكنوقراط والعمل بأطروحتهم في الحكم؛
- الفرضية الثالثة تعتبر أن تولي التكنوقراط المسؤوليات الحكومية أسهم في تأزم الوضع الاقتصادي في دول جنوب الحوض المتوسطي المدروسة عبر فتح مجال الاستثمار للقطاع الخاص الأجنبي ومنحه امتيازات في إطار الخضوع لشروط المؤسسات النقدية الدولية.
كما تمت الاستعانة بالمنهج التاريخي في تحديد ظروف وملابسات نشأة النخبة التكنوقراطية بالدول الثلاث، إلى جانب الاعتماد على المنهج البنيوي الوظيفي لمعرفة ورصد بنية ومختلف تفاعلات هذه النخبة مع باقي المكونات وتأثيرات صعودها في الحياة السياسية وفي بعض المراكز القرارية.
وتأسيسا على كل ما سبق، فقد عمِدَ الباحث إلى دراسة النخبة التكنوقراطية في كل من المغرب وتونس وفرنسا من خلال مراجعة أهم الأسس الفكرية والمنطلقات العلمية والمنهجية التي تطرحها أدبيات ونظريات النخب. ومن ثم تقسيم الموضوع إلى قسمين:
يتناول القسم الأول دراسة خلفيات التنخيب التكنوقراطي لدول البحر الأبيض المتوسط المعنية وتحليل مسارات صعودها، كظاهرة يدرسها علم الاجتماع، عبر تتبع تاريخ ومراحل ظهور الأجهزة البروقراطية لهذه الدول والكشف عن المرتكزات الأساسية التي تستند عليها ومجموع الخصائص والسمات التي مَيَّزتها خلال سيرورة تشَكُّلها.
كما تضمن هذا القسم أيضا دراسة مدى مساهمة تطور مثل هذه الأجهزة الإدارية في ظهور وانبثاق النخبة التكنوقراطية التي تبوأت أهم المناصب السامية، وذلك من خلال رصد وتتبع محددات وشروط انبثاقها وتحديد خصائصها في كل دولة من حيث المنحدر الاجتماعي، المستوى التعليمي والتكوين الأكاديمي، مسارات صعودها وقنوات تنخيبها، العلاقات الاجتماعية المؤطرة لها، منحدراتها ومآلاتها المهنية...؛
أما القسم الثاني، فقد خُصِّصَ لدراسة تفاعلات النخبة التكنوقراطية وتأثيرات صعودها، في الحياة السياسية لهذه الدول، وكذا في السيرورة القرارية للعديد من الوزارات الحيويةِ مثل وزارة الداخلية ووزارة الخارجية ووزارة الاقتصاد والمالية بالإضافة إلى الأمانة العامة للحكومة.
ولا يمكن فهم تأثيرات هذه النخبة في الحياة السياسية لِكُلٍّ من المغرب وتونس وفرنسا إلا عبر تحديد درجة الوحدة والانقسام داخلها ودراسة مدى مساهمتها في بلورة واتخاذ القرارات ومدى فعالية تدخلاتها في التدبير العمومي من خلال مجموعة من المؤشرات
أهم الاستنتاجات والخلاصات
أكد الباحث نهاية بحثه أن دراسة السياق الاجتماعي والإداري لبزوغ هذه النخبة أن الموظف السامي في فرنسا هو المُحرك الأساسي والفاعل المباشر لتحقيق المنفعة العامة وخِدمة الدولة، في حين تدفع آليات الإدارة التقليدية بالمغرب وتونس الموظَّفَ ذاتَه إلى أن يساهم في الإدارة لتنفيذ قرارات مركزية، وتأكيد الحضور الوازن للدولة وهيمنتها على البنيات الإدارية والاقتصادية والاجتماعية، التي يلازمها الطابع التقليدي إلى اليوم رغم كل محاولات التحديث التي طالتها.
ومن جانب آخر، كانت للسياسات التعليمية التي تبنتها فرنسا الدور البارز في إرساء منظومة من المعاهد والمدارس العليا التي وَفَّرَت الأطر المتخصصة لتدبير إدارات الدولة بجميع مستوياتها، وأسست النواة الصلبة للنخبة التكنوقراطية الفرنسية؛ وقد تم استنساخ هذه التجربة من قبل المغرب وتونس ولو بشكل محتشم مع وجود اختلافات مرتبطة بالبيئة الاجتماعية والسياسية للبلدين. كما ساهمت المدارس والمعاهد الفرنسية العليا ذاتها وبشكل فعال في تكوين النخبة التكنوقراطية المغربية والتونسية على حد سواء، إلى جانب الدور البارز على الخصوص، للمدرسة الوطنية للإدارة في الدول الثلاث.
وأظهرت نتائج البحث في مسارات التنخيب السياسي لِلدُّول الثلاث مدى تنوع وتعدد محددات وعوامل الانتقاء للولوج إلى المواقع السامية للجهاز الإداري والسياسي. فإلى جانب الأسر والعائلات المخزنية التقليدية العريقة التي تعتبر رافدا من روافد النخبة التكنوقراطية بالمغرب، فإن الأسر ذات الرأسمال الاقتصادي هي الأخرى تشكل أصلا اجتماعيا لها. وما يُمَيِّز هذا التنخيب في المغرب كما في تونس وفرنسا؛ هو أن العاصمة الإدارية هي من أهم المدن التي تُزود الأنظمة السياسية بالوزراء التكنوقراط. لكن مع استثناء مغربي، بكون العاصمة العلمية (فاس) تعتبر الأكثر إمدادا للحكومة بالنخب الوزارية. لكن يبقى أن نشير إلى أن عامل الانتماء الجغرافي لا يعدو أن يكون سوى عاملا مكملا لمحددات وعوامل أخرى والمتمثلة في التكوين والمؤهلات التعليمية إلى جانب المقومات الذاتية والكاريزمية.
وتُضْفي هذه المحددات على عملية التنخيب التكنوقراطي في الدول الثلاث صبغةً خاصةً وملامحَ معينة. في فرنسا مثلا، يعرف دوران النخب تسارعا كبيرا. في مقابل ذلك كان للرأسمال الاجتماعي والمعرفي والعلاقات العائلية دورا مهما في دوران النخب وتجديدها على مستوى الأجهزة السياسية والإدارية المغربية والتونسية. وإذا كان غالبية الوزراء في فرنسا لهم مسار مهني يتميز بالخطية؛ فهذا المسار (الخطي) لم يعد يطبع غالبية التكنوقراط، ولكن يمر من قلب القطاع الخاص.
وتعرف المآلات المهنية والوظيفية للتكنوقراط في المغرب تعددا واضحا ولا يمكن فصلها عن بعضها البعض؛ فمرة تكون خطية، ومرة أخرى تكون حلقية. وتكشف هذه المسارات عن أن النظام السياسي المغربي لا يزال يتبع نهج الادماج والاقصاء في عملية التنخيب بالاعتماد على مدى ملاءمة المؤهلات العلمية والمهنية للتكنوقراط مع المناصب المسندة إليهم، ومدى قربهم من دوائر اتخاذ القرار في المستويات العليا للسلطة.
بالنسبة لتونس، فإن الفترة التي تناوَلَتْها دراسةُ العينة من النخب التكنوقراطية تتسم بنوع من عدم الاستقرار ومخاضٍ شديدين أثَّرا على مسار العديد من النخب وكشف على أن الدوائر العليا المسؤولة عن عملية تجديد النخب ودورانها لم تنجح في فرض نخبها التكنوقراطية على مختلف الحكومات المتتالية التي عرفتها البلاد بعد اندلاع الثورة.
وقد تأكد في القسم الثاني أن الاعتماد على الكفاءة والخبرة التقنية للتكنوقراط في تدبير الشأن العام للدول الثلاث كان له الأثر البالغ في الحياة السياسية، إذ تَمَكَّنَت هذه الفئة من جهة، من التحكم في السيرورة القرارية للعديد من الوزارات التي شملت أبرز القطاعاتِ الحيويةِ مثل الداخلية والخارجية والاقتصاد والمالية بالإضافة إلى الأمانة العامة للحكومة؛ ومن جهة أخرى، فقد هَيْمَنَتْ على بلورة وتنفيذ العديد من الإصلاحات الكبرى لهذه الدول، من خلال توفرها على المعرفة والخبرة اللازمة للتعامل مع القضايا الاقتصادية المعقدة.
وخلص الباحث في هذا القسم أيضا إلى أنه مع تنامي دور التكنوقراط في صنع القرارات، وزيادة أهمية المؤسسات الإدارية في إدارة الشأن العام، بدأ دور الأحزاب والبرلمانات معاً بالتراجع في التأثير على الحياة السياسة. وبدأت بذلك المشروعية التمثيلية في التلاشي، وانحسرت قدرة الأحزاب على التأثير في السيرورة القرارية. وأصبح الفاعل الرئيسي في الحياة السياسية هو الزعيم الذي يعتمد على خبرة وفعالية التكنوقراط بدلاً من الأحزاب التي تعتمد على الإيديولوجية السياسية. مما ساعد على تقوية ظاهرة شخصنة السلطة والقرار في الدول المدروسة؛ وحَفَّزَتْ أنواعا جديدة من التحالفات بين الفاعل السياسي والتكنوقراط الذي يتطلَّع عادةً إلى تأسيس مشروعيته التدبيرية الخاصة به والتي تشكل تحديًا للمشروعية التمثيلية؛ ما يعني حدوث تحول وانتقال للسلطة من السياسي إلى التكنوقراطي.
ومن جانب آخر، أدى التغيير في نوعية النخبة التي تلج الحياة السياسية في فرنسا إلى انخفاض في مستوى الاحترافية في الحياة السياسية. إذ إن حجم التغيير الذي مس عالم التشريع والذي يتجه أكثر نحو غلبةِ نُخبةٍ تُفَضِّلُ عالم الاقتصاد والأعمال، عَزَّزَ انفصال البرلمان عن الحكومة، وكَرَّسَ عدمَ إمكانية ربط هذه النخبة للعلاقات السياسية المعهودة مع الدواوين الوزارية والإدارات العليا للدولة. وهذا كله سيغير من قوة وتأثير الفعل السياسي البرلماني في الحياة السياسية الفرنسية كما سيضع المشروعية التمثيلية للبرلمان موضع شك؛ شأنها في ذلك شأن المشروعية التمثيلية للبرلمان المغربي والتونسي. وفي مقابل ذلك تَعَزَّزَ الاعتماد على التكنوقراطية الشعبوية التي تقوض دور الأحزاب السياسية وتُقَلِّلُ الحاجة إلى الآليات الديمقراطية المعهودة. كل ذلك يتسبب في فتورٍ في المشاركة السياسية والحزبية.
هذا، واتضح من خلال هذا البحث أن التكنوقراطية أصبحت ظاهرة لصيقة بالنسق السياسي لدول الحوض المتوسطي المعنية بالدراسة، وأسهمت بشكل واضح في تنامي عدد الموظفين الساميين المحتلين لمواقعَ ساميةٍ في الحكومات المتعاقبة، مما أدى إلى التواجد المستمر لفئة التكنوقراط في مختلف مواقع السلطة لهذه الدول.
ومن المؤكد أن هذا التواجد المستمر لا يساهم في تحديث البنيات السياسية للدولة، باعتبار أنه يعوق مشاركة الأحزاب السياسية فيها ويَحُدُّ من تنافسيتها. بل ويُعزز بروز توجه جديد لدى هذه الدول نحو القيام بدور الدولة التدبيرية التي ترتكز على مبدأ إدارة الاقتصاد والمؤسسات العامة بطرق التدبير العمومي الحديث، وعلى تخفيض الإنفاق الحكومي وتشجيع الاستثمارات الخاصة والدفع نحو الاقتصاد النيوليبرالي. لتصبح بذلك الشركات والمؤسسات المالية الدولية تمتلك نفوذًا كبيرًا في صنع القرارات السياسية والاقتصادية بمعية تكنوقراط هذه الدول، وتفرض مجموعة من الشروط مقابل الدعم المالي والتقني المقدم لها.
خاتمة
في بداية خاتمة هذا البحث، أكّد الباحث أن موضوع النخبة التكنوقراطية في دول البحر الأبيض المتوسط المعنية بالدراسة يُعد موضوعًا مهمًا وحيويًا لفهم سيرورة النخب. وبالرغم من أنها تختلف من حيث الأصول والثقافات والتاريخ، وتتباين في المسارات المهنية والطرق التي تحقق بها السلطة؛ يبدو أن هناك عددًا من الخصائص المشتركة التي تتمتع بها، سِيَّما وأنها المتحكمة في صناعة السياسات العامة وفي مصادر المعلومات الاستراتيجية.إن الإفراط في الاستعانة بالتكنوقراطية كَنَهْجٍ جديدٍ لتدبير الشأن العام يؤدي، لا محالة، إلى تحول وانتقال السلطة من السياسيين إلى التكنوقراطيين الذين يصبحون مُمارِسين للسلطة الحقيقية فعليا. وهذا يمثل تحدّيًا حقيقيًا للديمقراطية والتمثيل السياسي. بل ويمكن أن تؤدي هذه الوضعية إلى زيادة التوترات الاجتماعية والسياسية في الدول المعنية، بما في ذلك الاضطرابات الاقتصادية وتعزيز العنف والتطرف.
بشكل عام، فإذا كان النهج التكنوقراطي لتدبير الشأن العام يمكن أن يكون فعالًا في العديد من المجالات وذا مردودية، إلا أنه وجب الاستعانة به بحذر، مع توفير الإطار القانوني والإداري المناسب لضمان توظيفهم بطريقة تُحَقِّقُ الفائدة العامة وتُجنب الوقوع في الصراعات على المصالح.
ختاما، فإن دراسةً مقارِنةً للنخبة التكنوقراطية للدول الثلاث، تحتاج إلى مزيد من التحليل العميق لجوانب أخرى من الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. إذ من المحتمل أن تشهد دول الحوض المتوسطي المدروسة تزايد الاعتماد على وزراء تكنوقراط، من أجل مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية في المنطقة.