MarocDroit  -  موقع العلوم القانونية
plateforme des décideurs juridiques - Platform of Legal Decision-Makers



سبعون عاما على إيكس ليبان: هل يستطيع المغرب تجاوز إرث الهيمنة الفرنسية؟

     

عادل بعيز
باحث في سلك الدكتوراه
جامعة سيدي محمد بنعبد الله



سبعون عاما على إيكس ليبان: هل يستطيع المغرب تجاوز إرث الهيمنة الفرنسية؟

مرّ أكثر من سبعين عاما منذ توقيع اتفاقيات إيكس ليبان وإعلان سان كلو، وهي المرحلة التي مهّدت لإعلان الاستقلال الرسمي للمغرب في عام 1956، ومع ذلك، ظل السؤال الأساسي قائما: إلى أي حد تحرر المغرب فعليا من إرث الهيمنة الفرنسية، اقتصاديا وثقافيا، بعد الاستقلال الكولونيالي الذي اسماه المثقفين المغاربة بالاستقلال الظاهري والشكلي أو الاحتقلال؟ فبينما تحقق الاستقلال السياسي على الورق استمرت أدوات النفوذ الفرنسي في الاقتصاد والثقافة والإدارة والتشريع، فأصبحت الشركات الفرنسية المسيطرة على الموارد الطبيعية الكبرى مثل الفوسفاط والمعادن النفيسة، والسيطرة على البنية التحتية الحيوية.. عناصر محددة شكلت التبعية الاقتصادية المبطنة لعدة عقود.

وفي المجال الثقافي، ظل الخيار الفرانكفوني هو المفتاح للولوج إلى الإدارة والتعليم والنخبة الحاكمة، بما يعزز النفوذ الفرنسي بشكل غير مباشر على مسارات التنمية الوطنية، ويطرح تساؤلات حول الهوية الثقافية والخيارات المستقبلية للمغرب في التعليم والإدارة والبحث العلمي.

اليوم، وبعد زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للمغرب في 2024 ودعوته جلالة الملك لزيارة فرنسا وفي سياق التحضير أيضا لمنتدى البرلماني الفرنسي المغربي يناير 2026 من أجل إعداد معاهدة جديدة بين البلدين، بديلة عن اعلان سان كلو 2مارس 1956، وكذلك طرح فكرة إطار استراتيجي جديد للشراكة المغربية الفرنسية.

في ظل هذه التطورات يبرز السؤال الكبير: هل سيسعى المغرب إلى تجاوز الهيمنة الاقتصادية والفرانكفونية التقليدية، أم سيستمر في الانخراط في نمط من العلاقات القائمة على النفوذ التاريخي للجانب الفرنسي؟ وهل يمكن للمغرب أن يوازن بين تنويع شركائه الاقتصاديين وصياغة سياسته اقتصادية وثقافية منفتحة، وبين منطق الاحتكار والتبعية التي استمرت لعقود؟

هذه الأسئلة تشكل المحور الأساسي لتحليل الإرث التاريخي للاتفاقيات السابقة، واستمرارية الهيمنة الفرنسية في الاقتصاد والثقافة، وصولا إلى ملامح الشراكة الاستراتيجية الجديدة، وفرص المغرب في إعادة بناء علاقاته على أسس متوازنة ومستقلة، بما يحقق مصالحه الوطنية والسيادة الحقيقية.

أولا: الاستقلال السياسي والهيمنة الاقتصادية والثقافية الفرنسية
إن دراسة العلاقة بين المغرب وفرنسا تتطلب استحضار الخلفية التاريخية للنفوذ الفرنسي الذي بدأ مع فرض الحماية في بداية القرن العشرين، ثم مع تحولات ما قبل الاستقلال، عبر مفاوضات إيكس ليبان وإعلان سان كلو وصولا إلى الإعلان المشترك سنة 1956. هذه المراحل التاريخية لم تُنهي النفوذ الفرنسي على المغرب، بل أعادت صياغته في صورة تبعية مقننة. رغم تحقيق المغرب استقلالا شكليا على الصعيد السياسي، ولكنه ظل مقيدا بعلاقات اقتصادية وثقافية موروثة، تضمن استمرار مصالح فرنسا في القطاعات الحيوية للبلاد، بما في ذلك الثروات الطبيعية والبنية التحتية والإطار التعليمي والقانوني.
من الناحية الاقتصادية استمر النفوذ الفرنسي عبر هيمنة شبه مطلقة على الاستثمار في القطاعات الأساسية. فحتى بعد الاستقلال، كانت الشركات الفرنسية تحتكر استغلال الموارد الطبيعية الحيوية، خاصة الفوسفاط والمعادن النفيسة، بما قلل قدرة الدولة على توجيه استثماراتها بحرية نحو التنمية المحلية. كما أن الهيمنة الفرنسية امتدت إلى البنية التحتية، بما في ذلك الموانئ، السكك الحديدية، وشبكات النقل، وهو ما منح فرنسا أفضلية استراتيجية في التجارة واللوجستيات الإقليمية، وأبقى المغرب على علاقة تبعية مالية جزئية، خاصة من خلال ربط الاقتصاد المغربي بالفرنك الفرنسي في بداية الاستقلال، وشروط التمويل المرتبطة بالشركات الفرنسية. هذا الواقع الاقتصادي أعاد إنتاج حالة من عدم المساواة في القرارات الاقتصادية الكبرى، وأدى إلى بقاء جزء كبير من القطاعات الحيوية المغربية تحت تأثير مباشر أو غير مباشر للمصالح الفرنسية، رغم استقلال الدولة.
أما الهيمنة الثقافية، فقد تجسدت في اعتماد اللغة الفرنسية كلغة أساسية في الإدارة والتعليم العالي، وهو ما أوجد حاجزا عمليا وثقافيا بين المواطنين وبين فرص الوصول إلى المناصب العليا أو التكوين العلمي المتقدم. وبالموازاة استمرت الأطر القانونية الفرنسية وتطبيقها في المغرب، بما يعزز استمرارية منظومة معرفية وإدارية متوافقة مع المصالح الفرنسية. إن هذا المزيج من النفوذ الاقتصادي والثقافي المدعوم بالتاريخ، أسهم في تكوين نخبة سياسية واقتصادية مغربية منفتحة بل متشبعة بالثقافة الفرنسية، متكيفة مع آلياتها ومصالحها، مما ضمن استمرار الهيمنة دون تدخل مباشر .
 كان هذا التداخل بين السيادة الشكلية والهيمنة المبطنة يمثل خاصية مركزية للعلاقة المغربية الفرنسية بعد الاستقلال، حيث لم يكن المغرب مجرد مستهلك للمنتجات الفرنسية أو تابعا لها اقتصاديا، بل كان سوقا استراتيجيا يخضع لتوازنات قوة محددة تاريخيا. وقد مكن هذا الوضع فرنسا من الحفاظ على نفوذ طويل الأمد في إدارة الموارد، الاستثمار، والتعليم، والثقافة، مع ما يترتب على ذلك من تأثير عميق في مسار التنمية الوطنية والهوية الثقافية باختصار كانت فرنسا تنظر الى المغرب كحديقة خلفية.

ثانيا: ملامح الشراكة الاستراتيجية الجديدة 

في أعقاب سبعة عقود من العلاقات التي اتسمت بالهيمنة المبطنة، أظهرت الدعوة الفرنسية لوضع إطار استراتيجي جديد للعلاقات المغربية الفرنسية، ليس فقط إدراكا ضمنيا لطبيعة الاختلالات القديمة، ولحاجة الطرفين إلى تحديث العلاقة على أسس أكثر عدالة وتوازنا. بل أيضا لأن المغرب باث لاعبا مركزيا إقليميا مؤثرا، في شمال إفريقيا والساحل، بينما تراجعت القدرات الفرنسية على فرض النفوذ بنفس الطريقة التقليدية. هذه المعطيات التاريخية والجيوسياسية تجعل من الإطار الاستراتيجي الجديد فرصة لإعادة تشكيل العلاقة بحيث تتحول من تبعية مقننة إلى شراكة قائمة على المساواة في السيادة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، والتعاون المتبادل في القطاعات الاقتصادية والثقافية والتكنولوجية الحديثة.
الملامح الجوهرية لهذه الشراكة الاستراتيجية الجديدة تشير إلى رغبة صريحة في تفكيك عناصر الهيمنة التقليدية، سواء الاقتصادية أو الثقافية، وإعادة ضبط التوازن بما يضمن للمغرب السيادة الكاملة على موارده وقراراته الاستراتيجية. من الناحية الاقتصادية يتوقع أن يتركز التوجه على إنهاء أي امتيازات تاريخية كانت تمنح الشركات الفرنسية تفوقا مطلقا في مجالات استخراج المعادن الحيوية، واستغلال البنية التحتية الكبرى والهيمنة على الأسواق الاستهلاكية، ويعني ذلك إعادة صياغة القوانين والمعايير الخاصة بالعقود والمناقصات المشتركة بحيث تُطبق معايير المنافسة الدولية النزيهة، ما يمنح المغرب حرية أكبر في توجيه استثماراته نحو تطوير الصناعات المحلية، والنقل، والطاقة المتجددة، والابتكار التكنولوجي، بدلا من الاقتصار على القطاعات التقليدية التي كانت تضمن أفضلية مطلقة للجانب الفرنسي.
وفيما يخص البعد الثقافي، سيسعى المغرب في الاتفاقية الجديدة إلى تجاوز الهيمنة الفرانكفونية التي ميزت فترة ما بعد الاستقلال. فلم تعد العلاقة مع اللغة الفرنسية مجرد خيار ثقافي أو أداة تعليمية، بل أصبحت مسألة سيادة وطنية، حيث ينبغي إعادة التموضع بحيث تظل الفرنسية وسيلة تواصل دولية، دون أن تكون اللغة الحاكمة للإدارة أو المفتاح الوحيد للنجاح الأكاديمي والمهني. ويأتي ذلك في سياق تعزيز التعددية اللغوية، عبر منح اللغات الوطنية مكانة فعلية في الإدارة والتعليم، وتبني لغات عالمية إضافية كلغات أساسية في العلوم والتجارة، ما يعزز استقلالية المغرب ويقلل من الاعتماد الكلي على النماذج الفرنسية في التعليم والبرامج القانونية. علاوة على ذلك يُتوقع أن تتحول العلاقة الثقافية إلى تبادل متكافئ، يشمل دعم البحث العلمي المستقل، وتطوير الجامعات المغربية، وتشجيع برامج تدريب مشتركة تعزز الابتكار والمعرفة دون استيراد أحادي الجانب للبرامج الفرنسية، وهو ما يفتح آفاقا لتقوية الهوية الثقافية والسياسية المغربية.
مجمل القول يطرح هذا التحول الاستراتيجي في العلاقة المغربية الفرنسية، تساؤلات حول مستقبل الاحتكار الاقتصادي الفرنسي والخيارات الثقافية. فمن المحتمل أن يظل المغرب منفتحا على الاستثمارات الفرنسية، لكنه لن يقبل بأي امتيازات تاريخية أو احتكارية، بل سيركز على شراكات قائمة على مصلحة متبادلة وتنافس عادل. كما أنه من المرجح أن يقل الاعتماد على الخيار الفرانكفوني التقليدي في مؤسسات الدولة، مع تعزيز الهوية الوطنية والتعددية اللغوية، مما يعكس رغبة المغرب في تجاوز إرث الهيمنة الموروثة، واستثمار الموارد الثقافية والاقتصادية لصالح استراتيجية التنمية المستقلة والابتكار المحلي.
وفي هذا السياق، يمثل الإطار الاستراتيجي الجديد فرصة فريدة لإعادة تعريف العلاقة بين البلدين بما يتوافق مع التحولات الجيوسياسية والاقتصادية الراهنة، ويعكس إدراكا فرنسيا بأن نفوذها التقليدي لم يعد مستداما، وأن استمرار السيطرة السابقة لن يكون قابلا للحياة في ظل صعود المغرب كقوة إقليمية محورية. إن نجاح هذه الشراكة يعتمد على قدرة الطرفين على تحويل المبادئ المعلنة إلى واقع عملي ملموس، حيث يحقق المغرب السيادة الاقتصادية والثقافية الفعلية، بينما تكتفي فرنسا بالدخول في علاقة متساوية ومربحة للطرفين، بعيدا عن آليات الهيمنة التقليدية.
و يمكن النظر إلى هذه الشراكة كفرصة لتعميق التعاون في مجالات استراتيجية حديثة، بما في ذلك الطاقات المتجددة، الابتكار الرقمي، البحث العلمي المشترك، والنقل الذكي. كما تتيح الفرصة لإعادة النظر في سياسات التبادل التجاري والاستثماري، بحيث يصبح السوق المغربي منصة لتطوير الصناعات المحلية وتصدير المعرفة والخدمات، وليس مجرد سوق تقليدي للمنتجات والخدمات الفرنسية. ومن هنا، يظهر بوضوح أن التوازن الجديد لن يكون مجرد تعديل شكلي، بل إعادة هندسة حقيقية للعلاقة الثنائية، تعكس تطورات المغرب الداخلية والدور الإقليمي المتزايد، وتضع حدا للهيمنة الاقتصادية والثقافية الموروثة منذ عقود.

إن هذه الرؤية الشاملة للشراكة الاستراتيجية الجديدة، التي تربط الماضي بالحاضر والمستقبل، توفر إطارًا لفهم كيف يمكن للمغرب أن يحول إرث الهيمنة الفرنسية إلى فرصة لتعزيز السيادة الوطنية والتطور الاقتصادي والثقافي، مع بناء علاقة متوازنة مع فرنسا قائمة على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة، ما يمثل منعطفا تاريخيا في العلاقات المغربية-الفرنسية نحو القرن الواحد والعشرين.




السبت 6 ديسمبر 2025
MarocDroit منصة مغرب القانون "الأصلية"

تعليق جديد
Twitter