أسفل الصفحة نسخة للتحميل، متضمنة للهوامش والإحالات
تعد السياسة الصحية، ركيزة أساسية في تكوين الدولة الاجتماعية، فهذه الأخيرة تقتضي بالأساس إيلاء أولوية خاصة للقطاعات الاجتماعية، كالصحة والتعليم، اللذان يتصدران اهتمام الشأن العام، ويحظيان بتتبع خاص من قبل شريحة عريضة من المجتمع، لكن مع ذلك ظلت هذه السياسات تكتنفها العديد من الإشكالات، والتعثرات التي تعيق التنزيل الفعال لها، إلى حين أن اجتاح كوفيد 19 العالم، وغير أولويات الدول وأربك المخططات، إذ ساهمت الجائحة بشكل مباشر في إعادة الاهتمام بالسياسة الصحية، وجعل معطى الإصلاح الجذري حاضرا، من خلال إعادة النظر في الترسانة القانونية المؤطرة للمنظومة الصحية، وكذلك تكريس حكامة القطاع، سواء على مستوى التدبير المالي أو البشري.
تعد السياسة الصحية، ركيزة أساسية في تكوين الدولة الاجتماعية، فهذه الأخيرة تقتضي بالأساس إيلاء أولوية خاصة للقطاعات الاجتماعية، كالصحة والتعليم، اللذان يتصدران اهتمام الشأن العام، ويحظيان بتتبع خاص من قبل شريحة عريضة من المجتمع، لكن مع ذلك ظلت هذه السياسات تكتنفها العديد من الإشكالات، والتعثرات التي تعيق التنزيل الفعال لها، إلى حين أن اجتاح كوفيد 19 العالم، وغير أولويات الدول وأربك المخططات، إذ ساهمت الجائحة بشكل مباشر في إعادة الاهتمام بالسياسة الصحية، وجعل معطى الإصلاح الجذري حاضرا، من خلال إعادة النظر في الترسانة القانونية المؤطرة للمنظومة الصحية، وكذلك تكريس حكامة القطاع، سواء على مستوى التدبير المالي أو البشري.
كما لا يمكن الاختلاف في أن أغلب الإجراءات المتخذة بغاية إعادة النهوض بهذا القطاع، جُلها اكتسى طبيعة استعجالية بسبب التدابير الاحترازية التي فرضتها الجائحة، فبعد أن كان يُنظر للقطاعات الاجتماعية، على أنها مجرد قطاعات مُستهلكة للموارد المالية وغير منتجة، مقارنة بالقطاعات الأخرى كالسياحة والصناعة أي سيادة ما هو اقتصادي استثماري على ما هو اجتماعي، وصارت حينها تشكل السياسات الاجتماعية وعلى رأسها السياسة الصحية أفقا للتفكير، وطرحت أسئلة جذرية وعميقة: أي إصلاح صحي نريد؟ كيف ننزل سياسات صحية فعالة قادرة على مواجهة الحالات الصحية الطارئة؟ خاصة أن هشاشة القطاع الصحي ليست وليدة الجائحة فحسب، لكنها متجذرة بفعل عوامل عديدة: استراتيجيات متنوعة تفتقد للالتقائية والتتبع والتقييم، التوزيع غير عادل للموارد البشرية، عدم كفاية الموارد المالية، وافتقاد الحكامة في التدبير والتنزيل...، وكل هذه التحديات تعمقت حدتها بسبب مخلفات جائحة كوفيد 19، لكنها في نفس الوقت ساهمت في إعادة الاعتبار لهذا القطاع وإعطائه المكانة التي يُفترض أن يحظى بها، من ثم كانت بداية تجديد الترسانة القانونية المؤطرة للمنظومة الصحية، ورفعت حينها الدولة شعار "الدولة الاجتماعية" مُعلنة النهوض بالقطاعات الاجتماعية وإيلائها الأولوية.
رغم أن الجائحة شكلت عامل مفصلي، في تحول السياسة الصحية، غير أنه لا يمكن التغاضي عن انعكاسات مختلف الاستراتيجيات والإصلاحات السابقة واستحضارها، بهدف التحليل واستنباط مختلف عوامل التأثير، بغاية تكوين صورة واضحة عن أثر الإصلاح، من خلال العودة للتطور التاريخي الذي يُعطي رؤية موحدة عن مُختلف التحديات التي تواجه المجال الصحي، وكذلك لفهم أكثر لمظاهر القصور والتعثر.
المطلب الأول: السياسة الصحية من الحماية إلى الاستقلال: الملامح الأولى للسياسة الصحية
مرت السياسة الصحية بالعديد من المحطات التاريخية، التي لها دور بالغ في التأثير على تبلور المنظومة الصحية، كما كانت لكل فترة خصوصياتها على مستوى المتدخلين ومدى اهتمامهم ورؤيتهم لهذا القطاع، وتمثلت أغلب الإجراءات المتخذة في فترتي الحماية وما قبلها، في محاربة الأوبئة بهدف الحفاظ على الاستقرار الصحي، وتكثيف إجراءات الحجر الصحي على المرضى (أولا)، أما فترة ما بعد الاستقلال فكانت الفترة الحقيقية لإنشاء سياسة صحية واضحة المعالم (ثانيا)، لذا فلكل مرحلة مميزاتها وسلبياتها في تدبير الوضع الصحي، ومن الضروري تناولها بالتحليل لفهم أبعادها المؤثرة، وتمييز الإشكالات الظرفية المرتبطة بمراحل حاسمة في تشكيل السياسة الصحية، وبين تلك التي تعد إشكالات بنيوية.
أولا: السياسة الصحية في فترة الحماية الفرنسية
اتسم الوضع الصحي بالمغرب قبل بداية فترة الحماية، بانتشار الأوبئة والفيروسات، بسبب التأثيرات التي خلفها الجفاف وما نتج عنه من انتشار واسع للمجاعة، ليؤدي ذلك لهجرة مكثفة نحو المدن، مما ساهم في تردي الوضع الصحي للسكان وانتشار الامراض المعدية، أما الوسائل المستعملة للتصدي لهذه الأوبئة كانت جد تقليدية كالتداوي بالأعشاب، أو اللجوء للحجر الصحي كأسلوب للوقاية من انتشار الأمراض. وفيما يتعلق بتدخلات المخزن في هذه الفترة فوُصفت بالمتواضعة، نظرا لقلة الأطر الطبية والتي كانت متاحة فقط لفئات اجتماعية دون أخرى. وكان الملاذ المتاح حينها هو تدخل الأطر الأجنبية الطبية بحجة المساهمة في تحسين الظروف الصحية، لأن الدول الأجنبية كانت متطورة في المجال الصحي، لتعلن بذلك بداية اختراق المجال الصحي لصالح القوى الاستعمارية.
وما يميز هذه الفترة، هو تأسيس "خونطة القناصل" التي ستتبلور فيما بعد وستشكل المجلس الصحي الدولي، وترجع جذور إنشاء هذا الأخير، للقنصلية المعتمدة سابقا في طنجة متكونا من أعضائها إلى سنة 1792 ، وتجلى دور المجلس في اتخاذ التدابير الاحترازية لمنع انتشار الأوبئة، كتشديد المراقبة على الموانئ، وفرض حجر صحي على السفن القادمة من الدول الموبوءة، بغاية توفير وضع صحي ملاءم للأجانب، وضمان استقرارهم، وكان دور المجلس عند إحداثه استشاريا فقط، لكن بعد منح المولى عبد الرحمان تفويضا رسميا للمجلس سنة 1840 ، أصبح يتخذ إجراءات تعسفية، إذ "لم يكد يطل النصف الثاني من القرن التاسع عشر حتى استفحل أمر المجلس الصحي، وتحول إلى سلطة مستبدة تتحدى المخزن، وتفرض تنظيمات صحية جائرة على السفن العائدة بالحجاج من الديار المقدسة، ولم يعد نشاطه ينحصر في الجانب البحري، وإنما امتد إلى الجانب القاري" .
تُفسر هيمنة سلط المجلس الصحي بكونه تابعا للهيئات الدبلوماسية، التي كانت تستغل تدخلها في المجال الصحي، لتفرض سلطتها مستخدمة في ذلك ذريعة الحفاظ على الاستقرار الصحي، وكان هذا العامل الأساسي الذي ساهم في ازدياد حدة التوترات بين المخزن والمجلس الصحي، خاصة أنه كان ينوي تمديد دائرة نفوده، لكن بعد تزايد الإشكالات التي يثيرها المجلس، تمت تصفية هذا الأخير، للتكاليف المالية التي يستهلكها من قبل المخزن، لتنتهي تجربة المجلس الصحي، لكن في المقابل لم تنتهي الإشكالات التي خلفها.
وفي فترة الحماية الفرنسية، كانت غاية مجمل التدابير الصحية المُتخذة، تسعى لتشجيع استقرار واستثمار الأجانب، مما اقتضى أولا توفير ظروف صحية ملائمة، لكن لا يجب اغفال مرحلة ما قبل بداية الحماية حيث كان لها دور بالغ في التمهيد لتدخل الاستعمار الفرنسي في المجال الصحي، لتبتدئ سلسلة من المبادرات التي كان ظاهرها "تحسين المجال الصحي" لكن تخفي في ثناياها استغلال واختراق المنظومة الصحية لمصالح خاصة بالسلطات الاستعمارية، وأهم ما كُتب في الاختراق الأجنبي للمنظومة الصحية المغربية "رحلة مراقب صحي إلى المغرب" "voyage d’un hygiéniste au maroc" سنة 1911 "لإميل كيرن emile kern "، الذي رصد من خلال رحلته الوضع الصحي والاجتماعي بالمغرب، مُستعرضا الظروف المعيشية والسكن والنظافة، والبنيات التحتية للمستشفيات، والأوبئة والأمراض المنتشرة، وكذلك مكانة المخزن وتأثيره، بالرغم من أن الدراسة التي قام بها "إميل كيرن"، يحيط بها الغموض حول أهدافها وغاياتها، إلا أن تعبيره بالإشادة بالتدخل الفرنسي وأهميته في تحسين الوضع الصحي بالمغرب، أضفى نوعا من حُسن النية على تدخل الاستعمار الفرنسي في المجال الصحي الذي كان غرضه توفير أجواء ملائمة لاستغلال خيرات البلاد.
وفي نفس السياق انكبت مختلف دراسات الأطباء الفرنسيين على تجسيد صورة سلبية في تشخيصها للوضع الصحي، كالطبيب "لينارس linars "، والطبيبة "دينلانوي delanoe" الذين أشاروا في مختلف كتابتهم للصورة السوداوية عن الوضع الصحي بالمغرب، واعتبرت هذه الدراسات مبالغ فيها بشكل كبير، كجهل سكان المغرب بأبسط قواعد النظافة والصحة، وانتشار الأوبئة، وغياب تدخل المخزن، وعدم توفر الأمن الذي يؤثر على الحالة الاجتماعية والصحية للسكان، واعتبار المغرب مرتعا للأمراض والأوبئة ، وإلى جانب هذه الكتابات التي تبرر توسع السلطات الاستعمارية في الميدان الصحي، لا تتوفر معطيات دقيقة حول عدد الإصابات والوفيات الناتجة عن الأوبئة التي كانت سائدة في تلك الفترة، كما أن أغلب المعطيات المتوفرة متباينة فيما بينها ولا تستقر في نسب محددة.
عموما، قادت فرنسا في فترة الحماية حملات التلقيح ورعاية المرضى، لتتزامن هذه الفترة مع أزمة جفاف حادة، أسفرت عن هجرة سكان البوادي نحو المدن مما نتج عنه خلل في التوازن الديموغرافي، مع انتشار المجاعة وتفاقم الأوبئة، ومجمل التدابير الصحية المُتخذة تمثلت في إنشاء مكاتب للصحة وتنظيم المحلات المضرة بالصحة التي لا تتوفر على شروط السلامة، وتكليف الباشوات والقياد باتخاذ الوسائل اللازمة للوقاية من الأمراض.
كما تمثلت الإجراءات المتخذة بغاية تحسين الوضع الصحي في حملات التلقيح بهدف محاربة الأوبئة، ووُجهت بالخصوص لفئة الشباب نظرا لتوفرهم على القدرة البدنية، بغاية استغلالهم لمآرب استعمارية، وفي نفس الوقت تهييئ مناخ صحي للجنود الفرنسيين، وتجنب العدوى من المصابين.
ولعل أبلغ ما قيل للتعبير عن استغلال المجال الصحي لأهداف استعمارية هي قولة شهيرة لـ"الجنرال ليوطي" "طبيب واحد يساوي فيلق"، معبرا عن أهمية التدخل الاستعماري في الميدان الصحي، ودوره في استغلال خيرات البلاد، مما يوضح أن هذا المجال ليس مجالا اجتماعيا فحسب، بل كذلك ذو بعد سيادي، وأن انتهاكه من طرف جهات أخرى، سيطور السياسة الصحية لكن على حساب سيادة البلاد.
ثانيا: فترة الاستقلال وبداية بروز ملامح المنظومة الصحية الوطنية
انخرط المغرب بعد الاستقلال، في وضع أسس المنظومة الصحية الوطنية، عبر انعقاد المؤتمر الوطني الأول للصحة سنة 1959، والذي من خلاله بُسط الإطار العام الذي ستنبني عليه المنظومة الصحية الوطنية، وتم وضع مبدأين أساسيين تحت شعار: "المنظومة الصحية للأمة هي مسؤولية الدولة" و "وزارة الصحة العامة مسؤولة عن تصميمها وتنفيذها"، علاوة على توضيح المعالم والمبادئ التي ترتكز عليها هذه المنظومة، وأعطيت الأولوية لتنظيم عرض العلاجات ومحاربة الأوبئة، وتوسيع العلاجات الأساسية، ووضع البنية التحتية الصحية.
أسس المغرب أولى كلياته الطبية ومدارسه المهنية للتكوين في مجالات التمريض مع صياغة الاستراتيجيات الأولى للتغطية الصحية، وبعد أن منح الميثاق الجماعي لسنة 1959 مسؤولية تكاليف العلاج للجماعات المحلية، لتتقلص هذه المسؤولية مع ميثاق 1976 على النظافة والتطهير، ثم إحداث لجن استشارية للتشكيلات الاستشفائية التابعة لوزارة الصحة العمومية، على مستوى كل عمالة وإقليم، وترفع لهذه اللجن كل ما له علاقة بتدبير شؤون أو تسيير مختلف التشكيلات الاستشفائية الداخلة في دائرة نفوذها، وإبداء أراء وتوصيات بخصوص تسيير التشكيلات الاستشفائية.
شهدت هذه المرحلة تبني عدة مخططات، متقاربة زمنيا، استهدفت النهوض بالاقتصاد الوطني، وتحقيق التنمية الاجتماعية، ليشكل عامل التحول انضمام المغرب لإعلان الما-آتا الصادر عن المؤتمر الدولي للرعاية الصحية الأولية سنة 1978، حيث أوكد على أهمية الصحة في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وضرورة انخراط الحكومات في اتخاذ التدابير التي من شأنها تعزيز الصحة، الذي تزامن مع اعتماد خطة التنمية 1981-1985، مما يفسر حضور المسألة الصحية في الخطط التنموية المعتمدة.
توالت الإصلاحات لتتوج بإعادة تنظيم وزارة الصحة العمومية سنة 1994، لتقوم بإعداد وتنفيذ السياسة الحكومية المتعلقة بصحة المواطنين، وتنفيذ السياسة الدوائية والمنتجات الصيدلية، والعمل بتنسيق مع القطاعات الوزارية الأخرى، على الحفاظ على سلامة السكان البدنية والعقلية والاجتماعية.
لكن ستتزامن هذه الفترة مع تبني سياسة التقويم الهيكلي (1983-1992)، فبعد أن شهدت الفترة الممتدة من 1978 إلى 1982 تدهورا كبيرا في التوازنات الماكرو اقتصادية، بلغ معها التضخم نسبة 10.1، وعجز في الميزانية قدر ب 11,3 ، فطيلة فترة التقويم الهيكلي كان المغرب رهينة لإملاءات صندوق النقد الدولي، الذي أوصى بضرورة تحسين تنافسية الاقتصاد الوطني، وجعل القطاع الخاص يتصدر المشهد الاقتصادي، مما أدى بالمغرب إلى نهج سياسة مالية ترتكز أكثر على الحفاظ على التوازنات الماكرو اقتصادية، وفرض سياسة التقشف، وانعكست هذه التدابير على بنية المالية العمومية حيث سُجل تضخم على مستوى ميزانية التسيير، مقابل تقليص ميزانية الاستثمار وخفض نفقات المجالات الاجتماعية والمناصب المالية المخصصة لها، مما خلف تدهورا كبيرا على مستوى قطاعي التعليم والصحة.
يعد برنامج التقويم الهيكلي، مثالا واقعيا عن مدى تأثير التدهور الاقتصادي والمالي على السياسات الاجتماعية، لكونه خلف هشاشة اقتصادية هيكلية، جعلت المغرب مرغما على اتباع مجموعة من التدابير بهدف خلق اقتصاد أكثر تماسكا وإنتاجية، وأدى بها إلى إيلاء أهمية كبرى للقطاعات التي تعتبر "إنتاجية" وهي الفلاحة والصناعة، والسياحة، من أجل استقطاب الاستثمارات الأجنبية، لتكون شريكا في تحقيق التنمية الاقتصادية، بغاية خلق فرص شغل، والحد من نسب البطالة المرتفعة.
يجب التأكيد على أن نهج آلية المخططات التنموية كانت في حد ذاتها استمرارا لنفس فلسفة التقويم الهيكلي، إذ ارتكزت جل المخططات على الجانب الاقتصادي بشكل أساسي وتوفير امتيازات للقطاع الخاص على حساب السياسات الاجتماعية، كإقرار تحفيزات ضريبية، مما أدى لتفويت موارد ضريبية مهمة عن الدولة، دون خلق نمو اقتصادي مستدام ومنتج. وبالرغم من أن مختلف المخططات نصت على ضرورة النهوض بالعالم القروي، وتحقيق عدالة مجالية في الولوج للخدمات الاجتماعية والصحية إلا أن تنزيلها تم بوتيرة بطيئة وغير متناسقة، وأفضت إلى نتائج متواضعة.
عموما، فإن النهوض بالمسألة الصحية في فترة التسعينات ارتكزت على توسيع العلاجات، ومحاربة الأوبئة، وتشييد البنى التحتية الصحية، كما وُجه الاهتمام بصحة الأم والطفل، ليكون التحول مع بداية سنة 2000، عبر تبني مخططات متعددة السنوات، التي تشرف عليها وزارة الصحة، إذ يتضمن كل مخطط أهداف محددة تشرف وزارة الصحة على تنزيلها مع مختلف شركائهاـ والتي تتباين حسب رؤية مدبري القطاع وحسب أولوياته.
-مخطط الصحة 2000-2004: استهدف هذا المخطط، تجاوز النقص الحاصل على مستوى الخدمات الاجتماعية في المناطق القروية، وتعزيز البرامج الصحية والوقائية ومكافحة الأمراض، وأولى أهمية خاصة لصحة الأم والطفل، بغاية تقليص نسبة الوفيات، وتوسيع التغطية الصحة وتجويد السياسة الدوائية، وحقق المخطط بعض المكاسب خاصة على مستوى تقليص الوفيات وتوسيع التغطية الصحية إلا أن العائق تمثل في ضعف التنسيق بين الفاعلين، ووجود إشكالات ساهمت في الحد من فعالية هذه الاستراتيجية كضعف الالتقائية الجهات المتداخلة.
الاستراتيجية القطاعية 2008-2012: لم تختلف كثيرا هذه الاستراتيجية عن سابقاتها، وتضمنت تدابير من قبيل تحسين المنظومة الصحية الوطنية، وتطوير اليقظة الصحية، لكن سُجلت ملاحظات بخصوص هذه الاستراتيجية التي تبنتها وزارة الصحة، إذ أن هذه الأخيرة "لم تكن تتوفر على حصيلة شاملة لمنجزاتها حيث أغلب ما أعلنت الالتزام به كان في طور الإنجاز"، ومن بين الأهداف الرئيسية التي تم وضعها تتجلى في تقليص وفيات الأمهات إلى حدود 50 حالة في كل 100ألف ولادة حية في أفق سنة 2012، وقد اتخذت الوزارة عدة إجراءات بغرض تحقيق هذا الهدف، إلا أنه "حسب نتائج البحث الوطني الديموغرافي 2009-2010، المنجز من طرف المندوبية السامية للتخطيط، الذي حدد أن نسبة الوفيات لا تزال مرتفعة، بلغت 132 حالة وفاة لكل 100 ألف ولادة حية سنة 2009،كما أن هذه النسبة التي تم بلوغها لا تختلف عن ما سُجل في السنوات السابقة" ، مما يوضح أن المخطط كان ذو مردودية متواضعة، مقارنة مع الأهداف المتوقعة.
رغم النتائج المحققة، على مستوى السياسة الصحية في تشييد البنية التحتية، وتوسيع التغطية الصحية، وكذلك وجود تقدم جزئي فيما يتعلق ببعض البرامج، لكن هذا لا يلغي الإشكالات التي كانت تبرز من حين لآخر، وتحد من نجاعة المخططات الصحية، وهي مرتبطة بعاملين أساسيين وتبقى مطروحة كمعيق لتنزيل السياسات الاجتماعية والصحية خاصة، العامل الأول يتجلى في التدبير القطاعي المنغلق الذي يؤدي لضعف التنسيق، مما يحد من فعالية الاستراتيجيات المعتمدة، أما العامل الثاني فيتعلق بالموارد البشرية، التي تشهد ضعف التوزيع العدل لها، وتم التذكير بذلك في مختلف السياقات الوطنية، كتقارير هيئات الحكامة والخطب الملكية.
المطلب الثاني: ما بعد دستور 2011 وحضور المسألة الصحية
بعد صدور دستور 2011، الذي انبثق من سياق اجتماعي محض، أكد في فصله الأول طابع الدولة الاجتماعي، مما اقتضى أن تولي الدولة للسياسات الاجتماعية أهمية كبرى بما يتلاءم مع طبيعة النظام السياسي المغربي، وتم التنصيص في الفصل 31 على تيسير أسباب العلاج والعناية الصحية، وتدبير المرافق العمومية على أساس الحكامة الجيدة، ومن هذا المنطلق اتخذت المسألة الصحية أهمية خاصة في الأجندات الحكومية، ووعيا بأهمية البعد الاجتماعي الذي وسم هذه المرحلة، تم تبني مجموعة من الإصلاحات والمخططات التي تهم المجال الصحي، بغاية تنزيل خطط استراتيجية، وتوقيع اتفاقيات في إطار التعاون مع منظمة الصحة العالمية، بهدف إرساء منظومة صحية وطنية متماسكة.
أولا: توجهات السياسة الصحية من 2012 إلى 2021
يمكن تقسيم هذه المرحلة، إلى استراتيجيتين، الأولى والممتدة من 2012 إلى 2016، ثم الثانية 2017 إلى 2021، ولكل مرحلة مميزاتها وتعثراتها، التي سيتم تناولها بالتحليل.
أ- الاستراتيجية القطاعية للصحة 2012-2016:
جاءت هذه الاستراتيجية مشمولة بمجموعة من التحولات لتتلاءم مع مقتضيات الدستور، الذي نص على ضرورة تيسير أسباب العلاج والعناية الصحية، وارتكزت على مقاربتين أساسيتين، الأولى مبنية على حقوق الانسان، والثانية تقوم على الديموقراطية الصحية، بالإضافة إلى المقاربة المنظوماتية، وتقوم على تحسين الولوج للعلاجات وتنظيم الخدمات، ودعم صحة الام والطفل، والساكنة ذات الاحتياجات الخاصة، وكذلك تعزيز المراقبة الوبائية تحسين الحكامة بقطاع الصحة.
لكن الإشكال الرئيسي الذي ظل مطروحا في مختلف استراتيجيات، يتجلى في ضعف الانفاق العمومي في المجال الصحي إذ لم يتجاوز نسبته على مستوى الناتج الداخلي الإجمالي %1,7 حسب مضمون الاستراتيجية، مما أثر على توظيف مهنيي الصحة، ونتج عنه نقص حاد في الموارد البشرية وصف بالحرج، بالإضافة إلى غياب توزيع عادل لها، الذي أدى لانخفاض جودة الخدمات الصحية.
كحصيلة لأهم إنجازات قطاع الصحة في هذه الفترة، وارتباطا بتعزيز العرض الصحي، فقد استهدفت تشغيل مؤسسات صحية، وتحسين التأطير الطبي، وإنجاز حملات طبية، بالإضافة إلى تحسن على مستوى مؤشرات الوفيات وأمد الحياة عند الولادة، لكن رغم التطور المحقق، رصد تقرير للمجلس الاقتصادي والبيئي والاجتماعي لسنة 2014، تحديات مرتبطة بحكامة المنظومة الصحية، كوجود تفاوتات بين الجنسين في الولوج للأدوية، انخفاض في ميزانية وزارة الصحة التي تمثل سوى 4,1% من نفقات الميزانية العامة، في المقابل تتحمل الأسر نسبة 53,6% من النفقات على الصحة، ناهيك عن غياب التوافق والانسجام بين المرسوم التطبيقي 2.14.562 المتعلق بالخريطة الصحية والقانون الإطار المتعلق بالنظام الصحي الذي كان معمولا به سابقا.
أُثيرت كذلك إشكالية متعلقة بالحاجة لقياس النظام الصحي وتحقيق فعالية وجودة السياسة الصحية، مما اقتضى ضرورة تحسين تنزيل السياسات العمومية وضمان تجانسها، فوضع أهداف كبرى دون اعتماد آليات لتقييم مدى بلوغ هذه الأهداف من عدمه، إضافة لغياب مؤشرات القياس، كل هذه الأسباب تعيق تكوين قراءة حقيقية لأثر السياسة الصحية ، وظلت هذه الإشكالات تتناقل مع مختلف المخططات والبرامج ومنها كذلك برنامج الوطني للنهوض بقطاع الصحة بين 2017 و2021.
ب- البرنامج الوطني للنهوض بقطاع الصحة 2017-2021:
تركزت أهداف البرنامج الوطني للنهوض بقطاع الصحة في: تحسين وتعميم الخدمات الصحية، واستكمال الأوراش الصحية السابقة، وتعزيز الولوج للخدمات الصحية، تجاوز الاكراهات المرتبطة بقلة الموارد البشرية الصحية تجويد الحكامة، وبالتالي لم تختلف هذه الاستراتيجية، عن سابقاتها، من حيث الأهداف، لكن بعد انتشار جائحة كوفيد 19، في سنة 2020، استلزم الامر إعادة ترتيب الأولويات، والولوج في سلسلة من الإصلاحات الطارئة، بغاية احتواء الوضع الصحي، وهو ما ستؤتى نتائجه مع الاستراتيجية القطاعية 2021-2026.
ثانيا: الاستراتيجية القطاعية 2021-2026:
تعد هذه الإستراتيجية ترجمة للبرنامج الحكومي في القطاع الصحي، إذ وضعت مجموعة من الالتزامات في الفترة 2021-2026، وتتجلى في تفعيل ورش الحماية الاجتماعية، الذي شكل أولوية وطنية، مما يتطلب إعادة هيكلة المنظومة الصحية الوطنية، بما يتلاءم مع مرتكزات الدولة الاجتماعية، وذلك عبر تعزيز الخدمات الصحية، وتطوير جودتها، والصناعات المرتبطة بها، وترجمة جل هذه الركائز بإصدار القانون الإطار رقم 09.21 المتعلق بالحماية الاجتماعية، إذ أصبح لزوما تحديث المنظومة الصحية، بغاية خلق نظام صحي متماسك، وقادر على تلبية رعاية صحية ذات جودة.
عمدت الحكومة الحالية 2021-2026، على تنزيل مجموعة من الإصلاحات، بما يتوافق مع مشروع "الدولة الاجتماعية"، وتتجلى في:
- إصدار القانون إطار رقم 06.22 المتعلق بالمنظومة الصحية الوطنية/ إرساء سياسة صحية ودوائية متماسكة وناجعة/ توقيع اتفاقية إطار حول تنفيذ برنامج للرفع من عدد مهنيي قطاع الصحة في أفق سنة 2030/ إصدار القانون رقم 09.22 المتعلق بالوظيفة الصحية / إحداث نظام معلوماتي مندمج/ إحداث الهيأة العليا للصحة/ إحداث الوكالة المغربية للدم ومشتقاته/ إحداث الوكالة المغربية للأدوية والمنتجات الصحية.
من هذا المنطلق، لا يمكن إنكار الإصلاحات التي عرفتها المنظومة الصحية الوطنية، بالخصوص بعد جائحة كوفيد 19، إذ فرضت على مدبري الشأن الصحي إعادة النظر في الترسانة القانونية المؤطرة للصحة، بما يتوافق مع وصف الدولة بـ"الاجتماعية". ورغم ذلك لا يمكن إصدار حكم قيمة على مدى فعالية ونجاعة الإجراءات والتدابير الحالية، لأنه سيكون حكما سابقا لأوانه، لكن لابد من الوقوف على حصيلة التعثرات التي عرفتها مختلف المخططات القطاعية السابقة، لأن الإشكالات الحالية ما هي إلا نتيجة تراكمية للتجارب السابقة، فمن خلال استقراء مضامينها، يلاحظ تحقق نتائج محددة فيما يتعلق بمحاربة الأوبئة، وبرامج صحة الأم والطفل، فيما انحصرت أغلب الإشكالات حول تحسين فعالية الأداء الصحي، وتجويد الخدمات، وتحسين حكامة القطاع.
ومن خلال استعراض التطور التاريخي للسياسة الصحية وبيان مختلف الاستراتيجيات التي انكبت عليها وزارة الصحة والحماية الاجتماعية، بالخصوص استراتيجية 2008-2012، 2012-2016، 2017-2019، يمكن إجمال العوامل المساهمة في تدني حكامة المنظومة الصحية في:
هيمنة المقاربة القطاعية المنغلقة، وضعف استحضار عنصر الالتقائية بين البرامج، ومحدودية التنسيق بين مختلف المتدخلين.
ضعف في إعداد حصيلة الإنجازات والقيام بمهام التقييم عند منتصف ونهاية مدة استراتيجية.
ضعف تأطير التخطيط الاستراتيجي برؤية حكومية أفقية، توضح الترابط بين الأهداف المراد تحقيقها، وتكلفة إنجازها والمدة الزمنية المحددة لذلك.
عدم ربط الاستراتيجيات بأهداف ومؤشرات ملاءمة للتتبع والقياس والتقييم.
افتقار الاستراتيجيات السابقة لقطاع الصحة والحماية الاجتماعية لرؤية واضحة.
ضعف الإنفاق العمومي الصحي وقصور فعاليته، وتزايد إنفاق الأسر بما يعادل 50%.
فأغلب هذه المعيقات كانت في ظل تبني المغرب للتدبير التقليدي والمبني على الوسائل، والذي يغيب فيه التقييم والشفافية وربط المسؤولية بالمحاسبة، إذ أن أغلب التقارير الدولية (منظمة الصحة العالمية) والوطنية (المجلس الأعلى للحسابات، والمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي...) تؤكد على ضرورة ربط الخطط والاستراتيجيات بأهداف ومؤشرات للقياس، لتحديد مدى نجاعة وفعالية السياسة الصحية، بالإضافة إلى غياب تجانس وضعف الالتقائية بين السياسات العمومية الاجتماعية، علاوة على أن التدبير المالي المعمول به آنذاك كان يهدف للتحكم في التوازنات الماكرو-اقتصادية، وتحسين الجاذبية الاقتصادية للمملكة، ولا يأخذ بعين اعتبار تنزيل السياسات الاجتماعية، وقياس أثرها.
وختاما، وجب التذكير أن السياسات الاجتماعية هي بطابعها تكتنفها العديد من الإشكالات وذلك راجع لطبيعتها من حيث تعدد المتدخلين، إضافة للتدابير الهشة المتخذة على المالي والتدبيري ثم البشري، وأن مسألة الإصلاح، لا تستدعي فقط وضع خطط أو استراتيجيات، بل يتطلب وجود نية حقيقية إصلاحية، تستمر عليها الحكومات المتعاقبة، ولا تكون فقط إصلاحات ظرفية، ترتبط بأوبئة أو حالة استعجالية صحية، خاصة أن الصحة تندرج ضمن أهداف التنمية المستدامة، ولا يمكن تحقيق هذه الأهداف دون سياسة صحية فعالة متناسقة.



الدكتوراه في قانون العقود والعقار ـ إشراف الدكتور إدريس الفاخوري
تطور السياسة الصحية بالمغرب: ملامح التشكل وقراءة في استراتيجيات

