MarocDroit  -  موقع العلوم القانونية
plateforme des décideurs juridiques - Platform of Legal Decision-Makers



تأملات حول بعض إشكاليات القضاء الإداري في زمن الكورونا- كوفيد 19

     

صالح لمزوغي

دكتور في الحقوق



تأملات   حول بعض إشكاليات القضاء الإداري   في زمن الكورونا- كوفيد 19


أولا

فرض فيروس كورونا المستجِد على دول العالم اتخاذ إجراءات لمواجهة الخطر الداهم المهدد لحياة وصحة الانسان، واضطرت أعتى الديمقراطيات إلى اتخاذ إجراءات تقيد الحقوق والحريات بعد أن أعلنت حالة الطوارئ الصحية، وقررت معظم الدول غلق حدودها البرية ومجالها الجوي والبحري كإجراءات احترازية لمحاربة تفشي هذا المرض، وتقييد حرية التنقل والتجمع، فأضحت الحكومات تمارس اختصاصات استثنائية في اطار قانون الطوارئ. وعلى إثرها بدأت تطفو على السطح مطالب بعض الحقوقيين من مختلف أنحاء المعمور باحترام القانون وحقوق الانسان تفاديا لما قد يحدث من تجاوزات من لدن القائمين على انفاذ القانون وتطبيقه بعلة أن هذه الإجراءات لا ينبغي تصورها شيكا على بياض للسلطات التنفيذية، بعد أن تراجع الدور الرقابي للبرلمانات والقضاء، لكنهم يقرون أيضا بصعوبة الأوضاع لمواجهة آثار هذه الجائحة، وكون الوقت قد لا يكون مناسبا للمحاسبة.

وعلى إثر الإعلان عن حالة الطوارئ الصحية بالمغرب صدرت مجموعة من القرارات والتدابير الإدارية، كما نُشرت في عدة مواقع الكترونية نقاشات قانونية انصبت على بعض القضايا المهمة التي أفرزتها هذه الوضعية وأهمها: إشكالية تحديد تاريخ بدء سريان حالة الطوارئ الصحية؛ وإشكالية الرقابة القضائية على القرارات الإدارية المتخذة خلال هذه الفترة.

 ولاشك في أنه ستطرح، في المستقبل القريب، على القضاء الاداري المشاكل القانونية المرتبطة بتاريخ بدء سريان حالة الطوارئ - وهي مستمرة مبدئيا إلى غاية 20 ماي 2020 - لما قد يترتب عن ذلك التحديد من نتائج قانونية، ليس فقط بسبب سكوت المرسوم المعلن لحالة الطوارئ وصراحة البلاغ الذي سبقه في نفس الموضوع؛ ولكن بصفة خاصة بسبب تراجع السيد المحافظ العام عن التاريخ الذي سبق أن حدده في 20 مارس 2020 (بموجب مذكرته عدد 06/2020 بتاريخ 25/03/2020) إلى تاريخ 24 مارس 2020 تاريخ نشر المرسوم المعلن لحالة الطوارئ في الجريدة الرسمية (بموجب مذكرته عدد 08/2020 بتاريخ 03/04/2020) مع ما قد ينتج عن هذا التراجع من منازعات ستظهر للوجود بعد رفع حالة الطوارئ.

أما الإشكالية المطروحة بإلحاح منذ بداية إعلان حالة الطوارئ الصحية فهي تلك المتعلقة بالرقابة القضائية على القرارات الإدارية المتخذة خلال هذه الفترة. ويبدو أن الاتجاه المهيمن على الكتابات التي تم إنتاجها بشأنها يميل إلى تكريس حصانة قرارات الإدارة المتخذة خلال هذه الفترة من الخضوع للرقابة القضائية باعتبارها قرارات سيادية. وهو ما قد يؤدي إلى إرساء فهم مغلوط لطبيعة القرارات المتخذة في إطار الطوارئ الصحية ومدى خضوعها للرقابة القضائية، ويُخشى معه أن يستقر في أذهان الكثيرين أن القضاء الإداري تخلى عن دوره كضامن للحقوق والحريات في زمن تفشي خطر فيروس كورونا- كوفيد19.

 وأمام خطورة الانسياق وراء كتابات تدفع، بقصد أو بدونه، في اتجاه تحجيم دور القضاء الإداري، تبدو أهمية مناقشة بعض جوانب هذه الإشكالية نقاشا علميا وأكاديميا محضا، دفاعا عن المكانة المتميزة لهذا القضاء في إرساء دعائم دولة القانون. إذ لا يخفى أنه قد ينشأ عن بعض القرارات أو الأعمال الإدارية المتخذة تطبيقا لقرار الإعلان عن حالة الطوارئ الصحية إضرار بحق أو مصلحة مشروعة؛ وتبعا لذلك، فهل تكون تلك القرارات أو الأعمال محصنة من أي رقابة قضائية بعلة أنها سيادية؟ وهل وصف "السيادي" ينطبق على جميع القرارات المتخذة بمناسبة الطوارئ الصحية - ومنها قرار تعليق الرحلات الجوية - وما هي حدود الرقابة القضائية عليها؟

قليلة هي المناسبات التي تعرض فيها القضاء المغربي للقرارات السيادية محددا إياها بهذه الصفة، وقد شكل القرار الصادر بتاريخ 26 مارس 2020 عن محكمة الاستئناف الإدارية بالرباط واحدا من هذه القلة حيث وصف قرار الحظر الجوي بالقرار السيادي بامتياز. ومن ثم فهل تسعفنا معايير تمييز القرارات السيادية لوصفه فعلا بهذه الصفة؟ وقبل الجواب عن هذا الإشكال، نود أن ننبه بأن الاستدلال هنا بتوجه محكمة الاستئناف الإدارية بالرباط في قرارها المذكور انما جاء لأهميته في مناقشة مفهوم القرار السيادي، وهو مناسبة أيضا لمناقشة حجج اتجاه في القضاء الإداري يقول بحصانة القرارات المتخذة في إطار الطوارئ الصحية، إغناء للنقاش لا تقليلا من قيمة ما تمثله هذه المحكمة في الصرح القضائي الإداري المغربي وما أقرته من اجتهادات متميزة بفضل جهود كافة مكوناتها.

وقبل الحديث عن الطبيعة القانونية لقرار "الحظر الجوي"، يبدو من المفيد الإشارة ولو بإيجاز لماهية ونطاق القرارات السيادية وفق نظرية الأعمال السيادية التي ابتدعها القضاء الفرنسي لاعتبارات تاريخية.

ثانيا

إن وصف قرار ما بـ "السيادي" ينبغي أن يؤسس على المفهوم القانوني الدقيق له، لا أن يكون وصفا لحال، فكل قرار لا شك أنه يعبر عن سيادة الدولة من زاوية أنها مالكة لزِمام قرارها، مستقِلة في تحديد مصلحتها، واتخاذ ما يجنبها أي ضرر ويجلب لها أي مصلحة. لكن ليس معنى ذلك أن هذا القرار سياديٌ بالمفهوم القانوني لنظرية الأعمال والقرارات السيادية كما وضع أُسسها الفقه والقضاء المقارن؛ فالقرارات الإدارية التي تصدر عن الدولة بمختلف إداراتها تخضع للرقابة القضائية، وهي قاعدة تقرها الدساتير ومنها الدستور المغربي، أما تلك التي تتجاوز الطابع الإداري والتنظيمي وتتصف بالسيادية فهي وحدها مستثناة من هذه الرقابة.

 ولتبسيط الفكرة وتقريبها للأذهان يمكن تحديد ماهية القرارات السيادية باعتبارها القرارات الصادرة عن السلطات العليا في البلاد بوصفها سلطة حكم لا إدارة، في موضوع يهم علاقة السلطة التنفيذية مع السلطة التشريعية أو العلاقات الدولية والدبلوماسية، ومن ذلك قرار الدعوة إلى الانتخاب أو إيداع مشروع قانون بالبرلمان، أو حل البرلمان أو تعيين أعضاء الحكومة أو إقالتهم، وكذا قرار قطع العلاقات الدبلوماسية مع إحدى الدول، وما إلى ذلك من القرارات التي تعبر فعلا عن سيادة الدولة فتخرج عن رقابة القضاء الإداري الذي يحكم مجال تدخله الدستور ويقصره على رقابة القرارات التنظيمية المتخذة في المجال الإداري فقط.

وهذا النوع من القرارات تم استثناؤه، باجتهاد قضائي قار، من الخضوع لرقابة القضاء الإداري وفق ما كرسه قضاء مجلس الدولة الفرنسي الذي استحضر وجود نوع آخر من الرقابة على هذه القرارات السيادية هي رقابة السلطة التشريعية ورقابة القضاء الدستوري.

وقد استخلص الفقه معايير لتمييز القرار الإداري عن القرار السيادي منها معيار الباعث السياسي، وإن كان القضاء الفرنسي قد تخلى عنه، في مقابل تطبيق المعيارين العضوي والموضوعي.

أما القرارات المتخذة في إطار القرار السيادي فقد أرسى القضاء الفرنسي معالم نظرية جديدة مؤسسة على القرار المنفصل لبسط رقابته عليها.

وعلى سبيل المثال، أقر القضاء الإداري الفرنسي - أثناء فترة الطوارئ الصحية لمحاربة تفشي وباء كورونا كوفيد 19 - بالطبيعة الإدارية لقرار عمدة مدينة فرنسية بفرض ارتداء الكمامات عند الخروج دون أن تثار مسألة كونه قرارا سياديا أو قرارا متصلا به قد يبرر استبعاده من الرقابة القضائية، وقضى بموجب أمر استعجالي بإيقاف تنفيذه. وقد تمت مناقشة شرعية هذا القرار من زاوية مدى ما يتضمنه من تقييد لحرية التنقل، وحق العمدة في ممارسة مهام الشرطة الإدارية باختصاصات إضافية سمح بها قانون الطوارئ للحكومة فقط، وقد تم تأييد هذا الأمر بقرار لمجلس الدولة الفرنسي.

وسيكون من المناسب لو يتبنى القضاء الإداري المغربي نظرية القرار المنفصل - القابل للطعن فيه بالإلغاء - أسوة بنظيره الفرنسي على مستوى مجلس الدولة، بحيث لا يتردد في تقدير شرعية القرارات الإدارية المتخذة في إطار قرار الطوارئ الصحية المعتبر قرارا سياديا، أي ولو في الظروف الاستثنائية، كلما تحقق من انفصالها عن القرار السيادي، أي متى كانت رقابته في حال إلغاء القرار المطعون فيه ليس من شأنها المساس بالقرار السيادي المعلن عن الطوارئ الصحية وسريانه.

وفي نظري فإن رقابة المشروعية على القرارات الإدارية المتخذة في اطار الطوارئ الصحية يجب أن تنصب على التحقق من دواعي المصلحة العامة التي تبرر القرار الإداري المطعون فيه ومدى تناسبها مع الحق أو المصلحة الخاصة والفردية التي تم المساس بها متى كانت مشروعة، وكذا مدى تقيده بالمقتضيات القانونية والتنظيمية المؤطرة لحالة الطوارئ الصحية، بحيث يتعين التحقق مما إذا كانت الغاية من القرار حفظ النظام العام أو حفظ الصحة العامة، وعدم خرق المقتضيات القانونية والتنظيمية المندرجة ضمن القرار المعلن عن حالة الطوارئ الصحية، وعلى الخصوص أن تكون قرارات مؤقتة تقتصر على الفترة المحددة للطوارئ، وكل تجاوز لها يعد مخالفة قانونية تجعل القرار مشوبا بعيوب المشروعية التي تستوجب الحكم بإلغائه تكريسا لدولة القانون وحفاظا على مبدأ الشرعية.

ذلك أنه لئن كان واجب التقيد بقرارات السلطات العمومية المرتبطة بالطوارئ الصحية ضرورة ملحة يقتضيها حفظ الحق في الحياة والصحة العامة، فإن تطبيق قانون الطوارئ تؤطره قرارات للسلطات الإدارية المختصة، وهو ما لا يمنع من إمكانية حدوث تجاوزات عند تطبيق القانون أو تعسف في تقدير المصلحة الأولى بالحماية، مما يستوجب حفظ سيادة القانون التي يضمنها القضاء باعتباره سلطة مستقلة، تحقيقا للأمن القضائي الذي لا يقل أهمية عن حفظ الحق في الصحة، علما أن القول بحق الرقابة لا يعني القول بالإلغاء بل يعني تقدير شرعيته ومدى اتسامه بأحد عيوب المشروعية الموجبة لإلغائه، وعلى القاضي الإداري أن يحكم واضعا بعين الاعتبار المصلحة العامة قبل الاستجابة لأي طلب، علما أن المصلحة العامة تقدم على المصلحة الخاصة في اطار الموازنة بينهما.

ثالثا

بعد هذا التذكير بماهية القرارات السيادية وما يدور في فلكها، يحق التساؤل عن الطبيعة القانونية لقرار الحظر الجوي في ضوء التكييف الذي أقره قرار محكمة الاستئناف الإدارية بالرباط المشار له أعلاه.

فمن خلال تفحص "قرار الحظر الجوي" من حيث الجهة المصدرة له وموضوعه، يتبين أن الأمر يتعلق ببيان صادر عن وزارة الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج يتضمن الإعلان عن قرار تعليق الرحلات الجوية المتوجهة والقادمة من وإلى عدد من الدول، وكان قرار تعليق الرحلات الجوية (وحتى غلق الحدود البحرية مع اسبانيا) قد صدر في 13 مارس 2020 وعلى اثره تم تعليق الرحلات مع أربع دول هي الصين وإيطاليا وكوريا الجنوبية وإسبانيا؛ وفي 14 مارس 2020 تم تعليق الرحلات مع ألمانيا هولندا بلجيكا والبرتغال ومع عدد من الدول الافريقية والعربية ومنها تونس. وقد أشار البيان إلى أن هذا الاجراء يندرج ضمن التدابير الوقائية للحد من انتشار فيروس كورونا كوفيد- 19، وهم الرحلات الجوية للمسافرين. وتم اتخاذ القرار بتشاور وتنسيق مع الدول المعنية.

باعتماد المعيار العضوي يتضح أن القرار صدر عن وزارة الشؤون الخارجية والتعاون الافريقي والمغاربة المقيمين بالخارج وفق ما هو واضح من بلاغها المنشور في موقع الوزارة على الانترنيت، وبالتالي صدر عن سلطة عمومية في إطار تدابير الضبط الإداري (الشرطة الإدارية) الذي يمكن للوزارات ممارسته لحفظ النظام العام المتمثل في الصحة العامة على اعتبار أن خطر تفشي الوباء مرتبط بحالات وافدة من الخارج.

ثم إنه بالتدقيق في تاريخ إصدار قرارات تعليق الرحلات الجوية سيتبين أنها سابقة عن تاريخ اتخاذ قرار الإعلان عن الطوارئ الصحية، سواء الذي صدر في شكل بلاغ لوزارة الداخلية الصادر في 19 مارس 2020 الذي حدد بداية الطوارئ في 20 مارس أو الذي اتخذ شكل مرسوم الصادر في 24 مارس 2020 والمنشور بالجريدة الرسمية في نفس التاريخ. وبالتالي فقرار تعليق الرحلات الجوية وإغلاق المجال الجوي والبحري اتخذ في إطار تدابير إدارية محضة وفق ما تسمح به سلطات الضبط الإداري وليس خلال فترة الطوارئ الصحية.

كما أن القانون المنظم للطيران المدني يسمح للدولة، من خلال السلطات المختصة، بتعليق الرحلات الجوية إذا كان في الأمر مساس بالنظام العام أو تهديد لسلامة الممتلكات والأشخاص. ومبرر تعليق الرحلات الجوية كان بداعي الحفاظ على الصحة العامة أي سلامة الأشخاص، وهو التزام دستوري أيضا.

وتأسيسا على ما ذكر يكون قرار الحظر الجوي، أو تعليق الرحلات الجوية، قرارا إداريا من حيث طبيعته القانونية، وغير متصل بقرار سيادي لصدوره قبل تاريخ القرار المعلن عن الطوارئ الصحية بمرسوم، وبالتالي لا يندرج بهذا الشكل ضمن القرارات المتخذة تنفيذا لقرار سيادي حتى يمكن اعتباره قرارا متصلا به، لأن ذلك يقتضي أن يكون لاحقا لصدور القرار السيادي أي بعده لا قبله، ولا يسوغ قانونا إضفاء أثر قانوني لقرار اداري على أوضاع قانونية سابقة عنه.

فإذا كان قرار الحظر الجوي تدبيرا وقرارا إداريا ولم يصدر إبان قرار الإعلان عن الطوارئ الصحية، فكيف جاز وصفه بالقرار السيادي بامتياز!؟

لقد حاول البعض إيجاد تفسير وتبرير للإشكال الذي طرحه وصف قرار الحظر الجوي بالقرار السيادي كمخرج قانوني لترتيب الآثار القانونية للقرارات السيادية، في كون محكمة الاستئناف الإدارية بالرباط اعتبرت بداية تاريخ سريان الطوارئ الصحية هو يوم اغلاق المجال الجوي المغربي في 10 مارس، أي قبل 20 مارس 2020.

ونحن نرى أن القول الفصل في تحديد تاريخ سريان قانون أو قرار إداري ليس بهوى طرف أو ذاك، فبالنسبة للنص القانوني فالقاعدة المقررة بنص دستوري أن الأصل هو "عدم رجعية القوانين" فيطبق القانون من تاريخ نشره بالجريدة الرسمية وله استثناءات منها: أن ينص القانون نفسه على الرجعية بشكل صريح - وليس ضمني - شريطة تحقيق مصلحة عامة (كما يمكن أن ينص  القانون على سريانه في تاريخ لاحق لنشره) أو إذا تعلق الأمر بالقانون الجنائي حيث يطبق الأصلح للمتهم، أو في حالة القوانين المتعلقة بالنظام العام والآداب العامة وهي حالة خاصة تتعلق بممارسة حقوق في اطار قانون فيصدر قانون لاحق بمنعها فتكون قواعده آمرة لتعلقها بالنظام العام، علاوة على القوانين التفسيرية أي التي تصدر لتفسير نص قانوني سابق وهي لا تضيف أحكاما جديدة.

أما بالنسبة للقرارات الإدارية فالأصل فيها أيضا مبدأ عدم رجعيتها أي أن آثار القرارات الإدارية لا تسري إلا من تاريخ نشرها أو تبليغها بالنسبة للقرارات الفردية أو العلم بها يقينا وفق ما يعتد به الاجتهاد القضائي الإداري بشروط خاصة؛ والغاية من التنصيص على هذا المبدأ الحفاظ على استقرار المعاملات وحماية المراكز القانونية للأفراد التي نشأت صحيحة وتقيدا بقواعد الاختصاص الزماني. أما الاستثناءات على مبدأ عدم رجعية القرارات الإدارية فهي أن ينص القانون على هذه الرجعية أو أن يقررها حكم قضائي كما في حالة الغاء قرار اداري فيعدم الحكم هذا القرار من تاريخ صدوره، وكذا القرارات المفسرة والمؤكدة، او قرار سحب قرار اداري وفق شروط خاصة لا مجال للتفصيل فيها.

ويستفاد من التذكير بهذه المبادئ القانونية العامة أن القضاء الإداري، في اجتهاده القار، يعتبر عدم الرجعية قاعدة آمرة ورتب على مخالفتها جزاء البطلان، وبالتالي لا يوجد أي سند قانوني للقول بكون قرار الإعلان عن الطوارئ الصحية يسري بأثر رجعي منذ قرار الاعلان عن غلق المجال الجوي، وداعي المصلحة العامة لا يبرر قانونا سريان قرار اداري بأثر رجعي؛ ولا يصح نسبة هذا التفسير للقرار الاستئنافي وتقويله ما لم يقله بخصوص تاريخ سريان قرار الطوارئ الصحية.

لقد كان المشرع حكيما في عدم تحديد تاريخ بداية سريان حالة الطوارئ الصحية ولم يكن ذلك خطأ ولا سهوا، فمشروع المرسوم المتعلق بالإعلان عن الطوارئ الصحية كان قد تضمن تحديد هذا التاريخ في 20 مارس 2020 وتم حذفه من الصيغة النهائية للمرسوم كما تم نشره بالجريدة الرسمية ليس ليفتح المجال أمام تطبيقه بأثر رجعي ضمنيا بل لتطبيق ما يوجبه القانون في شأن القرارات الإدارية التي لا تسري إلا من تاريخ نشرها بالجريدة الرسمية، وهو 24 مارس 2020 بالنسبة للقرار المعلن عن الطوارئ الصحية بمرسوم، ويعتد أيضا بتاريخ 20 مارس كتاريخ للطوارئ الصحية بالاستناد للقرار المعلن عنها ببلاغ لوزارة الداخلية، ما دام قرارا إداريا الأصل فيه - كما في سائر القرارات الإدارية - هو المشروعية ما لم يتم إلغاؤه قضائيا أو سحبه إداريا داخل الأجل المقرر للطعن وفعلا دخل حيز التطبيق بالنظر للظروف التي تبرر الاستعجال في اتخاذ القرارات والتي أثبتت نجاعتها وفعاليتها، قبل أن تبادر الحكومة لسد الفراغ القانوني بشأن حالة الطوارئ الصحية بإصدار مرسوم القانون المنظم لها. أما المدة السابقة عن هذين التاريخين فيرجع فيها للقضاء بحسب كل حالة لتقدير ما إن كانت تنطبق عليها القوة القاهرة نتيجة تقييد حركة النقل البري أو الجوي أو البحري بعد فرض الحجر الصحي. كما يعتد بتاريخ تعليق العمل بالمحاكم أي في 16 مارس 2020 بالنسبة لكل الدعاوى المرتبطة بأجل الطعن التي يبت فيها قضاء الموضوع. أما ما جاء بمرسوم القانون المتعلق بالطوارئ الصحية من وقف جميع الآجال التشريعية والتنظيمية فإنما هو تأكيد بنص قانوني على قيام حالة القوة القاهرة المعفية من التقيد بالالتزامات القانونية المرتبطة بآجال سقوط خلال فترة سريانها، تفاديا لأي خلاف عند التفسير، فضلا عن كون تعليق العمل بالإدارات وتقليل التنقل إليها أوجب اتخاذ هذا الإجراء حماية لمصالح المواطنين في علاقتهم بمختلف الإدارات العمومية.

 ثم لو فرضنا جدلا صحة هذا "التفسير" فما هو القرار الذي سيعتد به فيكون المؤثر في المركز القانوني للمعني أو المخاطب به، والحال أن الأمر يتعلق بقرارات متتالية في الزمن قضت بتعليق الرحلات الجوية لنقل المسافرين بحسب الدول؛ هذا إذا ما قبلنا اعتبارها أصلا قرارات سيادية رغم كونها مجرد تدابير وقرارات إدارية، فطبيعتها الإدارية كما أوضحنا ثابتة تطبيقا للمعيار العضوي من خلال السلطة التي صدر عنها (قرار تعليق الرحلات الجوية صدر عن وزارة الخارجية، وقرار الطوارئ الصحية المعلن عنه ببلاغ صدر عن وزارة الداخلية، وليس بمرسوم) أو بتطبيق المعيار الموضوعي من خلال النظر إلى الاطار القانوني الذي صدرت في إطاره، أي المقتضيات المنظمة لسلطات الضبط الإداري وواجب الحفاظ على سلامة المواطنين كالتزام دستوري للسلطات العمومية في اطار مسؤولياتها لحفظ الحق في الصحة.

 ولعل هذا ما يفسر كون الأمر الاستعجالي الصادر عن السيد رئيس المحكمة الإدارية بالرباط بالنيابة - الذي رفض الاستجابة لطلب مواطنين مغربيين عالقين بإسبانيا لم تسمح لهما السلطات العمومية بالدخول بعد غلق الحدود البحرية بالاستناد إلى نظرية الظروف الاستثنائية - تفادى وصف قرار غلق الحدود بالقرار السيادي واصفا إياه بـ"مجرد تدبير تنظيمي".

نخلص من كل ما سبق أن قرار تعليق الرحلات الجوية يبقى من طبيعة تنظيمية وإدارية. صحيح أنه ينم عن قرار دولة ذات سيادة في تقدير المصلحة العامة والحفاظ على السلامة الشخصية للمواطنين، لكنه ليس سياديا بالمعنى القانوني المحصن له من أي رقابة، ما دام قد صدر قبل المرسوم المعلن عن حالة الطوارئ الصحية؛ فكان الأجدر اعتباره قرارا إداريا وفقا لطبيعته لا تأثرا بالظروف الاستثنائية التي صدر فيها، وليس معنى هذا القول أنه كان قرارا غير مشروع، بل فقط تقرير طابعه الإداري وقابليته للرقابة، ولا يصح اعتباره سياديا -  أو وصفه بالقرار السيادي بامتياز - إلا كقرار متصل بالقرار المعلن عن الطوارئ الصحية بمرسوم.

إذ ليس من المقبول قانونا الافراط في وصف كل القرارات بالسيادية، وبالتبعية رفض أي رقابة عليها. فمسايرة هذا الرأي الذي يضفي على قرارات الإدارة في فترة الطوارئ الصحية صبغة السيادية يجعل قرار الحظر الجوي المانع من مغادرة التراب المغربي "قرارا سياديا"، وفي نفس الوقت يكون قرار المنع من الدخول والإقامة مؤقتا "قرارا سياديا" أيضا فنصبح أمام قرارين سياديين متعارضين لا رقابة عليهما من القضاء فأيهما يكون واجب التنفيذ!؟

رابعا

من الجدير بالتنبيه هو أن جوهر المنازعة موضوع النازلة التي تم البت فيها بواسطة القرار الاستئنافي المذكور أعلاه، الذي ألغى الأمر الاستعجالي الصادر عن السيد رئيس المحكمة الإدارية بالدار البيضاء، لم يكن أصلا هو النظر في مشروعية قرار الحظر الجوي. كما أن الطلب الاستعجالي الذي قدم لرئيس المحكمة الإدارية بالدار البيضاء لم يكن موضوعه هو استصدار "أمر برفع الحظر الجوي"، كما روجت لذلك بعض المواقع الإلكترونية؛ أو استصدار أمر للطائرة بالإقلاع خرقا للحظر الجوي كما فهم ذلك بعض من يثق في الكلام المرسل دون أي مراجعة له أو تدقيق في النازلة ووقائعها. وإنما اقتصر فقط على السماح للمعني بالأمر بالإقامة المؤقتة بالمغرب إلى حين رفع قرار تعليق الرحلات الجوية، وهو ما استجاب له قاضي المستعجلات بشروط بل وحدد إقامته بمدينة الدار البيضاء حيث يوجد المطار إلى حين رفع الحظر.

ولا ندري حقيقة من أين استوحى المعلقون ذلك التفسير الذي يتجاوز الفهم الخاطئ لمضمون الأمر الاستعجالي على وضوحه، إلى إنتاج قراءة مغرضة وتحريف لحيثياته بشكل يخرجه عن سياقه؛ مع أن قاضي المستعجلات عبر من خلال الأمر الذي أصدره، والذي حظي بترحيب الحقوقيين الجديرين بهذه الصفة، عن تشبع عميق بقيم وثقافة حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا والتي تعتبر بمثابة القانون الداخلي الملزم للقاضي، والتي تطبق بالأولوية على أي نص داخلي مخالف وفق ما أقره الدستور، كما كان مثالا للقاضي الملتزم بالتطبيق العادل للقانون كمبدأ دستوري، من معانيه أن يكون ضوء العدل ونوره هو بَوْصَلَة القاضي ومحورُ اجتهاده عند تفسير النص القانوني. كما أن قاضي المستعجلات انطلاقا من المفهوم الواسع للعدالة، وازَن بين المصالح التي يتعين جلبها والمفاسد التي يتعين درؤها طبقا للقاعدة الفقهية المعروفة، كما أكد على الدور الإيجابي لقاضي المستعجلات الذي يوجب عليه التدخل بكل جرأة وشجاعة لرفع الضرر اللاحق بمصلحة مشروعة، ما دام أنه أحاط تقديره بالضمانات اللازمة لعدم حصول أي ضرر بالصحة العامة (بإخضاع المعني قبل الإذن له بالدخول للفحص الطبي) ودون المساس بشرعية قرارات الإدارة بفرض حالة الطوارئ الصحية أو تعليق الرحلات الجوية.

ولئن كان هذا الاجتهاد لم يحض بتأييد قضاء الدرجة الثانية استنادا إلى عدم نظامية الوضعية القانونية للأجنبي غير الحاصل على تأشيرة الدخول للتراب المغربي، فإنه ارتباطا بطبيعة القرار المؤثر في مركزه القانوني، وبإخضاع قرار المنع من الدخول للتراب المغربي لمعايير تقدير ما إن كان يندرج في اطار القرارات المتصلة بقرار سيادي، يتضح بأن هذا القرار لا يرتبط بأي قرار سيادي لانعدام هذه الصفة في قرار الحظر الجوي، فضلا عن أن توسيع نطاق القرار السيادي ليشمل القرارات المتخذة تطبيقا له مسايرة لهذا الرأي، يتطلب بيان وجه هذا الارتباط بينهما، باعتبار نظرية القرار المنفصل التي أقرها القضاء الفرنسي هي الكفيلة بتوضيح نطاق ما يدخل في الرقابة وما يَفلِت منها.

خامسا

في نفس السياق دائما يثار التساؤل حول مدى استمرار سريان نفاذ القوانين أثناء فترة الطوارئ الصحية.

وسبب هذا التساؤل مرتبط بقضية الأجنبي العالق بالمطار، إذ ظهر اتجاه يقول بعدم تطبيق القانون رقم 03-02 المتعلق بدخول وإقامة الأجانب بالمملكة المغربية وبالهجرة غير المشروعة بمبرر الظروف الاستثنائية المرتبطة بحالة الطوارئ الصحية.

فقد أشار الأستاذ طبيح في نفس المقال المشار له سابقا، إلى أن رئيس المحكمة الإدارية بالدار البيضاء في الأمر الاستعجالي المذكور أشار في حيثياته إلى أن "القانون المتعلق بدخول الأجانب لا ينطبق على الأجنبي المدعي في الدعوى المقدمة له" مؤكدا في سياق تعليقه "عدم وجود نص قانوني يستند له المتضرر"، بينما يتبين أن الأمر الاستعجالي لرئيس المحكمة الإدارية بالدار البيضاء لم يقرر ما استشفه من خلاصة لا يخفى أثرها على المركز القانوني للمعني، بل على عكس ما قاله أكد هذا الأمر أن "تواجد المدعي بنقطة العبور بمطار محمد الخامس ومنعه من الخروج من المطار له ما يبرره نظرا للظرفية الراهنة التي تعيشها جل دول العالم نتيجة الحجر الصحي الذي قررته السلطات العليا بالبلاد  لتفادي انتشار فيروس كورونا المستجد وأن ذلك لا يمنع من إمكانية دراسة طلب المعني بالأمر بخصوص الولوج إلى داخل التراب المغربي خلال فترة الحظر الجوي"؛ وهو ما يعني الإقرار بشرعية قرار الحظر الجوي ولزوم تطبيقه على الجميع باعتباره يحفظ الصحة العامة. غير أنه اعتبر وضعية المعني باعتباره ظل عالقا بالتراب المغربي نتيجة قرار الحظر هي وضعية مختلفة عن وضعية المهاجر غير الشرعي أو اللاجئ الراغب في الدخول للتراب المغربي، مؤكدا "أنه لئن كانت حالة المدعي لم ترد في القانون رقم 03-02 إذ لم يتطرق لحالة بقاء المسافرين الأجانب عبر المطارات الدولية بتراب المملكة نتيجة أي منع اضطراري للطيران كما في نازلة الحال، إلا أن ذلك لا يحول دون تدخل قاضي المستعجلات لرفع أي ضرر يتظلم منه الشخص العالق بالمطار في اطار القواعد العامة...". أي أن الأمر لا يتعلق بعدم تطبيق القانون برمته ولكن بعدم انطباقه على حالة المدعي التي يرجع سبب تعذر مغادرته إلى قرار الحظر الجوي غير الوارد ضمن حالات تعذر المغادرة. ويبدو أن رأيه المذكور يتطابق أكثر مع ما ذهبت إليه محكمة الاستئناف الإدارية بالرباط التي جاء في حيثيات قرارها: "لا مجال في ظل هذا الوضع الدفع بخرق المقتضيات الواردة بالمادة 38 من القانون رقم 03-02 والتي تخص الإجراءات المواكبة للاحتفاظ بالأجنبي في منطقة الانتظار لأسباب فردية تخص هذا الأخير ويسري تطبيقها في الحالات العادية وليس استنادا إلى أوضاع استثنائية".

ونرى بهذا الشأن أن الظروف الاستثنائية التي واكبت فرض الطوارئ الصحية لا ترقى لحالتي الاستثناء أو الحصار المقررتين في الدستور، وليست مبرِرا لاستبعاد تطبيق القوانين الجاري بها العمل التي لا تتعارض مع قانون الطوارئ الصحية والقرارات الصادرة تطبيقا له.  

وتأسيسا على ما ذكر، فإن الاتجاه الذي يستثني من التطبيق القانون رقم 03-02 المتعلق بدخول وإقامة الأجانب بالمملكة المغربية وبالهجرة غير المشروعة على وضعية الأجنبي العالق بالمطار نتيجة قرار الحظر الجوي بمبرر الظروف الاستثنائية المرتبطة بالطوارئ الصحية يبقى محل نظر ويفتقر للأساس القانوني الذي يجيز هذا الأمر، وكان بالإمكان إعمال قواعد القياس على حالات مماثلة من حيث تعذر المغادرة فورا لبعض الأجانب ممن يُرفض طلب السماح لهم بالدخول للتراب المغربي لعدم التوفر على التأشيرة أو ممن يوجدون في وضعية غير قانونية أو لكون تواجدهم يشكل تهديدا للأمن العام.

لقد أوجب القانون المذكور على الإدارة اتخاذ جملة من القرارات والتدابير منها إصدار قرار الاحتفاظ بالمعني بمنطقة الانتظار لمدة محددة برقابة قضائية يباشرها رئيس المحكمة الابتدائية في حال تمديدها، وقرار الاقتياد للحدود ثم قرار الطرد فيما لو كان المعني يشكل تهديدا لسلامة البلاد. وعند تعذر تنفيذ قرار المغادرة وجب تعيين مكان للإيواء أو السماح للمعني بالإقامة المؤقتة، وبالتالي لا مجال لتحديد نظامية وضعية المدعي فقط بالاستناد الى عدم استظهاره بالتأشيرة على فرض لزومها، لأنه لم يكن قاصدا التوجه للمغرب حتى يكون مطالبا بها، ولو كان متوفرا عليها لما طرق باب القضاء أصلا.

 ويمكن التساؤل بهذا الصدد أيضا عن كيفية تأثير قرار المنع من الدخول في حال رقابته وإلغائه على قرار الحظر الجوي أو حتى على القرار المعلن عن الطوارئ الصحية باعتبارها قرارات سيادية، لأن هذا التأثير هو الذي من شأنه أن يثبت الانفصال أو الاتصال وبالتالي القابلية للرقابة من عدمها، فقرار الحظر الجوي هو المانع من مغادرة التراب الوطني في حالة الشخص الأجنبي العالق بالمطار، وليس في السماح له بالدخول أي خرق لهذا القرار ولا حتى للقانون المنظم للإقامة بالمغرب الذي يسمح بالإقامة المؤقتة فيه عند تعذر المغادرة فورا، أما إن كان للأمر علاقة بأي قرار لإغلاق الحدود فهذا القرار يمكن أن يطبق على من هم عمليا خارج الحدود وليس على من هم داخلها. وبصرف النظر عن أي تكييف لمنطقة الانتظار فإن العالق بالمطار يكون داخل التراب الوطني عمليا، وهو في النازلة موضوع التعليق لا يطلب سوى جعل هذا التواجد قانونيا من خلال منحه حق الإقامة المؤقتة امتثالا لقرار الحظر الجوي وإلى حين رفعه، وهو ما يسمح به القانون المنظم لدخول وإقامة الأجانب بالمملكة المغربية، الذي بعدم اثبات الإدارة احترامها لمقتضياته يكون الأمر الاستعجالي الذي قضى بالإذن للأجنبي بالدخول والإقامة مؤقتا قد طبق صحيح القانون، في انسجام تام مع ما يخوله هذا القانون لقاضي المستعجلات من سلطات واسعة تشمل المساس بجوهر الحق وإلغاء قرارات الادارة بالنظر للطبيعة الاستعجالية التي تميز هذا النوع من القضايا،  وليس في أمره مخالفة لمبدأ فصل السلط ولا تعد على اختصاص جهات أخرى، كما لا يتعارض مع مبدأ عدم توجيه أوامر للإدارة لخصوصية سلطات قاضي المستعجلات المقررة بنص خاص.

ثم إن رفض مناقشة أي أثر قانوني للقرارات السيادية المتخذة في اطار حالة الطوارئ الصحية أو تقدير شرعيتها - وفق الاتجاه الذي يقر بكون الإدارة هي التي عليها أن تحدد مختلف الآثار وتعالج هذه الوضعيات – كان يستوجب ترتيب الأثر القانوني المناسب في هذه الحالة، فالأقرب للصواب في نظري التصريح بعدم اختصاص قاضي المستعجلات لتقدير القرار السيادي باعتباره من النظام العام، أو الحكم بعدم قبول الطلب لعدم قابلية القرار السيادي لأي طعن وليس الحكم برفض الطلب الذي يوحي بمشروعية موقف الإدارة ويحرم المتضرر من حق التظلم لجهة الإدارة لمراجعة قرارها، إذ كيف سيتسنى لها مراجعة قرار أثبت القضاء مشروعيته، وهي لو قررت السماح لاحقا للمعني بالإقامة المؤقتة فهل يقال حينها أن الإدارة تخالف القانون، وهل يكون المقصود من كون الإدارة هي التي لها تحديد آثار قرارها أن تستقل باختيار الوقت المناسب دون تدخل قضائي ويُترك المتضرر لِقَدَرِه دون أي حماية قضائية.

سادسا

وختاما نقول بأن الظروف الاستثنائية التي فرضتها الطوارئ الصحية لا تبرر منح السلطة التنفيذية سلطات مطلقة بدون أي رقابة، فالسلطات الدستورية ممثلة في السلطة التشريعية والقضائية لازالت قائمة وتشتغل حتى في مثل هذه الظروف رغم الصعوبات الواقعية؛ والقوانين لم تعطل بمقتضى قانون الطوارئ  الصحية لأن الدستور لا يسمح بذلك أصلا؛ لذلك نص فقط على توقيف الآجال التشريعية والتنظيمية حماية للحقوق، والقضاء الاستعجالي غير مشمول بتعليق العمل بالمحاكم، وينبغي الدفاع عن دور القضاء الإداري كضامن للحقوق والحريات حتى في الظروف الاستثنائية، إذ لا يُقبل أن تتعطل هذه الوظيفة بداعي هذه الظروف فتصبح الدولة ممثلة في السلطة التنفيذية في حِلٍ من أي رقابة قضائية.

إن الأمن القضائي ليس مجرد شعار يرفع في المناسبات بل ينبغي أن يتجلى في الأحكام والقرارات القضائية، ونخشى أن يؤدي التطبيع مع الاتجاه الفقهي والقضائي المقر لحصانة القرارات السيادية والإجراءات المتخذة في اطارها إلى تعطيل دولة القانون والمؤسسات والعصف بمبدأ الأمن القضائي.

ويبدو من المفيد التذكير بالواقعة المشهورة عن رئيس الوزراء البريطاني الأسبق "ونستون تشرشل" أثناء الحرب العالمية الثانية، عندما أمرت محكمة بريطانية بنقل مطار حربي بعيدا عن منطقة سكنية، لأنه يزعج الأهالي ويعرض حياتهم للخطر، وأعطت المحكمة مهلة سبعة أيام لتنفيذ الحكم؛ فلما وصله خبر الحكم أمَر خلال المدة المقررة للتنفيذ بنقل المطار، فاشتهرت عنه قولته: "أَهْوَنُ أن نخسر الحرب من أن يخسِر القضاء البريطاني هيبته".

وإذا كنا نتفهم أن خصوصية بعض القضايا التي تنازع في مشروعية قرارات الدولة المتخذة خلال هذه الفترة الاستثنائية وتضارب المصالح بشأنها بين المصلحة العامة والخاصة، والتعبئة العامة من أجل دعم جهود الدولة في سبيل الحفاظ على النظام العام والصحة العامة، تجعل القاضي الإداري كمن هو بين "المطرقة والسندان"، فيتوجس في بعض الأحيان من اتهامه بعرقلة جهود الدولة فيفضل الاصطفاف إلى جانبها كداعم لهذه الجهود ولو تطلب الأمر التضحية ببعض الحقوق والحريات. فإن على القاضي في نظري أن يستحضر دائما الغاية من وظيفته وتطبيق المبادئ القضائية المتعارف عليها، والموازنة بين المصالح، فالضرورات تقدر بقدرها؛ وعليه - كما على غيره - ألا يعتبر الحكم ضد الدولة في مثل هذه القضايا بمثابة انتقاص من جهودها أو عرقلة لأعمالها، وإنما هو إعلاء لشأنها كدولة قانون وتقويم لما قد يعتري عملها من نقص لتدارك ضرره، فعملها بَشَريٌ معرض للخطأ والصواب، وظروف من يتخذ القرار الإداري ليس كمن يراقب شرعيته في ضوء القانون والاجتهاد القضائي ويستمع لوجهة نظر هذا الطرف وذاك ويقارن بين الحجج ويرجح بينها بميزان العدل؛ وتبقى الغاية التي يصبو لها الجميع في كل دواليب سلطات الدولة هي الوفاء بالأمانة العظمى التي هي أمانة الحكم بالعدل بين الناس.

الرباط في 20 أبريل 2020


 



الاربعاء 22 أبريل 2020

تعليق جديد
Twitter