الجمهورية اللبنانية
محكمة التمييز
المؤتمر الرابع لرؤساء المحاكم العليا في الدول العربية
الدوحة – قطر 24 – 26 أيلول 2013
المحور الثالث
المحاكم المتخصصة كوسيلة للارتقاء والعدالة
بحث موجز
إعداد القاضي / أنطوان ضاهر
رئيس غرفة لدى محكمة التمييز في لبنان
سعادة الرئيس الأول لمجلس القضاء الأعلى في دولة قطر الشقيق،
حضرة الرؤساء والزملاء المحترمين،
أيها الحضور الكريم،
إنه لمن دواعي السرور والإعتزاز أن يشارك الوفد اللبناني المؤلف من قضاة المحكمة العليا برئاسة الرئيس الأول لمحكمة التمييز رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي جان فهد في هذا المؤتمر الرفيع الشأن الذي يحتوي المحاور المتعددة والمتجددة والتي تبرز إلى وضح النهار مهمّة القضاء وإسهامه غير المنازع فيه في إرساء دعائم العدالة وإعلاء دورها تعزيزاً لما اصطلح على تسميته "بدولة القانون".
وإنه لمن دواعي فرحي شخصياً أن أساهم معكم في المحور الثالث وهو بعنوان " المحاكم المتخصصة كوسيلة للارتقاء والعدالة"؛
أيها السادة،
لا بدّ في المستهلّ من التنويه بأن في لبنان نوعين من المحاكم المتخصصة : المحاكم الروحية والشرعية ومجلس شورى الدولة ذلك أنه في هذين المرجعين يوجد قضاة متخصصون للمراجعات التي تطرح لهما، وهم يبقون في مراكزهم حتى انتهاء عملهم، ولا يعالجون أية مراجعات خارج نطاق عملهم،
أما فيما يختصّ بالمراجع الأخرى فليس في لبنان قضاة متخصصون، ولو كانت هناك بعض المحاكم المتخصّصة تتولىّ بتّ بعض الملفات ذات الموضوع الحصري، ذلك أنه في معظم الحالات يتولىّ القضاة المعينّون في تلك المحاكم مهمتهم لفترة محددة من الزمن، بفعل الانتقال إلى محاكم أخرى نتيجة للتشكيلات القضائية؛
والأمثلة على ذلك عديدة؛ محاكم الإيجارات، القضاة العقاريون،المحكمة المصرفية الخاصة، محكمة الأسواق المالية،المحاكم العسكرية ومجالس العمل التحكيمية (وهذه المحاكم الأخيرة تاليفها مختلط)... الخ.
إذاً في لبنان، وفي القضاء العدلي تحديداً، هناك قضاة لجميع المحاكم، الشاملة منها في اختصاصها أو تلك التي أولاها القانون اختصاصاً حصرياً لتلك المحاكم المذكورة آنفاً وغيرها ...
إلاّ أنه برزت في السنوات الأخيرة فكرة التخصّص والسعي إلى تطبيقه وقد دخلت في النفوس والأذهان وهي تلقى قبولاً متزايداً ورواجاً واضحاً لدى العديد من رجال القانون؛
والهدف الأول من هذه الفكرة هو تسريع البتّ بالدعاوى العالقة أمام المحاكم على اختلافها مع وجوب اقترانها بالجودة في إصدار أحكامها، علماً أن عدد الدعاوى يزداد مع الأيام وهو الآن يتجاوز عشرات الألوف وتنوء المحاكم تحت وطأة إنهائها؛
وهنا ينهض التساؤل الملح التالي :
هل يحصل تسريع فعلي في بتّ الدعاوى كلما كانت المحاكم متخصّصة ؟
استميحكم الاستئخار في الجواب على هذا التساؤل إلى ما بعد استنفاد شرح الموضوع من كل جوانبه؛
أيها السادة الكرام،
تفسيراً لما طرح وجاء أعلاه، يحسن لفت النظر إلى أن النظام القضائي اللبناني لا يتضمنّ إذاَ، العديد من المحاكم المتخصصة في موضوع عملها الحصري؛ وعلى قلتها لا يصحّ القول أبداً أن القضاة الذين يرأسون تلك المحاكم هم متخصصون؛ فهم في عملهم ومراكزهم عابرون إذا هم مرتبطون بما تحمله لهم حركة التشكيلات القضائية من توزيع للمناصب، وهي تتم دورياً؛
والمثال الأول على ما يحصل هو المجالس التحيكمية لقضايا العمل، وهي محاكم متخصصة بذاتها كونها تتعاطى فقط بتّ الخلافات القائمة بين أرباب العمل والعمال، هذه المجالس يرأسها قاض غير متخصص في الأصل، وهذا القاضي مرشح لأن ينقل من مركزه في أي حين ولو بدا ناجحاً في عمله ومنتجاً في إصدار الأحكام؛ ومن المعلوم أن مجلس العمل التحكيمي يكمّل بضمّ عضوين إليه، احدهما يمثل أرباب العمل والآخر يمثل العمال، كما يحضر مفوض الحكومة الجلسات وينظم تقريراً غير ملزم.
كذلك الأمر في محاكم الإيجارات التي يرأسها قاض منفرد (دوره شبيه بقاضي الأمور المستعجلة في كل ما يتعلّق بالإجراءات) هذا القاضي المنفرد ينقل بعد حين إلى مكان اخر ولو كان قد أصبح متمرساً في تطبيق أحكام قانون الإيجارات وبتّ الدعاوى المشمولة به؛
وبالتالي، هاتان المحكمتان المذكورتان هما من المحاكم التي قد يكون اختصاصها محصوراً في مواضيع عملها حسب القانون تحديداً دون أن يكون قضاتها متخصصين فيها أصلاً وهم لا يمارسون عملهم فيها مدى الحياة بل يظّلون مرهونين وخاضعين لحركة التشكيلات القضائية التي قد تنقلهم إلى مراكز اخرى أو تبقيهم في مراكزهم المشار إليها؛
وهذه التشيكلات تتم دورياً (كل سنة أغلب الأوقات أو أكثر) وهنا تجدر الملاحظة إلى أنه من المستحسن أن تحصل التشكيلات القضائية في فترات متباعدة (كل /4/ سنوات مثلاً أو كل /5/ سنوات) كي يتمكنّ شاغلو المراكز القضائية من الإنتاج بدلاً من التفكير دوماً بالمراكز الجديدة التي يحلمون بها أو يخشونها والتي سينقلون إليها؛
وهناك المحاكم العسكرية المتخصصة ذات التأليف المختلط (كمثل مجالس العمل التحكيمية)؛ فالمحكمة العسكرية الدائمة – درجة أولى- مؤلفة من رئيس ضابط عسكري ومن أعضاء أحدهم قاض مدني؛ ومحكمة التمييز العسكرية –درجة ثانية- مؤلفة من رئيس قاضٍ مدني ومن أعضاء عسكريين سواء لغرفة الجنح (وقد كنت رئيساً لها في مرحلة من الزمن) أو لغرفة الجنايات؛ هذه المحاكم المتخصّصة بموضوعها وغير المتخصصة كلياً في طريقة تأليفها، أثبتت فعاليتها في بتّ القضايا العالقة والتي تتناول الجنح والجنايات المرتكبة بحق العسكريين وقضايا الإرهاب وأمن الدولة والتعامل مع العدو؛
أما فيما خصّ القضايا التجارية والجنائية، فإن وضعها لا يبتعد في الشبه كثيراً عن وضع المحاكم الموصوف آنفاً؛ فرئيس المحكمة التجارية وأعضاؤها يتبدّلون مع كل تشكيلة قضائية أحياناً (فأنا كنت رئيساً لإحدى الغرف التجارية على مدى /10/ سنوات تقريباً) وكذلك هي الحال بالنسبة لمحاكم الجنايات المتخصصة بهذا النوع من الجرائم، فإن قضاتها يستبدلون كلّما دعت الحاجة،
وخلاصة القول هنا إن القضاة في القضاء العدلي غير متخصصين ولو رأسوا محاكم متخصّصة؛ كما أنه يقتضي للمحاكم المتخصصة قضاة متخصّصون كي يتحملّوا عبء المهام الملقاة عليهم؛
وتجدر الإشارة إلى أن المشترع اللبناني ومنذ العام 1991 اعتمد مبدأ التخصص في مجال معالجة أوضاع المصارف المتعثرة، فقد أنشأ بموجبالقانون رقم 110/1991 المحكمةالمصرفيةالخاصة،وهي مؤلفة من ثلاثة قضاة وخبير في الشؤون المالية أو المحاسبية وخبير في الشؤون المصرفية ومنحها المشترع، بناء على إحالة معللة من حاكم مصرف لبنان،حق إصدار قرار بوضع اليد على أي مصرف اذا تبين انه لم يعد في وضع يمكنه من متابعة اعماله،وعندها تُحال إلى هذه المحكمة حكماً وبصورة إدارية، جميع الدعاوى المتعلقة بالمصرف والتي كانت مقامة لدى المحاكم العادية. أما قضاة هذا المحكمة فيعينون بمرسوم مستقل عن مرسوم التشكيلات القضائية لضمان استمرارية العمل فيها، وقد ساهمت هذه المحكمة بقراراتها السريعة، في الحدّ من الأثر السلبي لتعثّر العديد من المصارف اللبنانية في تسعينيات القرن الماضي. ومما لا شكّ فيه أنالإعتماد على القضاء المتخصص في مجال القطاع المصرفي، أدى إلى تمكين أكثرية المصارف المتعثّرة من تسديد جميع الديون المترتبة عليها.
وأيضاً ووفق المنحى عينه، أنشأ المشترع اللبناني بموجب قانون الأسواق المالية رقم 161 الصادر بتاريخ 17/8/2011، محكمة خاصة بالأسواق المالية برئاسة قاض وعضوية رجل قانون متخصص بالقضايا المالية وخبير في الشؤون المالية يتم تعيينهم بمرسوم مستقل عن مرسوم التشكيلات القضائية ضماناً لاستمرارية عمل القاضي فيها، وتنظر المحكمة الخاصة بالأسواق المالية في النزاعات الـمتكونة بين الأشخاص الطبيعيين و/أو الـمعنويينوالناتجة عن «الأعمال الخاصة بالأدوات الـمالية» كما تنظر في جرائم استغلال وإفشاء معلومات مميزةأو ترويج معلومات خاطئة أو مضللة تتعلق بصكوك أو أدوات مالية أو بمصدري هذهالصكوك والأدوات؛
ومما يشكل دليلاً على الأهمية التي يوليها المشترع اللبناني للسرعة في بتّ النزاعات المالية، جعل قرارات المحكمة الخاصة بالأسواق المالية نهائية ونافذة على أصلها ولا تقبل من طرق الـمراجعة سوى التمييز،كماأوجب على محكمة التمييز أن تصدر قرارها خلال مهلةأقصاها ستة أشهر من تاريخ تسجيل استدعاء التمييز لدى القلـم.فضلاً عن ذلك أجاز المشترع لرئيس هذه المحكمة حق اتخاذ التدابير الـمستعجلةدون التعرض لأصل الحق في كل الـمسائل الداخلة في دائرة اختصاص الـمحكمة، وجعل الإعتراض على قراره أمام الـمحكمةالخاصة بالأسواق الـمالية خلال مهلة ثمانية أيام غير موقف لتنفيذ القرار ما لـم تقرر الـمحكمة خلاف ذلك.
وفي قضايا البيئة التي صدر بشأنها القانون رقم 444/2002 فقد نصّ القانون على معاقبة المخالفات والجنح المرتكبة ضدّ البيئة أمام القاضي المنفرد الجزائي في الدوائر القضائية المختلفة؛ وهذا يعني مرة أخرى أنه ليس هناك قاض متخصّص في محكمة متخصّصة تعنى بشؤون الاعتداء على البيئة لتاريخه؛إلا أن الأمر مرشح للتغيير بعد أن أقرّت اللجان المشتركة في مجلس النواب اللبناني بداية الشهر الحالي (أيلول 2013) مشروع القانون الوارد في المرسوم رقم 7141 الرامي إلى إنشاء نيابة عامة بيئية بحيث سيصبح هناك محام عام بيئي واحد على الأقل في كل محافظة يهتم بالشؤون البيئية وله حق الادعاء المباشر أمام المحاكم،كما حددّ المشروع المذكور الجرائم البيئية بالتفصيل بما فيها التعديات على الأملاك البحرية والنهرية، وكل مخالفات التعديات البيئية، ومخالفات كل القوانين لا سيما القانون رقم 444/2002. وجعل من هذه المخالفات جرائم بيئية.
وكذلك الأمر بالنسبة لما يرتكب من إعتداء على الائتمان العام وأعمال البورصة وخلافه، فالنيابة العامة الماليّة تدعّي على الفاعلين ويحالون أمام المحاكم العادية لمحاكمتهم،
***
أيها السادة،
جواباً على السؤال المطروح في مطلع هذه المداخلة، لا أرى أنه يستقيم الاعتقاد بأن المحاكم المتخصصة أسرع بتّاً للدعاوى وأكثر إنتاجاً من المحاكم العاديّة، بل قد تكون المحاكم كلها متساوية في الإنتاج على همّة القضاة المسؤولين عنها؛
وأعتقد أن القول بوجوب التسريع في بتّ الدعاوى والإكثار من الإنتاج لا يكون في محله في مطلق الأحوال وخاصّة عندما تكون القضايا المطروحة بحاجة إلى الدرس والتعمّق، وفي بعض الأحيان إلى إجتهاد جديد وتطبيق فكرة البحث العلمي الحرّ (La libre recherche scientifique)
فالتروّي والتمهّل في مثل هذا الوضع يشكلان صماّم أمان للمتقاضين المتنازعين؛
وبالرغم من هذا الاعتقاد، أميل أكثر فأكثر إلى وجوب إنشاء المحاكم المتخصّصة، فهي الضمانة الأكيدة لعدالة أفضل وأحسن.
***
أيها السادة،
في مسيرة الحقّ والعدالة والقضاء، ليُسمح لي بأن أشير إلى أن العدالة تتعاطى مع الضعف البشري والعنف البشري ومع خيرات هذه الأرض بهدوء حكيم ومتوازن بعيد عن أي ميل أو تجنٍّ أو جنوح، ذلك أن العدالة فكرةٌ وحرارةٌ نابعتان من الروح على حدّ قول أحد المفكرين (Camus)
وإذا كان السعي الدائم إلى الارتقاء بالعدالة إلى المستوى المطلوب، جودةً وإنتاجيةً وسرعة بتّ، فإن السعي إلى ذلك يجب آلاّ يؤدي إلى مخاطر أهمها تسلّط القاضي على الملف وعلى مراحل التحقيق، وهي كثيرة، وعلى كافة الإجراءات ولو نصّت عليها القوانين المرعيّة؛
وينبغي التذكير بأن هناك فسخة اخرى مضيئة قد تساهم في الارتقاء بالعدالة إلى المنزلة المرغوبة، هذه الفسحة هي القانون الطبيعي (Le droit naturel) المعتمد كمرتكز هام في قانون أصول المحاكمات المدنية اللبناني، كمثل حق الدفاع النابع دون ريب منه، وكمثل مبدأ الوجاهيّة الذي يسهّل دون أدى شكّ بلوغ الحقيقة وهو النابع أيضاً من المنطق الصافي المجردّ (Motulsky)(Le Droit Naturel).
هذه المبادئ وغيرها تشكّل فلسفة القانون التي تؤدي إلى احترام حقوق الإنسان عامةّ والمتقاضي خاصةً؛
وفي الختام، يبقى التساؤل الأهم؛
هل سنظّل نعيش على الدوام صراعاً مريراً من أجل عدالةٍ دون حدود؟
كل الظنّ أن مثل هذا الصراع لن ينتهي في القريب العاجل؛
وتلطيفاً لآثاره يجمل بنا التسريع في إنشاء محاكم متخصصة يتولاهاً قضاة متخصصون في السعي للارتقاء بالعدالة إلى المستوى المرغوم فيه من القضاة والمحامين والمتقاضين وعامّة الناس والرعايا.
والسلام عليكم ورحمة الله؛
أنطوان ضاهر
رئيس غرفة تمييز مدنية – عضو مجلس القضاء الأعلى - لبنان
23
أيلول
2013
محكمة التمييز
المؤتمر الرابع لرؤساء المحاكم العليا في الدول العربية
الدوحة – قطر 24 – 26 أيلول 2013
المحور الثالث
المحاكم المتخصصة كوسيلة للارتقاء والعدالة
بحث موجز
إعداد القاضي / أنطوان ضاهر
رئيس غرفة لدى محكمة التمييز في لبنان
سعادة الرئيس الأول لمجلس القضاء الأعلى في دولة قطر الشقيق،
حضرة الرؤساء والزملاء المحترمين،
أيها الحضور الكريم،
إنه لمن دواعي السرور والإعتزاز أن يشارك الوفد اللبناني المؤلف من قضاة المحكمة العليا برئاسة الرئيس الأول لمحكمة التمييز رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي جان فهد في هذا المؤتمر الرفيع الشأن الذي يحتوي المحاور المتعددة والمتجددة والتي تبرز إلى وضح النهار مهمّة القضاء وإسهامه غير المنازع فيه في إرساء دعائم العدالة وإعلاء دورها تعزيزاً لما اصطلح على تسميته "بدولة القانون".
وإنه لمن دواعي فرحي شخصياً أن أساهم معكم في المحور الثالث وهو بعنوان " المحاكم المتخصصة كوسيلة للارتقاء والعدالة"؛
أيها السادة،
لا بدّ في المستهلّ من التنويه بأن في لبنان نوعين من المحاكم المتخصصة : المحاكم الروحية والشرعية ومجلس شورى الدولة ذلك أنه في هذين المرجعين يوجد قضاة متخصصون للمراجعات التي تطرح لهما، وهم يبقون في مراكزهم حتى انتهاء عملهم، ولا يعالجون أية مراجعات خارج نطاق عملهم،
أما فيما يختصّ بالمراجع الأخرى فليس في لبنان قضاة متخصصون، ولو كانت هناك بعض المحاكم المتخصّصة تتولىّ بتّ بعض الملفات ذات الموضوع الحصري، ذلك أنه في معظم الحالات يتولىّ القضاة المعينّون في تلك المحاكم مهمتهم لفترة محددة من الزمن، بفعل الانتقال إلى محاكم أخرى نتيجة للتشكيلات القضائية؛
والأمثلة على ذلك عديدة؛ محاكم الإيجارات، القضاة العقاريون،المحكمة المصرفية الخاصة، محكمة الأسواق المالية،المحاكم العسكرية ومجالس العمل التحكيمية (وهذه المحاكم الأخيرة تاليفها مختلط)... الخ.
إذاً في لبنان، وفي القضاء العدلي تحديداً، هناك قضاة لجميع المحاكم، الشاملة منها في اختصاصها أو تلك التي أولاها القانون اختصاصاً حصرياً لتلك المحاكم المذكورة آنفاً وغيرها ...
إلاّ أنه برزت في السنوات الأخيرة فكرة التخصّص والسعي إلى تطبيقه وقد دخلت في النفوس والأذهان وهي تلقى قبولاً متزايداً ورواجاً واضحاً لدى العديد من رجال القانون؛
والهدف الأول من هذه الفكرة هو تسريع البتّ بالدعاوى العالقة أمام المحاكم على اختلافها مع وجوب اقترانها بالجودة في إصدار أحكامها، علماً أن عدد الدعاوى يزداد مع الأيام وهو الآن يتجاوز عشرات الألوف وتنوء المحاكم تحت وطأة إنهائها؛
وهنا ينهض التساؤل الملح التالي :
هل يحصل تسريع فعلي في بتّ الدعاوى كلما كانت المحاكم متخصّصة ؟
استميحكم الاستئخار في الجواب على هذا التساؤل إلى ما بعد استنفاد شرح الموضوع من كل جوانبه؛
أيها السادة الكرام،
تفسيراً لما طرح وجاء أعلاه، يحسن لفت النظر إلى أن النظام القضائي اللبناني لا يتضمنّ إذاَ، العديد من المحاكم المتخصصة في موضوع عملها الحصري؛ وعلى قلتها لا يصحّ القول أبداً أن القضاة الذين يرأسون تلك المحاكم هم متخصصون؛ فهم في عملهم ومراكزهم عابرون إذا هم مرتبطون بما تحمله لهم حركة التشكيلات القضائية من توزيع للمناصب، وهي تتم دورياً؛
والمثال الأول على ما يحصل هو المجالس التحيكمية لقضايا العمل، وهي محاكم متخصصة بذاتها كونها تتعاطى فقط بتّ الخلافات القائمة بين أرباب العمل والعمال، هذه المجالس يرأسها قاض غير متخصص في الأصل، وهذا القاضي مرشح لأن ينقل من مركزه في أي حين ولو بدا ناجحاً في عمله ومنتجاً في إصدار الأحكام؛ ومن المعلوم أن مجلس العمل التحكيمي يكمّل بضمّ عضوين إليه، احدهما يمثل أرباب العمل والآخر يمثل العمال، كما يحضر مفوض الحكومة الجلسات وينظم تقريراً غير ملزم.
كذلك الأمر في محاكم الإيجارات التي يرأسها قاض منفرد (دوره شبيه بقاضي الأمور المستعجلة في كل ما يتعلّق بالإجراءات) هذا القاضي المنفرد ينقل بعد حين إلى مكان اخر ولو كان قد أصبح متمرساً في تطبيق أحكام قانون الإيجارات وبتّ الدعاوى المشمولة به؛
وبالتالي، هاتان المحكمتان المذكورتان هما من المحاكم التي قد يكون اختصاصها محصوراً في مواضيع عملها حسب القانون تحديداً دون أن يكون قضاتها متخصصين فيها أصلاً وهم لا يمارسون عملهم فيها مدى الحياة بل يظّلون مرهونين وخاضعين لحركة التشكيلات القضائية التي قد تنقلهم إلى مراكز اخرى أو تبقيهم في مراكزهم المشار إليها؛
وهذه التشيكلات تتم دورياً (كل سنة أغلب الأوقات أو أكثر) وهنا تجدر الملاحظة إلى أنه من المستحسن أن تحصل التشكيلات القضائية في فترات متباعدة (كل /4/ سنوات مثلاً أو كل /5/ سنوات) كي يتمكنّ شاغلو المراكز القضائية من الإنتاج بدلاً من التفكير دوماً بالمراكز الجديدة التي يحلمون بها أو يخشونها والتي سينقلون إليها؛
وهناك المحاكم العسكرية المتخصصة ذات التأليف المختلط (كمثل مجالس العمل التحكيمية)؛ فالمحكمة العسكرية الدائمة – درجة أولى- مؤلفة من رئيس ضابط عسكري ومن أعضاء أحدهم قاض مدني؛ ومحكمة التمييز العسكرية –درجة ثانية- مؤلفة من رئيس قاضٍ مدني ومن أعضاء عسكريين سواء لغرفة الجنح (وقد كنت رئيساً لها في مرحلة من الزمن) أو لغرفة الجنايات؛ هذه المحاكم المتخصّصة بموضوعها وغير المتخصصة كلياً في طريقة تأليفها، أثبتت فعاليتها في بتّ القضايا العالقة والتي تتناول الجنح والجنايات المرتكبة بحق العسكريين وقضايا الإرهاب وأمن الدولة والتعامل مع العدو؛
أما فيما خصّ القضايا التجارية والجنائية، فإن وضعها لا يبتعد في الشبه كثيراً عن وضع المحاكم الموصوف آنفاً؛ فرئيس المحكمة التجارية وأعضاؤها يتبدّلون مع كل تشكيلة قضائية أحياناً (فأنا كنت رئيساً لإحدى الغرف التجارية على مدى /10/ سنوات تقريباً) وكذلك هي الحال بالنسبة لمحاكم الجنايات المتخصصة بهذا النوع من الجرائم، فإن قضاتها يستبدلون كلّما دعت الحاجة،
وخلاصة القول هنا إن القضاة في القضاء العدلي غير متخصصين ولو رأسوا محاكم متخصّصة؛ كما أنه يقتضي للمحاكم المتخصصة قضاة متخصّصون كي يتحملّوا عبء المهام الملقاة عليهم؛
وتجدر الإشارة إلى أن المشترع اللبناني ومنذ العام 1991 اعتمد مبدأ التخصص في مجال معالجة أوضاع المصارف المتعثرة، فقد أنشأ بموجبالقانون رقم 110/1991 المحكمةالمصرفيةالخاصة،وهي مؤلفة من ثلاثة قضاة وخبير في الشؤون المالية أو المحاسبية وخبير في الشؤون المصرفية ومنحها المشترع، بناء على إحالة معللة من حاكم مصرف لبنان،حق إصدار قرار بوضع اليد على أي مصرف اذا تبين انه لم يعد في وضع يمكنه من متابعة اعماله،وعندها تُحال إلى هذه المحكمة حكماً وبصورة إدارية، جميع الدعاوى المتعلقة بالمصرف والتي كانت مقامة لدى المحاكم العادية. أما قضاة هذا المحكمة فيعينون بمرسوم مستقل عن مرسوم التشكيلات القضائية لضمان استمرارية العمل فيها، وقد ساهمت هذه المحكمة بقراراتها السريعة، في الحدّ من الأثر السلبي لتعثّر العديد من المصارف اللبنانية في تسعينيات القرن الماضي. ومما لا شكّ فيه أنالإعتماد على القضاء المتخصص في مجال القطاع المصرفي، أدى إلى تمكين أكثرية المصارف المتعثّرة من تسديد جميع الديون المترتبة عليها.
وأيضاً ووفق المنحى عينه، أنشأ المشترع اللبناني بموجب قانون الأسواق المالية رقم 161 الصادر بتاريخ 17/8/2011، محكمة خاصة بالأسواق المالية برئاسة قاض وعضوية رجل قانون متخصص بالقضايا المالية وخبير في الشؤون المالية يتم تعيينهم بمرسوم مستقل عن مرسوم التشكيلات القضائية ضماناً لاستمرارية عمل القاضي فيها، وتنظر المحكمة الخاصة بالأسواق المالية في النزاعات الـمتكونة بين الأشخاص الطبيعيين و/أو الـمعنويينوالناتجة عن «الأعمال الخاصة بالأدوات الـمالية» كما تنظر في جرائم استغلال وإفشاء معلومات مميزةأو ترويج معلومات خاطئة أو مضللة تتعلق بصكوك أو أدوات مالية أو بمصدري هذهالصكوك والأدوات؛
ومما يشكل دليلاً على الأهمية التي يوليها المشترع اللبناني للسرعة في بتّ النزاعات المالية، جعل قرارات المحكمة الخاصة بالأسواق المالية نهائية ونافذة على أصلها ولا تقبل من طرق الـمراجعة سوى التمييز،كماأوجب على محكمة التمييز أن تصدر قرارها خلال مهلةأقصاها ستة أشهر من تاريخ تسجيل استدعاء التمييز لدى القلـم.فضلاً عن ذلك أجاز المشترع لرئيس هذه المحكمة حق اتخاذ التدابير الـمستعجلةدون التعرض لأصل الحق في كل الـمسائل الداخلة في دائرة اختصاص الـمحكمة، وجعل الإعتراض على قراره أمام الـمحكمةالخاصة بالأسواق الـمالية خلال مهلة ثمانية أيام غير موقف لتنفيذ القرار ما لـم تقرر الـمحكمة خلاف ذلك.
وفي قضايا البيئة التي صدر بشأنها القانون رقم 444/2002 فقد نصّ القانون على معاقبة المخالفات والجنح المرتكبة ضدّ البيئة أمام القاضي المنفرد الجزائي في الدوائر القضائية المختلفة؛ وهذا يعني مرة أخرى أنه ليس هناك قاض متخصّص في محكمة متخصّصة تعنى بشؤون الاعتداء على البيئة لتاريخه؛إلا أن الأمر مرشح للتغيير بعد أن أقرّت اللجان المشتركة في مجلس النواب اللبناني بداية الشهر الحالي (أيلول 2013) مشروع القانون الوارد في المرسوم رقم 7141 الرامي إلى إنشاء نيابة عامة بيئية بحيث سيصبح هناك محام عام بيئي واحد على الأقل في كل محافظة يهتم بالشؤون البيئية وله حق الادعاء المباشر أمام المحاكم،كما حددّ المشروع المذكور الجرائم البيئية بالتفصيل بما فيها التعديات على الأملاك البحرية والنهرية، وكل مخالفات التعديات البيئية، ومخالفات كل القوانين لا سيما القانون رقم 444/2002. وجعل من هذه المخالفات جرائم بيئية.
وكذلك الأمر بالنسبة لما يرتكب من إعتداء على الائتمان العام وأعمال البورصة وخلافه، فالنيابة العامة الماليّة تدعّي على الفاعلين ويحالون أمام المحاكم العادية لمحاكمتهم،
***
أيها السادة،
جواباً على السؤال المطروح في مطلع هذه المداخلة، لا أرى أنه يستقيم الاعتقاد بأن المحاكم المتخصصة أسرع بتّاً للدعاوى وأكثر إنتاجاً من المحاكم العاديّة، بل قد تكون المحاكم كلها متساوية في الإنتاج على همّة القضاة المسؤولين عنها؛
وأعتقد أن القول بوجوب التسريع في بتّ الدعاوى والإكثار من الإنتاج لا يكون في محله في مطلق الأحوال وخاصّة عندما تكون القضايا المطروحة بحاجة إلى الدرس والتعمّق، وفي بعض الأحيان إلى إجتهاد جديد وتطبيق فكرة البحث العلمي الحرّ (La libre recherche scientifique)
فالتروّي والتمهّل في مثل هذا الوضع يشكلان صماّم أمان للمتقاضين المتنازعين؛
وبالرغم من هذا الاعتقاد، أميل أكثر فأكثر إلى وجوب إنشاء المحاكم المتخصّصة، فهي الضمانة الأكيدة لعدالة أفضل وأحسن.
***
أيها السادة،
في مسيرة الحقّ والعدالة والقضاء، ليُسمح لي بأن أشير إلى أن العدالة تتعاطى مع الضعف البشري والعنف البشري ومع خيرات هذه الأرض بهدوء حكيم ومتوازن بعيد عن أي ميل أو تجنٍّ أو جنوح، ذلك أن العدالة فكرةٌ وحرارةٌ نابعتان من الروح على حدّ قول أحد المفكرين (Camus)
وإذا كان السعي الدائم إلى الارتقاء بالعدالة إلى المستوى المطلوب، جودةً وإنتاجيةً وسرعة بتّ، فإن السعي إلى ذلك يجب آلاّ يؤدي إلى مخاطر أهمها تسلّط القاضي على الملف وعلى مراحل التحقيق، وهي كثيرة، وعلى كافة الإجراءات ولو نصّت عليها القوانين المرعيّة؛
وينبغي التذكير بأن هناك فسخة اخرى مضيئة قد تساهم في الارتقاء بالعدالة إلى المنزلة المرغوبة، هذه الفسحة هي القانون الطبيعي (Le droit naturel) المعتمد كمرتكز هام في قانون أصول المحاكمات المدنية اللبناني، كمثل حق الدفاع النابع دون ريب منه، وكمثل مبدأ الوجاهيّة الذي يسهّل دون أدى شكّ بلوغ الحقيقة وهو النابع أيضاً من المنطق الصافي المجردّ (Motulsky)(Le Droit Naturel).
هذه المبادئ وغيرها تشكّل فلسفة القانون التي تؤدي إلى احترام حقوق الإنسان عامةّ والمتقاضي خاصةً؛
وفي الختام، يبقى التساؤل الأهم؛
هل سنظّل نعيش على الدوام صراعاً مريراً من أجل عدالةٍ دون حدود؟
كل الظنّ أن مثل هذا الصراع لن ينتهي في القريب العاجل؛
وتلطيفاً لآثاره يجمل بنا التسريع في إنشاء محاكم متخصصة يتولاهاً قضاة متخصصون في السعي للارتقاء بالعدالة إلى المستوى المرغوم فيه من القضاة والمحامين والمتقاضين وعامّة الناس والرعايا.
والسلام عليكم ورحمة الله؛
أنطوان ضاهر
رئيس غرفة تمييز مدنية – عضو مجلس القضاء الأعلى - لبنان
23
أيلول
2013