MarocDroit  -  موقع العلوم القانونية
plateforme des décideurs juridiques - Platform of Legal Decision-Makers



مسارات بناء القضاء المتخصص بالمغرب - الحاجة إلى قضاء عقاري

     

محمد زعــاج
دكتور في القانون الخاص



قبل البدء أتسائل:

" ألا يستحق العقار بالمغرب تجربة قضائية عقارية أفضل من هذه؟ ألم يتسبب غياب قضاء عقاري متخصص ومتكامل في كثير من سوء الفهم وضياع الجهود والحقوق، وسوء تطبيق القانون؟ ألا تكشف مجموعة من الأوضاع العملية عن اشتغال الإدارة العقارية في واد، والقضاء في واد آخر؟ ألا تدفع بعض قواعد توزيع الاختصاص وفصل المساطر القضائية والإدارية إلى غياب الحكمة وسيادة التحكم؟ ثم لماذا تنصب كل الجهود على إقرار مزيد من التضخم على مستوى القواعد الموضوعية، وتغفل الجوانب الإجرائية؟".

بدء:

ظلت مسألة الاختصاص والتخصص، إلى جانب الاستقلالية، عنصرا حاضرا باستمرار في مسار بناء التنظيم القضائي بالمغرب، وإن اتخذت في إطار ذلك أبعادا مختلفة باختلاف ظروف طرحها. إلا أن المؤكد أنها لم تكن دائما بهدف خدمة هذا الجهاز، من أجل تحقيق أهدافه الكونية في العدالة ودفع المظالم، بل كثيرا ما اعتمدت مطية لتقويضه عن لعب أدواره الأساسية والمس باستقلالية قراره، بأحكام تصدر باسمه.

وإذا أردنا التأريخ الزمني لهذه المرحلة، فهي ترتبط أساسا بفترة الحماية والإرهاصات التي سبقتها.
إلا أن الحديث عن الاختصاص والتخصص بعد الفترة التي تلت الحماية، وصولا إلى الوقت الحاضر، لا شك أنها دعوة تتم بأهداف مرتبط أساسا بتحقيق جودة العمل القضائي، والنأي به عن كل ما من شأنه المس باستقلالية قراره، ليس فقط عن أجهزة أخرى، ولكن عن كل من ليس أهلا لإصدار قرارات في موضوع معين، لأنه لا فرق بين قاض ظالم وغير مستقل عن جهاز آخر، وقاض جاهل، غير مستقل عن الجهل نفسه. فنحن لا نريد فقط قاضيا مستقلا في قراره، ولكن أيضا قاضيا أهلا لهذه الاستقلالية.
 فاستقلالية القضاء في غياب الكفاءة – والتخصص من أهم ضماناتها- لن يضيف شيئا لهذا الجهاز، حيث إما أن لا يمارس هذه الاستقلالية، أو يسيء استخدامها.
على العموم، فإن النظام القضائي المغربي مر بعدة مراحل، شهد خلالها تحولات كثيرة، واتخذ مظاهر وتجليات متشابكة، لدرجة يصعب وضع توصيف دقيق لها. إلا أن الأساس في ذلك أنه ظل في عمومه مشبعا بمختلف أشكال التخصص والاختصاص، في أبعاده الايجابية والسلبية.


لذلك فهو ليس بمطلب غريب، بل هو مطلب مشروع في حد ذاته، إلا أن الإشكال هو فقط مدى مشروعية النوايا، وأشكال تفعيل التخصص على مستوى هذا الجهاز.

في هذا الإطار، وفي ضوء التساؤل أعلاه، سأعمل على مقاربة الموضوع من خلال محورين:
محور أول، أعمل فيه على رصد مسار ومظاهر التخصص في النظام القضائي المغربي منذ ما قبل الحماية إلى اليوم.
 محور ثان، أستعرض فيه مجموعة من الاعتبارات الدافعة نحو إقرار هياكل قضاء عقاري متخصص ومستقل.


باعتبار التخصص خاصية ليست بالغريبة في مسار تكوين التنظيم القضائي بالمغرب، لا بأس من وقفة تعريفية عند أهم تجلياته على امتداد المراحل الأساسية لبناء النظام القضائي بالمغرب، في بعده التخصصي، من خلال الفترات الثلاث الفاصلة من تاريخه، وهي ما قبل الحماية، الحماية، وما بعد الاستقلال (أولا)

وصولا إلى الميثاق الوطني لإصلاح العدالة، ومشروع قانون التنظيم القضائي، اللذين رغم تطرقهما لمسألة التخصص، إلا أن ذلك تم وفق مقاربة مختلفة نسبيا، سواء على مستوى التشخيص أو تصور الحلول (ثانيا). 

أولا - بنية التخصص في التنظيم القضائي المغربي

لقد اتخذ القضاء بـ مغرب ما قبل الحماية خمسة مظاهر أساسية(): هي القضاء الشرعي، القضاء العرفي، القضاء المخزني، القضاء العبري، قبل أن يضاف إليه قبيل الحماية قسم آخر متمثل في ما يسمى بـ القضاء القنصلي. وهي تصنيفات إن كانت تعزى لظروف مختلفة، إلا أن جوهرها يقوم على الاختصاص والتخصص في أبعاده السلبية والايجابية.

فإذا كان القضاء الشرعي نظاما قضائيا أساسيا، يشمل اختصاصه مبدئيا النظر في جميع القضايا المدنية والجنائية، إلا أنه من جانب آخر، وبالنظر لعدة اعتبارات، منها عدم بسط الدولة لسلطتها الفعلية على كافة مناطق المغرب، والطبيعة القبيلة للمجتمع المغربي، بالإضافة لقلة عدة القضاة الشرعيين الذين كانت تُتطلب فيهم كفاءة خاصة لتولي مقاليد هذا المنصب...الخ ظهر نوع آخر من القضاء، هو القضاء العرفي، حيث إذا كان هناك من يعتقد بأن هذا الأخير وليد ظهير 16 ماي 1930 (ما يسمى بالظهير البربري)، فإنه في الحقيقة ينبغي التمييز بين القضاء العرفي، الذي يمتد إلى فترات طويلة قبل الحماية، لعدة اعتبارت، متعلقة بمحدودية سيطرة الدولة، وسيادة المجتمع والنظام القبلي آنذاك، الذي اعترف به السلاطين...الخ()، وتأسيس المحاكم العرفية الذي تم خلال فترة الحماية من خلال عدة نصوص، سنتوقف عندها فيما سيأتي.

 بالموازاة مع ذلك، شكل القضاء المخزني الذي تولاه رجال السلطة من ولاة وباشوات وقواد، مظهرا من مظاهر عدم استقلالية الجهاز القضائي بالمغرب عن الجهاز التنفيذي، خاصة على المستوى الجنائي، ثم المدني والتجاري بعد ذلك في فترات لاحقة ().

وعليه، فقد كان الولاة والباشوات والقواد، يتولون بحكم الواقع سلطة واسعة، بصلاحيات تمكنهم من استدعاء الأطراف المتنازعة وإصدار أحكام في النازلة، دون إطار قانوني - إجرائي واضح. حيث تنفذ بمجرد صدورها أو خلال مدة وجيزة، ولم تكن هناك أية وسيلة للطعن في ذلك الحكم، ما عدا الشكاية التي يمكن أن توجه إلى السلطان()، والتي لا يُجرأ على القيام بها نظرا للهيبة التي يتمتع بها الباشا أو القائد ().

وبحكم تواجد طائفة يهودية، احتل القضاء العبري بالنسبة لليهود بالمغرب ذات مكانة القضاء الشرعي عند المسلمين، و مظهرا آخر من مظاهر الاختصاص والتخصص، إذ بالموازاة مع وجود القاضي الشرعي، كانت المحاكم العبرية تنظر في القضايا المتعلقة بالأحوال الشخصية لليهود، بل كان اختصاصها في تلك الفترة يمتد إلى القضايا المدنية والتجارية، عندما تنتمي الأطراف المتنازعة إلى الديانة اليهودية، حيث يطبق "القضاة الأحبار" الشريعة الموسوية، ويتلقون سلطتهم من ظهير يسلم للأشخاص، وتتقدم كل جالية يهودية على حدة باقتراح مرشح لمنصب القاضي، أو ما يسمى عندهم بـ "الدجان"، قصد الموافقة السلطانية عليه، والذي يمارس مهام الحسم في المنازعات أو الإصلاح بين الأطراف، بمساعدة عدلين أو ما يسمى بـ "سوفريم يسلمان" كانا يقومان بمهمة التوثيق بالتنسيق مع كتابة الضبط.

وعلى خلاف القاضي الشرعي الذي أجبر بحكم الواقع على التنازل عن بعض اختصاصاته لرجال السلطة، فإن القاضي العبري ظل محتفظا باستقلالية قراره وخصوصيته ().

خلال أواخر القرن 19 وبداية ق 20، في ظل الأطماع التوسعية الأوربية بالخصوص، ومع إهراصات الحماية، برز شكل آخر من الأشكال السلبية للقضاء المتخصص، تمثل في القضاء القنصلي كمكمل لـ "الحماية القنصلية"، الذي كان يقتصر على فئة خاصة "الرعايا والمحميين"، بالاستناد إلى الاتفاقيات الممهدة للحماية.

أما خلال فترة الحماية، فلم تطرأ تحولات كبيرة على النظام القضائي المغربي، باستثاء تكريس بعض مظاهره وأشكاله السلبية. فرغم اعتراف سلطات الحماية بالقضاء الشرعي، والتزامها باحترامه، تم إهماله وتقيلص كثير من صلاحياته واختصاصاته، بشكل أصبح معه تدخله محدودا في مجال الأحوال الشخصية والميراث بين المسلمين، ودعاوى العقار غير المحفظ، أي أنها أصبحت مقتصرة على النزاعات المغربية(). 

في حين تم إعادة تنظيم القضاء العبري()، بإحداث درجة ثانية تستأنف أمامها أحكام المحاكم الابتدائية المتعلقة بالأحوال الشخصية والميراث لليهود المغاربة، كما أنشئت مجالس للأحبار المفوضين في المدن التي لم يكن فيها محكمة ابتدائية، وبقي للمحكمة العبرية العليا بالرباط تلقي الطعون في أحكام المحاكم الابتدائية().

 كما تم تعويض المحاكم القنصلية بالمحاكم الفرنسية، أو بما سمي المحاكم العصرية()، مع تكريس تدخل السلطة التنفيذية في القضاء بإحداث المحاكم المخزنية، تحول معها تدخل رجال السلطة في القضاء من استثنائي إلى قضاء عادي().

كما استمر حضور العرف وتأكدت شرعيته القانونية()، بداية من خلال ظهير11 شتنبر 1914 في شأن ما يتعلق بأمور القبائل الأمازيغية بالإيالة الشريفة (). 

أما على مستوى القضاء، وبالنظر لكون هذه القبائل لم توجد بها في الأصل محاكم مكلفة بتطبيق القواعد الشرعية، عكس مناطق أخرى كانت تنتشر فيها المحاكم الشرعية التي تحكم بمقتضى الفقه المالكي، فقد شكل صدور ظهير 16 ماي 1930() المنظم لسير العدالة بالقبائل ذات الأعراف الأمازيغية التي لا توجد بها محاكم لتطبيق الشرعية ()، تكريسا للمحاكم العرفية. 

وعلى العموم، فقد امتاز النظام القضائي في هذه المرحلة باختلاط السلطات و عدم استقلاليتها في بعض القضايا، وتعدد المحاكم و التشريعات (). 

بعد الاستقلال، عمل المغرب على إلغاء كل المظاهر التي تمس بسيادة الدولة على قضائها، حيث انخرط في مجموعة من الخطوات على مستوى تنظيمه القضائي، الهادفة في جانب منها إلى إقرار مبدأ استقلاله عن السلطة التنفيذية، ومظاهر التخصص السلبية التي كرستها الحماية من جهة، خاصة إلغاء المحاكم المخزنية والمحاكم العرفية()، ليدشن بالموازاة مع ذلك خطوات متقدمة مهمة نحو تكريس القضاء المتخصص.

لتصبح بعد ذلك هيكلة التنظيم القضائي بالمغرب مقسمة إلى محاكم عادية () باعتبارها صاحبة الاختصاص فيما لم يسند استثناء بنص صريح إلى محكمة أخرى، حيث تضم محاكم الحكام المفوضين، التي تحولت إلى محاكم السدد، والمحاكم الإقليمية()، إلى جانب محاكم القضاء الشرعي()، ثم المحاكم العصرية ().

إلا أنه بصدور ظهير 26 يناير 1965 المتعلق بتوحيد القضاء ومغربته وتعريبه، الذي ألغى مظاهر تعدد الجهات القضائية، خاصة منها المحاكم العصرية، الشرعية، والعبرية، بحيث أصبح التنظيم القضائي متألف من جهة قضائية موحدة، متكونة من (محكم السدد، المحاكم الإقليمية، محاكم الاستئناف، والمجلس الأعلى). 

إلا أنه مع ذلك استمرت مظاهر تكريس القضاء المتخصص، من خلال توجه نحو إحداث محاكم اجتماعية، وذلك من خلال تأسيس محاكم الشغل بموجب ظهير 29 أبريل 1957()، ثم المحاكم الاجتماعية بموجب ظهير 27 يوليوز 1972، عرف خلاله المغرب نموذجا لقضاء اجتماعي متخصص وحديث منسجم مع خصوصياته، بالموازاة مع انخراطه وتوقيعه على مجموعة من الاتفاقيات الصادرة عن منظمة العمل الدولية. إلا أن هذا النظام لم يعمر للأسف إلا بضع شهور، إذ سرعان ما انتهى بالإصلاح القضائي لسنة 1974()، الذي ألغى محاكم السدد، وأحدث بالمقابل ما يسمى بمحاكم الجماعات والمقاطعات، كما ألغى المحاكم الاقليمية والمحاكم الاجتماعية، وأحدث المحاكم الابتدائية ذات الولاية العامة. 

حيث أصبح التنظيم القضائي يتكون من أربع جهات أساسية هي: محاكم الجماعات والمقاطعات، المحاكم الابتدائية، محاكم الاستئناف، والمجلس الأعلى.

ورغم إلغاء المحاكم الاجتماعية، فإن هذا الأمر لم يمثل تراجعا عن التوجه نحو إقرار آليات قضاء متخصص، بل مجرد حالة أو خاصية من خصائص المد والجزر الذي شهده هذا الجهاز منذ تأسيسه، خاصة وأن مرحلة التسعينات ستشهد تحولات مهمة نحو قضاء متخصص، وذلك بإحداث المحاكم الإدارية سنة 1993، ومحاكم استئناف إدارية سنة 2006 ، ومحاكم تجارية ومحاكم استئناف تجارية، والغرفة التجارية ب محكمة النقض (المجلس الأعلى)  سنة 1997 ، إحداث أقسام قضاء الأسرة سنة 2004، إحداث محاكم ابتدائية مدنية، محاكم ابتدائية اجتماعية، محاكم ابتدائية زجرية سنة 2011...الخ.
لدرجة أن هناك من يعتقد بأن النظام القضائي بالمغرب لا يقوم على وحدة القضاء، في ظل وجود محاكم إدارية وإشارات نحو تأسيس مجلس للدولة ().

ثانيا - مقاربة التخصص في ميثاق إصلاح منظومة العدالة ومشروع قانون التنظيم القضائي

رغم أن الميثاق الوطني لإصلاح العدالة، ثم مشروع قانون التنظيم القضائي لم يخل من إشارة لمسألة التخصص على مستوى تشخيصه للوضع القضائي بالمغرب، إلا أنه بالمقابل لم يقدم إشارات واضحة في تصوره للإصلاح، نحو اعتماد مثل هذا القضاء، رغم تخصيصه حيزا واسعة لتعزيز الاحترافية والتخصص، باعتبارها إحدى أهم مقتضياته وشروطه العملية.

1 - تشخيص مسألة التخصص.

في سياق تشخيصه للوضع الراهن لمنظومة العدالة، توقف الميثاق الوطني لإصلاح العدالة عند مجموعة من جوانب النقص، سواء على مستوى:

فاعلية ونجاعة القضاء، حيث سجل عدم تعميم القضاء المتخصص.
القدرات المؤسسية لمنظومة العدالة، حيث سجل محدودية المؤهلات المهنية ونقص الكفاءات التخصصية. بحيث أعزى ذلك لجملة من العوامل.
على مستوى أساليب تدبير مرفق القضاء، سجل أن الإدارة القضائية تعاني من ضعف اللاتمركز الإداري والمالي، والجمع بين المسؤولية القضائية والمسؤولية الإدارية...الخ

2- الرؤيا العامة للإصلاح على مستوى التخصص.

أكد الميثاق ومعه المشروع بهذا الخصوص على أمرين:

إرساء تنظيم قضائي قائم على التخصص في إطار وحدة القضاء، قمته محكمة النقض()، من خلال: 

مراجعة قانون التنظيم القضائي، والقوانين ذات الصلة.
جعل المحكمة الابتدائية الوحدة الرئيسية في التنظيم القضائي، باعتبارها صاحبة الولاية العامة، والمختصة بالبت في كل القضايا التي لم يسند الاختصاص بشأنها صراحة إلى جهة قضائية معينة.
التأسيس لمحكمة مرتكزة على تصور جديد، قوامه القرب والبساطة والكفاءة.
ويبدو واضحا التأكيد على ضرورة نهج توجه نحو احترام مبدأي الوحدة والتخصص، من خلال الهيكلة الجديد التي اقترحها الميثاق بالنسبة للقضاء المتخصص على مستوى المحاكم التجارية، والإدارية، وكذا ما يتعلق بقضاء القرب، واقتراح إحداث غرف خاصة على مستوى المحاكم الإبتدائية .
امكانية تقسيم المحكمة الابتدائية إلى أقسام لقضاء الأسرة، ولقضاء القرب، وللقضايا المدنية، وللقضايا الزجرية، ولقضايا الأحداث.
امكانية إحداث محاكم ابتدائية ذات اختصاص حصري حسب نوعية القضايا (مدني، اجتماعي، زجري)، وعند الاقتضاء يمكن إحداث هذه المحاكم بشأن اختصاصات محددة ضمن الميادين المذكورة. وهو ما لا يستثني ميدان العقار.
التوجه على مستوى المحاكم الإدارية: ربط إحداث المحاكم الإدارية بالدوائر القضائية التي يبرر حجم المنازعات الإدارية إحداث هذه المحاكم، مع الاحتفاظ بمحكمتي الاستئناف الإداريتين بكل من الرباط ومراكش، والسعي تدريجيا إلى إحداث أقسام إدارية متخصصة بالمحاكم الابتدائية وغرف إدارية متخصصة بمحاكم الاستئناف، تختص بالبت في المنازعات الإدارية.
التوجه على مستوى المحاكم التجارية: إحداث أقسام تجارية متخصصة ببعض المحاكم الابتدائية للبت في القضايا التجارية التي يعود الاختصاص فيها إلى المحاكم التجارية، مع بقاء المحاكم التجارية الأخرى مختصة بالقضايا التجارية التي لم تسند حصريا للمحاكم والأقسام التجارية المذكورة. إلى جانب إحداث غرف استئناف تجارية متخصصة بمحاكم الاستئناف للنظر في استئناف الأحكام الصادرة عن باقي المحاكم التجارية غير المحكمة التجارية بالدار البيضاء، وعن الأقسام المتخصصة بالمحاكم الابتدائية ، والأحكام الصادرة في القضايا التجارية عن هذه المحاكم الأخيرة().

ثم توسيع قضاء اختصاصاته قضاء القرب إلى بعض الجنح()، ودعم الغرف المتخصصة في مجال الصحافة والنشر والتواصل والإعلام، بقضاة مكونين تكوينا خاصا في هذا المجال.

بتعزيز التكوين التخصصي والاحترافي، من خلال:

وضع الآليات العملية للرفع من جودة الأحكام، لاسيما من خلال التكوين الأساسي والتخصصي.

 مراجعة نظام التكوين الأساسي والمستمر والتخصصي بمعهد تكوين القضاة، خاصة هذا الأخير الذي دعى الميثاق بخصوصه إلى اعتماد برنامج تكوين تخصصي بما يضمن الإحترافية، لا سيما في القضايا التجاري، الإدارية، الاجتماعية، قضايا الأسرة، ...الخ
إلا أن الملاحظ على الرغم من أهمية هذه المقاربة، أن الميثاق والمشروع عندما حددا المجالات المعنية بهذا التكوين والتخصص، أغفلا المجال العقاري، وركزا بالمقابل على مجالات كـ (القضايا التجارية، الإدارية، الاجتماعية، قضايا الأسرة، قضاء النيابة العامة، التحقيق، الأحداث، جرائم الأموال، جرائم الصحافة، الجرائم المرتبطة بالنظم المعلوماتية).

حيث لا تتضمن إشارات واضحة لإحداث جهاز قضائي مستقل في المجال العقاري، إلا أنها بالمقابل لا تستبعده، حيث يمكن في ظل المعطيات الحالية، إقرار مثل هذا التوجه، خاصة أننا أمام مشروع لم يتم بعد إقراره بعد، ولاشك أن تغيرات ستلحقه.


بحكم جملة من الاعتبارات، يمكن الجزم أن مجال العقار بالمغرب بارتباط مع التوثيق، تتوافر فيه كل العوامل والأسباب الدافعة نحو إقرار هياكل قضاء عقاري متخصص، أو على الأقل التفكير الجدي في وضع آلية تدريجية لتحقيق ذلك (أولا)، حيث تشكل في هذا الإطار تجربة المحاكم العقارية بتونس نموذجا يمكن البناء عليه لإقرار تجربة مغربية تراعي الخصوصية، وتضمن التخصص (ثانيا).

أولا: دوافع الحاجة لقضاء عقاري متخصص

تتضافر مجموعة من العوامل الدافعة نحو ضرورة إستمرار المغرب في تجسيد توجهات إقرار هياكل قضاء متخصص، والتي يجب أن لا يستثنى منها المجال العقاري، حيث يتوجب على الأقل التفكير الجدي في إقرار مثل هذا التوجه، بوضع آلية تدريجية لذلك.
وهي عومل لا تقل في شيء عن تلك التي اقتضت وواكبت إقرار تجارب سابقة للقضاء المتخصص، على غرار المحاكم الإدارية، والمحاكم التجارية، وأقسام قضاء الأسرة،...الخ
وهو الأمر الذي تفرضه عدة اعتبارات منها:

1- طبيعة المنظومة العقارية والتوثيقية.

تميز المغرب منظومة عقارية توثيقية تجتمع فيها كل مظاهر الخصوصية، وذلك بحكم ارتباطاتها المتعددة، باعتبارها مكونا ومؤثرا أساسيا في مسار بناء الدولة والحضارة المغربية الذي يمتد لقرون خلت()، وما يرتبط بذلك من تعدد على مستوى الإطار القانوني - الإداري الذي تشمله، بشكل ترتبت عنه مجموعة من الأوضاع والتشريعات والمساطر الإدارية والقضائية، المركبة والمعقدة في كثير من تجلياتها، ما يجعل من القضاء – في شكله العام- أو بالأحرى القاضي في موضع قد تغيب عنه معه كثير من الاعتبارات، بل حتى النصوص التشريعية والتنظيمية المطبقة والمرتبطة بهذا المجال، بحكم اتساع المرجعية القانونية التي تتأسس وتستند عليها هذه النصوص ( اتفاقيات، ظهائر، مراسيم، قرارات، مناشير، دوريات، أعراف...الخ)، كما قد لا يسعفه تكوينه القانوني العام، بل حتى خبرته العملية على مستوى القضاء في إصدار أحكام ذات جودة على مستوى التعليل القانوني والاجتهاد القضائي السليم والمنضبط.
حيث إنها تعددية تترتب عنها أخرى على مستوى التشريع، فكل نظام عقاري يكتسي خصوصية من حيث جوانبه الإجرائية والموضوعية غالبا، ويرتبط بحساسيات دينية أو اجتماعية أو أمنية، اقتصادية...الخ الأمر الذي لا يُكتفى فيه بمجرد التكوين القانوني العام، بل لا بد من الإلمام بخصوصية كل نظام عقاري.

هذا، بالإضافة إلى الاعتبارات المتعلقة بعدم صفاء المنظومة العقارية بالمغرب، حيث المنازعات العقارية تبقى في مقدمة النزاعات القضائية، الأمر الذي قد يستعصي معه على القاضي مواكبة التحولات والتغيرات التي تطرأ عليها، بالنظر لطابع الحركية العقارية المستمرة، والقطاع الإداري الواسع الذي يعنى بأمور العقار بصنفيه العمومي والخاص، الأمر الذي يقتضي جهازا قضائيا على درجة من الخبرة والاحترافية والتخصص.

 لذلك، أجد في إقرار آلية لقضاء عقاري متخصص ضرورة من شأن تجسيدها أن يطبع المنظومة العقارية، خاصة علاقة الإدارة العقارية بالقضاء بتكامل أكبر، وتجنيبها كثيرا من سوء التفاهم الذي يجسده أحيانا صدور أحكام لا تراعي الاعتبارات الإدارية - المرفقية، في جوانبها القانونية أو المالية، ما قد يضع تنفيذها على المحك، بل قد يترتب عنه صراع بين جهازي القضاء والإدارة العقارية، وجدال الاكراهات الإدارية، وتحقير المقررات القضائية، على اعتبار أن الإدارة محكومة بدورها بمجموعة من المساطر التطبيقية، التي إذا أغلفها القاضي عند إصدار حكمه، يجعل تطبيقه مشوبا بصعوبات ومسؤوليات().

لذلك، فإن كل هذه الأوضاع تجعل من غير السليم والمناقض للأمن القضائي الاقتصار على مجرد غرف عقارية من داخل المحاكم الابتدائية والاستئنافية.

2- ارتفاع عدد القضايا والمنازعات العقارية.

تعد القضايا العقارية، المستعصية منها بالخصوص في مقدمة النزاعات التي تضغط على الجهاز القضائي بشكل كبير، والمرشحة حتما للارتفاع في ظل المجهودات المبذولة على مستوى الإدارة العقارية لتصفية النزاعات، الأمر الذي يجعل من مجرد غرفة أو شعبة بثلاث قضاة أو ستة على الأكثر في بعض المحاكم، عاجزة عن مواكبة القضايا الكثيرة، وهو ما من شأنه التأثير على جودة الحكم، بحيث أصبحت جل المحاكم تعاني من هاجس الكم على حساب الكيف، ما يجعل القاضي عمليا يحاسب بالنظر لعدد القضايا التي أصدر فيها أحكاما، دون مراعاة لجودة الحكم نفسه.

3- محورية دور العقار في الاستثمار.

يشكل اعتبار طبيعة التنظيم القضائي – خاصة في جوانبه المرتبطة بالقضايا العقارية- معيارا أساسيا للاستثمار. فالنظام القضائي الذي يفتقد لهياكل قضاء على المستوى التجاري، الإداري، والعقاري أيضا، يعد في نطاق دارسات الجدوى الاستثمارية عاملا منفرا للمستثمر.
وذلك باعتباره من الشروط الأساسية للأمن القضائي، الذي يقتضي في اعتقادي تحقق ثلاثية: الاستقلالية، التخصص والفاعلية، والجودة.

4-  تزايد الاهتمام بالدراسات العقارية.

باعتبار الجامعة المغربية، وكليات الحقوق على الخصوص، خزانا أساسيا للكفاءات على المستويين القضائي والإداري، فإن العشر سنوات الماضية شهدت اهتماما خاصا بالدراسات العقارية، التي أصبحت - في اعتقادي-  في ارتباط مع التوثيق، فرعا بحثيا قانونيا مستقلا بذاته.
 وفي غياب هياكل قضاء متخصص لاستيعاب هذه الكفاءات، سنكون أمام انفصام حقيقي في علاقة الجامعة بالقضاء، وغياب جلي لاعتبارات التكامل.

5- اعتماد المغرب لنظام الشهر العيني.

 بحكم طبيعة القواعد التي يقوم عليها نظام الشهر العيني، خاصة ما يتعلق بخصوصية الدعاوى العقارية في إطاره (تعرضات، تقييدات احتياطية، حجوز،...الخ)، بالإضافة لإشكاليات تطبيق الأحكام و تنفيذها، حيث المحافظ على الأملاك العقارية يطبق الحكم ولا ينفذه، الأمر الذي كثيرا ما يضع تنفيذ بعض الأحكام والقرارات أمام صعوبات التطبيق، بالنظر لعدة اعتبارات.
الأمر الذي يسائل بإلحاح المشتغل على هذا المستوى – قاضيا أم إداريا – ألا يستحق العقار بالمغرب تجربة قضائية عقارية أفضل من هذه؟ ألم يتسبب غياب قضاء عقاري متخصص ومتكامل في كثير من سوء الفهم وسوء التطبيق للقانون؟ ألا تدل مجموعة من الأوضاع العملية عن إشتغال الإدارة العقارية في واد والقضاء في واد آخر؟ 

كل هذه الأسئلة تدعو على الأقل إلى وقفة من أجل تفكير جدي للبحث عن سبل التكامل بين القضاء والإدارة العقارية، الذي لن يتم إلا بقضاء عقاري متخصص. فاستقلالية القضاء لا يعني إغلاق حدود التكامل مع الإدارة العقارية، ولا يعني تصارع السلطات، كما تدل على ذلك بعض الانفلاتات هنا أو هناك.

ثانيا: المحاكم العقارية بتونس، نموذج - أيمكن البناء عليه؟

تعتبر المحاكم العقارية جزءا من النظام القضائي بتونس، الذي رغم الاختلافات القائمة بينه وبين التنظيم القضائي المغربي، إلا أن نقاط تلاق مهمة تجمع بينهما، بحكم تشابه المرجعيات.

1 - وقفة عند النظام القضائي بتونس. 

يشمل النظام القضائي بتونس مجموعة أصناف من المحاكم، منها محاكم ذات اختصاص شامل، أو ذات اختصاص محدود. وتصنف إلى:
محاكم القضاء العدلي: وتتبع لوزارة العدل، حيث تخضع المحاكم المندرجة في إطاره للقانون رقم 29 المؤرخ في 14 يوليو 1967 المتعلق بنظام القضاء والمجلس الأعلى والقانون الأساسي للقضاء كما تم تتميمه وتنقيحه ().
حيث يبلغ عدد هذه المحاكم بتونس حوالي 139 محكمة، هي:
- محكمة التعقيب، وتقابلها محكمة النقض بالمغرب ().
- محاكم الاستئناف والمحاكم الابتدائية.
- محاكم النواحي، وتقابلها محاكم الجماعات والمقاطعات بالمغرب سابقا، وحاليا قضاء القرب.
- المحكمة العقارية.
محاكم القضاء الإداري: تابعة إداريا للوزراة الأولى (رئاسة الحكومة)، وقد تم ضبطها بموجب الدستور التونسي في إطار مجلس الدولة، حيث تشمل كلا من: 
- المحكمة الادارية:  تنظر وتختص بالبت في الطعون المقدمة ضد  مشروعية قرارات السلطة الإدارية، وفي النزاعات المتعلقة بمسؤولية الإدارة تجاه المواطن، والنزاعات المتعلقة بالانتزاع من أجل المصلحة العامة. كما تضطلع المحاكم الإدارية إلى جانب دورها القضائي، بآخر استشاري لحساب الحكومة().
- دائرة الحسابات: وهي أشبه بالمجلس الأعلى للحسابات بالمغرب، حيث تتولى مراقبة العمليات المالية العمومية من حيث مطابقتها للقانون، وتمارس سلطة قضائية إزاء المحتسبين العموميين، وسلطة رقابة إدارية بالنسبة إلى موظفي المالية العمومية ().
هذا بالإضافة لمجموعة من الهيئات شبه القضائية.
إلا أن ما يهمنا في هذا التنظيم القضائي الذي لا يختلف كثيرا عن تنظيمنا القضائي، هو ما يسمى بالمحكمة العقارية، فما هي؟

2 - المحكمة العقارية بتونس.

بالرجوع إلى الهيئات القضائية المكونة لمحاكم القضاء العدلي بتونس، تبرز تجربة المحاكم العقارية، حيث يطرح بشأنها سؤال حول طبيعتها وحدود اختصاصها()؟
على خلاف ما قد يبدو من اسمها، فإن هذه المحاكم غير مختصة في كل القضايا المرتبطة بالعقار، بل إنها جهاز قضائي يعنى بالتسجيل العقاري في إطار نظام الشهر العيني المعتمد في تونس، أو ما يسمى التحفيظ العقاري بالمغرب.
إلا أن ميزته على خلاف المعتمد بالمغرب، أن قرار التحفيظ يتخذ شكل قرار قضائي، في حين يقتصر دور محافظ الملكية العقارية في تطبيق الأحكام الصادر في هذا الإطار، والذي تبقى قراراته هي الأخرى خاضعة للطعن أمام هذه المحكمة، التي يمكن بدورها استئنافها أمام محاكم الاستئناف ومحكمة التعقيب.
حيث تختص بـ : - التسجيل أو التحفيظ العقاري، بنوعيه الاختياري والإجباري .
- تحيين الرسوم العقارية.
- مراجعة الأحكام الصادرة عنها وإصلاحها.
- النظر في الطعون التي توجه ضد قرارات اللجان الجهوية لتحيين الرسوم أو ضد قرارات حافظ الملكية العقارية ().
على الرغم الطابع المحدود من حيث الاختصاص بالنسبة للمحكمة العقارية بتونس، فإن الطابع الشامل لنظام التسجيل أو الشهر العيني الذي يشمل كل الأنظمة العقارية يجعل من اختصاصها قابلا للتوسع، وتجربة يمكن البناء عليها لإقرار قضاء عقاري متخصص بالمغرب. 
لذا اعتقد أنه آن الأوان – استرشاد بهذه التجربة- لإحداث تحولات نوعية على مستوى القضاء العقاري، وذلك من بوابة نظام التحفيظ العقاري، بجعل آلية لدمج الإدارة العقارية التي تتولاها الوكالة الوطنية للمحافظة العقارية والمسح العقاري والخرائطية بالجهاز القضائي، بحكم حتمية العلاقة التي تبرز أساسا على مستوى التعرضات والتقييدات الاحتياطية والحجوز، والصبغة الاستثنائية لقرارات المحافظ.
على أن لا تظل غاية في حد ذاتها، بل تمهيدا لقضاء عقاري شامل، إن لم يكن بحجم محكمة، فعلى الأقل ملحقة مستقلة أو قسم خاص بالعقار، على غرار أقسام قضاء الأسرة. 

أتصوره وفق هذه الخطاطة المبسطة:




وهو تقسيم أعلم أنه ليس بتلك الدقة، إلا أنه يبقى مسألة تنظيمية بحته تحتمل أكثر من تصور، كما أنها قابلة للتطور.

على العموم، فإن الدعوة لقضاء عقاري متخصص ليست بالجديدة، كما أنها ليست مجرد دعوة تصدر من باحث قانوني قد تغيب عنه بعض الاعتبارات، ويملئه الحماس والاندفاع، بل هو مطلب أساسي عبرت عنه العديد من الندوات والدراسات، والأهم من ذلك أنها دعوة سبق وأن عبر عنها رئيس المجلس الأعلى (محكمة النقض) سابقا، والأمين العام للحكومة السابق الأستاذ "إدريس الضحاك".
هذا، وإذا كان ميثاق إصلاح العدالة ومشروع التنظيم القضائي في صيغته الحالية لم يوليا اهتماما واضحا للتخصص على المستوى العقاري، باستثناء إحداث غرفة سابعة على مستوى محكمة النقض، فإن المتأمل في المشروع العقاري الجديد المنتظر بعد المناظرة الوطنية حول السياسة العقارية، أن يستدرك هذا الأمر، فلا يكفي إحداث تحولات قانونية دون تحولات هيكلية على مستوى جهاز القضاء.

أم ماذا؟




الخميس 5 مارس 2020

تعليق جديد
Twitter