MarocDroit  -  موقع العلوم القانونية



كلية الحقوق أكدال- الرباط: تقرير أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في موضوع: توزيع الاختصاصات بين الدولة والجهة – دراسة مقارنة-، تحت إشراف الأستاذ الدكتور أحمد بوعشيق من إنجاز الباحث عبد الوهاب القستلي

     

ناقش الطالب عبد الوهاب القستلي يومه الجمعة 12 أكتوبر 2018 على الساعة الرابعة زوالا بجامعة محمد الخامس الرباط، كلية الحقوق – أكدال

أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في القانون العام في موضوع: "توزيع الاختصاصات بين الدولة والجهة – دراسة مقارنة-"

تحت إشراف الدكتور أحمد بوعشيق، وقد ترأست لجنة المناقشة الأستاذة الدكتورة فاطمة الحمدان
وعضوية السادة الأساتذة:
 الدكتور أحمد بوعشيق عضوا ومشرفا
 الدكتور جواد النوحي عضوا
 الدكتور أحمد أجعون عضوا
 الدكتور محمد الصوفي عضوا
وبعد المداولة قررت لجنة المناقشة منح الطالب الباحث لقب دكتور في الحقوق بميزة مشرف جدا.



تقرير مناقشة الأطروحة

بسم الله الرحمان الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى أله وصحبه ومن والاه وسلم تسليما
"رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي"

أيها الحضور الكريم السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، أما بعد:

يسعدني ويشرفني أن أقف أمام هاته اللجنة المباركة متتلمذا ومتعلما، وأقدم بين يديها تقريرا موجزا عن الأطروحة التي أعددتها تحت عنوان، وفي موضوع: «توزيع الاختصاصات بين الدولة والجهة - دراسة مقارنة -.
لكن قبل البدء، اسمحوا لي أن أشكركم في شهادة تغامرني مند وقت طويل، شهادة في حق فضيلة الأستاذ الدكتور "أحمد بوعشيق" والذي يرجع إليه الفضل بعد الله تعالى في إخراج هذا العمل من عتمة النسيان، فهو الذي احتضن هذا العمل بالرعاية العلمية، وساهم في إتمام هذا العمل، بتتبعه مراحل انجازه بصرامة تتميز بالنبل وتنم عن طيبة القلب فجاد بوقته وانشغالاته العديدة.
وإنه لمن منن الله على هذا البحث وصاحبه، أن تتفضل الدكتورة الجليلة، الأستاذة "فاطمة الحمدان" برئاسة لجنة المناقشة، وأن يتفضل أساتذتنا المحترمون، الأستاذ محمد الصوفي والأستاذ جواد النوحي والأستاذ أحمد أجعون بقبولهم تشريفي بوجودهم ضمن أعضاء لجنة قراءة ومناقشة هذه الأطروحة المتواضعة.

كما لا يفوتني في هذه المناسبة أن أنوه بما تبدلونه كل من موقعه في القيام بالأعمال والمهام المنوطة بكم على أكمل وجه رغم التزاماتكم الكثيرة الضاغطة، وأنتم من موقع مسؤوليتكم العلمية والفكرية، فلذلك أملي عظيم أن يكون في هذا العمل العلمي المتواضع ما يرضي اهتمامه، وما يستجيب لانتظاراته.

إلا أنه يجب التذكير والإشارة إلى مختلف الصعوبات التي واجهت إنجاز هذه الأطروحة والتي مثلت تحديا كان لزاما علي تجاوزه بغية إتمام هذا العمل، حيث يمكن إجمال هذه الصعوبات في:
أولا صعوبات متعلقة بالتصميم والمنهجية حيث سبق لي لمدة أن كنت تحت إشراف أستاذ قار بهذه الكلية، إلا أن إكراهات التصميم والمنهجية وبتوافق مطلق معه حالت دون إتمام البحث تحت إشرافه، (بعدها أصبح الأستاذ أحمد بوعشيق هو المشرف على هذه الأطروحة بحكم تخصصه واشتغاله في هذا المجال، وكذلك بحكم عضويته السابقة باللجنة الملكية الاستشارية للجهوية).

 ثانيا أن هذه الأطروحة وبعد إتمامها وتسليمها للمقررين الذين تم التوافق بخصوصهم مع الأستاذ المشرف حصلت مشاكل تمثلت في تأخر أحد المقررين عن وضع تقريره لمدة تجاوزت السنة، فقد تم إتمام هذا العمل منذ سنة 2015 إلا أنه كان لابد من تحيينه حتى يتماشى مع المستجدات التي جادت بها الترسانة القانونية المغربية والمتمثلة في القوانين التنظيمية المتعلقة بالجماعات الترابية والتي تتبوأ فيها الجهة كموضوع للدراسة مكانة الصدارة، كما تلا خروج هذه القوانين إلى حيز الوجود إصدار أو خروج 69 مرسوما تطبيقيا تمت الإشارة إلى بعضها في هذه الأطروحة، إضافة إلى أن الوضع النهائي لها بالكلية تم قبل 7 أشهر تقريبا من الأن.

إضافة إلى قلة المراجع العلمية المتخصصة في مجال توزيع الاختصاصات بين الدولة والجهة.
كل هذه عوامل كان لها أثر بليغ أثر بشكل كبير في كل مراحل إنجاز هذه الأطروحة.
إن كل فاعل محلي هو فاعل دولي، ففي وقت سابق كان ولوج المسرح الدولي لا يتم إلا بوساطة من الدولة/المركز، هذه القناة تم تجاوزها، حيث أن عمدة المدينة، رئيس الجهة، رئيس المقاولة أو مسؤول غرفة التجارة على المستوى الجهوي، يمكنه البحث عن سياسة للاندماج في جهات ذات أبعاد مختلفة ومتغيرة .
كما أن مجمل التقارير الدولية أكدت على فوائد الجهوية باعتبارها حجة مقنعة لإبطال المركزية، لتخلص إلى أن نجاح اللامركزية يتطلب توطيد طاقة حركية ثلاثية الاتجاهات: المحلي/المجتمع المدني وحكومات مركزية نشيطة .
فمن بين أهم عناصر اللامركزية إلى جانب تواجد مجالس محلية منتخبة وخضوع هذه الأخيرة لسلطة المراقبة، وجود قضايا محلية تختلف باختلاف المستويات (قضايا جهوية، إقليمية، جماعية، حيث أنه يكون لكل صنف من أصناف هذه القضايا اختصاصات واضحة تحدَّد وتوزع بتراتبية، فيسند لمستوى ترابي معيَّن ما يعجز عنه المستوى الأدنى منه وهكذا دواليك، ويتطلب تجسيد هاته الفلسفة التي تقوم عليها اللامركزية، أسلوب توزيع يعمل على تحديد وتوضيح الصلاحيات والاختصاصات بين المستوى الوطني والمستوى المحلي.
ويختلف هذا الأسلوب باختلاف فلسفة وإيديولوجية كل دولة على حدة، وتنوع الثقافة السائدة فيها، غير أن أسلوبين فقط يظلان بالأهمية بمكان ولهما بروز واضح في هذا المجال، وهما الأسلوب الأنجلوساكسوني القائم على تحديد اختصاصات الجماعات العمومية على سبيل الحصر وفي قائمة، وهذا أسلوب يظل سائدا في دول كالولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، وأسلوب ثاني يعتمد المقتضى العام في الاختصاصla clause générale de compétence، حيث يتم التنصيص فيه على الاختصاص بشكل عمومي، وهو أسلوب يعتبر سائدا في كثير من الدول الأوروبية كفرنسا على سبيل المثال.
إن الجهة كوحدة ترابية ومستوى من مستويات التنظيم الترابي للدولة، معنيَّة بالدرجة الأولى بمسألة الاختصاصات وكيفية تحديدها وتوزيعها، وذلك لعدة اعتبارات من بينها ما أضحت تمثله الجهوية من اختيار ديمقراطي تنهجه الدولة الديمقراطية الحديثة، بغية التخفيف على المركز من عبء التسيير، عبر نقل جزء من صلاحيات واختصاصات الدولة إلى الجهات، خاصة وأن الدولة أصبحت عاجزة في وقتنا الحاضر وليس لها القدرة الكاملة على مواجهة عدة إشكاليات.
لذلك، فقد برزت الجهة كوحدة ترابية، وكفضاء يعمل على إعادة التوزيع الجديد للسلطة في إطار الدولة الموحدة عبر هيئات منتخبة تقوم بتدبير الشأن العام المحلي، في إطار من التشاركية والعقلانية القائمة على النهج الديمقراطي، وذلك عبر النهوض بمؤهلات الجهة مع تسخير جيِّد للإمكانيات البشرية والطبيعية والمادية بغية تحقيق التكامل والانسجام بين ما هو اقتصادي وما هو إداري، أخذا بعين الاعتبار قرب هذه الهيئات من القاعدة ومعرفتها بمتطلبات واحتياجات الساكنة المحلية بشكل دقيق من جهة، ومن جهة أخرى ما يشكِّله ذلك من تعزيز وترسيخ للديمقراطية المحلية.
  • أهمية الموضوع ومميزاته:          
إن هذه الدراسة توخت بحث توزيع الاختصاصات بين الدولة والجهة من منظور مقارن بين النموذج المغربي لتوزيع الاختصاصات بين الدولة والجهات ونماذج جهوية متقدمة على غرار النموذج الإسباني والإيطالي.
 إن التركيز على الجهة كوحدة ترابية تأتي في صدارة الجماعات الترابية هو نابع من المكانة المتميزة التي أصبحت تحظى بها هذه الوحدة، حيث يمكن اعتبارها أحد أهم الأسس التي تتميز بها الأنظمة المعاصرة في ظل الظروف والتحولات الاقتصادية والاجتماعية العالمية، إلا أن درجة الأخذ بالسياسة الجهوية تختلف من دولة إلى أخرى، بناء على الخصوصيات التاريخية والسياسية والسوسيولوجية لكل بلد، وهذا ما يجعل نوع وشكل العلاقة التي تربط الجهة بالدولة رهين بتطور النهج اللامركزي فيها، وبمدى ما تودُّ السلطة المركزية منحه للجهة من استقلالية وحرية في تدبير شؤونها.
إن حجم ونوع الاختصاصات المخوَّلة للجهة وكيفية تحديدها تعد من أهم محددات العلاقة بين الدولة والجهة، ومعيارا تقاس به درجة تطور الفكر الجهوي في أي دولة تأخذ بنظام اللامركزية الترابية.
فالهدف والمراد من السياسة الجهوية عامة، هو الحفاظ على الوحدة الترابية للدولة من جهة، وتحقيق التنمية الاقتصادية المتوازنة من جهة أخرى، غير أن كثيرا من الدول خاصة النامية منها، تعاملت معها بتوجس وحذر شديدين حيث تم اعتبارها مصدر تهديد وخطر يمكن أن يؤدي إلى انفصال وتجزئة البلاد، حيث أن هذه الخلفية أدت إلى تعزيز وزيادة تسيير وتدبير الشؤون المحلية بمركزية مفرطة، الأمر الذي جعل أغلب المناطق فيها تسعى إلى إثبات ذاتها عبر الرغبة في تحقيق أكبر قدر ممكن من الاستقلال تجاه المركز، مما يجعل العلاقة بين هذا الأخير ومحيطه تتسم بنوع من التوتر والاضطرابات والتي تشكل تهديدا مباشرا على وحدة الدولة واستقرار نظامها العام.
إن أغلب الدول الأوروبية وعت كل هذا بشكل جيِّد، حيث تبنَّت نظاما جهويا متطورا في إطار الدولة الموحدة، خاصة منها إسبانيا وإيطاليا، وذلك حفاظا على وحدتها الترابية من أي خطر لانفصال وانقسام البلاد، خصوصا وأن أقاليمها وجهاتها كانت وما تزال تعرف فوارق اقتصادية واجتماعية حادة.
وعليه، فإذا كان هذا الواقع قد تمخض عنه وضع سياسي واقتصادي فرض على هاتين الدولتين الأخذ بجهوية موسَّعة ذات اختصاصات وصلاحيات واسعة تمتد إلى المجال السياسي والاقتصادي، فإن الأمر لم يتم بالشكل ذاته بالنسبة للمغرب حيث برز نظام جهوي حديث على حساب واقع تقليدي، من دون أن يكون ذلك ناتج عن التراكمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية للبلاد، وعن السياقات السياسية والدستورية والتاريخية التي تختلف بين هذه التجارب.
فهذا التفكير المعقلن للفكر الجهوي الحديث في المغرب، -حيث أنه لم يفرضه واقع ووضع عميق في البلاد كما كان الشأن عليه بإسبانيا وإيطاليا-، تمَّ بدون أن يكون هناك وعي بأهمية الجهة وضرورتها في العملية التدبيرية لشؤون الدولة، وذلك ما انعكس على دور ومكانة الوحدة الجهوية، حيث تم إسنادها سابقا اختصاصات ضعيفة وسلطات تقريرية جد محدودة، لا تمكِّنها من تحقيق ذاتيتها، وبالتالي المساهمة إلى جانب الدولة في النهوض بمختلف مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد.
فنوعية وحجم الاختصاصات المخوَّلة للجهة في أول تجربة قانونية لها بعد الاستقلال، يؤكد على أن المغرب أخذ بالتنظيم الجهوي الحديث، من دون أن تكون هناك ثقة في ما يمكن أن تحققه الجهة من أهداف ورهانات كبرى تظل الدولة نفسها عاجزة في أحايين كثيرة عن تحقيقها، كما أن النواقص التي اعترت التجربة السابقة، استدعت وضع ميكانيزمات تتناسب مع النظام المحلي ليتم تتويج هذا العمل بالحصيلة التي هي اعتبار الجهوية سياسة عمومية لا محيذ عنها، لها آليات وميكانيزمات بموجبها سيصبح دور الدولة ظبطيا ليس إلاَّ .
فعدم منح الجهة المكانة اللائقة والدور الاستراتيجي الذي يمكن أن تقوم به على غرار الجهويات في دول كإسبانيا وإيطاليا، -”وهي تجارب يشكِّل استقراءها جزءا مهما من موضوع هذه الأطروحة“، أدى إلى فشل تجربة الجهوية الاقتصادية في تحقيق ما كان منتظرا منها في أن تصبح فاعلا اقتصاديا ومحركا أساسيا للتنمية إلى جانب الدولة، وهذا راجع بطبيعة الحال إلى ضعف ما أنيط بها من اختصاصات هيمنت عليها الصبغة الاستشارية، وعدم توفرها على صلاحيات تقريرية وأخرى ذات طابع تنفيذي تمكِّنها من تحقيق تلك الرهانات، فمن الاعتبارات التي تحدد دور الجهة وتوجهها هو أن تصبح الجهة نواة للديمقراطية المحلية من جهة وأساسا للديمقراطية الوطنية من جهة أخرى، على اعتبار أن البوادر الأولى للديمقراطية تتشكل مع المؤسسات المحلية التي تنضوي تحت لواء اللامركزية ، فبالموازاة مع التحولات والتطورات التي طرأت على العالم خاصة بعد الحرب الباردة وما واجهه ذلك من انتشار وشيوع للنهج والإيديولوجية الليبرالية، عمد الخطاب والفاعل السياسي الرسمي للدولة إلى إيلاء أهمية كبيرة للنهج الجهوي.
وعليه، فقد تم تجسيد هذا الاهتمام عبر عدة إصلاحات سياسية ودستورية، وفي مقدمتها الارتقاء بالجهة إلى جماعة محلية في دستور4 شتنبر 1992م ، إضافة إلى الفصل 95 من الدستور نفسه ، مما شكل خطوة مهمة وقفزة نوعية في مسار تطوير اللامركزية وتقوية وتوسيع اختصاصات الجهات، وعلى نفس المنوال صار الدستور المراجع لسنة 1996م، بحيث أنه بعد أن تمت دسترتها بموجب الدستور السالف الذكر (دستور1992م)، تم إدخالها ضمن الجماعات المحلية المساهمة في تنظيم المواطنين وتمثيلهم، كما تم اعتمادها كأساس ترابي للانتخاب، كما تم إخراج القانون رقم 96-47 المنظِّم سابقا لهذه الوحدة ولكافة اختصاصاتها، وعليه أصبحت الجهة تتمتع بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي والإداري.
إلا أنه، ورغم هذه الإصلاحات المهمة، فقد تم إعادة نفس السيناريو في التعامل مع الجهوية، حيث أنها لم تساهم في تحويل الجهة إلى شريك في التنمية، وقطب من أقطاب الاقتصاد الوطني، بل تم إبقاء الوحدة الجهوية فقط كمجال لتدخل الدولة، لا ككيان قادر على تنمية ذاته، وعليه تم تقزيم دور المجالس الجهوية، مقابل تقوية مكانة الدولة وتعزيز  حضورها في الجهة، سواء عن طريق تدخلها مركزيا عبر الوزارات الوصية، أو على المستوى المحلي عبر ممثلها في الجهة "الوالي/العامل".
إن تمعُّن حجم ونوع الصلاحيات التي تم منحها للجهة في إطار القانون المنظم لها سابقا يمكِّن كل مهتم وباحث في هذا المجال من إدراك رغبة المشرع في السنوات الماضية في تكريس مفهوم المركزية وهيمنة الدولة على سائر المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية...إلخ
إن حجم الصلاحيات التي منحت سابقا لعامل العمالة أو الإقليم مركز الجهة باعتباره ممثل السلطة المركزية عن طريق التعيين، أمام ما توفََّر عليه رئيس المجلس الجهوي والذي يعد سلطة منتخبة، جعل اللاتوازن وعدم التكافؤ هو السائد في إطار العلاقة بينهما.
فالغموض في الاختصاصات وعدم تحديدها حصريا وبشكل دقيق، ساهم في تداخل وتنازع هذه الأخيرة بين الجهة والدولة، مما فتح الباب على مصراعيه أمام هذه الأخيرة للتدخل في اختصاصات الجهة، خاصة إذا كانت الجهة لا تتوفر على موارد مالية مهمة ونخب بشرية كفأة قادرة على مباشرة مختلف الأدوار المنوطة بها، وفي ظل هذا الوضع لم يقم البرلمان بالدور المنوط به، فيما يخص تحديد وتوزيع الاختصاصات بين الجهة كجماعة ترابية تأتي في صدارة باقي الجماعات الترابية الأخرى والدولة، على غرار ما تقوم به برلمانات الدول المتقدمة، حيث أن تدخله كان نادرا طيلة الفترات التشريعية من خلال تركه المجال مفتوحا سابقا أمام السلطة التنفيذية وخاصة سلطات الوصاية لتتدخل بمراسيم ودوريات ومناشير، بغية ملأ الفراغ التشريعي تارة أو لإزالة الغموض أو الإبهام في نص قانوني معيَّن يتعلق باختصاصات الجهة أو الدولة تارة أخرى.
وعلى نفس الشاكلة، نجد أن القضاء حذا حذو البرلمان في محدودية التدخل عند نشوب حالات تنازع اختصاص ما، أوبغية فك الغموض أو الإبهام الذي يسود المقتضيات المؤطرة للجهة، وهذه المحدودية يعود سببها إلى تدني المستوى التعليمي والثقافي للمنتخب الجهوي والمحلي، وعدم إلمامه بالنصوص القانونية الجاري بها العمل في تدبير الشأن العام الجهوي، الأمر الذي جعله غير قادر على ضبط حالات تدخل الدولة في اختصاصاته وبالتالي تحريك دعاوى قضائية ضدها، زد على ذلك أن ثقافة مساءلة ومقاضاة الدولة ما زالت ضعيفة في المغرب، وذلك لعدة عوامل يتداخل فيها ما هو ثقافي مع ما هو سوسيولوجي.
كل هذه الأسباب، جعلت القضاء ينأى بنفسه عمَّا يجري في الساحة العملية من تنازع وتطاول حول الاختصاصات، وبالتالي ظل بعيدا عما هو سائد عليه الحال في الدول المتقدمة، حيث أن القضاء في الدول المقارنة في هذه الأطروحة، يظل متمتعا بأدوار كبيرة وحاسمة في الفصل بين اختصاصات الجهة واختصاصات الدولة .
إن مقوم تقدم نموذج الجهوية بالمغرب، تطلب إيلاء أهمية خاصة ليس فقط للأبعاد السياسية لهذا النموذج وضرورة تحقيق إجماع حول ضرورته الآنية والمستقبلية باعتباره تحولا ترابيا ومجاليا بامتياز، حيث أن التراكم التاريخي للتجربة خاصة منذ أواسط التسعينيات يبرِّر ضرورة هذه الأهمية، بل إن الاعتبارات الاقتصادية والاجتماعية ليس فقط الموضوعية منها والمرتبطة بالمنظومة الجهوية في شموليتها، أو الذاتية منها والمتمثلة أساسا في توفير وضمان وسائل العمل المادية والبشرية، هي التي فرضت إعطاؤها المجهود اللازم لتمكين هذا النموذج من مقومات النجاح المطلوبة .
إن النموذج الجهوي المتقدم، أخذ بعين الاعتبار كل الأبعاد السوسيولوجية والاقتصادية التنموية كما وضع أسسها التوجه الملكي، والذي يعتبر خارطة طريقها بامتياز، وأثناء محاولة تحقيق هذه الأبعاد ظل استحضار منطق العقلنة والتوازن خاصة على مستوى الإمكانات ووسائل العمل المادية منها والبشرية أمرا ضروريا، علما أن هذه العناصر شكلت باستمرار إحدى أهم عيوب اللامركزية الإدارية، وعليه فإن استحضار كل هذه الأبعاد هو الذي دفع إلى إعادة مسائلة المنظومة الجهوية بالمغرب (خاصة على مستوى إشكالية توزيع الاختصاصات بين الدولة والجهة)، من خلال استحضار المقاربة التأصيلية للمصطلحات وتجاربها المقارنة كتوزيع الاختصاصات والدولة والجهة ، خاصة من خلال بعض النماذج المتقدمة في هذا المجال (الممارسة الإسبانية والإيطالية)، والتي لا تخلو هي الأخرى من شوائب، بغية الحفاظ على المكتسبات المحققة مع تطويرها بما يتناسب والخصوصية المغربية للنموذج.
  • المقاربة النوعية
لقد فضلت أثناء معالجتي لعناصر هذا البحث، الاعتماد على مقاربة نوعية، حيث انصب التحليل في القسم الأول من هذه الأطروحة على اختصاصات الجهة وعلاقتها بالدولة في المغرب، وفق مقاربة تاريخية ارتكزت على تحليل المحطات الأساسية للتنظيم الجهوي بالمغرب، من خلال دراسة الإرهاصات التاريخية الأولية للجهة بالمغرب، مرورا بإبراز جوانب القصور والضعف في القانون المؤطر سابقا للجهة بالمغرب رقم 96-47، مع تناول المرجعية الفكرية للجهة المتقدمة على ضوء المرجعية الملكية والتي تعتبر خارطة طريقها بامتياز، مع دراسة اختصاصات الجهة بين المبادئ الدستورية والأحكام العامة للقانون التنظيمي رقم 14-111 المؤطر حاليا للوحدة الجهوية بالمغرب، مع تبيان أنواع الاختصاصات الممنوحة لها تبعا لهذا القانون التنظيمي، وأشكال المراقبة الممارسة عليها.
أما في القسم الثاني من هذه الأطروحة، فقد تمحور التحليل على نماذج من الممارسة الدولية على مستوى توزيع الاختصاصات بين الدولة والجهة، وهذه النماذج تختلف باختلاف الدول المطبِّقة لها، حيث تم التركيز على النموذج الإسباني ونعلم أن الدولة الإسبانية هي دولة موحدة تمثل نموذجا لبلد أوروبي يعيش في قلب الأزمة المالية ومكرِّسا لمظاهرها، بلد راكم تجربة دستورية، قانونية وسياسية، حيث أن دراسة هذا النموذج يفتح نافدة جديدة للباحث ينفتح من خلالها على تمثلات سياسية ودستورية وقانونية لإعادة تفكيك وتركيب الدولة طبقا لمنطق الإشراك الفعَّال في القرار السياسي والإداري، فنظام توزيع الاختصاصات بين الدولة الإسبانية والمجموعات المستقلة (الجهات)، لا يبقى الأرقى والأنجع في التدبير الجهوي لكنه مخرج من بين المخرجات المعاصرة في فك أزمة مركزة القرار وتخفيف العبء عن مركز الدولة.
كما أن النموذج الثاني الذي قمت بتحليله، هو النموذج الإيطالي، حيث أن إيطاليا كدولة توصف بدولة الجهات، تبدو فيها التجربة جد مهمة فهي تتسم بسعة المجال الديمقراطي وسمو اللامركزية الإدارية، حيث تعتبر الجهة جماعة ترابية تتمتع بالشخصية المعنوية، إذ ينتخب السكان بأنفسهم أجهزتها هذا من جهة، ومن جهة أخرى توضع على عاتق الجهات مسؤوليات كبرى، ومقابل ذلك يتم منح هذه الجهات صلاحيات أوسع لتحقيق مراميها، إلا أن الملاحظ هو أن هناك شبه إجماع داخل أوساط الفقه الإيطالي على أن الدولة الإيطالية على الرغم من الصلاحيات الواسعة التي تتمتع بها مناطقها فهي دولة ذات طابع موحد.
وعلى صعيد آخر، لم يتم التركيز على فترة زمنية محدَّدة على اعتبار أن الضرورة المنهجية التي فرضت نفسها في هذه الدراسة والمعتمدة في جانب منها على المنهج التاريخي هي التي حتَّمت دراسة المراحل التي مرت منها الممارسة المغربية في مجال الجهوية، وخاصة على مستوى توزيع الاختصاصات بين الدولة والجهات، وكذلك الأمر على مستوى دراسة المراحل التي مرت منها الأنظمة الدستورية والقانونية الجهوية المعتمدة في الدول المقارنة، مع العلم أنه مهما كان تأثير التجارب المقارنة على النموذج المغربي، فهو لا يخلو من خصوصياته وشروط وجوده القائمة على أرض الواقع منذ وجود المغرب كدولة وكيان.
  • إشكالية البحث
إن طريقة توزيع الاختصاصات بين الدولة والجهة تختلف باختلاف الفلسفة والإيديولوجية السياسية لكل دولة، مع ما تثيره من إشكالات من دولة لأخرى.
فتحقيق التوازن في الاختصاصات بين هذه المستويات، وخاصة منها الجهات،  وبين مفهوم المركزية وما يحمله من هيمنة وتجميع لكافة السلط، يقتضي تحديد العلاقة بين الدولة والجهة بطريقة تسمح بإبراز ما تتمتع به هذه الأخيرة من استقلالية في التسيير والممارسة.
لذا، فإنه كان من المفيد أن نوضح الطرق والمسارات التي سلكتها الممارسة المغربية للجهوية خاصة فيما يتعلق بتوزيع الاختصاصات بين الدولة والجهة، وكذلك الأمر عليه بالنسبة لبعض الدول المتقدمة والمبادئ الأساسية التي اعتمدتها للوصول إلى هذه الغاية مع الوقوف على أهم الإشكاليات المترتبة عن فرز وتوزيع تلك الاختصاصات.
حيث أن التركيز في هذه الأطروحة، انصبَّ على تحليل النموذج الجهوي المغربي لتوزيع الاختصاصات بين الدولة والجهة، وكذلك على صعيد نماذج أخرى على صعيد الممارسة الدولية (النموذج الإسباني والإيطالي)، وهذا راجع إلى أن المغرب يتشارك مع هذه الدول في بعض الخصائص، أبرزها طبيعة الدولة الإسبانية والإيطالية الموحدة، وهذا ما ينطبق على طبيعة الدولة المغربية، وهذا يعتبر في حد ذاته سببا كافيا لم يجعل التركيز منصبَّا في هذه الدراسة على دول أخرى رائدة في هذا المجال كالدولة الألمانية مثلا، بحكم فيدرالية نظامها، والسبب الثاني يتمثل في أن النموذجين المقترحين تتوفر فيهما الجهة على اختصاصات واسعة ومهمة، وهذا يمثل في حد ذاته المسار الدستوري والقانوني الذي انخرطت فيه الدولة المغربية، هذا فضلا عن التقارب الثقافي والاجتماعي.
وعليه، وحتى يتم تشكيل رؤية واضحة لنظام توزيع الاختصاصات بين الدولة من جهة والجهة من جهة أخرى، و حتى نتمكن كذلك من رصد ماهية العلاقة التي تربط هذه الأخيرة بالدولة على مستوى الممارسة المغربية في هذا المجال، وكذلك الأمر عليه بالنسبة لإسبانيا وإيطاليا.
فقد تم تمثلت الإشكالية المركزية للموضوع المعالج في هذه الأطروحة، كالتالي:
ما هو واقع العلاقة التي تربط الدولة بالجهة في المغرب (تداخل وتنازع أم توازن)، وما هي آفاق هذه العلاقة على مستوى التعديل الجهوي الأخير، وما هو المسار الدستوري والقانوني الذي عرفه نظام توزيع الاختصاصات بين الدولة والجهة في التجارب المقارنة (النموذج الإسباني والنموذج الإيطالي)؟
يمس شطرا الإشكالية، مختلف جوانب الموضوع والأسئلة التي يثيرها، فمن غايات هذا الموضوع تبيان مجال ممارسة الجهة لاختصاصاتها، والعلاقة التي تربطها بالدولة بالمغرب وكيفية توزيع الاختصاصات بينها وبين هذه الأخيرة، ففكرة الجهوية لم تكن واقعا فرض نفسه بالمغرب واستلزم تدخل المشرع لتنظيمه فقط، بل إن المشرع هو الذي عمل على خلق هذا الواقع بناء على دوافع أدت به إلى سلوك هذا النهج، دوافع تمثلت في الوضع الاقتصادي الذي عرفته السياسات التنموية، إضافة إلى رغبة الدولة في التخفيف من أعباءها وذلك بإلقاء هذه الأعباء على عاتق الجهة، زيادة على التحديات الكبيرة لحماية الوحدة الترابية وتعزيز الديمقراطية المحلية، وترتيبا لما سبق، يمكن التساؤل: عن المحطات الأساسية للتنظيم الجهوي بالمغرب؟، وذلك من خلال تبيان الإرهاصات الأولية للجهة بالمغرب من خلال البنيات التقليدية للجهة قبل فرض الحماية عليه وبعدها، وكذلك خلال فترة الاستقلال؟
ومادامت عملية توزيع الاختصاصات بين الدولة والجهة تعتبر جد مهمة، فهي تحتاج إلى مجموعة من المقومات اللازمة لتوازن الاختصاصات بينهما، وهذه المقومات يجب أن تندرج في إطار قانوني ومؤسساتي يدعمها من أجل تحقيق هذه الغاية، بعيدا عن مظاهر القصور والضعف التي أبانها القانون السابق رقم 96-47، ومن تم طرح لتساؤل حول مظاهر القصور والضعف وكذلك الاختلالات التي طبعت الممارسة الجهوية بالمغرب إبان تطبيق هذا القانون؟
أما الشطر الثاني من الإشكالية، فمن غايات هذا الموضوع المعالج كذلك تبيان مجال ممارسة الجهة لاختصاصاتها، والعلاقة التي تربطها بالدولة الإسبانية، والطريقة التي يتم بها توزيع الاختصاصات بين الدولة والمجموعات المستقلة (الجهات)؟
ومن ثمَّ، ما هي تجليات التنظيم الترابي بالدولة الإسبانية؟ وكيف يتم توزيع الاختصاصات بين الدولة والمجموعات المستقلة (الجهات)؟
ومن المؤكد أن التجربة الجهوية الإيطالية، تتمتع فيها الجهات بصلاحيات واختصاصات تشريعية وتنظيمية واسعة، حيث لم يقر الدستور الإيطالي تدرجا هرميا بين الوحدات المختلفة (الدولة - الجهات – الأقاليم – الجماعات)، بل هناك في المركز الدولة وفي مواجهتها توجد الجهات والأقاليم والجماعات، وذلك في إطار علاقات معقدة ومباشرة، ومتداخلة، فما هي العلاقة التي تربط الجهة في إيطاليا بالدولة؟ وكيف يتم توزيع الاختصاصات بينهما؟
وما دامت عملية توزيع الاختصاصات بين هذين الطرفين (الدولة/الجهة) تعتبر جد مهمة، فهي تحتاج إلى مجموعة من المقومات اللازمة لتوازن الاختصاصات بينهما، وهذه المقومات تم تضمينها في إطار النموذج الجهوي المتقدم، الهادف إلى تحقيق نقلة نوعية نحو منظومة متكاملة للحكامة الترابية، أساسها تعميق ممارسة الديمقراطية المحلية، والاهتمام بالتنمية الجهوية المندمجة والمستدامة، والإسهام في تحديث تدبير هياكل الدولة والرفع من فاعلية ونجاعة عملها.
إن استراتيجية إعادة توزيع الاختصاصات بين الدولة والجهة بالمغرب، وبالتالي تحقيق الهدف من النموذج الجهوي المتقدم تعتبر المرجعية الملكية خارطة طريقها بامتياز، كما أن الميكانيزمات الدستورية والقانونية ظلت من الركائز الأساسية لتحقيق هذه الاستراتيجية وإن كانت على المدى البعيد، وعلى هذا الأساس، ما هي تجليات المرجعية الفكرية للجهة المتقدمة بالمغرب؟
وحيث أن القانون المنظم سابقا للجهة بالمغرب رقم 96-47، أصبح غير مرتكزا عليه بعد دخول أحكام القانون التنظيمي الجديد المتعلق بالجهة رقم 111.14 حيز التنفيذ ابتداء من اليوم الموالي لتاريخ الإعلان الرسمي عن النتائج النهائية للانتخابات المتعلقة بمجالس الجهات (تم إجراء هذه الانتخابات بتاريخ 4 سبتمبر 2015م)، وأخدا بعين الاعتبار كذلك على أن خروج هذا القانون إلى حيز الوجود قد تم بعد قطع أشواط مهمة ابتدأت بمسودة مشروع هذا القانون والتي تم التشاور حولها مع مختلف الفاعلين والمتدخلين، مرورا بمشروع القانون التنظيمي والذي تم عرضه على المؤسسة التشريعية قصد المصادقة النهائية عليه، وانتهاء بصدور الظهير الشريف رقم 1.15.83 الصادر في 20 من رمضان 1436هـ (7 يوليوز 2015م) بتنفيذ القانون التنظيمي رقم 111.14 المعمول به حاليا كإطار قانوني منظم للجهة بالمغرب، لذلك فقد حاولت القيام بقراءة لهذا القانون خاصة فيما يتعلق بأنواع الاختصاصات الممنوحة للجهة، وأشكال الرقابة الممارسة عليها، مع إبراز أي تعديلات أو مستجدات على مستوى المضامين المتعلقة بهذا الموضوع، والمنصوص عليها في هذا القانون التنظيمي، فما هي أنواع الاختصاصات الممنوحة للجهة تبعا لهذا القانون التنظيمي؟ وما هي أشكال المراقبة الممارسة عليها؟
  • فرضيات الدراسة
لقد حاولت الاستدلال على الإشكالية التي تم طرحها، من خلال الفرضيات التالية:
الفرضية الأولى: التوزيع الجيد والمتوازن للاختصاصات بين الدولة والجهة بالمغرب، مر عبر تطور تاريخي ومحطات أساسية طبعت مسار التنظيم الجهوي بالمغرب، إضافة إلى أن أي علاقة متوازنة على مستوى الاختصاصات بين الطرفين تتطلب مقومات وميكانيزمات كفيلة بإعادة توزيع وتحديد هذه الاختصاصات.
الفرضية الثانية: أسلوب توزيع الاختصاصات بين الدولة والجهة في التجارب المقارنة (التجربة الإسبانية والتجربة الإيطالية)، يختلف باختلاف الفلسفة والإيديولوجية السياسية لكل دولة مع ما يثيره من إشكالات من دولة لأخرى.
  • منهجية البحث وطريقة العمل
إن موضوع توزيع الاختصاصات بين الدولة والجهة "دراسة مقارنة"، يطرح أبعاداً متعددة للبحث والدراسة، مما يفرض الاعتماد على مجموعة من الأساليب والأدوات المنهجية التي تتكامل فيما بينها، وتتمثل وسائل البحث المعتمدة فيما يلي:
أولا: الاستفادة من الأبحاث والدراسات حول النماذج موضوع الأطروحة، خاصة على مستوى توزيع الاختصاصات بين الدولة والجهة رغم قلتها، وكذا الاستفادة من مختلف الانتقادات التي وجِّهت إليها.
ونشير إلى أن هذه الاستفادة كانت عامة وفي حدود ما يخدم الموضوع، وفق التوجه الذي سار عليه تبعا للإشكاليات المطروحة.
ثانيا: إن مقاربة هذا الموضوع ومختلف الإشكاليات التي يثيرها، تدفع إلى عدم الاقتصار على استعمال منهج واحد بقدر ما تحتِّم ضرورة الاستعانة بمجموعة من المناهج واستعمال خصائصها، خاصة وأن الاقتصار على استعمال منهج واحد يصطدم بمجموعة من العوائق والحدود المنهجية، كما أن الاعتماد على مناهج متعددة يمكن أن يؤدي إلى تشثيت استعمالها، حيث أن الباحث يصبح متخبِّطا بينها بشكل لا يجعله يظبط استعمال أي واحد منها، بصفة عامة، فقد تمت محاولة الاستعانة بـ:
- المنهج التاريخي، نظرا لأهميته في تحليل الظواهر السياسية بإعطائها بعدا ومرجعية تاريخية، حيث سيتم تتبع المراحل الزمنية التي أدت بالدول التي تم التطرق إليها في هذه الدراسة إلى اعتماد وتطبيق نظام جهوي قائم على توزيع جيد نسبيا للاختصاصات والأدوار بين الدولة والجهة.
فغياب البعد التاريخي للظاهرة، يقلِّل من قدرة البحث على استشراف امتدادها المستقبلي، لأن السياق الزمني يسهِّل دراسة الظواهر الاجتماعية وذلك عن طريق إعادة بناء الأحداث عن طريق ربط الماضي بالحاضر.
- منهج دراسة الحالة، وذلك أثناء التطرق لكيفية توزيع الاختصاصات بين الدولة والجهة في مختلف التجارب موضوع الدراسة.
- المنهج الوصفي التحليلي، على اعتبار أن هذا المنهج يعتمد على دراسة الظاهرة كما توجد في الواقع، ويهتم بوصفها وصفا دقيقا، ويعبِّر عنها كيفيا أو كميا، فالتعبير الكيفي يصف في هذه الأطروحة أسلوب توزيع الاختصاصات ويوضح مميزاته وخصائصه في مختلف النماذج محل الدراسة، أما التعبير الكمِّي فيعطي لهذا الأسلوب وصفا رقميا يعمل على توضيح حجم ودرجة هذا التوزيع ومدى ارتباطه مع مقومات وضمانات أخرى تساعد على تفعيله وتوازنه.
- المنهج المقارن، وذلك من خلال محاولة مقارنة النموذج الجهوي المتقدم بالمغرب خاصة على مستوى توزيع الاختصاصات بين الدولة والجهة، بغيره من النماذج المذكورة سلفا، على اعتبار أن هذه النماذج تعتمد احترام خصوصيات كل منطقة، مع الإشارة إلى أنه يظل من الصعوبة بما كان اعتماد هذا المنهج خاصة وأن النموذج المغربي ما زال في مراحله الأولى مما يجعل القيام بتقييم حقيقي له أمرا صعبا.
كما تم الاعتماد على استقراء بعض المصادر التشريعية (دساتير) والقانونية والتقارير، لعدم كفاية المصادر والمراجع النظرية، بهدف الإحاطة ببعض جوانب الثقافة الجهوية المحيطة والمؤثرة على توزيع الاختصاصات على مستوى النماذج المقارنة، وكذلك الحال بالنسبة للنموذج المغربي.
وفي الأخير، تجب الإشارة إلى أنه ستتم محاولة الإحاطة بجميع جوانب الموضوع على الرغم من الصعوبات الموجودة والمتجلية في قلة المراجع والكتابات التي تتطرق لموضوع توزيع الاختصاصات بين الدولة والجهة "دراسة مقارنة"، وكذلك صعوبة الحصول على المعلومة من الجهات المختصة.
 
 
  • تصميم البحث ومبرراته
تأسيسا على ما سبق، وحتى نتمكن من ضبط عناصر هذه الدراسة، فقد تم احترام التقسيم الثنائي المتوازن لفعاليته في الحفاظ على وحدة الموضوع، حيث ستتم مقاربة مختلف الإشكاليات وفي إطار المناهج المعتمدة، من خلال القسمين التاليين:
-   القسم الأول، معنون باختصاصات الجهة وعلاقتها بالدولة بالمغرب، على اعتبار أن توزيع الاختصاصات بين هذين الطرفين تتحكم فيه مجموعة من العوامل، كما سبق الذكر، أهمها التراكمات التاريخية التدريجية والتصاعدية من جهة، والحذر الكبير من اللامركزية من جهة أخرى، وذلك من خلال التطرق في (الفصل الأول) إلى المحطات الأساسية للتنظيم الجهوي بالمغرب، من خلال الإرهاصات الأولية للجهة بالمغرب، وفق قراءة في مسارات التأسيس قبل الحماية وأثناءها وخلال فترة الاستقلال، مرورا بتوضيح جوانب القصور والضعف في القانون المنظم سابقا للجهة 96-47، كما تم كذلك التركيز على المرجعية الفكرية للجهة المتقدمة بالمغرب والتي تجد سندها في خارطة الطريق الملكية، إضافة إلى المرجعية الدستورية المؤسسة وفق دستور فاتح يوليوز 2011م، انتهاء بالتركيز على الأحكام العامة التي جاء بها القانون التنظيمي رقم 111.14 وخاصة الجانب المتعلق منها بممارسة الاختصاصات من قبيل اعتماد مبدأ التدبير الحر ومبدأ التفريع عند مزاولة الاختصاصات المنصوص عليها في القانون السالف الذكر، وهذا راجع بطبيعة الحال لكون توزيع الاختصاصات بين الدولة والجهة يتطلب مجموعة من المكونات الأساسية الدستورية والقانونية.
كما انصب التحليل في هذا القسم، على أنواع الاختصاصات الممنوحة للجهة تبعا للقانون التنظيمي رقم 111.14، والكيفية المعتمدة في توزيعها بين الدولة والجهة، مع توضيح الأسلوب المعمول به على مستوى تمويل هذه الاختصاصات، كما تم إبراز مجالات تقليص سلطة الوصاية وكيفية ممارسة مختلف أشكال المراقبة الإدارية ( كمفهوم جديد عوَض نظام الوصاية) على الوحدة الجهوية (الفصل الثاني).
-    أما القسم الثاني، فاهتم بدراسة إشكالية توزيع الاختصاصات بين الدولة والجهة في بعض التجارب المقارنة، حيث ارتكزت الدراسة حول اختصاصات الجهة وعلاقتها بالدولة في إسبانيا، وذلك من خلال إلقاء الضوء على التنظيم الترابي للدولة الإسبانية، سواء من خلال مسطرة تأسيس المجموعات المستقلة ذاتيا (الجهات)، وكذلك من خلال معرفة الآلية المعتمدة في تأسيس هذه المجموعات ومسطرة إعداد الأنظمة الأساسية للحكم الذاتي، ومن خلال إلقاء الضوء كذلك على مجال صلاحيات المجموعات المستقلة من جهة والدولة الإسبانية من جهة ثانية، سواء على مستوى اختصاصات هذه المجموعات والطرق المعتمدة في تمويلها، أو على مستوى التركيز على الإشكاليات المترتبة عن توزيع وتحديد الاختصاصات بين هذين الطرفين (الفصل الأول).
ولكون علاقة الجهة في إيطاليا بالدولة الإيطالية ترتكز على مجموعة من المبادئ تتوزع (بين ما هو دستوري وما هو مؤسساتي)، فقد ركز (الفصل الثاني) من القسم الثاني، على دراسة طبيعة العلاقة التي تربط الجهات الإيطالية بالدولة، وذلك من خلال تتبع المبادئ الدستورية لنظام المناطق (الجهات) بهذه الدولة، سواء من خلال الإطار القانوني للجهة الإيطالية، أو من خلال البنية المؤسساتية لهذه الوحدة الترابية وحجم الاختصاصات الممنوحة لها، وكذلك من خلال دراسة ماهية العلاقة التي تربط الجهة بالدولة الإيطالية من خلال معرفة اختصاصات الدولة وكيفية تمويل الجهات، إضافة كذلك إلى إلقاء الضوء أيضا على تجليات الرقابة القضائية الممارسة عليها.
كل هذه المضامين، سواء ما تعلق منها بمضامين القسم الأول من هذه الأطروحة أو بمضامين القسم الثاني منها، ستتم دراستها من خلال مقاربة دستورية - قانونية ومقارنة.
وانطلاقا من هذه الدراسة والتي تبلورت في الأطروحة الموجودة بين أيديكم أساتذتي الكرام، فقد تم الخروج بمجموعة من الاستنتاجات والخلاصات كالآتي:
ففيما يتعلق بالقسم الأول والمعنون كما سبق الذكر باختصاصات الجهة وعلاقتها بالدولة بالمغرب ومن خلال مختلف التفريعات التي تم التطرق إليها يمكن القول أن:
الجهة في المغرب عرفت تغيرات كبرى في شتى الميادين، وأهمها كانت على ثلاث مراحل: مرحلة ما قبل الحماية، ومرحلة الحماية، ومرحلة ما بعد الاستقلال؛
أن المغرب عرف منذ الحماية أربع تقسيمات جهوية، كان آخرها التقسيم الجهوي لسنة 2015م، حيث تألف المغرب قبل سنة 2015م من 16 جهة، ومنذ سنة 1971م إلى غاية سنة 1997م من 7 جهات، وتهدف هذه التقسيمات الإدارية تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتعتبر أداة فاعلة في سياسة إعداد التراب الوطني؛
أن تطور نظام الجهة بالمغرب، والذي يعكس عقليات اختلفت بحسب الحقب التاريخية، ففي مرحلة ما قبل الحماية أثارت الجهوية نقاشا بين من يسير في اتجاه عدم وجود تنظيم إداري وإقليمي، فبالأحرى نظام الجهة، واتجاه يرى أن المغرب عرف نظاما للجهة قبل الحماية الفرنسية؛
أن المغرب عرف فكرة الجهوية منذ القديم، حيث أن التقسيم الجهوي كان يقوم على أساس قبلي نتيجة كبر المساحة، إلا أنه خلال مرحلة ما قبل الحماية لم يكن هناك تنظيم جهوي بمفهومه الحديث، بل كانت كل التنظيمات تعتمد على الأسس القبلية والجغرافية، وفي هاته المرحلة عرفت الجهة كواقع لأجل تنظيم المجال، وإدارة البلاد الشاسعة، وكإطار لتوزيع وممارسة السلطة على أساس وحدة السلطة والوظيفة السياسية والإدارية؛
أنه إبان فترة الحماية، تميزت سياسة الجهوية بحداثتها، إلا أنها جاءت في مراميها متناقضة مع المعنى القانوني للجهة، بحيث لم تكن للجهة في ترسانة مؤسسة الحماية إدارة مركزية، وإنما آلية للتأطير والتحكم السياسي والعسكري اللازمين لتهدئة البلاد، كما أن الجهوية في عهد الحماية لم تكن تعني تنظيم وإعادة هيكلة المجال بصفة عامة، بقدر ما كان التقسيم الجهوي الذي اعتمدته سلطات الحماية الفرنسية له اعتبارات عسكرية وأمنية بالأساس؛
أن الإدارة المغربية الفتية واجهت عدة عوائق بوصفها الوصية على إرث الحماية المتمثل في بنية تحتية معقدة لم تحظى لا بالقبول ولا بالرفض المطلق من قبل السلطات المستقلة، ولا هي متكيفة مع حاجات السكان، حيث تراجع الاهتمام بالتنظيم الجهوي ليحل الإطار الإقليمي والجماعي محله بغية فرض سلطة الدولة المستقلة إداريا وسياسيا، حيث اعتبر التقسيم الإقليمي، أهم التقسيمات الإدارية للدولة؛
أن الاهتمام بالمجال الجهوي لم يظهر إلا بعد استفحال خطورة الفوارق والتفاوتات الجهوية وعجز الإطار الإقليمي عن مواجهتها، وذلك نظرا لمحدوديته وقصوره عن تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والقضاء على الاختلالات واللاتوازنات التي خلفتها السياسة الكلونيالية الاستعمارية؛
أن نظام الجهات الاقتصادية لسنة 1971م، جاء للعب دور الأداة الاقتصادية والاجتماعية واعتبارها قاعدة ترابية لهذه التنمية، وقد تم تقسيم المجال الترابي إلى سبع جهات، وبذلك تم وضع الهياكل وتحديد المفهوم القانوني للجهة؛
أن أهمية المد الجهوي وفعاليته جعلته يحظى باهتمامات خاصة، أبرزها التعديل الدستوري لسنة 1992م، الذي ارتقى بالجهة إلى مصاف الجماعات المحلية، حسب مقتضيات الفصل (94) منه، وتم تدعيم مركز الجهة كذلك في التعديل الدستوري لسنة 1996م، حسب مقتضيات الفصل (100)، بالإضافة إلى القانون 96-47 المنظم سابقا للجهة بالمغرب والصادر في 2 أبريل من سنة 1997م، حيث أصبح للجهة بموجبه كيان مستقل يتمتع بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي واختصاصات قانونية تقريرية واستشارية؛
أن القانون المنظم سابقا للجهة بالمغرب رقم 96-47 اعترته مجموعة من النواقص، حيث أن هذا القانون المتضمن لمجلس جهوي منبثق عن نمط انتخابي غير مباشر، شكل تراجعا للامركزية بالنظر إلى الديناميكية التي أفرزتها المواثيق الجماعية، وفي هذا السياق كان لابد من إعادة قراءة هذا القانون قراءة جديدة نظرا لما يتضمنه من قصور ونقصان، من جهة، فهذا القانون السالف الذكر استمد مخططه العام من النموذج الجماعي الإقليمي الذي شابته عيوب كثيرة، ومن جهة أخرى فهذا القانون  تميَّز بغياب المعايير القانونية للمصاحبة، وهذا ما منع الجهة من القيام بدورها المنوط بها قانونيا والهادف إلى تأطير عملية صنع القرار الجهوي وتثبيت المسؤولية الجهوية عند الفاعلين والمتدخلين في المجال الجهوي؛
أن اختصاصات الجهة ليست تماما حصرية، كما كان يقدمها القانون 96-47 كمنطق عام، وهنا تكمن الثغرة الأولى، لأن ضرورات التحديث السياسي تقتضي تحديد حدود تدخل كل جماعة محلية على حدى في كل مادة، وكذلك مستوى وطبيعة هذه التدخلات، ولابد هنا من التأكيد على تراتبية القوانين والضوابط التي تخص المجالات المشتركة، كالمحافظة على البيئة أو تطوير التنوع المعماري مثلا، أما الثغرة الثانية فتتجلى في ضعف النصوص التشريعية والتنظيمية التي كان من المفترض أن تسمح للجهة في التجربة السابقة من أن تمارس فعلا اختصاصاتها وفق منظور حكماتي جيد؛
أن عدم مساهمة الجهات في تحقيق الأهداف المرجوة منها إبان التجربة الجهوية السابقة المؤطرة بالقانون 96-47 راجع بطبيعة الحال لمجموعة من الاختلالات التي طبعت هذه التجربة، وأبانت بما لا يدع مجالا للشك على توفر مجموعة من المعوقات قللت من نتائج نجاحها، سواء ما ارتبط منها بالحدود ذات الطابع القانوني والإداري أو الحدود ذات الطابع المالي والبشري، إضافة إلى معوقات وحدود أخرى؛
أن الجهوية شكلت مرجعية شبه دائمة في الخطب والتوجيهات الملكية الداعية إلى إنجاح هذا الورش الجهوي، وذلك ضمن تصور مغربي– مغربي، حام للهوية المغربية وغير مقلِّد للتجارب المقارنة، وتظل الخطب الملكية مرجعية أساسية انبثق معها تصور مفصل لما أصبح يسمى بالجهوية المتقدمة، فما يستفاد من مجمل الخطاب السياسي للدولة منذ تربع الملك محمد السادس على العرش، هو أن هناك توجها قويا نحو تقوية الرباط والانتماء الوطني للمواطن المغربي بوطنه، ليس فقط اعتمادا على ما هو تاريخي كرباط البيعة، المؤسس لإمارة المؤمنين، والتي شكلت دائما الضامن الأساسي لوحدة الأمة المغربية العقدية والسياسية والترابية، بل بإحداث منظومة قانونية شاملة ذات جوهر ديمقراطي، شعبي يشترك بموجبها المواطن في تدبير الشأن العام وبناء دولة المؤسسات؛
لقد جاءت الخطب الملكية بمفهوم وتصور جديدين للجهوية ينبنيان على مجموعة من الأسس المرتبطة بالوحدة وثوابت الدولة والتضامن والتناسق والتوازن في الصلاحيات والإمكانيات بين الجهات، تم اللاتمركز الواسع، ضمن حكامة ترابية ناجعة، و قد شكل الخطابان الملكيان بمناسبة الذكرى 33 للمسيرة الخضراء، وحدت تنصيب اللجنة الاستشارية الجهوية، المرجعية الموجهة للاختيار الجهوي المتقدم، حيث عمد هذان الخطابان إلى تحديد الأهداف العامة للجهوية باعتبارها ورشا هيكليا لتحديث مؤسسات الدولة، والإعلان عن مرتكزات أربع لهذا التوجه، شكلت هي الأخرى إطارا رباعيا لجهوية بخصوصية مغربية؛
أن دستور 2011م، دشن لعهد جديد على المستوى الجهوي بالمغرب، من خلال تخصيصه لحوالي 14 فصل، تطرقت في مجملها للتفاصيل المتعلقة بالتنظيم الجهوي، توزيع اختصاصات الجهات وعلاقة هذا التنظيم بالدولة، وهو ما يوضح أهمية المرجعية الدستورية في تكريس الجهوية المتقدمة بكل أهدافها ومراميها ومرتكزاتها المختلفة الأبعاد، والتي يمكن اعتبارها ضمانة حقيقية لنجاح النموذج الجهوي المتقدم، وتكريسا فعليا للخطب والتوجيهات الملكية على هذا المستوى؛
أن الدساتير بطبيعتها لا يمكنها أن توضح وتفصل في كل شيء، مما يترك المجال للقوانين التنظيمية لتقوم بدورها التكميلي، والمحدد لكيفيات تطبيق الدستور، حيث أن المشرع المغربي حرص من خلال القانون التنظيمي رقم 14-111 على تنزيل مختلف المقتضيات الدستورية ذات الصلة بالنموذج الجهوي المتقدم؛
أن مبدأ التدبير الحر لشؤون الجهة، والمنصوص عليه في الفصل 136 من الدستور، والمادة 4 من القانون التنظيمي 14-111 المتعلق بالجهة بالمغرب، شكل أحد أهم تجليات الحكامة الترابية، فضلا عن كونه شكل منعطفا هاما في مسار تعزيز اللامركزية الإدارية، باعتباره يمكِّن الجهات من تدبير شؤونها وبلورة اختياراتها وتنزيل مخططاتها وبرامجها التنموية بكيفية مستقلة، فضلا على أنه لا يسمح بتدخل ممثلي السلطة المركزية (الولاة والعمال) في أنشطتها ومهامها، إلا في الحدود التي يتيحها القانون؛
أن توزيع الاختصاصات بين الدولة ومختلف أجهزتها وبنياتها الإدارية، يعتبر من المواضيع الديناميكية المتجددة باستمرار، لارتباطه بشكل وثيق بتغير نظم وهياكل الدولة وتطورها المستمر، لذلك فإن البحث عن أنجع التنظيمات وأنسبها يبقى من أهم التحديات التي تطرح داخل مختلف الأنساق السياسية، وهنا يبرز مبدأ التفريع كآلية جديدة لتنظيم السلطة وتوزيعها داخل الدولة والأنظمة الحديثة؛
أن التنصيص الدستوري والقانوني على مبدأ التفريع طبقا للفقرة الأولى من الفصل 140 من الدستور، والمادة 6 من القانون التنظيمي رقم 14-111، كآلية لتوزيع الاختصاصات، تتجلى أهميته في تكريس معيار القرب في تقديم الخدمات العمومية، إضافة إلى الإجابة على إشكالية الديمقراطية من خلال ترسيخ عمل الجهات كهيئات ترابية مستقلة ومختصة لخدمة الساكنة المحلية، وكذلك باعتباره آلية للحد من مظاهر اختلال تدبير الشأن العام الجهوي بالنظر للصعوبات التي تلاقيها الإدارة والمنتخبين في التعامل مع الاختصاصات الموكولة إليهم، لما تحتويه من غموض، مما يسبب تداخل في تدخلات مختلف المستويات والهيئات الترابية؛
أن مسألة تنازع وتداخل الاختصاصات بين الدولة والجهة، لطالما ظلت موضوع نقاش مستفيض بغية معالجة الإشكالات التي كانت مطروحة وتحديد اختصاصات كل من الدولة والجهة، حتى يتحقق التكامل والتناغم في الأدوار بدل التداخل والازدواجية التي تؤدي إلى تشتيت جهود التنمية، ولذلك فقد نص الدستور الجديد ومواكبة منه لهذه المتطلبات على ضرورة منح الفعل والمبادرة للمجالس الجهوية، ومنحها إمكانية اتخاذ القرارات التي تهم تدبير الشأن العام الجهوي، وتخويلها سلطة التداول وتنفيذ مقرراتها ومداولاتها، وإعطاءها السلطات والإمكانات المالية للقيام بمهامها، حيث منحها مجموعة من الاختصاصات والصلاحيات الدستورية الواسعة في إطار ممارستها وتدبيرها لشؤون الجهة، وكما هو معلوم وبخصوص هذه الاختصاصات، لابد من الإشارة إلى أن النظام الجهوي في إطار القانون السابق 96-47 تميز بتوافر مجموعة من المعوقات البنيوية والوظيفية، والمترتبة عن شح الإمكانيات والموارد المتوفرة للجهة، إلا أنه وبناء على القانون الجديد المتعلق بالتنظيم الجهوي رقم 14-111، وبناء كذلك على مبدأ التفريع المنصوص عليه دستوريا (الفصل 140)، وقانونيا حسب المادة السادسة من القانون السالف الذكر، فقد تم تمكين الجهة من اختصاصات ذاتية واختصاصات مشتركة مع الدولة واختصاصات منقولة إليها من هذه الأخيرة، تضمنتها المواد من 80 إلى 95، حيث أن هذا المبدأ له ارتباط بمجال اللاتركيز، حيث أن معالجة الجهة لشؤونها سيتم على المستوى المحلي عن طريق التسيير الديمقراطي، حيث تتمتع الجهات بكل الاختصاصات التي تؤهلها للقيام بمهامها أحسن قيام، خاصة ما يتصل بالتجهيز الترابي والتنمية المستدامة، حيث ستشارك الجهة بصفة منتظمة في وضع التصورات ومشاريع التنمية وتفعيلها؛
أن الاختصاصات التي تم منحها للجهات، والاختصاصات التي منحت كذلك لرئيس الجهة ولمجلسها، هي اختصاصات تبقى جد متقدمة تهدف في مجملها إلى جعل رئيس الجهة ومجلسها قاطرة للتنمية المندمجة والمستدامة؛
أن القانون التنظيمي رقم 14-111 المتعلق بالجهة بالمغرب، عمل على تمكين الجهة من إدارة قوية ومن أجهزة لتنفيذ المشاريع ومن آليات للتعاون والشراكة، حيث نص القانون السابق ذكره على مستوى المضامين ذات الصلة، على:
  • تمكين الجهة من إدارة فعلية تضم مديرية عامة للمصالح ومديرية لشؤون الرئاسة والمجلس؛
  • تعويض الكاتب العام بالمدير العام للمصالح؛
  • التنصيص على تنظيم الإدارة بقرار لرئيس المجلس، يتخذ بعد مداولات المجلس؛
  • التنصيص على تنظيم أساسي خاص بموظفي إدارة الجماعات الترابية بما فيها الجهة؛
  • التنصيص على آلية جديدة لتنفيذ المشاريع، ويتعلق الأمر بالوكالة الجهوية لتنفيذ المشاريع، كشخص اعتباري خاضع للقانون العام، يتمتع بالاستقلال الإداري والمالي، وأن مقرها يكون داخل الدائرة الترابية للجهة؛
أن الهدف من إدارة جديدة للجهة وآليات للشراكة والتعاون، يتمثل بالنسبة للمشرع القانوني المغربي في بلوغ النجاعة وتحقيق الفعالية اللازمة؛ أنه، ولمساعدة الجهة على القيام باختصاصاتها على أكمل وجه، نص القانون التنظيمي 14-111 كذلك على إحداث أجهزة على الصعيد المركزي، ويتعلق الأمر بصندوق التأهيل الاجتماعي وصندوق التضامن بين الجهات، وهذا يعتبر أمرا جد إيجابي، حيث أن إحداث هذه الصناديق مع تقوية موارد الجهة بشكل ملموس، يشكل قفزة نوعية في سياق المجهود الجبار من أجل تحسين التنمية الاقتصادية والاجتماعية والبشرية، كما أن التزام الدولة بإقامة هذه الصناديق سواء على مستوى الوثيقة الدستورية (الفصل 142)، وكذلك على مستوى القانون التنظيمي رقم 14-111 يوضح التزامها وعزمها على معالجة العجز الواضح في قطاعات حيوية (بنية تحتية، خدمات اجتماعية، إلخ...)، إضافة إلى العمل على تقوية قدرات الجهات على العمل وأخذ زمام المبادرة في المجالات ذات الطابع التنموي اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وبيئيا...إلخ.
رغم أن الاعتراف بالاستقلال المالي للجهات، يوحي بعدم وجود علاقة مالية بين هذه الأخيرة والدولة، لكن العكس صحيح فهناك مظاهر للعلاقة والارتباط بين مالية الدولة ومالية هذه الوحدات الترابية، وهي مظاهر ينتج عنها تأثيرات تتخذ أبعادا مختلفة تكرس أحيانا تبعية ماليتها لمالية الدولة، وتكرس أحيانا أخرى نوعا من التكامل وذلك على أساس الإمكانيات المتاحة لكل جهة، إذ غالبا ما يغلب واقع التأثير في مالية الدولة على هذه العلاقة؛
أن تلازم الاستقلال الإداري والاستقلال المالي يعتبر من أهم مبادئ وأسس اللامركزية الإدارية، فممارسة الاختصاصات وتدبير الشؤون الترابية لا بد وأن يتم بوسائل مالية وبشرية وتنظيمية تضمن السير العادي والطبيعي للجهة، وتؤدي إلى تحقيق التنمية على المستوى الترابي، فتطور الاختصاصات وتوسيع مجالات التدخل التي أصبحت تطال مختلف أوجه التدبير المحلي، فرض مواكبة فعلية ومتناسقة فيما يتعلق بمسألة التمويل؛
أن الجانب المالي للجماعات الترابية يعد ضرورة وأحد الأولويات الملحة من أجل دفع الجهات للقيام بأعمالها التنموية؛
أن دستور 2011م حدد من خلال فصله (31)، الأدوار العامة للجماعات الترابية وفي صدارتها الجهة في علاقتها بأدوار الدولة، كما اعتبر الفصل 140 من نفس الدستور أنه: " للجماعات الترابية بناء على مبدأ التفريع، اختصاصات..."، كما أن القانون التنظيمي رقم 111.14 المتعلق بالجهات عمل على التفعيل الواضح للأدوار التي ستقوم بها هذه الوحدات الترابية، فبناء على الفلسفة العامة في توزيع الاختصاصات، نجد أن الجهات أنيطت بها مجموعة من المهام والصلاحيات، وفي المقابل حدد هذا القانون مجموعة من الموارد للقيام بهذه الأدوار؛
أن الفصل 141 من الدستور المغربي يوضح إرادة الدولة القوية في تمتيع الجهات بمبدأ الاستقلال المالي، كركيزة أساسية في مباشرة هذه الوحدات لصلاحياتها واختصاصاتها؛
أن حاجيات الجهة من ناحية، على مستوى الاختصاصات التي من المتوقع أن تنقلها الدولة إليها، ومن ناحية أخرى بممارستها الفعلية وبتطويرها لاختصاصاتها الذاتية المتعلقة بالنهوض بمحيطها الترابي، والمتعلقة بالتشغيل والتكوين المهني ودعم مقاولات القطاع الخاص، خاصة منها المقاولات الصغرى والمتوسطة والمقاولات الصغيرة جدا، حيث أن الجهات بصفتها فاعلا في التنمية واعتبارا كذلك لدورها في التجميع والتنسيق والتنشيط، تظل في الطليعة وفي الصدارة في إطار مهامها إزاء الجماعات الترابية الأخرى، كما يتعين عليها أن تتولى دور المحاور في العلاقات بين الدولة والجماعات المنضوية تحت لواءها، وذلك من أجل تحديد أفضل للحاجيات واستعمال أمثل للموارد، وانطلاقا من كل هذا وغيره، فإن أفضل وسيلة لتمويل الجهات هي أن تقتسم معها الدولة بعض الضرائب حاليا، سعيا في آخر المطاف إلى تحسين المردودية عن طريق إصلاح القواعد التي تحدد وعاء الضرائب المعنية؛
أن نوع الضرائب المقتسمة بين الدولة والجهات وبخصوص التجارب المقارنة، تدفعنا إلى التفكير في رسوم التسجيل والضريبة المفروضة على الاستهلاك والضريبة على السيارات؛
أن بناء الجهوية وفق المنظور الجديد لن يستقيم، إلا إذا كانت هناك أجوبة حقيقية لإشكالية تمويل الجهة، وهذا ما أجاب عنه الدستور المغربي ل 2011م من خلال الفصل 141 منه، وكذلك القانون التنظيمي المتعلق بالجهة رقم 14-111 من خلال القسم الخامس منه، المتعلق بالنظام المالي للجهة وباقي مواردها المالية، ابتداء من المادة 165 منه؛
أن هذا القانون التنظيمي شكل مرحلة مهمة في مسار الإصلاحات المؤسساتية المتخذة من طرف المغرب، حيث نص على تعزيز الموارد المحوَّلة من طرف الدولة لفائدة الجماعات الترابية، وذلك من أجل تمكين الجهات من أداء مهامها الجديدة، وعلاوة على ذلك يرسخ مسار الجهوية المتقدمة مبدأ التضامن بين الجهات، من أجل الحد من التفاوتات المتعلقة بتركيز الثروة والتنمية الترابية المتباينة والفوارق الجغرافية والديمغرافية، وفي هذا الصدد سيكون لإنشاء صندوق التضامن بين الجهات، وكذلك صندوق التأهيل الاجتماعي دور جد أساسي ومهم على هذا المستوى؛
أن التطورات البنيوية للمالية الترابية خلال الفترة ما بين 2002-2014م، تبين زيادة مهمة في موارد الجماعات الترابية، وعلى الرغم من هذا التطور الملحوظ، مازالت المالية الترابية تعرف بعض التناقض، حيث اعتمدت الجماعات الترابية بشكل كبير خلال هذه الفترة على الدعم المالي المقدم من طرف الدولة، وتوازيا مع تقوية وتعزيز المجهود المالي للدولة لفائدة الجماعات الترابية، يظل من الضروري تحفيز هذه الجماعات عمليا على تطوير مداخيلها الذاتية عبر نهج حكامة جيدة للجبايات الترابية، وعبر التدبير النشيط لممتلكاتها، وكذلك تشجيع ثقافة التعاون وخلق مجموعات بين الجماعات والشركات والتعاقدات وذلك بغية تفعيل ملموس وحقيقي على أرض الواقع للمضامين الدستورية والقانونية المؤطرة لهذا المجال، وكذلك تماشيا مع التجارب الرائدة على هذا المستوى، حيث تشكل التجارب المقارنة في هذه الأطروحة وغيرها، نماذج للاستفادة والاستقراء وليس للاستنساخ الشكلي، فلكل بلد خصوصياته وروافده وكذلك مؤهلاته و ثرواته؛
أن المقتضيات القانونية المنظمة للجهوية عبَّرت عن رغبة المشرع في الانتقال من المفهوم التقليدي للوصاية إلى مفهوم متطور يعتمد إشراك القضاء في مراقبة الجهة، إذ جاءت بعدة تطورات على مستوى تدخل القضاء الإداري في الرقابة على هذه الجماعة الترابية، حيث أسندت للمحاكم الإدارية سلطات مهمة، سواء في ممارسة المراقبة الإدارية على هياكلها أو على مستوى رقابة المشروعية على أعمال المجالس المنتخبة؛
أن المشرع المغربي ساوى بصدور القوانين التنظيمية للجماعات الترابية بين جميع مستويات الجهوية في المراقبة الإدارية والقضائية، وعزز تدخل القضاء الإداري في تحقيق التوازن بين السلطة المركزية والجماعات الترابية؛
أن المشرع المغربي لم يقطع بشكل نهائي مع الوصاية، بل خفق منها لصالح المراقبة القضائية، حيث لازال هناك مجال للتدخل، كما أن القوانين التنظيمية لم تحسم في بعض الإشكالات، إذ أن تحريك الرقابة القضائية لازال بيد ممثلي السلطة المركزية، وبالتالي تبقى لها السلطة التقديرية في اللجوء إلى القضاء، كما لم تحدد هذه القوانين آجال الإحالة على القضاء؛
أنه، ونظرا للأهمية البالغة للمراقبة على مالية الجهة، واعتبارا كذلك للتأثير المباشر وغير المباشر الذي تحدثه على النشاط المالي الترابي، فقد شدد المشرع المغربي من نظام الرقابة على القرارات المرتبطة بمالية الجهة، وذلك على مستوى القانون 14-111 المنظم للجهة بالمغرب، مقارنة مع القانون السابق 96-47، ومن وجهة نظري فمالية الجماعات الترابية تشكل إلى جانب عناصر أخرى لبنة جد مهمة، يظل من الضروري التعامل معها بطريقة حذرة ومتدرجة بغية تحقيق نظام حكاماتي جيد على مستوى تسيير وتدبير شؤون الجهة، إضافة إلى باقي الجماعات الترابية الأخرى.
كما أنه ومن خلال مضامين التي تم التطرق إليها في القسم الثاني تبينت أهمية توزيع الاختصاصات بين الدولة والجهات في إطار نظام الجهوية السياسية المطبقة داخل الدولة الموحدة، من خلال النموذج الإسباني (دولة المجموعات المستقلة) والإيطالي (دولة الجهات)، والذي  يرجع السبب في إنشائه إلى تلبية الدولة دستوريا وقانونيا لمطالب التيارات السياسية، تبعا للخصوصيات التاريخية والسياسية والثقافية والسوسيولوجية لكل بلد على حدى، وذلك ما يجعل نوع وشكل العلاقة التي تربط الجهة بالدولة رهين بتطور مسلسل اللامركزية نفسها، وكذلك بما تودُّ السلطة المركزية منحه إياها من استقلالية في تدبير وتسيير شؤونها.
 إن استحضار هاتين التجربتين يقودنا بالفعل إلى طرح مجموعة من الاستنتاجات، وهي كالتالي:
أن تطبيق الجهوية يطرح مجموعة من الإشكالات البنيوية والمرتبطة أساسا بإيجاد تعريف موحد ودقيق للجهة، فهذا المفهوم يطرح في حد ذاته مجموعة من التساؤلات المنهجية، خصوصا حينما نود مقاربته من منظور أنماط اللامركزية المطلقة في عدة دول موحدة كفرنسا وإيطاليا وإسبانيا، أو حتى من خلال النموذج الفيدرالي الألماني، ومن خلال هذه النماذج يتبيَّن لنا أن هناك تفاوتا وفرقا واضحا بين نظام اللامركزية الإدارية واللامركزية السياسية ؛
أن وجود نموذج مثالي للجهوية أمر مستبعد، فلكل دولة خصوصياتها السياسية والجغرافية والإثنية والثقافية، حيث أن عملية اقتباس أو نقل نموذج جهوي معين أمر خاطئ، كما أن تسيير الجهوية على مستوى الاختصاصات يتخذ أشكالا متعددة منها ما هو ذو طابع سياسي تشريعي، ومنها ما هو ذو طابع إداري ومالي، ونسوق هنا مثال المجلس الجهوي في إيطاليا، فعلى المستوى السياسي هو يساهم بصورة فعالة في انتخاب رئيس الجمهورية، أما تشريعيا فإن هذا المجلس له صلاحيات واسعة، كوضعه للقانون الداخلي بنفسه شريطة احترامه ومطابقته لدستور الجمهورية، أما ماليا فإنه يتمتع باستقلال مالي ذاتي يبرز من خلال توفره على جبايات جهوية، إلى جانب توفر رئيس هذا المجلس على سلطة تنفيذية  تتجلى في تنفيذ قراراته؛
أن تجارب الدول الأوربية ليس هناك وقت طويل على تطبيقها، حيث لم تعمِّر سوى قرنين من الزمن، وهذا يستدعي التعامل معها بقدر كبير من الحذر، خاصة في حالة الرغبة في تطبيقها من طرف الديمقراطيات الناشئة؛
أنه رغم اختلاف التجارب الجهوية على المستوى الدولي، إلا أنه نجد مجموعة من القواسم المشتركة التي تفرض نفسها بشكل واضح في مختلف هذه التجارب، يأتي في صدارتها اعتماد نمط الاقتراع المباشر في انتخاب أعضاء المجلس الجهوي... ، عموما يمكن القول أن كل الأنظمة السياسية التي تتبنى خيار الجهوية، تسعى إلى تحصين الدولة ضد أي نزعة عرقية انفصالية وسياسية، وذلك بتنصيصها في الصك الدستوري الخاص بها على الثوابت الأساسية للدولة، حيث تعطى الأولوية للقانون الوطني على حساب القوانين الجهوية، فإذا ما حصل تعارض بينهما فإن الأولوية تعطى للقانون الوطني، وهذا ما حصل بإسبانيا (حالة إقليم كاطالونيا)، وهي المسألة التي ينبغي استحضارها بقوة بالنسبة للنموذج الجهوي المتقدم بالمغرب، فثوابت الدولة المغربية ينبغي أن تستحضر بقوة (إقرار الملكية الدستورية، الدين الإسلامي...إلخ)، حيث أن هذه المرتكزات تشكل صمام أمان يقى الدولة الموحدة من مخاطر الجهوية، فأمة بدون مقومات دينية وحضارية أمة فاقدة لهويتها؛
وعليه، يمكن القول أنه على الرغم من الخصوصيات المتطورة للجهات بالدولة الإسبانية وكذلك الإيطالية، فهي لا تجد أوجها للمقارنة مع الجهات المغربية، سواء من حيث النشأة أو من حيث الفلسفة التي أفرزتها أو السياسة والتاريخ التي مرت بها كل هذه النماذج، فالتطور الكفيل بترسيخ مبادئ وأسس نموذج جهوي متقدم على كافة المستويات والأصعدة، لا يمكن اختزاله فقط في مجرد استنساخ تجارب متطورة جهويا، والتي يظل من المستحسن الاستفادة قدر الإمكان من إيجابياتها وتجاوز سلبياتها، ولا يختزل كذلك في إصدار نصوص قانونية جديدة، مهما كانت متطورة، ولا في وجود هياكل إدارية واختصاصات إضافية، بل إن الأمر يقتضي أساسا رؤية شمولية ذات أهداف دقيقة وأبعاد استراتيجية، فالتغيير يجب أن يكون هيكليا يعيد النظر في طريقة توزيع السلطة والثروة، وفي آليات توزيع النخب، وفي نظام العلاقة بين المركز والجهة.
   إن المغرب يتطلع إلى أوروبا كمختبر للجهوية، وترنو أوروبا إلى المغرب لمتابعة الإصلاحات التي يقوم بها وهو يخطو بخطوات حثيثة نحو الانخراط في الفضاء الأوروبي، وفي هذا السياق يمنح الوضع المتقدم الذي منح للمغرب امتيازات واضحة، ولكنه في نفس الوقت يضع عليه التزامات مرتبطة بشكل أساسي بتعميق الإصلاحات التي انخرط فيها، وفي مقدمتها النموذج الجهوي المتقدم.
  فالتجارب الأوروبية تقدم مختبرا متنوعا لممارسة التنظيم الترابي، فالجهات أصبحت بمثابة الإطار المرجعي للسياسة الجهوية الأوروبية الهادفة إلى تشجيع نمو الأقاليم والجهات القادرة على التنافسية دون الإخلال بمبدأ التماسك الترابي، بالرغم من التنوع الموجود ما بين أنظمة قطعت أشواطا كبيرة في هذا المجال (التجربة الاسبانية والإيطالية)، وبين دول مازالت في طريق تحقيق أهدافها للرقي بنظامها الجهوي.
   ويفرض البحث عن نموذج أو مدرسة مغربية للجهوية عامة، وبشكل خاص على مستوى توزيع الاختصاصات بين الدولة والجهة، تأمل تجارب دول سبقتنا في هذا الميدان، من خلال تقييم الآليات التي تتحكم فيها، والحلول التي تقدمها لقضايا تطرح بشكل مستمر، ولكن أيضا تأمل الصعوبات التي تواجهها، لقد أعطت الكثير من الدول الأوروبية الدليل الواضح على أن التقدم الاقتصادي والاجتماعي...، يمكن أن يتحقق من خلال رافعة الجهوية لكونها تحرر الطاقات وتسمح بخلق الثروات في إطار تنافسية متكاملة، مع العلم على أن هذا النموذج المغربي للجهوية استمد قوته من ثقافة وقيم ومن مؤسسات وتجارب، ومن تاريخ وجغرافية ومن خصوصيات ومميزات وتطلعات وطموحات الدولة المغربية، مستجيبا بأكثر ما يمكن من الدقة لواقع المغرب مستلهما كل هذا من التوجيهات الملكية السامية، بيد أن الامتناع عن التقليد الأعمى وعن نقل النماذج ، لم يلغي الاطلاع على التجارب الأجنبية للوقوف على ما جاءت به من حلول وخاصة على صعيد تجارب الدول ذات الطابع الموحد، والتي تعتبر ذات فائدة وتبدو قابلة لملاءمة الواقع المغربي.
   ولاشك أن النموذجين الإسباني والإيطالي في موضوع الجهوية، وخاصة في مجال توزيع الاختصاصات بين الدولة والجهات يعتبران من الإجابات الرائدة التي سمحت بتطويق الاختلافات العرقية الإثنية والثقافية في نطاق المقاربة الديمقراطية، التي لم يكن من ثمراتها الحفاظ على تماسك الدولة الوطنية فحسب، وإنما أتاحت لهذين للبلدين رغم اختلاف السياقات تحقيق الازدهار الاقتصادي والتنمية المحلية.
   ومن خلال ما سبق تحليله في هذه الأطروحة، يمكن القول أن الجهة في إطار النماذج الأوروبية محل الدراسة (التجربة الإسبانية/التجربة الإيطالية)، تتمتع باختصاصات متقدمة وواضحة تمتد لتشمل الميادين التشريعية، التنفيذية والقضائية، فقد تم منح أولويات كبيرة لاختصاصات الجهة حيث تم دسترتها مقابل تحديد ما تمارسه الدولة، مع توضيح العلاقة بينهما، ورصد الدعائم للحفاظ على توازن هذه العلاقة، مع السهر على احترام كل طرف لاختصاصاته في المجال المسموح به، وذلك عبر أجرأة مضامين القضاء الدستوري والإداري.
   إلا أن الأمر يختلف عما هو عليه في المغرب، فالجهوية كانت تعاني من عدة إكراهات تبلورت في ضعف اختصاصاتها وذلك ابتداء من أول تجربة بعد الاستقلال، حيث منحت لها اختصاصات لا تعدو أن تكون استشارية مع أن اقتصارها على تقديم الاقتراحات والآراء في إطار الجهة الاقتصادية بموجب ظهير 1971م أدى كذلك بهذه التجربة إلى الفشل.
   ورغم رغبة الفاعل السياسي المغربي وعزمه نحو الاهتمام بالجهة عبر عدة إصلاحات دستورية وقانونية، فإن الوحدة الجهوية بقيت تعاني من ضعف في اختصاصاتها والذي ازدادت حدته بفضل مجموعة من المعطيات في علاقتها مع الدولة، حيث أن هذه الأخيرة امتلكت عدد من الوسائل الرقابية والتدخلية مكنتها من التأثير على أعضاء أجهزة هذه الوحدة ومقرراتها، مما جعل الجهة في وضعية تبعية، نتج عنه اختلال مستمر ودائم في الاختصاصات بينهما، فالسلطة التقريرية والتنفيذية للمجلس الجهوي ظلت محدودة بقوة تدخل السلطة المركزية.
   إضافة إلى الغموض والضبابية على مستوى الاختصاصات الممنوحة لهذا المجلس، والناتجين بالضرورة عن أسلوب التوزيع والذي اعتمد في مجمله على العمومية في التنصيص، مما جعل العلاقة بين هذين الطرفين (الجهة/الدولة) تتسم في مجملها بعدم التوازن وعدم التكافؤ لصالح الطرف الأخير.
   إن مسألة التوازن في الاختصاصات والتوزيع الجيد لها بين الدولة والجهة عملية معقدة وفي غاية الصعوبة، مما استدعى اعتماد نظرة شمولية وعميقة للأمور، فتحقيق التوازن في الاختصاصات بينهما، ألزم ضرورة تمتيع الجهة، باختصاصات وصلاحيات مهمة في إطار استراتيجية واضحة ومتسلسلة، حيث أن منح هذه الصلاحيات تم بالفعل بناء على الدور الذي يجب أن تلعبه الجهة، وهو دور يتحدد انطلاقا من عدة اعتبارات ومحددات، أهمها وكما سبق الذكر ضرورة الحفاظ على الوحدة الترابية للوطن وتحقيق التنمية البشرية بمختلف تجلياتها (الاقتصادية/الاجتماعية/الثقافية/البيئية...إلخ)، مع ضرورة العمل على التوزيع الجيد للموارد بين الدولة والجهة، ويهم ذلك بالدرجة الأولى العنصر البشري والذي يعد رافعة لكل رهان تنموي فضلا عن الموارد المالية وما تجسده من أهمية في بلورة ذلك وأجرأته فعليا على أرض الواقع.
   كل هذا، لن يتأتى إلا بتجاوز ما عرفته التجارب الماضية من تحديات وإكراهات، جعلت العلاقة بين الدولة والجهة، علاقة تسودها مجموعة من الاختلالات كعدم التوازن لصالح المركز والمبالغة في أشكال الرقابة والوصاية، وتعدد أنماطها وطرق ممارستها مع كثرة المتدخلين، إضافة إلى صرامة الرقابة ذات الطابع القبلي.
   إكراهات جعلت من اختصاصات المجالس الجهوية اختصاصات شكلية وغـير ذات جدوى، خاصة على مستوى الغموض والضبابية الذين سادا التنصيص القانوني عليها، مما جعل تداخل الاختصاصات والأدوار بين الدولة والجهة وبين الدولة بمختلف أجهزتها أمرا لا مناص منه، مما أدى في نهاية المطاف إلى تشتيت جهود التنمية ازداد معه اختلال العلاقة بين الطرفين.
   إلا أن الأمر سيتغير مع مجيء دستور فاتح يوليوز 2011م، والذي جاء بمبادئ دستورية هامة عملت على تأطير مسألة تحديد اختصاصات الجماعات الترابية، وفي صدارتها الجهات، فضلا عن توسيع نطاق اللامركزية الترابية على المستويين الإقليمي والجهوي بالخصوص، كما أنه عمل على تبويئ الجهة مكانة متميزة بالمقارنة مع باقي الجماعات الترابية الأخرى بالنظر إلى الدور الذي يمكن أن تضطلع به كفاعل أساسي في مجال التنمية الجهوية، وانعكاساته المحتملة على تنمية الجماعات الترابية الأخرى (العمالات والأقاليم والجماعات)، المتواجدة داخل ترابها، كما أن مضامين الدستور ذات العلاقة بالموضوع (خاصة الباب التاسع منه)، تم تفعيلها وتنزيلها بصدور القوانين التنظيمية المنظمة لعمل هذه الجماعات الترابية.
   وعلى هذا الأساس وفيما يتعلق بالنصوص، وخاصة القانون التنظيمي رقم 111.14 المتعلق بالجهة، فما يمكن  قوله هو أن القانون المهم في مضامينه، طرح بعد إصداره إشكالية دستورية تمثلت في تخصيص قانون تنظيمي للجهة دون باقي الجماعات الترابية الأخرى، لكون منطوق الفصل 146 من الدستور المغربي ينص على قانون تنظيمي واحد يشمل كل مستويات الجماعات الترابية بما فيها الجهات، وليس "قوانين تنظيمية" لكل مستوى من الجماعات الترابية قانون تنظيمي خاص بها، وهو ما يمكن أن نستنتجه من مقدمة الفصل السابق الذكر، الذي ينص بصريح العبارة: "تحدد بقانون تنظيمي بصفة خاصة: شروط تدبير الجهات والجماعات الترابية الأخرى (...)"
   ويتبين من هذا الفصل، أن الدستور استوجب وضع قانون تنظيمي واحد، ووارد بالمفرد يكون بمثابة مدونة شاملة لمجموع الجماعات الترابية بمستوياتها الثلاثة، وتضم المقتضيات المنظِّمة لها إذ تشمل كليا أو جزئيا المقتضيات العشر الواردة في محتوى الفصل 146، والتي ذكرت على سبيل المثال لا الحصر، وهذا ما يستشف من عبارة بصفة خاصة الواردة في هذا الفصل، فهي تبقى قابلة للزيادة لا الاختزال.
   إن هذا القانون (111.14) جاء بعدما كان القانون رقم47-96 لسنة 1997م هو المعمول به على مستوى التنظيم الجهوي بالمغرب، هذا القانون والذي تأثَّر فيه المشرع المغربي كثيرا بالمشرع الفرنسي، فيما يخص اختصاصات الجماعات الترابية، -على الرغم من أنه لم يواكب التطورات التي شهدتها الساحة في فرنسا بخصوص توزيع الاختصاصات بين الدولة والجماعات المحلية خاصة منها الجهات، ذلك أنه منذ أن تم اعتماد قانون 1962م والذي يعد نقطة تحول هامة في تاريخ اللامركزية بهذا البلد، صدرت العديد من النصوص القانونية والتنظيمية المتعلقة باختصاصات الجهات كجماعات محلية، والوحدات اللامركزية الأخرى المتواجدة فوق التراب الفرنسي، حيث تم اعتماد العديد من المناهج بغية الوصول لذلك، كما لعب الاجتهاد القضائي كذلك دورا مهما في إبراز مضمون اختصاصات تلك الوحدات الترابية-، وهكذا فقد تم تحديد اختصاصات الجهة في القانون السالف الذكر لسنة 1997م، والمنظِّم سابقا لاختصاصات الجهة بالمغرب بالاعتماد على "المقتضى العام للاختصاص"، وذلك بشكل عام وغامض، وكل ذلك تم بدون تشخيص شامل لما تقوم به الدولة والجماعات الترابية الأخرى ودون ربط ذلك بالإمكانات المادية، وخاصة المالية منها والإمكانيات البشرية وغيرها من الإمكانيات، وبدون رؤية واضحة لما يمكن أن يضطلع به كل مستوى من مستويات الجماعات الترابية مقابل ما يمكن أن تضطلع به الدولة.
   إن مجمل أهداف وروح الدستور من خلال التنصيص على وضع قانون تنظيمي للجهات والجماعات الترابية الأخرى، تمثلت في:
 -1  الرقي بالإطار المنظِّم للجماعات الترابية إلى مستوى قانون تنظيمي، يحظى بقيمة قانونية واعتبارية في تراتبية القوانين الوطنية، وهو الشيء الذي يعبر عن القيمة الخاصة والمميَّزة التي أولاها الدستور للجهات والجماعات الترابية الأخرى، باعتبار الوظائف والأدوار الهامة التي تضطلع بها؛
 -2  تجاوز وضعية تجزيء النصوص المنظمة للجماعات وسلبياتها، بحيث أن الجماعات الترابية بمستوياتها الثلاثة، ظلت طوال التجربة اللامركزية المغربية ومنذ أكثر من خمسين سنة، تؤطرها مجموعة من النصوص القانونية المختلفة من حيث المرجعيات السياسية، والمتعددة من حيث التشريعات والأنظمة، والمتفاوتة من حيث المضامين والأهداف، يطبعها التشتت وعدم الانسجام وتداخل الاختصاصات وضعف التكامل مما أثَّر بشكل واضح على المردودية الوظيفية لهذه المؤسسات؛
-3 التوفر على مدونة للجماعات الترابية، تعكس رؤية موحدة للأدوار، وتصورا منسجما للوظائف التي ستقوم بها هذه الوحدات في التنمية الترابية، باعتبارها الشريك الأول والأساسي للدولة؛
   وفي هذا الإطار، ونظرا لما يكتسيه موضوع الجهوية المتقدمة من أهمية كبرى في إطار ترسيخ الاختيار الديمقراطي، والذي يعتبر من الثوابت الجامعة للدولة المغربية، كما نص على ذلك الفصل الأول من دستور المملكة، وأخذا بعين الاعتبار على أن النموذج اللامركزي المبني على أساس الجهوية المتقدمة يعتبر من صميم إصلاح هياكل الدولة، ومن المنتظر أن يشكل نقلة نوعية وحقيقية في سياق البناء الديمقراطي الوطني والذي يقوم على أساس الوحدة الوطنية المتعددة الروافد، وأخذا بعين الاعتبار النصيب الوافر والدور الهام الذي أعطاه أسمى قانون في المملكة للجماعات الترابية، وخاصة منها الجهات، من خلال تنصيصه على وضع قانون تنظيمي خاص بها، وهو اختيار ينم عن إرادة عميقة في جعل هذه الوحدات تحظى بحضور قوي ومتميز داخل البنيان السياسي والدستوري والقانوني للمملكة، وبالنظر كذلك للأهمية الكبيرة التي يكتسيها إبراز وتحديد مفاهيم جديدة في التدبير الترابي كالتدبير الحر والتفريع وصدارة الجهة ومساعدة الولاة للرؤساء في تنفيذ المخططات والبرامج التنموية، يمكن اقتراح تصور شمولي يضم أهداف متسلسلة ومترابطة حسب أبعادها الزمنية، حيث تبتدئ بالاقتراحات التي يمكن تطبيقها على المستوى القريب ثم المستوى المتوسط وأخيرا على المستوى البعيد، والتي من شأنها أن تساعد في تحقيق التوازن بين الدولة والجهة خاصة على مستوى توزيع الاختصاصات بينهما، وهي التالي:
 -  دور الجهة المتقدمة والهدف المراد منها، وبطبيعة الحال فهو يتمحور في سبيل تحقيق أهداف ثلاثة في غاية الأهمية:
الحفاظ على وحدة المغرب الترابية؛
تحقيق تنمية متعددة الأبعاد (سياسية، إقتصادية، اجتماعية وبيئية...إلخ)؛
.إدماج الساكنة في التدبير المعقلن للشأن الجهوي، وهم ما يشكِّل في حد ذاته تثبيتا وترسيخا للديمقراطية على المستوى الجهوي.
   وحتى تتفادى الجهة المتقدمة تداخل اختصاصاتها مع اختصاصات الدولة وباقي المتدخلين في تدبير الشأن العام، لابد من وجهة نظري توفر شروط أساسية لازمة للوصول إلى تحديد دقيق للاختصاصات بين الدولة والجهات، وكذلك بين الدولة وغيرها من الأشخاص المعنوية العامة والخاصة مع تفادي التنافس السلبي بينها وتوضيح المهام وتسهيل المراقبة مع ربط المسؤولية بالمحاسبة.
   وفي الختام، ورغم أن الموضوع المعالج في هذه الأطروحة يظل في حاجة إلى تأملات عديدة وتفكير جماعي يشارك فيه الجميع (أساتذة وباحثين ومهتمين وممارسين وإدارات ومجتمع مدني، وفعاليات مختلفة...إلخ)، فإنه يمكنني أن أخلص إلى القول بأنه يجب إعادة النظر في كيفية التفكير في الإصلاحات المراد إدخالها على المستويين اللامركزي وعدم التركيز الإداري، مع القيام بإنجاز دراسات علمية ميدانية يمكن على أساسها تحضير سياسات عمومية حقيقية، إذ أنه يظل بالضرورة بمكان القيام بدراسات تقييمية للتجارب الماضية والتي تظل متعددة ومتراكمة وذلك بغية استخلاص الدروس والعبر، والخروج بنتائج عملية ملموسة تؤدي إلى جعل الوحدة الجهوية هي القائد والمنسق للمشاريع التنموية الجهوية، إن على صعيد ما يدخل في مجالها الترابي من جماعات ترابية أو بخصوص ما تمارسه الدولة بتشكيلاتها المختلفة على المستوى الجهوي والمحلي.
   فإذا كان من السابق لأوانه الحكم على النموذج الجهوي المتقدم بالمغرب، والذي في ظله وعلى أساسه سيتم الحكم كذلك على مسألة توزيع الاختصاصات بين الدولة والجماعات الترابية (خاصة منها الجهات)، فالهدف المأمول الوصول إليه مستقبلا هو نمط إصلاحي حديث ومواكب للتغيير الاجتماعي، فهذا الأمل لكي يكون واقعيا فإن الأمر يتطلب أن تكون الجهوية المتقدمة إطارا لإغناء مسلسل اللامركزية الذي يرتكز على تعلُّم قواعد لعبة جديدة تسمح بوصول وإنتاج الموارد لجميع الجهات، عبر ميكانيزمات جماعية وتضامنية مشتركة، كما يستدعي ألا ينحصر الإصلاح في مجال القواعد والمؤسسات، بل أن يشمل مجال القيم للوصول إلى جهوية حداثية فالتوازن المنشود في الاختصاصات بين الدولة والجهة لا يجب أن يتم الوقوف عند خلقه فقط، بل يجب تتبعه والسهر على مراقبته، لكي لا يختَّل في الممارسة الفعلية، وتظل كثيرة هي الأسباب المؤدية إلى ذلك الاختلال، الأمر الذي يحتم على هاتين المؤسستين القيام بدور كبير في مجال تحديد وتوضيح الاختصاصات، وعليه يتعين على البرلمان إصدار قوانين واضحة بعيدة عن الغموض والضبابية، وعليه كذلك أن يتدخل لملأ الفراغات التشريعية حتى يسد الباب أمام الدوريات والمراسيم التي تتدخل بها السلطة التنظيمية في تلك الحالات، والتي غالبا ما تكون في صالح الدولة/المركز، وذلك على حساب الجهات والتي يجب أن تتقدم إلى الأمام وليس الانقضاض فقط - إن صح التعبير- على مكتسباتها، إضافة إلى أدوار البرلمان، هناك القضاء والذي يمكن أن يقوم بحماية حدود الاختصاصات، حيث يجب عليه التدخل حينما يختل توازنها الطبيعي ليفصل بأحكامه، فهو يمثِّل إحدى السلط التي ترتكز عليها الدولة الديمقراطية والتي لا يمكنها إلا أن تتقدم في حالة تواجده وتنهار بانعدامه.
   فاختصاصات الجهة في كل التجارب المقارنة في هذه الأطروحة، من خلالها نلاحظ أن الحكم الذاتي في التجربتين السابقتين (الممارسة الإسبانية والإيطالية في هذا المجال)، هو خليط من فكرتي الفيدرالية واللامركزية الإقليمية، فهو يأخذ من النظام الفيدرالي القواعد التي تحدد الاختصاصات بين الدولة وأقاليم الحكم الذاتي، وكذلك قيام الهيئة التشريعية الإقليمية بجانب المجلس التنفيذي الإقليمي، ويأخذ عن نظام اللامركزية الإقليمية مظاهر الرقابة المركزية، التي لا تقتصر على رقابة المشروعية بل تمتد إلى رقابة الملاءمة الممارسة من طرف القاضي الإداري، إنه لمن الحقيقي أن المغرب يتوفر على نموذج للجهوية المتقدمة إلا أن محددات نجاح هذا النموذج ترتبط بالظروف السياسية والسوسيولوجية والتي سترافق بالضرورة عملية أجرأته وتنزيله على أرض الواقع.
   كما أن تقدم الجهوية المغربية، لا يمكن إلاَّ أن يدعم الاندماج المغربي في المحيط الأوروبي، من خلال تمكين هذه الجهات في إطار التعاون اللامتمركز من التفاعل بمرونة إضافية مع باقي الجهات الموجودة في الفضاء الأوروبي، وكذا الاستفادة من الموارد التي يمنحها الاتحاد الأوروبي وجهاته المختلفة، بالمقابل فإن ترسيخ الجهوية بالمغرب، لا يمكن إلاَّ أن يساعد على إعطاء منظورية أحسن بالنسبة للمشاريع الأوروبية الموجَّهة للمغرب، ويشجِّع الفاعلين الأوروبيين على الاهتمام أكثر بانشغالات الجهات المغربية إذا عبَّرت عن نفسها بوضوح وبمبادرة أكثر حيوية.

كلية الحقوق أكدال- الرباط: تقرير أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في موضوع: توزيع الاختصاصات بين الدولة والجهة – دراسة مقارنة-، تحت إشراف الأستاذ الدكتور أحمد بوعشيق من إنجاز الباحث عبد الوهاب القستلي



الاثنين 7 يناير 2019

تعليق جديد
Twitter