MarocDroit  -  موقع العلوم القانونية
plateforme des décideurs juridiques - Platform of Legal Decision-Makers



قراءة في بعض حيثيات قرار المحكمة الدستورية رقم 19.89 بشأن دستورية قانون التنظيم القضائي - د. جابر لبوع / د. امحمد حجاجي

     

د. جابر لبوع / د. امحمد حجاجي باحثين في القانون الدستوري



قراءة في بعض حيثيات قرار المحكمة الدستورية رقم 19.89 بشأن دستورية قانون التنظيم القضائي - د. جابر لبوع / د. امحمد حجاجي
 
أصدرت المحكمة الدستورية قرارها رقم 19/89 بشأن مطابقة القانون رقم 38.15 المتعلق بالتنظيم القضائي للدستور، وهو القانون الذي تطلبت الموافقة عليه نهائيا ما يقارب ثلاث سنوات منذ أن تم التداول بشأن مشروعه في المجلس الحكومي بتاريخ 18 فبراير 2016، ليتم التصويت عليه نهائيا في مجلس النواب في جلسته العامة المنعقدة بتاريخ 18 دجنبر 2018، قبل أن يتم إحالته إلى المحكمة الدستورية في 16 يناير 2019، والتي أنهت بدورها فحص دستوريته وأصدرت بشأنه قرارها بتاريخ 8 فبراير 2019، ولتقرر في منطوقها من جهة أولى، بعدم مطابقة مسطرة إقرار التعديلات المدخلة من قبل أعضاء مجلس النواب في القراءة الثانية على بعض المواد للدستور، ومن جهة ثانية بعدم مطابقة بعض المواد من حيث الموضوع للدستور، فيما اعتبرت من جهة ثالثة أن باقي المواد الأخرى من القانون ليس فيها ما يخالف الدستور مع مراعاة التفسير الذي قدمته بشأنها.

ورغم الحصانة الدستورية التي تحوزها قرارات القضاء الدستوري، فإن الأمر لا يمنع من رصد نتائجه الاجتهادية وتفاعلا مع ما قدمه قضاة المحكمة الدستورية من تفسيرات للقواعد الدستورية، نظرا لما قد يتمخض عنها في هذا المضمار من تطورات قد تحسم مجموعة من الإشكالات الدستورية أو لما قد تكشف عنه من مبادئ ينطلقون منها في إطار الرقابة على الدستورية.

وبصرف النظر عن مجموع ما قدمته المحكمة الدستورية من تفسيرات في حيثيات قرارها بشأن مواد قانون التنظيم القضائي، سواء تلك المواد التي تمت إثارتها في رسالة الإحالة والمذكرات المرفقة بها، أو تلك المواد التي تمت إثارتها تلقائيا من قبلها، فإن تفاعلنا مع هذا القرار سيتجه صوب التركيز على عنصرين نرى أنهما يعكسان نوعا من التحول في الاجتهاد الدستوري لدى المحكمة الدستورية، لم يسبق أن تمت اثارته في اطار تجربة المجلس الدستوري، ذلك أن اجتهادها هذا يفتح المجال لإثارة النقاش من ناحية أولى حول  مدلول مسطرة التداول الواردة في الفصل 84 من الدستور (أولا)،  ومن ناحية ثانية حول نطاق تدخل المحكمة الدستورية في إطار مراقبة قواعد توزيع الاختصاص بين القانون والتنظيم (ثانيا).

أولا: مدول مسطرة التداول في النصوص القانونية

لم يسبق أن أثارت مسطرة التداول البرلماني للنصوص القانونية إشكالات حقيقيا في ظل الدساتير السابقة بمثل ما طرحته في ظل تجربة دستور المملكة لسنة 2011، خصوصا وأن الصياغة الجديدة التي جاء بها الفصل 84 من الدستور كرست في فقرتها الثانية قاعدة الحسم النهائي بترجيح كفة مجلس النواب في التصويت على النص القانوني الذي تم البت فيه من طرف المجلسين.

وهنا يطرح الإشكال بالنسبة لمسطرة التداول، خصوصا وأن الفصل 84 من الدستور نص على أن مجلسا البرلمان يتداولان في النصوص القانونية بالتتابع بغية التوصل إلى المصادقة على نص واحد... كما يتداول كل مجلس في النص الذي صوت عليه المجلس الآخر في الصيغة التي أحيل بها عليه. قبل أن يستأنف نفس الفصل في فقرته الثانية بالنص على أنه يعود لمجلس النواب التصويت النهائي على النص الذي تم البت فيه.

وقبل المحكمة الدستورية، طرحت هذا الامتحان أمام المجلس الدستوري ليبدي رأيه بخصوص التفسير الدستوري لمسطرة التداول في مناسبتين، الأولى أثناء بته في القانون المالي لسنة 2014 حيث اعتبر أن مسطرة البت النهائي من طرف مجلس النواب ليس فيها ما يخالف الدستور، خصوصا وأن الحكومة قدمت تعديلا على مشروع القانون المالي أمام مجلس المستشارين الذي صوت بدوره في جلسته العامة بالرفض في شموليته، وليقوم كذلك مجلس النواب في إطار القراءة الثانية بالتصويت النهائي على القانون دون إحالته في إطار القراءة الثانية لمجلس المستشارين.

وإذا كان هذا القرار لم يوضح بشكلي جلي مدلول التصويت النهائي، إلا أن المجلس الدستوري عاد في مناسبة ثانية إلى التأكيد على حق مجلس المستشارين في القراءة الثانية، وذلك أثناء بته في القانون التنظيمي للمالية واعتبر أن ادخال تعديلات على هذا القانون أمام مجلس النواب في القراءة الثانية دون أحالتها إلى مجلس المستشارين لإعماله حقه في القراءة الثانية أمر ينافي قاعدة التداول بين مجلسي البرلمان، ويكون تبعا لذلك غير مطابق للدستور.

ورغم أن للمجلس الدستوري السبق في طرح تفسيره لقاعدة التداول (التبادل المكوكي)، فإن تفسيره للفقرة الثانية من الفصل 84 من الدستور ظل يشوبه الغموض خصوصا وأن الدستور لم يحدد متى يتأتى لمجلس النواب أن يبت بصفة نهائية في مشاريع ومقترحات القوانين، وهنا يبدو أن المحكمة الدستورية  في قرارها بالرغم من كونها لم تنحرف عن هذا التفسير المتعلق بقاعدة التداول، إلا أنها قدمت وجهة نظرها بخصوص مفهوم البت النهائي الممنوح لمجلس النواب وذلك عندما صرحت في إحدى حيثيات قرارها بما يلي: "وحيث إن التصويت النهائي الذي خص به الفصل 84 من الدستور مجلس النواب، من جهة، يعود تقدير إعماله لمجلس النواب، بحكم أن الدستور لم يعدد القراءات المُتطلبة في النصوص قبل إعماله، ومن جهة أخرى، أنه يَتم، بخصوص مشاريع ومقترحات القوانين المودعة بالأسبقية لدى مكتب مجلس النواب، على أساس الصيغة التي سبق أن تداول فيها مجلس المستشارين، وكانت محل قراءة من قبله على الأقل مرة واحدة، مما يجعل صيغة النص التي تَسمح بإعمال مسطرة التصويت النهائي يُحتمل أن تكون إما تلك التي وافق عليها مجلس المستشارين وأحيلت، من أجل القراءة الثانية، على مجلس النواب الذي بدوره يُوافق عليها كما أحيلت عليه، أو الصيغة التي أحيل بها النص على مجلس المستشارين بعد القراءة الأولى لمجلس النواب".

ويتضح من خلال هذا القرار أن المحكمة الدستورية، حاولت أن تحدد نطاق تطبيق قاعدة البت النهائي، وذلك بترجيح دور مجلس النواب في الحسم في مشاريع ومقترحات القوانين التي تم التداول بشأنها، مع منحه السلطة التقديرية لكي يقرر متى يتأتى له إعماله، لكن فقط بالنسبة لمشاريع القوانين التي تودع لدى مكتبه بالأسبقية وكذا مقترحات القوانين التي يتقدم بها أعضاءه. غير أنه بالرغم من هذا التحديد يبقى السؤال مفتوحا حول دور مجلس المستشارين في التشريع، لأن المحكمة الدستورية أدلت بتفسيرها انطلاقا من مقاربة احتمالية فيما يخص إعمال السلطة التقديرية في البت النهائي في النص الذي تم التداول بشأنه، ذلك أن التصويت النهائي وفقا لهذا الفهم الذي قدمته يعني وضع حد لمسطرة التبادل المكوكي وإقصاء دور مجلس المستشارين، خصوصا عندما أدلت بالاحتمال الثاني الذي جاء فيه " أو الصيغة التي أحيل بها النص على مجلس المستشارين بعد القراءة الأولى لمجلس النواب".

فإذا كان الأمر بالنسبة للاحتمال الأول لا يطرح أي مشكلة، لأن النصوص التي وافق عليها مجلس المستشارين وأحيلت إلى مجلس النواب وصوت عليها بدون إدخال أي تعديلات عليها تكون نتيجته توصل المجلسين إلى المصادقة على نص واحد طبقا للمقطع الأول من الفصل 84 من الدستور، وبالتالي يكون التصويت النهائي لمجلس النواب هو تصويت على النص المتفق عليه. لكن بالنسبة للاحتمال الثاني فإن الأمر يعني وضع حد لدور مجلس المستشارين حتى ولو تمت قراءة النص قراءة واحدة من طرفه، لأن مجلس النواب هنا سيصوت على النص الذي قام بتعديله في القراءة الأولى وأحاله إلى مجلس المستشارين الذي تداول فيه بدوره وصوت عليه مع ما مسه من تغييرات أو تعديلات، وأحاله إلى مجلس النواب في إطار القراءة الثانية الذي سيقوم بدوره برفض تعديلات المستشارين والتصويت بشكل نهائي على صيغة المشروع أو المقترح وفق صيغته الأولية كما ناقشها وعدلها، وهو الأمر الذي ينافي قاعدة التداول، وهو ما يعني كذلك أن المجلسين لم يتوصلا إلى الاتفاق على نص واحد.

وهذا ما يقود إلى التساؤل من جديد، حول مدلول البت النهائي، وكذلك حول متى تتوقف المسطرة التداولية؟ لكن الأمر المثير للانتباه في تفسير المحكمة الدستورية، هو أن السلطة التقديرية الممنوحة لمجلس النواب -بناء على الاحتمال الثاني الذي جاء في حيثية القرار- لا تعني سوى مشاريع القوانين ومقترحات القوانين التي يتداول فيها مجلس النواب بالأسبقية، وليس تلك التي تتقرر فيها الأسبقية لمجلس المستشارين، وبمفهوم المخالفة، فإن مشاريع القوانين ومقترحات القوانين التي يناقشها مجلس المستشارين بالأسبقية، لا يجوز فيها لمجلس النوب أن يقوم بالبت فيها نهائيا بعد القراءة الأولى إلا إذا صوت على نفس الصيغة المحالة إليه من طرف المجلس الآخر، أما في حالة إدخال التعديلات فإن النص يجب أن يمرر لمجلس المستشارين لإعمال القراءة الثانية التي تقتصر فيها المناقشة فقط على المواد التي تظل محل خلاف وليس المواد التي تم التصويت عليها بصيغة موحدة، ليقوم هو بدوره كذلك بالتمسك بتعديلاته، وإحالة الأمر إلى مجلس النواب في إطار القراءة الثانية انسجاما وقاعدة التداول.

وهنا يطرح التساؤل حول ما إذا كانت سلطة مجلس النواب التقديرية تقود إلى إقصاء دور مجلس المستشارين، والتصويت على الصيغة التي بت فيها في قراءته الأولى؟ طالما أن الاحتمال الثاني الذي فتحته المحكمة الدستورية يقود إلى هذا الاستنتاج بمفهوم الموافقة. وإذا كان الأمر كذلك، فإن الفهم الدستوري للبت النهائي يعني فيما يعنيه وضع حد لمسطرة التداول البرلماني ويعني ترجيح كفة مجلس النواب على حساب مجلس المستشارين.

وفي جميع الأحوال يبدو أنه بالرغم من كون المحكمة الدستورية من ناحية قد أغلقت باب النقاش والخلاف حول مدلول التداول وسلطة البت النهائي الممنوح لمجلس النواب، إلا أنها من ناحية أخرى فتحت بابا آخر للنقاش فيما يخص مشاريع ومقترحات القوانين التي تداول فيها مجلس المستشارين بالأسبقية، مع العلم أنها قضت بعدم دستورية البت النهائي لمجلس النواب بعد إدخال تعديلاته على نص مشروع قانون التنظيم القضائي في إطار القراءة الثانية، ووفقا لذلك فإن المحظور هو البت النهائي بعد إدخال التعديلات، وليس البت النهائي في النص كما صادق عليه مجلس النواب في إطار القراءة الأولى.

ثانيا: نطاق تدخل المحكمة الدستورية في مراقبة قواعد توزيع الاختصاص بين القانون والتنظيم

طرح هذا القرار إشكالية تتعلق بمدى إمكانية انتقال رقابة المحكمة الدستورية على دستورية القوانين إلى رقابة دستورية المقتضيات التي تدخل في مجال التنظيم، الذي هو مجال مستقل عن مجال القانون، وهذا الأخير هو الذي يخضع للرقابة على الدستورية، في حين مجال التنظيم يخضع لرقابة المشروعية (القضاء الإداري).

غير أن اختصاص المحكمة الدستورية حسب الدستور يقتصر على تحديد الطبيعة القانونية للمقتضيات المعروضة عليها، وذلك في إطار الفصل 73 و79 من الدستور، التي تخول للمحكمة الدستورية التقرير فيما إذا كانت النصوص القانونية الواردة عليها لها طبيعة تشريعية أم تنظيمية، دون أن يمتد ذلك إلى فحص دستوريتها من حيث هي.

وبالرجوع إلى القرار الذي نحن بصدده، وبشأن المواد 102 إلى 109 من القانون رقم 38.15 المتعلق بالتنظيم القضائي، التي تتعلق بتحديد اختصاصات المفتشية العامة للوزارة المكلفة بالعدل وصلاحياتها، تبين أن رئيس الحكومة في "مذكرة الإحالة" يقول إن هذه المفتشية بنية إدارية خاضعة لسلطة حكومية تحدد اختصاصاتها بموجب نصوص تنظيمية، واعتبر أن اقحام هذه المواد المتعلقة بهذه المفتشية في القانون المتحدث عنه، كان من طرف تعديلات برلمانية إضافية.

وبالتالي، فالمسطرة التي كان يتعين سلوكها في هذه الحالة حسب الدستور، هي:
 
  • إما اللجوء إلى المسطرة المنصوص عليها في الفصل 73 من الدستور، وهذه مسطرة لاحقة، أي لا يمكن اللجوء إليها إلا بعد صدور القانون المعني، والتي تستهدف تغيير النصوص التشريعية من حيث الشكل بمرسوم، بعد موافقة المحكمة الدستورية.
  • وإما اللجوء إلى المسطرة المنصوص عليها في الفصل 79 من الدستورية، وهذه مسطرة آنية مواكبة لمناقشة مشروع القانون، بحيث يمكن للحكومة أن تدفع بعدم قبول كل مقترح أو تعديل لا يدخل في مجال القانون، وكل خلاف في هذا الشأن تبت فيه المحكمة الدستورية، وهنا يجب التذكر أن لا يمكن اللجوء إلى هذه المسطرة إلا في الجلسة العامة، وذلك طبقا للمادة 30 من القانون التنظيمي للمحكمة الدستورية رقم 099.13، التي تنص على أن: إذا دفعت الحكومة، طبقا للفصل 79 من الدستور، بعدم قبول اقتراح أو تعديل ترى أنه لا يدخل في مجال القانون، تتوقف فورا مناقشة الاقتراح أو التعديل في الجلسة العامة، وإذا وقع خلاف في هذا الشأن، يرفع الأمر إلى المحكمة الدستورية للبت فيه داخل أجل 8 أيام.
وتأسيسا على ذلك، يتبين من خلال هذا القرار أن الحكومة لم تثر هذه المسطرة الأخيرة أثناء المناقشة البرلمانية لهذه المواد (من 102 إلى 109)، أي لم تدفع بعدم قبول تلك التعديلات الإضافية، بسبب أنها لا تدخل في مجال القانون، وإنما فضلت إثارتها من خلال الطعن الذي تقدم به رئيس الحكومة المنصوص عليه في الفقرة الثالثة من الفصل 132 من الدستور. وعليه، هل كانت الحكومة في شخص رئيسها ملزمة بسلوك المسطرة المنصوص عليها في الفصل 73 كمرحلة أولى أو 79 كمرحلة ثانية، تحت طائلة عدم قبول الطعن المنصوص عليه في الفصل 132 من الدستور؟   بمعنى آخر أنها طالما تتوفر على إمكانيتين للدفاع عن مجالها، وبالتالي لا يمكن قبول الطعن الدستوري، وذلك في إطار ما يسمى بتوفر الإحالة الموازية لبلوغ نفس النتيجة. وبالتالي فما هو
موقف المحكمة الدستورية في هذا الصدد؟

وبالعودة إلى نفس القرار، نجد أن المحكمة الدستورية موقف أخر، حيث اعتبرت أنه لئن كان الدستور خول للحكومة وسائل للدفاع عن مجالها التنظيمي خلال المسطرة التشريعية، فإنه لم يرهن رئيس الحكومة لحقه في الإحالة المنصوص عليها في الفصل 132 من الدستور، استنفاذ الدفع المشار إليه في الفصل 79 من الدستور.

مما يعني أن المحكمة الدستورية قبلت هذه الإحالة، وقضت بأن مضمون المواد المشار إليها أعلاه المتعلقة بالمفتشية التابعة لوزارة العدل تندرج في مجال التنظيم، مما يستدعي تنظيمها وفق نص تنظيمي عملا بأحكام الفصل 72 من الدستور، وذلك اسوة بباقي المفتشيات المماثلة، الممارسة لاختصاص ذاته، التابعة لوزارات أخرى المنظمة بموجب نصوص تنظيمية، غير أنها ميزت بين التفتيش المتعلق بشأن القضائي الذي يقتضي تنظيمه بموجب قانون.

وبالتالي، يتضح أن المحكمة الدستورية لم تلزم الحكومة بسلوك المسطرة المنصوص عليها في الفصل 79 من الدستور (أو تلك المنصوص عليها في الفصل 73 من الدستور) كمرحلة أولى من أجل اللجوء إلى الطعن الدستوري المنصوص عليها، بدعوى أن الدستور لم يرهن الحكومة باستنفاذ تلك المسطرتين حتى يتسنى لها اللجوء إلى الطعن الدستوري. ومن جهتنا نعتقد أن هذا الموقف سليم من الناحية الدستورية، على اعتبار أن الدستور سواء في الفصل 73 و79 لم يلزم الحكومة بهذا الدفع، لأنه بالرجوع إلى خذين الفصلين نجد أن صيغتهما جاء على سبيل الجواز وليس الإلزام، حيث استعمل الفصل 73صيغة " يمكن ..." والفصل 79 صيغة " للحكومة...". مما يفيد أن الحكومة غير ملزمة باستعمال هاتين المسطرتين.

غير أن الإشكال المطروح أن المحكمة الدستورية لم تكتف بتحديد الطبيعة القانونية لمقتضيات المواد المشار إليها أعلاه، وإنما امتد عملها إلى فحص دستوريتها، بمعنى أنها قامت بمراقبة دستورية تلك المقتضيات التي تدخل في مجال التنظيم، والذي يخرج بموجب الدستورية والقوانين التنظيمية ذات الصلة من نطاق اختصاص المحكمة الدستورية، وتبريرا لذلك أوردت المحكمة الدستورية في هذا القرار ما يلي: فضلا عن أن قاضي المشروعية (القاضي الإداري) لا يراقب دستورية المراسيم، فإن المراقبة الدستورية الممارسة طبقا للفصل 132 من الدستور، وعلى عكس المسطرة المنصوص عليها في الفصل 73 و79 لا تحد عمل المحكمة الدستورية في التصريح في مدى اندراج المقتضى المعروض عليها في مجال القانون أو مجال التنظيم، بل يتعداه إلى فحص مدى مطابقته مضمون المقتضى المعني ذي الصبغة التنظيمية للدستور.

وتأكيدا لذلك، صرحت المحكمة الدستورية أثناء فحص مضمون تلك المقتضيات، بعد أن ميزت بين التفتيش الإداري والمالي الذي تقوم به المفتشية التابعة لوزارة العدل، والتفتيش القضائي الخاص بالشؤون القضائية الذي يتولاه المسؤولون القضائيون، أن ليس فيها ما يخالف الدستور، وبالإضافة إلى ذلك أشارت إلى صلاحية المفتشية التابعة لوزارة العدل الاستماع إلى المسؤولين القضائيين، على أن يقتصر هذا الاستماع على الجوانب المالية والإدارية التي يشرفون عليها، ولا يطال ما يتصل بالعمل القضائي في الإدارة القضائية، مراعاة لاستقلالية السلطة القضائية. وخلصت في الأخير إلى أن مضمون هذه المواد يكتسي طابعا تنظيميا مع مراعاة التفسير الذي أدلت به عند تطبيقها.

ويفهم مما أوردته المحكمة الدستورية بخصوص هذه الحيثيات، أن اختصاصها المتعلق بمراقبة دستورية القوانين التي تمارسه في نطاق الفصل 132 من الدستور يشمل فضلا عن تحديد الطبيعة القانونية لمقتضيات المعروضة عليها، مراقبة دستوريتها، طالما أنها جاءت في نص قانوني، الذي يخول لها ممارسة اختصاصها من كل الجوانب، بما فيها تحديد الطبيعة القانونية والتقرير في دستوريتها. مما يعني بمفهوم المخالفة، أن هذه المقتضيات لو كانت منظمة بمرسوم وعرض عليه، فإنها لن تقبله بدون تردد، بدعوى أنها لا تختص بمراقبة دستورية المراسيم.

ويستفاد من هذا كله أن المحكمة الدستورية، لجأت إلى فحص دستورية تلك المقتضيات لتفادي بعض الإشكاليات التي سوف تطرحها أثناء تطبيقها، حيث حددت نطاق اختصاص المفتشية الوزارية والقضائية، حيث حصرت مهام الأولى في التفتيش المالي والإداري، والثانية في الشؤون القضائية، بالإضافة إلى تقييد نطاق استماع المفتشية الوزارية للمسؤولين القضائية في المجال الإداري والمالي الذي يشرفون عليه، حتى لا ينزلق هذا لاستماع إلى الشؤون القضائية التي تدخل في اختصاص المفتشية القضائية، تطبيقا لمبدأ الفصل بين السلطة التنفيذية والقضائية.

 



الاثنين 18 فبراير 2019

تعليق جديد
Twitter