MarocDroit  -  موقع العلوم القانونية
plateforme des décideurs juridiques - Platform of Legal Decision-Makers



دراسات مقارنة: عبء الإثبات في المادة الجنائية على ضوء التشريع الجنائي الجزائري.

     

د عبد العزيز خنفوسي.

أستاذ جامعي دائم.
كلية الحقوق والعلوم السياسية، جامعة الدكتور "مولاي الطاهر" بسعيدة، الجزائر.



دراسات مقارنة: عبء الإثبات في المادة الجنائية على ضوء التشريع الجنائي الجزائري.

 
 
 
 

مقدمة:

إن ما هو متعارف عليه في جميع التشريعات أنّ عبء الإثبات في المادة الجنائية يقع على عاتق جهة الاتهام، وهي النيابة العامة التي تسعى دائما إلى إثبات وقائع الجرائم المرتكبة من طرف أفراد المجتمع، ويتم ذلك عن طريق الضبطية القضائية التي تعمل تحت إشراف وكيل الجمهورية، أو النائب العام في العمل على ضرورة الكشف عن الحقيقة بجمع الأدلة التي توصل إلى إثبات الوقائع وأسبابها ودوافعها وانتسابها إلى شخص أو أشخاص معينين، وهذه المرحلة هي من أهم المراحل في البحث والتحري في مكان وقوع الجريمة.
وباعتبار أنّ هذه التحريات تمسّ بحرمة وحرية المواطن الشخصية، فإنه لا يجوز مباشرتها بدون وجود مبرر قانوني يسمح بها (1).
فمن الواجبات المفروضة على الضبطية القضائية تتبع الجريمة بمجرد وقوعها، وذلك بجمع كل الآثار والدلائل والقرائن الدالة على ارتكابها، وقاضي التحقيق بعد ذلك له الأخذ بها وموازنتها ومعرفة مدى مشروعيتها وصحتها، وهذا باعتبار أنّ قاضي التحقيق يحقق لصالح المتهم أو لإثبات التهمة بالنسبة إليه، ومن ثمّ لابد من إثبات عناصرها، أو ما يسمى بـ"أركان الجريمة العامة والخاصة" لكل جريمة على حدا والظروف المصاحبة لها.

أولا- إثبات أركان الجريمة:

في المواد الجنائية بصفة عامة، نجد أنّ إثبات أركان الجريمة يقع كما سبق القول على سلطة الاتهام المتمثلة في النيابة العامة أو المدعي المدني عن طريق الشكوى المصحوبة بالادعاء المدني، وهذا قبل أن تتبنى النيابة العامة الدعوى العمومية، وبالتالي يقوم المدعي المدني بتحريكها ومباشرتها عملا بأحكام المادة (72 من ق.إ.ج.ج) المعدل والمتمم التي تنص على:" يجوز لكل شخص متضرر من جناية أو جنحة أن يدعي مدنيا بأن يتقدم بشكواه أمام قاضي التحقيق المختص".
كما أشارت كذلك المادة (73 من ق.إ.ج.ج) المعدل والمتمم على أن تكون الشكوى المصحوبة بإدعاء مدني مسببة، وأن تكون الوقائع ذات وصف جنائي حتى يمكن تحريك الدعوى العمومية.
فالنيابة العامة حسب ما جاء به الدكتور "هلالي عبد الله أحمد" في مُؤلفه (النظرية العامة للإثبات في المواد الجنائية) أنها:" باعتبارها نائبة عن المجتمع يهمه إثبات براءة البريء، كما يهمه إدانة المدان".

  • إثبات الركن المادي: إنه يجب على النيابة العامة، وعملا بأحكام المادة (212 من ق.إ.ج.ج) المعدل والمتمم التي تنص على:" يجوز إثبات الجرائم بأي طريق من طرق الإثبات ما عدا الأحوال التي ينص فيها القانون على غير ذلك..." أن تثبت الركن المادي لأي جريمة كانت حسب وضعها القانوني (جناية أو جنحة أو مخالفة)، أو كانت إيجابية (عمدية) مثل القتل العمدي المنصوص عليه بالمادة (254) وما يليها من قانون العقوبات الجزائري المعدل والمتمم، أو كانت سلبية مثل ما نصت عليه المادة (314 من ق.ع.ج) المعدل والمتمم بقولها:" كل من ترك طفلا أو عاجزا غير قادر على حماية نفسه بسبب حالته البدنية والعقلية أو عرضة للخطر في مكان خال من الناس أو حمل الغير على ذلك يعاقب لمجرد هذا الفعل بالحبس من سنة إلى ثلاث سنوات".
إنّ رابطة السببية بين الخطأ والوفاة الناتجة عنه عنصر أساسي لابد من توافره واستظهاره في القرار القاضي بالتعويض بشكل واضح لتحديد وصف الجريمة ومسؤولية فاعلها، إذ لا يكفي مجرد سرد الأخطاء الخمس المنصوص عليها في المادة (288) من قانون العقوبات الجزائري المعدل والمتمم للحكم على المتهم.
كما أنّ على النيابة العامة عبء إثبات كل العناصر المكونة للجريمة سواء كانت إيجابية أو سلبية، جريمة تامة أو تمّ الشروع فيها دون الوصول إلى نتيجة، وللمحكمة في هذه الحالة تقدير تلك الأدلة وتطبيق النص القانوني الذي ينطبق عليها، ومن أمثلة ذلك إثبات وقوع أو حدوث النتيجة (جثة في جريمة القتل، جرح في جريمة الاعتداء بالضرب والجرح العمدي، حيازة شيء مملوك للغير في جريمة السرقة، وفاة طفل حديث العهد بالولادة)، فكل هذه الأفعال مُجرمة بنص قانوني، ولذا لابد من إثباتها في محاضر رسمية ومستندات تتمثل في: الشهادة الطبية المسلمة من طبيب شرعي أو تقرير تشريح الجثة، هذا ويؤخذ على بعض قضاة التحقيق أنهم لا يشيرون إلى هذه الشهادات الطبية، ولا إلى تقرير تشريح الجثة بالتحليل في أمر إرسال المستندات، وهذا ما يجعل عملهم ناقصا، ولا يدلّ أنهم بذلوا جهدا في إثبات أركان الجريمة وإلصاقها بشخص معين.

  • إثبات العلاقة السببية: مثل ما هو واجب على النيابة العامة إثبات الركن المادي للجريمة، فهو واجب عليها كذلك إثبات العلاقة السببية بين الفعل المُجرم بنص قانوني والنتيجة، وهذا حسبما ذهب إليه الدكتور "هلالي عبد الله أحمد" حين قال:" أنه لإثبات العلاقة السببية بين السلوك الإجرامي والنتيجة يجب النظر إلى السببية من الناحية الموضوعية، وليس من الناحية المعنوية، بمعنى أنه إذا تدخل عامل بين السلوك والنتيجة يجب إظهار ذلك العامل حتى يمكن تبيان ما إذا كان ذلك العامل قطع العلاقة السببية أو لا". ومثال ذلك: خطأ المجني عليه في عدم العلاج ومواصلته حسب توصيات الطبيب المعالج، ونتيجة ذلك تفاقمت الجروح وكانت الوفاة.
فالوفاة في مثل هذه الحالة ليست نتيجة الاعتداء، وهذا لأن عدم مواصلة العلاج هو الذي قطع العلاقة بين الفعل الضار والنتيجة، وبالتالي هذا ما يجب إثباته بالطرق العلمية والقانونية من طرف النيابة العامة عن طريق الأمر بالفحوص والخبرات الطبية وتشريح الجثة (2).

  • إثبات ركن الشروع: على سلطة الاتهام (النيابة العامة) إثبات الركن المادي في جريمة الشروع وهو البدء في التنفيذ، فهناك جرائم معاقب عليها بالشروع مثل ما هو منصوص عليه في قانون العقوبات الجزائري في العديد من المواد بنص صريح، وهذا حسبما عرّفته المادة (30) من قانون العقوبات بقولها:" كل المحاولات لارتكاب جناية تبتدئ بالشروع في التنفيذ أو بأفعال لا لبس فيها تؤدي مباشرة إلى ارتكابها..."، ومن ثمّ لابد من توافر عنصرين اثنين في الركن المادي للشروع، وهذا على النحو الآتي (3):
  1. البدء في تنفيذ الفعل الإجرامي.
  2. وقف التنفيذ أو خيبته لأي سبب خارج عن إرادة الجاني.
  3. اتجاه إرادة الجاني إلى ارتكاب الجريمة مع علمه بعناصرها القانونية.
فالمشرع الجزائري قد عرّف الشروع في المادة (30 من ق.ع.ج) المعدل والمتمم بأنه كل فعل يؤدي مباشرة إلى نتيجة، ولتوضيح هذا الأمر لابد من إعطاء أمثلة لإثبات جريمة الشروع من دونها.

  • العدول الاختياري: إذا عدل الجاني عن ارتكاب الجريمة فهنا نكون بصدد لا جريمة ولا عقوبة، والعدول هنا لابد أن يكون قبل البدء في تنفيذ الجريمة.
  • الجريمة الخائبة: السارق الذي يدخل منزلا ويقوم بجمع المسروقات وقبل الخروج بها بتفطن له صاحب المنزل فيترك المسروقات ويفر، أو أنّ الجاني يقوم بالإعداد لقتل شخص ويطلق عليه النار إلا أنه لا يصيبه لعدم تمكنه من التصويب.
  • الجريمة الموقوفة: صورتها تتمثل في أنّ الجاني يبدأ في التنفيذ، لكن الجريمة لا تتم بفعل خارج عن إرادته مثل وضع بنزين في مركبة لإشعالها، وبعدها مباشرة تمّ إلقاء القبض على الجاني قبل إشعال النار، وعليه يمكن القول أنه لا فرق بين الجريمة الخائبة والجريمة الموقوفة نتيجة أنّ أثرهما قد خاب بسبب خارج عن إرادة الفاعل.
فهذه الصور لابد من إثباتها من طرف النيابة العامة حتى يتوفر الركن المادي في الشروع، وحتى يأخذ الجاني جزاؤه في العقاب، وباعتبار أنّ الضبطية القضائية هي يد النيابة العامة في إثبات الجرائم فلابد أن تكون محاضر الضبطية القضائية معدّة بشكل جيد حسبما سبقت الإشارة إليه من المعاينات الميدانية وجمع الأدلة وغيرها.
  • إثبات المشاركة: من جملة أعباء الإثبات التي تقوم النيابة العامة أو سلطة الاتهام على جمعها هي الركن المادي في الاشتراك في الجرائم المرتكبة حسب نص المادة (42) من قانون العقوبات التي تنص على أنه:" يُعتبر شريكا في الجريمة من لم يشترك اشتراكا مباشرا، ولكنه ساعد بكل الطرق أو عاون الفاعل أو الفاعلين على ارتكاب الأفعال التحضيرية أو المسهلة أو المنفذة لها مع علمه بذلك".
          فالركن المادي يتحقق حسب نص المادة (41 من ق.ع.ج) بقولها:" يعتبر فاعلا كل من ساهم مساهمة مباشرة في تنفيذ الجريمة..."، والاشتراك هنا يفترض فيه أن يكون هناك عدد من الجناة، فإذا انفرد شخص لوحده في تنفيذ الجريمة، فلا يكون هناك اشتراك، ولتحديد أفعال الاشتراك والمساهمة لابد من إيضاح الأفعال التي تُعتبر اشتراكا أو مساهمة في تنفيذ الجريمة وهي:

  • إذا ارتكب الركن المادي من شخص واحد يُعد بذلك فاعلا أصليا.
  • يُعتبر شريكا إذا ساهم بأفعال مباشرة أو غير مباشرة في تنفيذ الجريمة
وقد عرّف الدكتور "رضا فرج" المساهمة فقال:" إنّ المساهمة المباشرة تقتضي أن يكون الفعل وثيق الصلة بالفعل المادي المُكوِن للجريمة"، أما المساهمة الغير مباشرة هي المساعدة بكل أنواعها، والتي منها التحريض على ارتكاب الجريمة بالهبة أو الوعد أو التهديد أو إساءة استعمال السلطة أو الولاية أو التحايل أو التدليس (4).
فكل هذه الأفعال صورة من صور الاشتراك أو المساهمة، وعلى النيابة العامة إثباتها بكافة الطرف القانونية تطبيقا للمادة (212) من قانون الإجراءات الجزائية الجزائري المعدل والمتمم.
كما أضافت المادة (43) من قانون العقوبات صورا أخرى من المساهمة، وهي:" يأخذ حكم الشريك من اعتاد أن يقدم مسكنا أو ملجأ أو مكانا للاجتماع لواحد أو أكثر من الأشرار الذين يمارسون اللصوصية أو العنف ضد أمن الدولة أو الأمن العام أو ضد الأشخاص أو الأموال مع علمه بسلوكهم الإجرامي".
والشريك في الجريمة لابد أن يكون عالما بما سيقدم عليه الفاعل، بحيث أنّ المادة (42) من قانون العقوبات تنص على أنه لا يعاقب الشريك بالمساعدة إلا إذا كان عالما بالجريمة التي يرتكبها الفاعل الأصلي باعتبار أنّ ما استقر عليه القضاء بأنّ السؤال المتعلق بإدانة الشريك يجب أن يتضمن عنصر العلم، وإلا كان الحكم المبني عليه ناقص الأساس القانوني.

ثانيا- الإثبات عن طريق الأشياء التي تضبط مع المتهم بمكان الجريمة:

عادة وحسب ما هو ملاحظ أنّ الجاني يترك في مكان ارتكاب الجريمة بعض الأشياء المستعملة في ارتكاب الجريمة كالسارق الذي يترك قضيبا حديديا كان قد استعمله في تكسير الباب الحديدي أو بصمات الحذاء أو قطع قماش لاصقة بالشباك، فهذه الأشياء المادية هي الوسيلة التي تجعل رجال الضبطية القضائية يقومون بضبطها وختمها وفحصها بالمخبر، وهذا لكي يتمكنوا من الاتجاه إلى معرفة الجاني والجناة، كما أنهم يقومون بعرضها على المشتبه فيهم من ذوي السوابق العدلية.
فمكان الجريمة هو مركز النشاط الرئيسي للبحث والتحري، وعلى رجال الضبط القضائي فور وصولهم إلى مكان ارتكاب الجريمة أن يتخذوا كل الإجراءات الفورية من أجل أخذ صور للمكان وما يحيط به، وكذا أخذ صورة لجثة القتيل، وأخذ البصمات إن وجدت، والاحتفاظ بالأشياء التي يتم العثور عليها بجانب الجثة مثل طلقات الرصاص أو سكين أو قارورة بها مادة سامة، وغيرها من الأشياء التي يمكن أن تفيد في كشف الحقيقة، والوصول إلى الفاعل وملابسات ارتكاب الجريمة أو ممن يمكن أن يعطي تصريحا يفيد في الوصول إلى أدلة أكثر دقة، وكل ذلك يعطي قاضي التحقيق قبل ورود الملف إليه معرفة الخيوط التي تأخذه إلى تعميق البحث القضائي والوصول إلى مرتكب الجريمة.
          من ذلك يمكن وصف مكان الجريمة، وما يوجد به من الأدلة أنه الدليل الذي يؤدي إلى اكتشاف الفاعل، وباعتبار أنّ هذه الأدلة سريعة التأثر بالظروف البشرية أو الطبيعة، فلابد من التحفظ عليها بسرعة وفي وقت وجيز من تاريخ اكتشاف وقوع الجريمة.
ونظرا لأهمية ذلك والنقص الملاحظ في المحاضر الاستدلالية ميدانيا أوجب تعداد هذه الأدلة حتى تساعد الضبطية القضائية في واجباتهم اليومية، ومنها أخذ آثار الأقدام، آثار عجلات السيارة إن كانت الجريمة قد وقعت في أرض فلاحية أو أرض مبللة، آثار البصمات، قطع القماش المتروكة بمكان الجريمة، بقع الدم لتحليلها بالمخبر ومعرفة فصيلة الدم إن كانت هي للضحية أم للجاني.
الأظرفة الفارغة، الأوراق المكتوبة سواء كانت بالحبر أم بدم الضحية، وكل الوثائق التي يمكن أن تدل على قرائن للوصول إلى الجاني، فالمحقق لابد أن يتنقل إلى مكان الجريمة، ومعه كل المعدات والأدوات التي أصبحت تستعمل عند المحققين في محاربة الجريمة والجريمة المنظمة تماشيا مع التكوين المهني لأفراد الضبطية القضائية والمحقق القضائي من أجل مواكبة التطور النوعي في ميدان الإجرام، وباعتبار أنّ الإجرام هو الخروج عن القانون الوضعي والأعراف المتداولة في المجتمع، لذا يتعين لمحاربة هذه الآفات الاجتماعية أو يواكب التكوين تطور الأعمال الإجرامية وتنوعها، وذلك بالتركيز على العمل الميداني من طرف الضبطية القضائية وفق خطط منهجية تتسم بالديمومة (5).

ثالثا- إثبات ظروف الجريمة:

لإثبات ظروف الجريمة لابد من الإشارة إلى أنواع هذه الظروف، وهي:

  • الظروف المشددة والظروف المخففة: بالنظر إلى قانون العقوبات نجد أنّ المشرع الجزائري قد أفرد نصوص قانونية مرتبطة بالظروف الموضوعية، وهي ظروف مشددة للعقاب مثل ما هو منصوص عليه في إحدى المادتين (353 و354)، وكذلك المادة (351 من ق.ع.ج) التي تتكلم عن ظرف حمل السلاح في جريمة السرقة، وكذا ظرف الإكراه في جريمة الفعل المخل بالحياء وهتك العرض المنصوص عليهما في المادتين (335 و336) من قانون العقوبات الجزائري.
أما الظروف المخففة، وهي الأعذار القانونية التي تتحقق بجانب ارتكاب الجريمة مثل ما هو منصوص عليه بالمواد (53، 294، 277، 278، 279، 280، 281)، وبالتالي يمكن القول بأنّ هذه الأعذار القانونية لا يمكن أن يستفيد منها الجاني، إلا إذا كان هناك نص صريح في ذلك حسب ما نصت عليه المادة (52 من ق.ع.ج) بقولها:" الأعذار هي حالات محددة في القانون على سبيل الحصر...".

  • الظروف القانونية والظروف القضائية: الظروف القانونية هي التي خصّها المشرع بنص قانوني سواء كانت تهدف إلى تشديد العقوبة أو إلى تخفيفها، وهذا مثل ما نصّ عليه المشرع الجزائري في المواد (256، 257، 334، 119، 215 من ق.ع.ج)، وغيرها من النصوص التي تشدد العقوبات، أما المواد (47، 48، 49) فهي إما تنفي أو تخفف من العقوبة.
وأما الظروف القضائية فهي تلك الظروف التي لم ينص عليها المشرع بنصوص معينة في قانون العقوبات، وإنما يستخلصها القاضي من خلال نصوص معينة في قانون العقوبات، وهذا من خلال ظروف القضية وملابساتها، وهي تختلف من قضية إلى أخرى كصفة الجاني وما يأتي به التحقيق الاجتماعي (6). هذا ويمكن للقاضي أن يفيد الجاني بهذه الظروف دون غيره.

  • الظروف العامة والظروف الخاصة: يمكن تعريف الظروف العامة بأنها تلك الظروف التي تسري على جميع الجرائم بدون استثناء.
وأما الظروف الخاصة فهي الاستثناء، بحيث أنه لابد أن يكون منصوص عليها بنص قانوني لجريمة ما، وهذا كظرف الإصرار الذي يقصد به عقد العزم قبل ارتكاب الفعل... ويتوافر هذا الظرف لدى كل من عقد العزم قبل ارتكاب الفعل، وهو ظرف مشدد يضاف إلى عناصر الجريمة.
  • الظروف الموضوعية والظروف الشخصية: وهي ما نصّت عليها المادة (44 من ق.ع.ج) بقولها:" يعاقب الشريك في جناية أو جنحة بالعقوبة المقررة للجناية أو الجنحة..."، "والظروف الموضوعية اللصيقة بالجريمة التي تؤدي..."، فالظروف الموضوعية هي لصيقة بالركن المادي للجريمة تسري على كل الفاعلين سواء كانوا فاعلين أصليين أو شركاء فتتحقق متى توفر عنصر العلم.
أما الظروف الشخصية فهي الظروف التي تتصل بالفاعل أو الشريك، حيث يمكن أن يستفيد منها الجاني دون سواه مثل ما هو منصوص عليه بالمواد (45، 47، 48 من ق.ع.ج).
         وخلاصة القول أنه لابد من التمييز بين أركان الجريمة والظروف المصاحبة لها.

رابعا- إثبات الجرائم عن طريق التلبس:

لقد أوضحت المادة (41 من ق.إ.ج.ج) بأنه:" توصف الجناية أو الجنحة بأنها حالة تلبس إذا كانت مرتكبة في الحال أو عقب ارتكابها.
كما تُعتبر الجناية أو الجنحة متلبسا بها إذا كان الشخص المشتبه في ارتكابه إياها في وقت قريب جدا من وقت الجريمة قد تبعه العامة بالصياح أو وُجدت في حيازته أشياء أو وُجدت آثار أو دلائل تدعو إلى افتراض مساهمته في الجناية أو الجنحة".
من خلال هذه المادة نستنتج أنّ حالات التلبس قد عدّدها المشرع الجزائري على سبيل الحصر، ولا يمكن القياس عليها، وإذا توافرت فإنها تؤدي إلى الإسراع في جمع الأدلة الإثباتية والحفاظ عليها من طرف مأمور الضبط القضائي.

  • حالات التلبس: يستنتج من النصين (41 من ق.إ.ج.ج و 30 ق.إ.ج.م) أنّ حالات التلبس تنحصر في خمس حالات أساسية هي:
 
  • 1- مشاهدة الجريمة حال ارتكابها: ويكون ذلك بتحقيق الركن المادي للجريمة أو جزء منه، ومثال ذلك مشاهدة الجاني من طرف مأمور الضبط القضائي وهو يطعن المجني عليه بسكين، فالتلبس في هذه الحالة مرتبط بالجريمة في ركنها المادي، بحيث أنّ المشاهدة هنا تدل على وقت ارتكاب الجريمة، وهي مشاهدة قانونية لمأمور الضبط القضائي، ولابد من تحقق الركن المادي للجريمة أو جزء منه مثل مشاهدة الجثة بعد إطلاق النار عليها، أو رؤية الحريق العمدي في مركبة أو منزل، والجاني في مسرح الجريمة.
  • 2- مشاهدة الجريمة عقب ارتكابها بوقت من الزمن: لقد استعمل المشرع الجزائري في المادة (41 من ق.إ.ج.ج) عبارة "حال أو عقب" في الفقرة الأولى من هذه المادة فعبارة "حال" تدل على وقوف مأمور الضبط القضائي على الجريمة، وهي تُرتكب من طرف الجاني، أما عبارة "عقب" تدل على أنّ الجريمة قد ارتكبت ولكن تمّ اكتشافها مباشرة بعد ارتكابها، وقد أوضح ذلك المشرع المصري في عبارة "ببرهة يسيرة"، وهذا يدل على قصر الوقت بين الجريمة ومشاهدتها، وتقدير الوقت هنا متروك لقاضي الموضوع، ولإثبات حالة التلبس لابد من الوقوف على آثار الجريمة، وهو الشيء الذي يدل على أنّ الجريمة وقعت في وقت قصير، فكل التشريعات لم تُحدد الوقت، وإنما العبرة بالوقوف على آثار الجريمة بعد ارتكابها.
  • 3- تتبع الجاني بعد ارتكابه الجريمة: تُستنتج هذه الحالة من الفقرة الثانية من المادة (41 من ق.إ.ج.ج) بقولها:" ... كما تُعتبر الجناية أو الجنحة متلبسا بها إذا كان الشخص المشتبه في ارتكابه إياها في وقت قريب جدا من وقوع الجريمة قد تبعه العامة بالصياح أو وُجدت في حيازته أشياء أو وُجدت آثار أو دلائل تدعو إلى افتراض مساهمته في الجناية أو الجنحة".
 
فقد استعمل المشرع الجزائري وكذا المشرع المصري أداة الشرط "إذا" المقترنة بفعل التتبع من طرف العامة بالصياح، ويكون إما من المجني عليه نفسه أو ممن شاهد الجاني وهو يرتكب الجريمة، أو ساهم أو شارك في ارتكابها و يفترض أن يكون التتبع بوقت قصير من ارتكاب الجريمة، أي بمعنى أن تتحقق في هذه الحالة المشاهدة والتتبع معا، وإلا تنعدم حالة التلبس، فتتبع الجاني المفترض في اليوم الموالي لوقوع الجريمة لا يُعتبر حالة تلبس.

  • 4- حيازة أدلة الجريمة من طرف المشتبه فيه: حسب المادة (41 من ق.إ.ج) بقولها:  " ...أو وجدت في حيازته أشياء أو وجدت آثار أو دلائل تدعو إلى افتراض مساهمته في الجناية أو الجنحة".
 
فالمشرع الجزائري استعمل عبارة "افتراض" بخلاف المشرع المصري الذي استعمل عبارة "تفيد" في الفقرة الثانية من المادة (30) من قانون الإجراءات الجنائية المصري.
فالافتراض هنا يدخل الشك إذا كان الحائز لأدلة الإثبات الدالة على ارتكاب الجريمة هو الجاني أم لا، فالحائز لسكين بعد وقوع جريمة قتل أو لبندقية بعد إطلاق الرصاص ووجود المجني عليه، كل ذلك يدلّ دلالة قطعية على أنّ الحائز هو الجاني، فالمشرع المصري اعتبرها قرينة قانونية لا يمكن دحضها من طرف قاضي التحقيق أو قاضي الموضوع أثناء مواجهة الجاني بالدليل الذي يضبط بحوزته، وهذا ما هو مأخوذ به في الميدان العملي (7).

  • 5- الإبلاغ عن الجريمة عقب ارتكابها: لقد حصر المشرع الجزائري ذلك في المادة (41/3 من ق.إ.ج.ج)، وعليه فالوقت في هذه الحالة غير معلوم، ولكن اعتبار حالة تلبس متى اكتشفت الجريمة، وتمت المبادرة إلى إبلاغ الضبطية القضائية لمعاينة الجريمة، ويُفترض أن يكون وقت الجريمة سابق لاكتشافها بوقت قصير مبدئيا، إلا إذا ظهر بعد التحقيق أنّ الجريمة قد وقعت منذ زمن أطول، فالعثور على جثة قتيل في منزل يتبين من خلاله أنه لا يمكن إثبات الوقت أو تحديده إلا بعد التشريح الطبي، وإثبات مدى تعفن هذه الجثة (8). فالمشرع الجزائري اعتبر ذلك حالة من حالات التلبس وربط وقت الإبلاغ واستدعاء الضبطية القضائية بوقت اكتشاف الجريمة، وهذه الحالة لم ترد في نص المادة (30) من قانون الإجراءات الجنائية المصري، فالمشرع الجزائري قد وسّع من الاختصاصات الاستثنائية لضباط الشرطة القضائية حتى يمكنهم من الإسراع في إثبات الجريمة المرتكبة وتحقيق العدالة.
 

الخاتمة:

 
      إن التطبيق الصارم لقاعدة البراءة يقتضي أن تتحمل سلطة الاتهام عبء الإثبات كاملا، أي أن تثبت كل العناصر المكونة للجريمة، وغياب كل ما يمكن أن يؤدي إلى انتفائها ، وإزاء هذا الوضع عمد كل من التشريع والقضاء إلى تخفيف هذا العبء عن كاهل النيابة العامة، وهذا من خلال إرساء قرائن قانونية وأخرى قضائية من شأنها إعفاء النيابة العامة من تحمل عبء إثبات الركن المادي أو المعنوي للجريمة، لينتقل هذا العبء إلى المتهم، وهذا يمثل استثناء يرد على المبدأ العام، والحقيقة أن هذا الافتراض وإن كان مقبولا إذا قرره المشرع الجزائري في حالات محددة على سبيل الحصر، إلا أن الافتراض القضائي يجد معارضة من قبل غالبية الفقه على أساس أن القضاء يفتقر إلى السند القانوني، إذ لا يوجد نص قانوني يقضي بافتراض العلم بالعناصر التي افترضها القضاء، وهذا من شأنه الاعتداء على قرينة البراءة الأصلية.


الهوامش والمراجع:
 
(1)- أنظر: حمود راجح محمد، حقوق المتهم في مرحلة جمع الاستدلالات بين الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية، رسالة دكتوراه، كلية الحقوق، جامعة القاهرة، مصر، 1992، ص: 587.
(2)- أنظر: الهيثي محمد حماد، الموسوعة الجنائية في البحث والتحقيق الجنائي والأدلة الجنائية المادية، دار الكتب القانونية، مصر، طبعة 2008، ص: 387 وما بعدها.
(3)- أنظر: مروان محمد، نظام الإثبات في المواد الجنائية في القانون الوضعي الجزائري، الجزء الثاني، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، بدون طبعة، ص: 445.
(4)- أنظر: خراشي عبد العادل عادل، ضوابط التحري والاستدلال عن الجرائم، دار الجامعة الجديدة للنشر، مصر، طبعة 2006، ص: 469.
(5)- أنظر: عوض رمزي رياض، سلطة القاضي الجنائي في تقدير الأدلة، دار النهضة العربية، القاهرة، مصر، 2004، ص: 179.
(6)- أنظر: الشلقاني شوقي أحمد، مبادئ الإجراءات الجنائية في التشريع الجزائري، الجزء الثاني، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1999، ص: 254 وما بعدها.
(7)- أنظر: أبوعيد إلياس، نظرية الإثبات في أصول المحاكمات الجزائية والمدنية، الجزء الثالث، منشورات زين الحقوقية، بيروت ، لبنان، 2005، ص: 237.
(8)- أنظر: سليمان عبد المنعم، أصول الإجراءات الجزائية في التشريع والقضاء والفقه، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، 1997، ص: 554.



الخميس 5 سبتمبر 2013

تعليق جديد
Twitter