MarocDroit  -  موقع العلوم القانونية



انعقاد العقد التجاري الإلكتروني

     

ذ.محمد أطويف، باحث جامعي، سلك الدكتوراه

مخبر الدراسات القانونية والاجتماعية، تخصص قانون الأعمال والاستثمار

كلية الحقوق، وجدة



انعقاد العقد التجاري الإلكتروني


ينشأ العقد كقاعدة عامة في معظم قوانين الدول، متى توصل طرفيه إلى اتفاق بشأن أحكامه الأساسية، وهو ما يتم في الغالب بتبادل التعبير عن إرادتين متطابقتين بشأن عملية معينة، ما لم ينص القانون الساري أو الاتفاق على أن تكوين العقد مرهون بإتباع شكليات محددة كإفراغ الإرادة التعاقدية مثلا في قالب معين#.

فالإرادة هي العزم والقرار الذي يصدر عن شخص أمامه عدة خيارات، وذلك بعد عدة عمليات ذهنية يستقر بعدها على قبول أو رفض أمر معين، ثم يعبر بعد ذلك عن هذا القرار بالقبول، أو بالإشارة أو بالكتابة أو غيرها من وسائل التعبير عن الإرادة. وبصفة عامة فالتعبير عن الإرادة قد يكون صريحا أو ضمنيا، ومن أجل ذلك لم يتعرض المشرع العماني ولا المغربي لوسائل التعبير عنها واكتفى هذا الأخير بالإشارة إلى التنفيذ باعتباره تعبيرا ضمنيا عن القبول في المادة 20 من قانون الالتزامات والعقود، وإلى السكوت باعتباره هو الآخر تعبيرا عن الإرادة#.

إلا أن واقع التجارة الإلكترونية وبعد احتلالها لرقع متزايدة من الأنشطة الاقتصادية، فرض على مشرعي الدول والمنظمات الدولية إعادة النظر في هذه الاشتراطات التقليدية للتعبير عن الإرادة العقدية، ومن تم الاتجاه إلى إجازة التعاقد عبر وسائل الاتصال الإلكترونية الحديثة#، ومن ضمنها الإنترنت، فالعقود المبرمة عبر هذه الشبكة قد أخذ فيها شكل التعبير عن الإرادة شكلا مختلفا، بحيث يتم عبر قنوات فضائية على شكل رسائل بيانات، الأمر الذي دفعنا إلى محاولة الكشف عن خصوصية التعبير عن الإرادة في هذا النوع من العقود (المطلب الأول) وعن كيفية تلاقيها إلكترونيا (المطلب الثاني).

المطلب الأول: خصوصية التعبير عن الإرادة في التعاقد عبر الإنترنت


إن الشخص لا يرتبط بأي عقد ما لم تتجه إرادته إلى إبرامه، ولأن أي عقد مهما كانت تسميته أو تكييفه لا يتم إلا بعد أن يتبادل أطرافه التعبير عن الإرادة بصورة مشروعة وقانونية، كي لا تثير الوسيلة المستخدمة لنقل الإرادة والتعبير عنها الشكوك حول وجود التراضي بين كلا المتعاقدين#.

ولما كان البحث في مسألة التراضي عبر شبكة الإنترنت قد تثير أمامنا مثل هذه المخاوف، فإن أول ما طالعنا في هذا الشأن هو البحث في مدى إجازة التعبير عن الإرادة في التعاقد الإلكتروني (الفقرة الأولى)، والمشاكل التي يمكن أن يثيرها التعبير عن هذه الإرادة (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: مدى إجازة التعبير عن الإرادة فى التعاقد الإلكتروني

لقد وجد مبدأ الرضائية تطبيقا حديثا له في عصر ثورة المعلومات والاتصالات، بحيث يكون التقاء الإرادات إلكترونيا كافيا لإبرام العقد متى استوفى شروط صحته، بغض النظر عن وسيلة الاتفاق عليه#، ونتيجة لهذا عملت مجموعة من الدول على إصدار تشريعات تجيز من خلالها صراحة التعبير عن الإرادة عبر الإنترنت.

ومن هذا المنطلق، فقد حاولنا الوقوف عند بعضها محاولين البحث بين نصوصها عن مدلول قاعدة جواز التعبير عن الإرادة عبر الإنترنت، والاستثناءات التي يمكن أن ترد عليها.

أولا- قاعدة جواز التعبير عن الإرادة عبر الإنترنت

إن القواعد العامة في معظم التشريعات الحديثة، سواء الدولية منها أو العربية، لا يوجد فيها ما يمنع من انعقاد العقد باستخدام شبكة الإنترنت، بل إن هذه القواعد فيها من المرونة ما يستوعب مثل هذه الوسيلة لاعتبارها صورة أخرى من صور التعبير عن الإرادة.

1- على المستوى الدولي:

إن أهمية مسألة التعبير عن الإرادة عبر الإنترنت، عكس اهتمام المنظمات الدولية خاصة تلك المتخصصة في هذا المجال، وسنقتصر الحديث هنا على منظمة الأمم المتحدة عن طريق لجنة الأمم المتحدة للتجارة الدولية المعروفة باليونسترال، والاتحاد الأوروبي كمثال لمنظمة إقليمية.

فبالنسبة لمنظمة الأمم المتحدة فقد كان لمنبرها الفضل في انطلاق مبدأ الرضائية إلى آفاق الفضاء الإلكتروني، حيث خرج من هذا المنبر العديد من الاتفاقيات# والقوانين النموذجية التي تبنت ذلك المبدأ، وأضافت إليه قاعدة عامة تسوي بين اشتراطات الكتابة التقليدية ونظائرها الإلكترونية في مسائل العقود وإبرامها#.

ومن القوانين التي اعتمدتها الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي، القانون النموذجي للتجارة الإلكترونية عام 1996، الذي أجاز التعبير عن الإرادة من خلال رسائل البيانات، سواء في التجارة المحلية أو التجارة الدولية عبر وسائط غير ورقية مما يسميه رسائل البيانات#، مثل تبادل البيانات إلكترونيا# والبريد الإلكتروني والفاكس والتلكس.

ومن بين المبادئ الرئيسية التي يقوم عليها هذا القانون النموذجي، مبدأ التنظير الوظيفيle fonctional équivalent حيث تتكافأ بمقتضاه تقنيات الاتصال الإلكترونية مع المستندات الورقية سواء في إبرام العقد أو إثباته، مادامت تقوم بنفس وظائف الورق وبنفس درجة الأمن والموثوقية، وبالتطبيق لذلك فبعد أن اعترف القانون النموذجي برسائل البيانات بالنص في المادة الخامسة منه على أن:" المعلومات لا تفقد مفعولها القانوني أو صحتها أو قابليتها للتنفيذ لمجرد أنها أفرغت في شكل رسالة بيانات"، وهو ما يعني عدم تمييز رسائل البيانات#، ومن ثم وجوب التسوية بينها وبين المستندات الورقية، وبالتالي أقر هذا القانون صراحة استخدام رسائل البيانات الإلكترونية للتعبير عن الإرادة#.

أما بالنسبة للاتحاد الأوروبي، فقد جاء على صعيده في التوجيه الخاص بالتجارة الإلكترونية رقم 2000/31، الصادر في 8 يونيو 2000 في الفقرة الأولى من المادة التاسعة منه ما يلزم الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بأن تدخل في تشريعاتها ما يسمح بإجراء العقود بالوسائل الإلكترونية، بحيث لا تفقد هذه العقود صحتها أو قابليتها للتنفيذ لمجرد أنها تمت بوسائل إلكترونية#، وبالتالي فقد أقر هذا التوجيه جواز التعبير عن الإرادة وإنشاء العقود بوسيلة إلكترونية كشبكة الإنترنت.

2- على المستوى الوطني:

صدرت مجموعة تشريعات في العديد من الدول العربية#، حذت حذو القانون النموذجي للتجارة الإلكترونية (اليونسترال) بتناولها لمسألة التعبير عن الإرادة باستخدام وسائل إلكترونية، وتجلت أهمها في التشريعين التونسي والأردني.

ويعد المشرع التونسي السباق في تنظيم التجارة الإلكترونية، حيث عرفها بمقتضى الفقرة الثانية من المادة الثانية من قانون المبادلات والتجارة الإلكترونية التونسي عام 2000#بأنها:"العمليات التجارية التي تتم عبر المبادلات الإلكترونية". وعرف المبادلات الإلكترونية بمقتضى الفقرة الأولى من المادة الثانية من نفس القانون بأنها:"المبادلات التي تتم باستعمال الوثائق الإلكترونية".

وجاء في الفقرة الثالثة من المادة الأولى من نفس القانون بأنه يجري على العقود الإلكترونية نظام العقود الكتابية من حيث التعبير عن الإرادة أو مفعولها القانوني وصحتها وقابليتها للتنفيذ في ما لا يتعارض وأحكام هذا القانون.

وبناء عليه، يتضح لنا مما تقدم أن المشرع التونسي اعترف للوثائق الإلكترونية# بحجيتها القانونية، مثلها مثل العقود الكتابية سواء من ناحية الانعقاد أو الإثبات، وبالتالي أجاز صراحة انعقاد العقد بأي طريقة أو وسيلة إلكترونية، ما دامت تظهر تراضي الأطراف، فالتعبير عن الإرادة هنا في حد ذاته لم يتغير من حيث مضمونه، ولكن الوسيلة التي تم من خلالها إجراء ذلك التعبير هي التي تغيرت، الأمر الذي يجعل التعبير عن الإرادة في التعاقد عبر الإنترنت وفقا للقانوني التونسي جائز.

كما أجاز قانون المعاملات الإلكتروني العماني رقم 69 لسنة 2008# صراحة استخدام رسائل إلكترونية كوسيلة مقبولة للتعبير عن الإرادة ويعتبر هذا التعبير ملزما لجميع الأطراف، فقد نصت المادة الثانية عشر منه على أنه:"1- لأغراض التعاقد، يجوز التعبير عن الإيجاب والقبول بواسطة رسائل إلكترونية ويعتبر ذلك التعبير ملزما لجميع الأطراف متى تم وفقا لحكام هذا القانون.

2-لا بفقد العقد صحته أو قابليته للتنفيذ لمجرد أنه أبرم بواسطة رسالة إلكترونية واحدة أو أكثر"#.

فمن خلال هذه المادة، نستشف أن المشرع العماني حسم مسألة إجازة التعبير عن الإرادة باستخدام رسائل معلومات إلكترونية، كالبريد الإلكتروني والرسائل المتبادلة عبر غرف المحادثة، وينبني على جواز التعبير عن الإرادة بمثل هذه الوسائل صحة ومشروعية العقود التي يتم إبرامها من خلالها، ويزيل الشكوك فيما يتعلق بنية الأطراف المتعاقدة لعدم وجود مستند ورقي، كما أن هذه المادة لم تشترط أن يتم التعبير عن الإيجاب والقبول كليا عن طريق رسائل معلومات إلكترونية، وإنما اكتفت بأن يكون الإيجاب فقط أو القبول قد تم بهذه الوسيلة، وبالتالي تم إيراد هذه المادة للتأكيد على جواز انعقاد العقد جزئيا عن طريق رسائل المعلومات، ومع ذلك يعتبر العقد بأنه عقد إلكتروني.

كما أجاز المشرع المغربي بدوره استخدام الوسائل الإلكترونية للتعبير عن الإرادة، فقد الفصل 3-65 من القانون رقم 05-53 المتعلق بالتبادل الإلكتروني للمعطيات القانونية# على أنه:"يمكن استخدام الوسائل الإلكترونية لوضع عروض تعاقدية أو معلومات متعلقة بسلع أو خدمات رهن إشارة العموم من أجل إبرام عقد من العقود".

وعليه، نخلص إلى أن القواعد العامة في معظم التشريعات الحديثة لم يرد فيها أية نصوص تمنع من التعبير عن الإرادة أو انعقاد العقد إلكترونيا، فقد لاحظنا أن المشرع على المستويين الدولي والوطني فضل حسما للمسألة إيراد نصوص صريحة تسمح بمشروعية وجواز استخدام مثل هذه الوسائل#.

غير أننا نتساءل ما إذا كانت هذه المسألة مطلقة في جميع الأحوال، أم توجد استثناءات عليها، هذا ما سنبحثه في النقطة الموالية.

ثانيا- الاستثناءات الواردة على قاعدة جواز التعبير عن الإرادة عبر الإنترنت

قدمنا أن معظم التشريعات الحديثة التي اهتمت بمسائل التجارة الإلكترونية، قد أدرجت نصوصا صريحة تجيز لأطراف التعامل التعبير عن إرادتهم باستخدام وسائل إلكترونية، بيد أنها أكدت في نفس الوقت على حرية الأطراف في الاتفاق على خلاف ذلك#، ومفاده أن اتفاق أطراف المعاملة على التعبير عن إرادتهم بالوسائل التقليدية هو جائز قانونا وبذات الوقت ملزما لها، حتى لو وجد أي اتفاق آخر بين نفس الأطراف على إجراء معاملات أخرى عن طريق وسائل إلكترونية كصفحات الويب أو البريد الإلكتروني، لكن المسألة التي سنبحثها هنا ليست حالة الاتفاق بين الأطراف على إجراء المعاملة بوسيلة إلكترونية أو تقليدية، وإنما حالة بعض التشريعات كالقانون النموذجي للتجارة الإلكترونية وقانون المعاملات الإلكترونية العماني وقانون التبادل الإلكتروني للمعطيات القانونية المغربي رقم 05-53 التي أجازت التعبير عن الإرادة بالوسائل الإلكترونية، فيما إذا كانت قد منعت معاملات معينة من إجرائها والتعبير عنها إلكترونيا؟

1- بالنسبة للقانون النموذجي للتجارة الإلكترونية (اليونسترال)

من المعروف أن من أهم أهداف القانون النموذجي للتجارة الإلكترونية (اليونسترال) تجلت في مساعدة الدول في تطوير تشريعاتها لتستجيب لحاجيات التجارة الإلكترونية، بغية الوصول إلى توحيد الأحكام وتماثل الحلول المطروحة لأي مشكلة قانونية تتعلق بهذه النوعية من التجارة، بالإضافة إلى تهيئة بيئة قانونية أكثر أمانا لها#.

إلا أن هذا القانون قد قصر نطاق تطبيقه على التجارة الإلكترونية أي الأنشطة التجارية التي تمارس عبر وسائل إلكترونية، حيث جاء في مادته الأولى:"ينطبق هذا القانون على أي نوع من المعلومات يكون في شكل رسالة بيانات مستخدمة في سياق أنشطة تجارية"، بمعنى أن هذا القانون نص مبدئيا على تغطية كل الحالات الواقعية التي تنشأ فيها معلومات أو تخزن أو تبلغ بصرف النظر عن الواسطة التي قد تثبت عليها هذه المعلومات#.

وقد ارتئي خلال إعداد هذا القانون أن استبعاد أي شكل أو واسطة عن طريق تقييد نطاقه، يمكن أن يفضي إلى صعوبات عملية، وأن يتعارض مع الغرض المتوخى في توفير قواعد محايدة من حيث الوسائط هذا من جهة، ومن جهة أخرى، أن هذا القانون ينبغي أن يتضمن الإشارة إلى أنه يركز على الحالات التي هي من النوع المصادف في المجال التجاري#. كما رأت اللجنة الخاصة بصياغة هذا القانون، إبقاء تعريف مصطلح التجارة الإلكترونية مفتوحا ليشمل كل المستخرجات الإلكترونية الممكنة، ومع ذلك فقد أعطى الحرية للدول لاستثناء ما تراه مناسبا من مستخرجات الوسائل الإلكترونية في كل من المواد (6 و 7 و8 و 11 و 15و 17) الخاصة بالكتابة والتوقيع وتكوين ونفاذ العقد واعتراف الأطراف برسائل المعلومات ومكان وزمان بث ووصول الرسالة الإلكترونية ووثائق النقل#.

ويفهم مما سبق، أن القانون النموذجي رغم أنه سعى إلى تضييق نطاق تطبيقه ليقتصر فقط على التجارة الإلكترونية، إلا أنه في ذات الوقت وسع من نطاقها لتشمل كل الأنشطة التجارية التي تمارس عبر وسائل إلكترونية، بدليل أنه لم يورد أي تعريف لها ضمن المادة الثانية التي خصصها للتعريفات، ومفاد ذلك أن هذا القانون الذي أجاز التعبير عن الإرادة بالوسائل الإلكترونية بغرض إنشاء العقد أو تعديله أو إلغاؤه في المادتين (11) و(12) منه، لم يورد أي استثناءات على هذا الحكم، بل أنه دعا الدول إلى عدم إيراد استثناءات عليه، إلا إذا رأت ضرورة لذلك مع التزامها بالتقليل منا التزاما بروح هذا القانون النموذجي وعدم الخروج عنه#.

2- بالنسبة لقانون المعاملات الإلكترونية العماني رقم 69/2008#

يعتبر هذا القانون من بين القوانين التي تبنت القانون النموذجي (اليونسترال)، غير أنه في بادئ الأمر يتبين أن هذا الأخير عمل على توسيع نطاق تطبيقه، بحيث لم يقتصر فقط على الأعمال التجارية بل أيضا شمل الأعمال غير التجارية، بدليل أن تسميته جاءت ابتداء شاملة لكافة المعاملات التي تتم عبر وسائل إلكترونية سواء أكانت تجارية أم مدنية، بالإضافة إلى اتساع نطاق سريان أحكامه لتشمل كما نصت المادة الثالثة على أنه:"تسري أحكام هذا القانون على المعاملات والسجلات والتوقيعات الإلكترونية كما تسري على أية رسالة معلومات إلكترونية". كما جاء في الفقرة الأولى من المادة الرابعة من نفس القانون على أنه:"تطبق أحكام هذا القانون على المعاملات التي تتم بين الأطراف الذين اتفقوا على إجراء معاملاتهم بوسائل إلكترونية ويجوز استنتاج موافقة الشخص على ذلك من سلوكه. وبالنسبة للحكومة، يجب أن يكون قبولها بالتعامل الإلكتروني صريحا".

وعليه، ومن خلال هاتين المادتين يتبين أن هذا القانون يشمل أية معاملة تتم عبر شبكة الإنترنت، بأي من خدماتها كالبريد الإلكتروني ومواقع الويب وغرف المحادثة وغيرها، وسواء تمت بين أشخاص معنويين أم طبيعيين، بل ويسري حتى على المعاملات الإلكترونية الرسمية التي ستعتمدها الأجهزة الحكومية في إطار السلطة المختصة المتمثلة في هيئة تقنية المعلومات المزمع إنشاؤها في السلطنة.

بيد أن المادة الثالثة من هذا القانون في فقرتها الثانية قد استثنت من نطاق تطبيق قانون المعاملات الإلكترونية المعاملات والأمور المتعلقة بالأحوال الشخصية وإجراءات المحاكم والإعلانات القضائية وأي مستند يتطلب القانون توثيقه بواسطة الكاتب بالعدل، فقد جاء في هذه الفقرة ما يلي:" ولا يسرى هذا القانون على ما يلي:

المعاملات والأمور المتعلقة بقانون الأحوال الشخصية كالزواج والطلاق وأوامر القبض والأحكام القضائية.

إجراءات المحاكم والإعلانات القضائية بالحضور وأوامر التفتيش وأوامر القبض والأحكام القضائية.

أى مستند يتطلب القانون توثيقه بواسطة الكاتب العدل".

قانون التبادل الإلكتروني للمعطيات القانونية المغربي رقم 05-53

لقد قانون التبادل الإلكتروني للمعطيات القانونية المغربي رقم 05-53 النظام المطبق على المعطيات القانونية التي يتم تبادلها بطريقة إلكترونية وعلى المعادلة بين الوثائق المحررة على الورق، وتلك المعدة علة دعامة إلكترونية وعلى التوقيع الإلكتروني. كما يحدد هذا القانون الإطار القانوني المطبق على العمليات المنجزة من قبل مقدمي خدمات المصادقة الإلكترونية وكذا القواعد الواجب التقيد بها من لدن مقدمي الخدمة المذكورين ومن لدن الحاصلين على الشهادات الإلكترونية المسلمة#.

غير أن هذا القانون لم تأتي أحكام تطبيقه مطلقة على كل المعاملات التجارية والمدنية، بل أن الوثائق المتعلقة بتطبيق أحكام مدونة الأسرة والمحررات العرفية المتعلقة بالضمانات الشخصية أو العينية، ذات الطابع المدني أو التجاري لا تخضع لأحكام هذا القانون ما عدا المحررات المنجزة من لدن شخص لأغراض مهنته#.

الفقرة الثانية: المشاكل التي يثيرها التعبير عن الإرادة عبر الإنترنت

إن إجازة التعبير عن الإرادة إلكترونيا وانتقالها عبر التقنيات المستخدمة في الشبكة، كالأقمار الصناعية والألياف الضوئية والخطوط الهاتفية، والتي غدت تعرف بالفضاء الإلكتروني#، أثار العديد من الإشكاليات تجلت أهمها في إشكالية أمن المعلومات التي تنقل عبر الإنترنت وحمايتها، فغالبا ما تتعرض للاعتداء عن طريق التجسس أو سوء الاستخدام، مما يسبب أضرارا كبيرة لأصحابها، تليها إشكالية أخرى لا تقل عنها أهمية، تتمثل في طريقة الوفاء عبر الإنترنت، إضافة إلى مشاكل أخرى متعلقة بالجوانب الأخلاقية والاجتماعية، غير أن ما يهمنا في هذا الصدد هي تلك المشاكل المرتبطة بالتراضي، كتحديد هوية الشخص المتعاقد وأهليته للتعاقد(أولا) ومسألة نيابة الوسائط الإلكترونية المؤتمتة (ثانيا).

أولا- تحديد هوية الشخص المتعاقد وأهليته للتعاقد

تعد إشكالية تحديد هوية الشخص المتعاقد وأهليته للتعاقد، أبرز الإشكاليات التي طرحت في موضوع التعاقد الإلكتروني وذلك أن العقد الذي يبرم عبر الإنترنت، لا ينعقد صحيحا إلا إذا كان صادرا عن متعاقدين تتوفر فيهما الأهلية، فتنفيذ كل طرف لالتزاماته رهين بمعرفته بالطرف الآخر، بيد أنه ليس سهلا التحقق من هوية الشخص المتعاقد بسبب عدم وجود مكان للالتقاء بين طرفي العقد، مما قد ينجم عنه أن يبرم العقد قاصرا#، لا يملك أهلية التعاقد، أو شخص يدعي أنه ممثل لمؤسسة أو شركة تجارية مثلا، وهو لا يملك في الواقع صفة التعاقد عنها، إذن كيف يمكننا مواجهة مثل هذه المشاكل؟

ففي سبيل إيجاد حلول لها، تم الاعتماد على وسائل شتى من ضمنها إعداد عقود نموذجية وتقنية التوقيع الإلكتروني.

1- بالنسبة للعقود النموذجية:

من أهم الطرق الغير مباشرة التي يعتمدها المنتجون أو المزودون، تلك المتمثلة في صياغة عقود نموذجية حيث بدأت في الآونة الأخيرة العديد من المواقع التجارية على الإنترنت تلجأ إلى إعداد عقود نموذجية توضع على الموقع التجاري وتكون خاصة به، تتضمن الأمور المطلوبة من الطرفين –الموقع التجاري وأي شخص ينوي التعاقد معه- الاتفاق عليها، وتصاغ بشكل ملائم وبلغة سلسلة مبسطة ومفهومة#.

ويمكن لصاحب الموقع أن ينص في هذا العقد على شروط تحدد هوية الطرف المتعاقد وأهليته، مثل أنه لا يقبل إبرام هذا العقد ممن لم يبلغ سن الرشد، أو مع شخص خارج نطاق دولة معينة#، بحيث لا تسمح صياغة العقد بهذه الصورة لأي فئة غير مرغوب بها بأن تجري التعاقد مع هذا الموقع. وقد تلجأ المواقع الإلكترونية إلى الاستعانة بعقود نموذجية للمعاملات الإلكترونية، والتي أعدها بعض المشرعين على النطاقين الدولي والوطني بغية إيجاد تنظيم مسبق لإجراء المعاملات عبر الإنترنت، أو أي وسيلة مماثلة كالعقد النموذجي الفرنسي الذي ينظم معاملات التجارة الإلكترونية بين التجار والمستهلكين في فرنسا، أو مشروع العقد النموذجي الخاص بالمعاملات الإلكترونية والذي أعدته لجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي (اليونسترال)، حيث تحدد هذه العقود النموذجية صورة متكاملة للعقد المزمع إنشاؤه عبر الإنترنت بكافة تفصيلاته ومنها تحديد هوية كلا من المتعاقدين#.

لكن تبقى المعضلة في اللجوء إلى العقود النموذجية، سواء التي تصاغ من قبل الموقع التجاري أم من قبل أي مشرع، أنه لا يوجد ما يثبت بأن طرفي العقد المزمع إبرامه قد قاما بإدخال بياناتهما الحقيقية، فلم تحدد هذه العقود أي جهة تضمن صحة بيانات الأطراف، فقد يلجأ بعض المتعاقدين إلى إدخال بيانات وهمية للاحتيال على المتعاقد الآخر، أو إخفاء هويتهم الحقيقية خوفا من استغلال المتطفلين لبياناتهم الشخصية عبر شبكة مفتوحة كالإنترنت#.

وعليه، يمكننا القول بأن اللجوء إلى العقود النموذجية قصد التغلب على مشكلة تحديد هوية الشخص المتعاقد وأهليته، تبقى وسيلة قاصرة في ظل غياب جهة ثالثة محايدة تضمن صحة هذه البيانات فغالبا ما يتم تدوينها بشكل وهمي قصد تضليل الطرف الآخر#. وبالتالي فإنه لا توجد لحد الآن أي وسيلة تجزم لكلا المتعاقدين بأنه يتعامل مع بالغ كامل الأهلية، بل وحتى اللجوء إلى أطراف ثالثة محايدة تضمن هوية المتعاقد وأهليته عبر شبكة الإنترنت ستبقى مسألة تنفر المتعاملين، لأنها ستزيد من تكاليف المعاملات عبر الشبكة، وبالنتيجة ستبقى مسألة تحديد هوية المتعاقد وأهليته للتعاقد مشكلة مرتبطة بكل العقود التي تبرم بين غائبين، وإن كانت التطورات التقنية قد قللت من خطورتها في أغلب الأحيان.

2- كيفية تحديد التوقيع الإلكتروني لهوية الشخص الموقع

لما أصبح التوقيع بأشكاله المعروفة، لا يجد له مكانا أمام انتشار نظام المعالجة الإلكترونية، بدأ الحديث عن بديل للتوقيع التقليدي يستطيع أن يؤدي ذات الوظائف من ناحية، ويتكيف مع وسائل الاتصال الحديثة من ناحية أخرى. فظهر في هذا الصدد ما يسمي بالتوقيع الإلكتروني#الذي يعرف بأنه:" عبارة عن معلومات على شكل إلكتروني متعلقة بمعلومات إلكترونية أخرى ومرتبطة بها ارتباطا وثيقا ويستخدم أداة للتوثيق"#.

وجدير بالذكر، أن التوقيع الإلكتروني قد يتخذ عدة أشكال وصور لعل أهمها التوقيع البيومتري والتوقيع الرقمي# يجمع بينها قيامها على الوسائط الإلكترونية، تستطيع أن تحول بعض الصفات المميزة للشخص والأرقام والحروف، الى بيانات ينفرد هو باستعمالها من أجل توقيع عقود إلكترونية.

لقد أصبح من المستقر على أن للتوقيع الإلكتروني بشكل عام وظيفتين رئيسيتين، تتمثل الأولى في تحقيق وتحديد هوية الشخص المتعاقد، وتتمثل الثانية في التعبير عن الرضاء بمضمون ما تم التوقيع عليه، وما يهمنا في هذا الصدد هو مدى قدرة التوقيع الإلكتروني على تحديد هوية الشخص الموقع، وبخصوص هذه الوظيفة نرى أن تعريف التوقيع يتجه إلى لزومه أن يحقق هذه الوظيفة مهما كان شكله، خصوصا أن تقنيات التوقيع الإلكتروني قد تطورت في الآونة الأخيرة، وغدا بكافة أشكاله وسيلة مثلى للتحقق من شخصية المتعاقد، إذ أن جميع التقنيات المستخدمة في التوقيع الإلكتروني قادرة على نسبة التوقيع إلى شخص واحد فقط هو الموقع، خصوصا إذا دعمت بوسائل توفر الثقة الكافية بها#.

فالتوقيع البيومتري مثلا، يقوم أساسا على استخدام الخواص الذاتية للشخص، الأمر الذي يؤدي إلى تحديد هويته مما يؤدي إلى الاعتراف القانوني به#، أما التوقيع الرقمي، فهو بما يتمتع به من ثقة قادر على تحديد هوية الشخص الموقع، فاستخدام توقيع رقمي قائم على مفتاح عام وآخر خاص يمكن الأطراف من تحديد هوية بعضهم، أو يمكن أيضا الاستعانة بسلطة التصديق التي تقوم بالتحقق من هوية الشخص الذي يستخدم شهادة رقمية تعرف بالشخص وبهويته من خلال ما تحتويه من معلومات هامة عن ذلك الشخص#.

وإجمالا يمكننا القول بأن كل وسيلة تستخدم للتوقيع، وقادرة على تحديد هوية الشخص الموقع وتتمتع بقدر كاف من الثقة، تعد بمثابة توقيع.

ثانيا- نيابة الوسائط الإلكترونية المؤتمتة في التعاقد:

من المشاكل الأخرى المرتبطة بمسألة التراضي في التعاقد الإلكتروني، هناك مسألة اللجوء إلى وسائط إلكترونية مؤتمتة مبرمجة لإتمام عمليات تعاقد دون إشراف أو تدخل بشري، فلعدم قدرة موقع (الويب) على التعامل مع أعداد كبيرة من العملاء بواسطة أطر بشرية، تلجأ أغلب المواقع إلى استخدام وسائط إلكترونية مؤتمتة، تعمل بصورة روتينية ومبرمجة لإنجاز تصرفات يحددها مالك الموقع التجاري، بحيث تقوم هذه الوسائط وعبر تفاعلها مع وسائط مؤتمتة مماثلة أو مع أشخاص طبيعيين أو معنويين، بإنجاز الأعمال المطلوبة منها كإرسال أو استقبال أوامر الشراء ومعالجتها وتقديم الخدمات بكافة أشكالها#، وفي هذا الصدد أشارت بعض تشريعات المعاملات الإلكترونية صراحة إلى جواز استخدام الوسائط الإلكترونية المؤتمتة في إبرام العقود دون تدخل بشري#، وبذلك تعددت التعريفات التي أعطيت لها، غير أنها أثارت مجموعة من التساؤلات أهمها تجلت في حالة كون الوسيط الإلكتروني مبرمج على أساس عدم تمكين المتعاقد معه من تصحيح أخطائه في التعاقد أو تغيير البيانات التي قام بتعبئتها، وهي حالة شائعة في التعامل مع هذه الوسائط، ففي هذه الحالة هل يجوز للمتعاقد مع الوسيط المؤتمت أن يلغي المعاملة الإلكترونية أم يبقى ملزما بها؟

1- ماهية الوسائط الإلكترونية المؤتمتة

بالعودة إلى تعريف الوسيط الإلكتروني في أغلب التشريعات# التي تطرقت له، نجد أن هذا الأخير هو برنامج حاسوب أو وسيلة إلكترونية يتم برمجتها للقيام بتصرفات محددة، و لا يمكن أن يخالفها لأنه مبرمج للتعامل معها بدقة، حتى لو لم يكن هناك تدخل بشري أو مراجعة للعقد، وبالتالي فهذا الوسيط لا يملك إرادة مستقلة عن إرادة المنشئ، ومن ثم لا يتجاوز دوره نقل إرادة المنشئ كما هي، وهذا الدور يتفق مع دور الرسول وليس النائب، لأن الرسول هو الذي يبلغ كلام المرسل إلى المرسل إليه دون تدخل في التصرف، لذلك يقال بأن النائب يتكلم بضمير المتكلم وأن الرسول يتكلم بضمير المرسل#، ولكن هل يمكن تكييف وضع الوسيط الإلكتروني بأنه رسول؟

الواقع أن دور الرسول يقتصر على القيام بعمل مادي وليس تصرف قانوني، وبرأينا لا ينطبق هذا على الوسيط الإلكتروني لأن أغلب التشريعات التي عالجت هذا الموضوع صرحت بأن دور هذه الوسائط هو القيام بإرسال الرسائل واستقبالها ومعالجتها، وما يستتبع ذلك من تجهيز الطلبات وإرسالها، أي باختصار إبرام العقود نيابة عن مالك الوسيط الإلكتروني، وهذه تصرفات قانونية لا ينطبق وصف الرسول على من يقوم بها، لأن فيها جانب من الحرية في التصرف – وإن كانت حرية مقيدة بتعليمات- وهذا هو الحد الفاصل بين وصف النائب والرسول.

أما فيما يتعلق بتعريف الوكالة بأنها عقد يقيم الوكيل بمقتضاه شخصا آخر مقام نفسه في تصرف جائز معلوم، فإننا نرى بأن تكييف وضع الوسيط الإلكتروني كوكيل يتفق مع مفهوم الوكالة، على الرغم من عدم وجود عقد مادي بين الموكل (المنشئ أو المالك) وبين الوكيل (الوسيط الإلكتروني)، إلا أن هذا العقد موجود حكما وهذا ما استقر عليه العرف التجاري في التعامل بهذا الشأن# وبالتالي التصريح باعتبار الوسيط الإلكتروني وكيلا عن صاحبه#، وهو الاتجاه الذي سارت عليه بعض التشريعات القانونية والتي نظمت هذه المسألة كقانون المعاملات الإلكترونية الأمريكي الموحد ومرسوم قانون المعاملات الإلكترونية البحريني.

2- مدى التزام المتعاقد بالمعاملة الإلكترونية الغير المقصودة

أشرنا بأن من بين الحالات الشائعة في التعامل مع الوسائط المؤتمتة، تلك المتمثلة في صدور خطأ ما في إجراءات التعاقد من طرف الشخص المتعاقد مع الوسيط المؤتمت، وبالتالي هل يجوز لهذا المتعاقد إلغاء المعاملة الإلكترونية في هذه الحالة أم يبقى ملزما بها؟

إن المقصود بالخطأ في التعاقد هنا ليس الغلط# كعيب من عيوب الإرادة، وإنما المقصود الخطأ الفني في إجراءات التعاقد، كالضغط على أي مفتاح لا يريد المتعاقد الضغط عليه، ومثاله الضغط على مفتاح الموافقة على بنود العقد، دون أن يقصد المتعاقد ذلك أو دون انتباه منه، فهل يلزم المتعاقد بهذه المعاملة الإلكترونية؟

فمحاولة لمعالجة هذه المسألة، تباينت التشريعات واختلفت، فهناك من ألزمت الطرف المتعاقد بالمعاملة بالرغم من كونها ناتجة عن بيانات خاطئة غير مقصودة، ومثالنا في ذلك التشريع الأردني، وهناك من أعفته وقررت إلغاء المعاملة، ومثالنا في ذلك التشريع الأمريكي والبحريني.

فبالنسبة للتشريع الأردني، فنجد أنه في قانونه المتعلق بالمعاملات الإلكترونية لم يورد أي نص يعالج مسألة الأخطاء الفنية في إنشاء أو إرسال رسائل المعلومات المتضمنة الإيجاب أو القبول، بل أعطى المرسل إليه الحق في اعتبار رسالة المعلومات صادرة عن المنشئ، وأن يتصرف على هذا الأساس في حالات معينة#، حيث أعطى للمرسل إليه قرينة على أن الرسالة صدرت فعلا عن المنشئ إذا طبق الأول آليات معينة للتأكد فعلا أن الرسالة قد صدرت عن المنشئ.

وبناء عليه، حتى ولو كانت رسالة المعلومات قد أرسلت بناء على خطأ فني من الشخص المتعاقد، أو بناء على خلل فني أصاب برنامج الحاسوب الخاص بالوسيط الإلكتروني المؤتمت، مما نتج عنه إرسال هذا الوسيط لرسالة معلومات لم يقصد المالك إرسالها، ولم يبرمج هذا الوسيط الإلكتروني لإرسالها في تلك الحالة، فإن من حق المرسل إليه أن يتمسك بالعقد وأن يطالب المتعاقد الآخر بتنفيذ هذا العقد#.

أما بالنسبة للتشريعين الأمريكي والبحريني، فإن موقفهما يعتبر من بين المواقف التشريعية التي حاولت تقليل الأضرار الناتجة عن الأخطاء في إرسال رسائل المعلومات نتيجة لتعاملها مع وسائط إلكترونية لا تسمح بتصحيح الأخطاء، بحيث قدم كلا التشريعين حلا عمليا لهذه المسألة، إذ أجازا لأي شخص تعاقد مع وسيط إلكتروني أن يلغي هذا العقد أو هذه المعاملة الإلكترونية بشروط محددة، أوردها المشرع الأمريكي في المادة 80 من قانون المعاملات الإلكترونية الموحد الأمريكي، والتي توافق الفقرة الثانية من المادة 11 من قانون المعاملات الإلكترونية البحريني.

فبالرجوع إلى الفقرة الثانية من المادة 11 من قانون المعاملات الإلكترونية البحريني#، نجد أن المشرع البحريني منح الحق فقط للشخص – سواء كان طبيعي أو معنوي- في إلغاء المعاملة الإلكترونية في حال وقوعه في خطأ، وفي مقابل لم يمنح الحق للوكيل الإلكتروني بذلك، فالعبرة إذن بالخطأ الذي يقع من الشخص ولا عبرة للأخطاء التي تقع من الوكيل الإلكتروني. مما يدل على أن المشرع البحريني قد أحسن التعامل مع هذه المشكلة أفضل من المشرع الأردني، إذن أن الحل الذي أورده المشرع البحريني يعتبر حلا عمليا لهذه المسألة#.

وأخيرا نرى، أنه لمعالجة هذه المسألة يمكن للشخص الذي ينوي التعاقد مع وسيط إلكتروني أو لصاحب موقع الويب الذي يرغب بتوكيل وسيط مؤتمت لإبرام العقود، الاتفاق على تأكيد عملية القبول عن طريق اشتراط الضغط على مفتاح القبول مرتين للتأكد منعدم وجود حالة خطأ، أو اشتراط تأكيد القبول بإرسال رسالة معلومات تؤكده تحاشيا لإلغاء المعاملات الإلكترونية.

المطلب الثاني: تلاقي الإرادتين عبر الإنترنت

سبق وأن قدمنا بأن العقد الإلكتروني يخضع بدوره للقواعد العامة التي تخضع لها باقي العقود، ما لم تؤد خصوصية هذا النوع من العقود إلى حاجة لبعض القواعد الخاصة بها، ولا يبدو أن الفقه قد وجد شيئا من الخصوصية بالنسبة لركني السبب والمحل، حيث تكاد تنحصر خصوصية إبرام العقد الإلكتروني في الأحكام الخاصة بركن الرضا، باعتباره جوهر العقد ومناط وجوده، وبالتالي ينعقد العقد بالتقاء الإيجاب مع قبول مطابق له عبر الشبكة، وهو ما ينتج عنه تحقق التراضي عبر الإنترنت (الفقرة الأولى)، إلا أن ذلك قد يثير تساؤلات حول تحقيق كل من الإيجاب والقبول في هذه الحالة لاشتراطات الإيجاب والقبول بمفاهيمها التقليدية، فالتقاء الإرادتين بهذه الطريقة سيثير صعوبة لا محالة في تحديد زمان ومكان انعقاد العقد عبر الإنترنت (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: تحقق التراضي عبر الإنترنت

يكاد يكون مجمعا عليه بين فقهاء القانون، أن العقد ينعقد بتراضي طرفيه الذي يتكون من عنصرين أساسيين هما: الإيجاب، وهو الشق الأول في العقد، والقبول، وهو الشق الثاني في العقد، فماذا إذن عن أوجه الخصوصية في الإيجاب والقبول عبر الإنترنت؟

أولا- الإيجاب عبر الإنترنت أو الإيجاب الإلكتروني

يعرف الإيجاب بأنه:"التعبير البات الصادر من شخص إلى شخص آخر، يعرض عليه رغبته في إبرام عقد معين، فإذا استجاب هذا الأخير لهذا المطلب انعقد العقد، وإذا امتنع أعدمت فكرة العقد بالمرة"#. فهو بذلك التعبير النهائي، البات المنجز الصادر من أحد المتعاقدين والموجه إلى الطرف الآخر بقصد إحداث أثر قانوني، ويعتبر الإيجاب الخطوة الأولى في إبرام كافة العقود ومنها عقد البيع، إذ يفتح الباب أمام احتمال وجود العقد عند صدوره#. ويمكن تعريف الإيجاب أيضا بأنه إبداء إرادة أحادية الجانب مبنية وجازمة ومجردة من اللبس، بما فيه الكفاية لكي يكون قبول من وجه إليه العقد كافيا لتكوين العقد#.

أما الإيجاب الالكتروني، فقد عرفه التوجيه الأوروبي رقم 66/1997 الخاص بحماية المستهلكين#:" بأنه اتصال عن بعد يتضمن كل العناصر اللازمة لتمكين المرسل إليه الإيجاب من أن يقبل التعاقد مباشرة ويستبعد من هذا النطاق مجرد الإعلان".

وواضح من هذا التعريف أنه لم يعرف أو يحدد وسائل الاتصال عن بعد كما أنه لم يبرز أهم خصائص الإيجاب الالكتروني. لكن يتضح منه اهتمامه بضرورة تضمين الموجب عناصر الإيجاب اللازمة حتى يتمكن القابل وهو المستهلك عادة من إصدار قبول وهو على بينة. ووصف الإيجاب بالإلكتروني لا يغيره عن الإيجاب التقليدي فكل ما هنالك أنه مجرد وصف لا أكثر بسبب اختلاف وسيلة التعبير عن الإرادة في تعاقد يتم إلكترونيا عن طريق شبكة الإنترنت.

ويشترط فيما يمكن تسميته بالإيجاب الالكتروني أن يحترم مقتضيات الوضوح كأن يصف البضاعة وصفا دقيقا ومزودا بصور مجسمة ثلاثية الأبعاد#. وبشأن شرط كون الإيجاب باتا ناجزا، يجب التفرقة في ذلك بين التعاقد عن طريق البريد الإلكتروني، والذي يمثل نظاما لا تفاعليا بحيث تكون الرسالة في اتجاه واحد في اللحظة الواحدة حيث أن البائع يرسل إيجابه على جهات محددة أفراد كانت أم مؤسسات بحيث يصل الإيجاب على البريد الالكتروني للمرسل إليه والذي يقوم بعد دراسة متأنية بالرد على رسالة الموجب بالقبول لينعقد العقد، ونلاحظ في ذلك أن البائع يرسل إيجابه إلى جهات محددة ويكون بذلك قد احتاط لاعتبارات كثيرة منها حجم البضاعة لديه وشخص الطرف الآخر بمعنى أن إيجابه في هذه الحالة يكون إيجابا باتا#.

والإيجاب الإلكتروني قد يكون خاصا موجها إلى أشخاصا محددين كما يحدث في عروض التعاقد بواسطة البريد الإلكتروني أو يكون عاما في حالة التعاقد عبر مواقع الويب التجارية. ففي الحالة الأولى تكون شخصية القابل ذات أهمية ومحددة بل قد تكون معروفة، أما في الحالة الثانية فالإيجاب يكون مفتوحا في وجه العموم ويمكن لأي كان القبول والتعاقد.

لكن في التعاقد عن طريق شبكة "الويب" لا يكون الإيجاب موجها إلى جهات محددة وإنما يكون موجها لكل من يطلع على الموقع، لذلك قد يبدي عدد كبير قبولهم للتعاقد أو قد يكون من أبدي رغبته في التعاقد عديم الأهلية أو قد لا يكفي المخزون من البضائع لتغطية التعاقد مع جميع من أبدوا رغبتهم في هذا التعاقد، وحلا لمثل هذه المشكلات أعطي البائع رخصة في أن ينص في إيجابه بعبارات واضحة أن عرضه لا يمثل إيجابا وإنما دعوى إلى التفاوض كورود عبارة "دون أي التزام" أو "لا يؤلف العرض وثيقة أو مستندا تعاقديا" أو "أن العرض لا يشمل الردود من خارج دولة ما" وتكون موافقة الطرف الآخر على هذه الدعوة إيجابا يحتاج من البائع ردا، قبولا كان أم رفضا#.

ويري البعض أن إدراج مثل هذه الصيغ إنما يؤثر على ما أسماه الأمن القانوني للمبادلات عبر الشبكة، حيث يخشي أن يكون وجودها من قبيل المناورات، ويرى وجوب أن تتضمن العرض توضيحا يتيح للقضاء التأكد بأن هذا التوجه لا ينطوي على تعسف وإنما على إرادة قانونية مشروعة#. كما يجب التنويه إلى أن بعض العقود تشترط ما يسمى نطاق التغطية بمعنى تحديد النطاق الجغرافي الذي يغطيه الإيجاب، ونلاحظ في ذلك أن عقد المركز التجاري#« Infonie » نص على أن العروض ليست صالحة إلا في الإقليم الفرنسي.

وفي مثل هذه العقود التي تتضمن هذا الشرط فإن العقد لا ينعقد إلا إذا لاقى قبولا يقع في النطاق الجغرافي الذي يحدده الإيجاب، ومن المهم ملاحظة أن إيراد مثل هذا التحديد إنما بهدف إلى إبرام عقود ضمن نطاق جغرافي وقانوني آمن بالنسبة للموجب حيث أن بعض القوانين الأجنبية قد تتضمن قيودا على هذا النوع من التجارة بهدف حماية المستهلكين#.

والرجوع في الإيجاب الإلكتروني لا يختلف عن التقليدي، إذ يكون بسحب الموجب إيجابه من موقع عرضه على شبكة الانترنت بشرط أن يعلن عن رغبته في الرجوع عن الإيجاب فيعدم بذلك أثره القانوني، إلا أن هناك استثناءا عندما يتعلق الأمر بإيجاب مقترن بأجل للقبول فهنا يكون ملزما، لكن هذا العدول لا يكون له أي أثر قانوني إلا إذا علم به الموجب له. ولتفادي بعض الآثار التي قد تنجم عن الرجوع في الإيجاب الالكتروني يرى البعض#بضرورة أن يكون هذا الأخير مقترنا بوقت محدد وأن يقوم الموجب بإعلام الموجب له بهذا الوقت.

ورغم ما قد يجمع بين الإيجاب الإلكتروني والإيجاب العادي، فإن الأول له مجموعة خصائص تميزه فهو يتم عن بعد وينتمي بذلك إلى طائفة العقود عن بعد، كما أنه يتم عبر وسيط إلكتروني هو مقدم خدمة الانترنت من خلال الشبكة وباستخدام وسيلة مسموعة مرئية. ولعل أهم ميزة أو خاصية يعرفها الإيجاب الإلكتروني هي صفة العالمية التي تتميز بها شبكة الإنترنت، فهو يتم عبر شبكة دولية لاتصالات والمعلومات ويستجيب بذلك لمتطلبات العولمة والانفتاح#، فالأصل في الإيجاب أن يوجه إلى شخص محدد أو أشخاص محددين، ولكن طبيعة الإنترنت كشبكة اتصال مفتوحة تسمح بظهور العرض في شتى أنحاء العالم، إذ أن عرض أي سلعة أو خدمة في موقع إلكتروني سيكون متاحا أمام جمهور مستخدمي شبكة الإنترنت.

فمستخدم هذه الشبكة يمكن أن يعبر عن إيجابه بإرساله معلومات عبر خدمة البريد الإلكتروني(E-mail) متضمنة إيجابا لشخص محدد أو لمشتركي شركة بريد إلكتروني معينة، مثل شركات مكتوب(maktoob) أو ياهو(Yahoo) أو هوتميل (hot mail) يعرض فيها الموجب سلعه أو خدماته على الموجب له، بحيث يشاهد الموجب له هذا الإيجاب عندما يقوم باستعراض بريده الإلكتروني#.

وهكذا، وفي ختام الحديث عن الإيجاب الالكتروني نستخلص أنه لا يختلف عن الإيجاب التقليدي، فالإيجاب هو نفسه وبنفس الشروط ولكن التعبير عنه مختلف.

ثانيا- القبول عبر الإنترنت أو القبول الإلكتروني

يعرف القبول بأنه التعبير عن إرادة من وجه إليه الإيجاب بإبرام العقد والذي بصدوره متطابقا للإيجاب تتم معه عملية التعاقد بين الموجب وبين القابل#. وبعبارة أخرى فهو تعبير عن إرادة الطرف الآخر الذي تلقى الإيجاب ويطلقه نحو الموجب ليعلمه بموافقته على الإيجاب#.

ولم يورد قانون لجنة الأمم المتحدة للتجارة الإلكترونية (اليونسترال) أي تعريف للقبول في المعاملات الإلكترونية، إنما ترك هذه المسألة للقوانين الوطنية، واكتفى بالنص كما أسلفنا على جواز التعبير عن الإيجاب والقبول عبر رسائل المعلومات، وعلى هذا النهج صار أيضا قانون 05-53 المغربي المتعلق بالتبادل الإلكتروني للمعطيات القانونية وقانون المعاملات الإلكترونية العماني رقم 69 لسنة2008.

والقبول الإلكتروني لا يختلف عن القبول بصفة عامة سوى أنه يتم بواسطة وسائط الكترونية من خلال شبكة الإنترنت، فهو قبول عن بعد، فهو بوجه عام يجب أن يطابق الإيجاب مطابقة تامة ولا يجوز أن يزيد فيه أو ينقص عنه وإلا اعتبر رفضا يتضمن إيجابا جديدا. ويكون صريحا كأن يبعث القابل برسالة عبر البريد الالكتروني مثلا تحتوي قبولا صريحا لعرض الموجب وقد يكون ضمنيا وذلك بقيام القابل بعمل أو تصرف يفيد الموافقة على القبول.

وتثار في هذا الصدد إشكالية مدى اعتبار "نقر أيقونة القبول" من قبيل القبول الضمني، حيث أجمع الفقه على الاعتراض في اعتبار النقر على أيقونة القبول من قبيل القبول الضمني، بحيث قد يكون قبولا صريحا وفق معيار المألوف وغير المألوف في أسلوب التعبير وطريقته، إذ أن التعبير عن طريق النقر على أيقونة القبول من قبيل التعبير المألوف في هذا النوع من العقود أو وفق معيار التعبير المباشر وغير المباشر#.

ولا يشترط في القبول الإلكتروني شكل خاص أو وضع معين فيصح أن يصدر عبر وسائط الكترونية أو من خلال الطرق التقليدية وذلك ما لم يشترط الموجب أن يصدر القبول في شكل معين، كأن يكون القبول عبر وسائط الكترونية فإن أرسل الموجب له قبوله عبر شكل آخر يعد قبولا صحيحا. وفي هذا الإطار اشترط القانون التجاري الأمريكي الموحد تقديم القبول بنفس طريقة وصول الإيجاب وذلك من خلال المادة 200/6 منه حيث إذا أرسل الموجب له قبوله عبر شكل آخر أو طريقة أخرى غير طريقة الموجب لا يعتبر ذلك قبولا.

ومن الشروط التي يتعين توافرها في القبول أن يكون مطابقا للإيجاب فإذا لحق الإيجاب تعديل أو نقص فيه فإن العقد لا ينعقد مثل هذا القبول رفضا يتضمن إيجابا جديدا. وعليه فإذا بعث الموجب له إلى الموجب عبر البريد الالكتروني قبولا مشروطا بتعديل في الثمن، فإنه يعتبر رفضا يتضمن إيجابا جديدا وذلك لمخالفته القواعد العامة في شروط القبول#.

وفيما يتعلق بطرق التعبير عن القبول الالكتروني فهو يتم بطرق عديدة منها الكتابة بما يفيد الموافقة أو باستخدام التوقيع الالكتروني عبر البريد الالكتروني. أو عن طريق اللفظ من خلال غرف المحادثة أو التنزيل عن بعد من خلال تنزيل البرنامج والمنتج أو السلعة عبر الانترنت وتحميله على جهاز الكمبيوتر الخاص بالقابل.

وبمجرد التقاء الإيجاب بالقبول يقوم العقد ويصبح تنفيذه ملزما ولا رجعة فيه، ولكن نظرا لأن المستهلك في العقد الالكتروني ليس لديه الإمكانية الفعلية لمعاينة السلعة والإلمام بخصائص الخدمة قبل إبرام العقد فإنه يجب أن يتمتع بحق العدول والرجوع عن العقد بالإرادة المنفردة، وهذا ما أقرته بعض التشريعات كنص المادة 121/26 من تقنين الاستهلاك الفرنسي التي نصت على أنه "يحق للمشتري في كل عملية بيع عن بعد إعادة المنتج خلال مدة 7 أيام كاملة تبدأ من تاريخ تسلمه سواء لاستبداله أو للاسترداد ثمنه دون مسؤولية أو نفقات فيما عدا تكليف الرد".

وتجب الإشارة في هذا الصدد إلى أن عقود التجارة الإلكترونية تعتبر من العقود الرضائية التي لا تتطلب شكلا معينا للقبول، بحيث يمكن ابتكار وسائل للتعبير عنه#، مثل استخدام وثيقة أم بالشراء يتعين على المستهلك أن يحررها على جهازه حتى تنتقل إلى موقع البائع، بحيث يكون القبول مؤكدا وجازما أو إرسال كلمة المرور إلى التاجر، أو عن طريق مباشرة إجراءات الدفع الالكتروني أو النقر بواسطة الفأرة.

وتثور عند الحديث عن القبول بواسطة النقر بالفأرة على أيقونة القبول التساؤل حول فيما إذا كان النقر بالفأرة يمثل تصرفا قانونيا أو واقعة مادية، وما يترتب على هذه التفرقة من آثار، ويعتقد بعض الفقه#عن حق أن حماية المستهلك والتي تحرص عليها غالبية القوانين المعاصرة تستوجب اعتبار النقر على الأيقونة واقعة مادية، بحيث قد يتم النقر خطأ أو سهوا، وبالتالي يعطي من قام بعملية النقر فرصة إثبات هذا الخطأ أو ذلك السهو بكل الطرق، استنادا إلى جواز إثبات الوقائع القانونية بكافة طرق الإثبات.

وأخيرا ينادي البعض، بوجوب ابتكار وسائل تؤدي إلى قبول مدروس غير انفعالي صادر عن قناعة حقيقية ورغبة أكيدة في التعاقد، كما يجب أن يعطى هذا القبول الفعالية القانونية بحيث يكون بالإمكان إثباته حتى يكون له وجود قانوني فعلي#.

الفقرة الثانية: زمان ومكان انعقاد العقد عبر الإنترنت

لقد أعطى الطابع الإلكتروني للتعاقد زخما جديدا لمسألة تقليدية أثيرت في النظرية العامة للعقود تتمثل في تحديد زمان ومكان انعقاد العقد، هذه المسألة التي حظيت باهتمام كبير من الفقه والقضاء والتشريع وذلك لأهمية النتائج التي تترتب على تحديديها#.

فتحديد لحظة انعقاد العقد تنبني عليها معرفة أمور شتى، تتجلى مثلا في معرفة أهلية المتعاقدين لحظة انعقاد العقد، والتي يصبح فيها العقد ملزما لهما، بحيث لا يستطيع الموجب أن يسحب إيجابه أو أن يعدله، كما يفيد في معرفة ما إذا تم القبول في المهلة التي حددها الموجب أم لا، فمن هاته اللحظة يرتب العقد آثاره فتنتقل الملكية، ومن ثم يمكن تحديد من يتحمل تبعة الهلاك. أما مكان انعقاد العقد، فينبني على تحديده مثلا معرفة المحكمة المختصة# بنظر أي نزاع ينشأ عن هذا العقد، كما يفيد في تحديد القانون واجب التطبيق في التشريعات التي تأخذ بمكان الانعقاد كأحد المؤشرات على تحديد هذا القانون#.

ومما يجدر ذكره، أن هذه المسألة لا تثير أية إشكالية في التعاقد بين الحاضرين، إذ يقترن القبول بالإيجاب في نفس اللحظة ونفس المكان، وبالتالي ينعقد العقد، بيد أن المسألة ليست بهذه السهولة عند الحديث عن العقود الإلكترونية، لكون هذه العقود تمتاز باختلاف مكان المتعاقدين، وبوجود فاصل زمني بين صدور القبول وعلم المتعاقد الآخر به، مما يدفعنا إلى التساؤل عن كيفية تحديد زمان ومكان انعقاد العقد الإلكتروني؟

فمحاولة منا بحث هذه المسألة، اقتضت دراستنا لها من جانبين، الأول يتعلق بالنظريات التي سيقت لبحثها، والثاني يتعلق بموقف التشريعات منها على المستويين الدولي والوطني.

أولا- النظريات التي سيقت لبحث هذه المسألة

تبنى الفقه القانوني عدة نظريات، حدد بموجبها وقت انعقاد العقد بين غائبين، ومن تم تحديد مكانه، وقد استندت هذه النظريات إلى لحظة اقتران القبول بالإيجاب، بيد أنها اختلفت فيما إذا كانت هذه اللحظة هي إعلان (صدور) القبول أم تصدير (إرسال) القبول، أم تسليم (وصول) القبول أم العلم به، وقد تعرضنا لها على الشكل التالي:

1- نظرية إعلان القبول# système de déclaration

بمقتضى هذه النظرية، ينعقد العقد في الزمان والمكان اللذين يعلن فيهما الموجب له قبوله للإيجاب، دون حاجة إلى إرسال القبول إلى الموجب أو حتى علمه به، فيكفي حسب هذه النظرية حتى ينعقد العقد، أن يقرأ المتعاقد رسالة بريد إلكتروني تتضمن إيجابا ويقبل دون أن يقوم بأي تصرف، كإرسال رسالة إلى الموجب ليخبره بالقبول ودون أن ينتظر علم الموجب بهذا القبول#، ويستوي أيضا بمقتضى هذه النظرية أن يقرأ الشخص المتعاقد إلكترونيا رسالة نصية في غرف المحادثة، تتضمن إيجابا ويعلن قبوله لهذا الإيجاب دون أن يرسل ردا للطرف الآخر.

فأنصار هذه النظرية يستندون إلى أن العقد هو توافق إرادتين، وأن هذا التوافق يتم بمجرد إعلان قبول مطابق للإيجاب من جميع النواحي، دون الحاجة إلى علم الموجب بالقبول، لأن القابل تعلق حقه بالعقد بمجرد إعلانه للقبول، فيمتنع على الموجب من ذلك الحين العدول عن إيجابه#.

وفي الواقع أن هذه النظرية تتفق مع ما تقتضيه الحياة التجارية من سرعة في التعامل، رغم أنه يؤخذ عليها تجاهلها لإرادة الموجب. فهذه النظرية تجعل من انعقاد العقد مسألة في يد القابل وحده، حيث يكون بإمكانه أن يعلن قبوله ولا يرسله، ويتراجع عنه متى شاء، دون أن يستطيع أحد إثبات ذلك، وخصوصا في بيئة إلكترونية كالإنترنت، وعليه فإن هذه النظرية بهذا السياق غير مناسبة للتعامل عبر شبكة الإنترنت، فالموجب قد يوجه إيجابه إلى الجمهور فلا يمكن أن نطلب منه في هذه الحالة أن يستنتج عدد الأشخاص الذين قبلوا العرض، طالما لم يصله قبول إلا من عدد محدد، إضافة إلى أن الموجب قد يجد نفسه في الحالة الأخيرة أمام ملايين الدعاوى القضائية المقامة ضده من أشخاص أعلنوا قبولهم ولم يخبروه بذلك، يطالبونه فيها بتنفيذ عقود هو نفسه لا يعلم بأنها قد أبرمت معه، وبالنتيجة فإن الأخذ بهذه النظرية لن يستقيم مع واقع التجارة والمعاملات الإلكترونية#.

2- نظرية تصدير القبول système d’expédition

مفاد هذه النظرية أن العقد ينعقد في المكان والزمان اللذين يصدر (يرسل) فيهما القابل قبوله، وعليه فلا يكفي لانعقاد العقد أن يعلن القابل عن قبوله، بل لابد أن يرسل هذا القبول إلى الموجب، فإخراج القبول من حيازة القابل دليل على صدوره.

فتطبيقا لهذه النظرية، فإن العقد ينعقد عندما يكتب القابل رسالة بريد إلكتروني تتضمن قبوله ويضغط على زر الإرسال فتخرج بالتالي هذه الرسالة عن سيطرته ولا يعود بإمكانه التراجع عن قبوله، بحيث تصبح نهائية#، وتطبيقا لذلك أيضا ينعقد العقد في فضاء إلكتروني، عندما يرسل القابل رسالة نصية تتضمن القبول إلى الطرف الآخر (الموجب) في خدمة غرف المحادثة، وذلك من خلال الضغط على مفتاح القبول في لوحة مفاتيح الحاسوب، أو عندما يضغط القابل بالمؤشر المتحرك للحاسوب على خانة القبول في العقود المعروضة على مواقع الويب، لأن الضغط عليها هنا يعتبر إرسالا للقبول إلى موقع الويب الذي يعرض الإيجاب#.

ويؤخذ على هذه النظرية أنها لا تختلف عن النظرية السابقة، من حيث أنها لا تتطلب وصول القبول إلى الموجب أو علمه به، بل يكفي أن يتم إرسال القبول إلى عنوان الموجب بغض النظر عما يحصل للرسالة- إلكترونية كانت أو عادية- بعد ذلك، وتعتبر هذه المسألة محل نظر في التعامل عبر الإنترنت مما يجعل هذه النظرية أيضا غير مناسبة للمعاملات الإلكترونية#.

3- نظرية تسليم القبول système de réception

بمقتضى هذه النظرية ينعقد العقد في الزمان والمكان اللذين تسلم الموجب فيهما القبول، أي وصل إليه القبول بغض النظر علم به أو لم يعلم#، فتطبيقا لهذه النظرية إذا ما تم استخدام رسائل البريد الإلكتروني في تبادل الإيجاب والقبول، فإن العقد ينعقد في لحظة وصول الرسالة الإلكترونية التي تتضمن القبول إلى صندوق بريد الموجب والذي يتم تعيينه في الإيجاب، بغض النظر عما إذا كان الموجب قد استعرض بريده الإلكتروني وقرأ رسالة القبول أم لم يفعل، وعليه يكون مكان العقد هو المكان الذي وصلت فيه رسالة القبول إلى صندوق البريد الخاص بالموجب.

ويأخذ البعض# على هذه النظرية أنها لا تزيد عن النظريتين السابقتين شيئا، ذلك أنه مادام أن إعلان القبول وتصديره لا يترتب عليه إنتاج القبول لأثره، على اعتبار أن القبول إرادة لا تنتج أثرها إلا بعلم الموجب بها، فإن تسليم القبول لا يزيد عن اعتباره واقعة مادية لا يوجد لها قيمة قانونية في إثبات علم الموجب بالقبول، وبالتالي فإن تسليم القبول لم يضف شيئا لإعلانه من الناحية القانونية، فإما أن تبقي على إعلان القبول أو نشترط العلم به، أما التصدير والتسليم فهما تزيد لا فائدة فيه.

ونحن نرى أن هذه الانتقادات لا ترد على هذه النظرية فيما لو استخدمت في بيئة إلكترونية كشبكة الإنترنت، وذلك لأن أغلب المواقع التجارية على الشبكة تستخدم وسائط إلكترونية مؤتمتة تكون مبرمجة للتعامل مع رسائل بريد إلكترونية ومعالجتها، بحيث يقتصر الدور البشري على توجيه عمل هذه الوسائط، وبالتالي فإن وصول رسائل البريد الإلكتروني إلى صندوق البريد سيؤدي إلى الإطلاع عليها مباشرة من قبل هذه الوسائط الإلكترونية والعلم بمضمونها.

أما المأخذ الحقيقي على هذه النظرية من وجهة نظرنا، يتعلق بمكان تكوين العقد لأن صندوق البريد التقليدي يكون في مكان محدد وهو أمام منزل الموجب أو مقر عمله أو مكتب البريد، وبالتالي يمكن تحديد مكان تسليم القبول بدقة، أما في العقود الإلكترونية، فإن صندوق البريد الإلكتروني غير موجود في مكان محدد، حيث يمكن للموجب أن يفتح صندوق بريده الإلكتروني في أي جهاز حاسوب مرتبط بشبكة الإنترنت، سواء أكان هذا الجهاز موجود في المغرب أم مسقط أم أي مكان آخر، مما يصعب معه تحديد مكان تسليم الرسالة بدقة.

وأخيرا نخلص إلى أن هذه النظرية هي الأكثر ملائمة لطبيعة التعامل عبر شبكة الإنترنت، حيث توفر حلولا عملية وتقنية للعيوب التي وجهت إلى النظريات السابقة، بالإضافة إلى كونها عادلة في تعاملها مع إرادة كلا الطرفين (الموجب والقابل) وبالتالي نفضل تبنيها في تحديد زمان ومكان انعقاد العقد عبر الإنترنت.

4- نظرية العلم بالقبول système d’information

إن مقتضى هذه النظرية الأخيرة أن العقد ينعقد في الزمان والمكان اللذين يعلم فيهما الموجب بأن إيجابه قد تم قبوله#. ويستند أنصار هذه النظرية إلى أنها أفضل النظريات في الحفاظ على حقوق الموجب، فالقبول لا يصبح نهائيا إلا في الوقت الذي يستطيع فيه الموجب أن يعلم به، بحيث لا يعتبر التعاقد تاما إلا في هذا الوقت، إذن فلا يكفي حسب هذه النظرية لانعقاد العقد، أن يعلن القابل قبوله أو أن يرسله ولا حتى أن يصل القبول إلى الموجب، وإنما يجب أن يعلم الموجب بأن المتعاقد الآخر قد قبل إيجابه.

فتطبيقا لهذه النظرية، فإنه لا يكفي الضغط على خانة القبول في نماذج العقود على مواقع الويب، بل يجب أن يصل هذا القبول إلى الموجب ويعلم به#، وما يلاحظ على هذه النظرية بأنه لا يوجد فيها ما يلزم الموجب بالاطلاع على رسالة القبول والعلم به طالما أن وصول هذه الرسالة لا يكفي لانعقاد العقد.

وبالتالي فإن هذه النظرية تترك أمر التعاقد بيد الموجب لوحده، فمتى أراد أن يطلع على الرسالة ويعلم بالقبول انعقد العقد، ومتى رفض الاطلاع لا ينعقد العقد، فإذا كان من المفروض أن يترك أمر التعاقد بيد القابل لوحده في نظرية إعلان القبول، فمن باب أولى أن يرفض ترك أمر التعاقد بيد الموجب لوحده بمقتضى هذه النظرية، وعليه نرى أن هذه النظرية لا تستقيم مع المعاملات التي تتم عبر الإنترنت.

وخلاصة لما تقدم، وبعد عرض هذه النظريات، نرى أن شبكة الإنترنت لها جوانب تقنية تجعلها تختلف عن وسائل الاتصال العادية، بحيث يجب مراعاة هذا الجانب التقني في اختيار النظرية التي تحدد زمان ومكان إبرام العقد عبر الإنترنت، بما يتفق مع المنطق ويحقق العدالة ويراعي مصالح طرفي العقد (الموجب والقابل)، وقد خلصنا بدورنا إلى أن أقدر النظريات على تحقيق ذلك هي نظرية تسليم القبول.

بيد أن التساؤل الذي يطرح هنا هو ما موقف التشريعات الدولية والوطنية من مسألة زمان ومكان انعقاد العقد الإلكتروني؟ هذا ما سوف نتعرف عليه في النقطة الموالية.

ثانيا- موقف التشريعات الدولية والوطنية من مسألة زمان ومكان انعقاد العقد الإلكتروني

ثمة مبدأ يكاد أن يكون مسلما به في معظم القوانين وتطبيقات القضاء، قوامه أنه يجوز للعاقدين باتفاق بينهما أو بموجب شروط عامة أو نموذجية، تحديد الوقت والمكان اللذين ينعقد فيهما العقد، ويجد هذا المبدأ تطبيقاته في الاتفاقات التي ينظم بها العاملون في حقول عديدة للأنشطة الاقتصادية التعامل المستقبلي بينهم بأساليب التبادل الإلكتروني للبيانات التجارية، ولكن في غياب هذا الاتفاق فقد تختلف التشريعات سواء الدولية أم الوطنية في مسألة تحديد زمان ومكان العقد الإلكتروني المبرم.

1- بالنسبة للتشريعات الدولية#

جرت محاولات عديدة لوضع قواعد بموجب اتفاقيات دولية وقوانين نموذجية، لتوحيد الحلول حول مسألة تحديد زمان ومكان انعقاد العقد بصفة عامة والعقد الإلكتروني بصفة خاصة#، إلا أننا سنقتصر على بعضها والتي تتمثل بالأساس في اتفاقية الأمم المتحدة بشأن البيع الدولي للبضائع، والقانون النموذجي للتجارة الإلكترونية "اليونسترال".

فبالنسبة لموقف اتفاقية الأمم المتحدة للبيع الدولي للبضائع، فإنها لم تورد أي نص يتعلق بالعقود التي تبرم عبر الرسائل الإلكترونية#، وإنما جاءت أحكامها منظمة لعقود البيع الدولي بغض النظر عن الوسيلة التي أبرمت من خلالها، فقد أجازت هذه الاتفاقية إبرام هذه العقود بأي وسيلة#، وبالتالي فإن أحكامها تطبق على عقود البيع الدولية مهما كانت وسيلة إبرامها تقليدية أم إلكترونية.

وفي إطار تحديد وقت انعقاد العقد، أوردت الاتفاقية في نص المادة 23 منها ما يلي:" ينعقد العقد في اللحظة التي يحدث فيها قبول الإيجاب أثره وفقا لأحكام هذه الاتفاقية". ومع أنه من الواضح بأن هذا النص يتحدث عن لحظة انعقاد العقد، إلا أنه فعليا لم يوضح ماهية هذه اللحظة، فقد اكتفى بالقول بأنها هي اللحظة التي ينتج فيها قبول الإيجاب أثره، لكن ما هي هاته اللحظة التي ينتج فيها قبول الإيجاب أثره؟

يمكن أن نجيب على ذلك من خلال نص المادة 34 من الاتفاقية، والتي وضحت معنى وصول إعلان القبول حيث جاء فيها:"في حكم هذا الجزء من الاتفاقية يعتبر الإيجاب أو الإعلان عن القبول أو أي تعبير آخر عن العقد قد "وصل" إلى المخاطب عند إبلاغه شفويا أو تسليمه إليه شخصيا بأي وسيلة أخرى أو تسليمه في مكان عمله أو في عنوانه البريدي، أو لدى تسليمه في مكان سكنه المعتاد، إذا لم يكن له مكان عمل أو عنوان بريدي".

يتضح لنا من هذا النص، أن اتفاقية فيينا قد تبنت نظرية تسليم (وصول) القبول، أي أن العقد ينعقد عندما يتسلم الموجب رسالة تتضمن القبول بغض النظر فيما إذا علم الموجب بمضمون الرسالة أم لم يعلم.

أما مسألة مكان انعقاد العقد وفقا لاتفاقية فيينا، فحسب النظرية التي تبنتها هذه الاتفاقية فإن العقد ينعقد في المكان الذي تم فيه تسليم القبول للموجب، وقد أعطى نص المادة 24 من الاتفاقية أكثر من مؤشر لتحديد هذا المكان، فحسب نص المادة المذكورة آنفا، فإن مكان العقد هو مكان تسليم القبول للموجب شفاهة (لأن العقد انعقد بين حاضرين هنا) أو المكان الذي تم فيه تسليمه رسالة القبول، أو مكان عمل الموجب إذا تسلم رسالة القبول، أو عنوان الموجب البريدي، أو مكان سكنه المعتاد، إذا تسلم القبول في مكان سكنه بسبب عدم وجود مكان عمل أو عنوان بريدي له#.

أما بالنسبة لموقف القانون النموذجي للتجارة الإلكترونية، فإن هذا القانون لم يتطرق في كافة نصوصه إلى مسألة زمان ومكان انعقاد العقد عبر الوسائل الإلكترونية، إنما اقتصر بحثه على مسألة زمان ومكان إرسال رسائل البيانات، وذلك لأهميتها باعتبار أن هذه الرسائل هي التي تحمل الإرادات التعاقدية (الإيجاب والقبول)، وقد نظم القانون النموذجي ذلك في نص المادة 15 منه والتي جاءت به بعنوان "زمان ومكان إرسال واستلام رسائل البيانات". حيث رسخ المشرع من خلال هذا النص مبدأ سلطان الإرادة بين الأطراف فترك لهم ابتداء الاتفاق على زمان ومكان الإرسال والاستلام بحيث يكون اتفاقهما ملزما، أما في حال عدم وجود اتفاق مسبق بينهم على تحديد هذه المسائل فتأتي أحكام المادة 15 لسد النقص في ذلك، فقد حددت الفقرة الأولى منها زمان إرسال رسالة البيانات حيث جاء فيها:"ما لم يتفق المنشئ#...والمرسل إليه#...على خلاف ذلك يقع إرسال رسالة البيانات عندما تدخل الرسالة نظام معلومات...لا يخضع لسيطرة المنشئ أو سيطرة الشخص الذي أرسل رسالة البيانات نيابة عن المنشئ".

إذن فلحظة إرسال رسالة البيانات هي اللحظة التي تدخل فيها هذه الرسالة إلى نظام معلومات لا يخضع لسيطرة المنشئ أو من أرسلها نيابة عنه، وبمعنى آخر اللحظة التي تخرج فيها رسالة البيانات عن سيطرة المنشئ فلا يعود بإمكانه استرجاعها أو تعديلها#.

ويمكننا أن نلاحظ من خلال نص المادة المذكور، أن القانون النموذجي ركز على فكرة دخول رسالة البيانات إلى نظام المعلومات التابع للمرسل إليه، حيث وضح الدليل الإرشادي المرفق به، أن المقصود بدخول نظام المعلومات هو الوقت الذي تصبح فيه رسالة البيانات متوفرة وقابلة للمعالجة والعرض داخل نظام معلومات المرسل إليه، أما مجرد وصولها لنظام المعلومات التابع للمرسل إليه وكونها غير قابلة للمعالجة والعرض في حالة حدوث خلل وظيفي في النظام يمنع عرضها، يجعل هذه الرسالة وكأنها لم تصل#.

وخلاصة القول، فمسألة تحديد مكان إرسال البيانات ومكان تسليمها وفقا للقانون النموذجي، تكون ابتداء بين العاقدين فإذا اتفقا على المكان الذي يعتبر أن رسالة البيانات قد أرسلت منه، والمكان الذي يعتبر أنها قد سلمت فيه فإن اتفاقهما ملزم، أما إذا اختلف في تحديد مكان الإرسال والتسليم فإن العبرة هنا في تحديد المكان هي للمكان الذي يوجد فيه مقر العمل، فإذا كان للمنشئ مقر عمل واحد فإن مكان إرسال رسالة البيانات هو المكان الذي يوجد فيه مقر عمل المنشئ، وإذا كان للمرسل إليه مقر عمل واحد فإن مكان التسلم هو المكان الذي يوجد فيه مقر عمل المرسل إليه.

أما إذا كان للمنشئ أو المرسل إليه أكثر من مكان عمل واحد، فإن العبرة في تحديد مكان إرسال وتسلم رسالة البيانات هي للمكان الذي يوجد فيه المقر الأوثق صلة بالمعاملة المعنية، وبطبيعة الحال فإن مسألة المقر الأكثر صلة بالمعاملة هي مسألة موضوع، لم يضع القانون النموذجي أي مؤشرات لتحديدها فيختص قاضي الموضوع بتحديدها عن طريق أية مؤشرات يراها مناسبة.

2- بالنسبة للتشريعات الوطنية

على غرار التشريعات الدولية، وردت أيضا في التشريعات الوطنية بعض المقتضيات التي تهم مسألة زمان ومكان انعقاد العقد الإلكتروني، ونقدم في هذا الصدد نموذجين لتشريعين وهما التشريع المغربي والتشريع العماني.

إن تحديد زمان ومكان إبرام العقد في قانون الالتزامات والعقود المغربي يختلف حسب التعاقد، فيتحدد في التعاقد بين حاضرين في زمان ومكان مجلس العقد، ويتحدد في التعاقد بالمراسلة في زمان ومكان إعلان القبول، وفي التعاقد بالوسيط في الزمان والمكان اللذين يرد فيهما من تلقى الإيجاب للوسيط بأن يقبله، وفي التعاقد بالهاتف يتم في نفس الوقت الذي جرت فيه المخاطبة الهاتفية من حيث الزمان لكن في المكان الذي يوجد فيه القابل.

وقد نص قانون التبادل الإلكتروني للمعطيات القانونية# رقم 05-53 في الفصل 2-65 من الفرع الأول من الباب الأول المتعلق بالعقد المبرم بشكل إلكتروني أو الموجه بطريقة إلكترونية، على عدم تطبيق أحكام الفصول من 23 إلى 30 و المادة 32 من قانون الالتزامات والعقود على العقود الإلكترونية، وبذلك فإن الأحكام المنصوص عليها في هذه الفصول لا تطبق على العقود الإلكترونية، نظرا للطبيعة الخاصة التي تتميز بها هذه الأخيرة. كما أن هذا القانون بدوره لم يقم بتحديد زمان ومكان إبرام العقد عبر الوسائل التقنية ولا حتى في العقود التي تبرم بين غائبين، فقد جاء خاليا من أي نص يشير إلى هذه المسألة.

أما بالنسبة للتشريع العماني، فإنه تبنى في قانون المعاملات الإلكترونية# رقم 69 لسنة 2008 نفس الأحكام التي وردت في القانون النموذجي للتجارة الإلكترونية (اليونسترال)، فلم يتطرق بالتالي إلى مسألة زمان ومكان إبرام العقود الإلكترونية، إنما بحث مسألة زمان ومكان إرسال وتسلم رسائل المعلومات، حيث نظمها في المادة 17 من الفصل الثالث الخاص بالمعاملات الإلكترونية وإبرام العقود من قانون المعاملات الإلكترونية#.

فقد حددت الفقرة الأولى من المادة 17 من نفس القانون#، وقت إرسال الرسالة الإلكترونية بأنه وقت دخولها إلى نظام معالجة للمعلومات يخرج عن سيطرة المنشئ أو الشخص الذي أرسل الرسالة نيابة عنه، وتطبيقا لهذه المادة تعتبر رسالة البريد الإلكتروني قد أرسلت بمجرد الضغط على زر الإرسال، لأن هذا الإجراء يخرجها من سيطرة المنشئ ويدخلها إلى نظام معالجة معلومات مقدم خدمة البريد الإلكتروني، وهو نفس الحكم الوارد في القانون النموذجي.

وقد أخذ المشرع العماني في الفقرتين الثالثة والرابعة من المادة 17 بمقر العمل (سواء للمنشئ أم للمرسل إليه)# كمعيار لتحديد مكان إرسال وتسلم رسائل المعلومات تماما كما فعل القانون النموذجي، ولم يأخذ بمعيار مكان وجود نظام معالجة المعلومات، وهو منحى سليم نؤيده عليه لأنه ينسجم مع المعاملات الإلكترونية.

وأخيرا نخلص من عرضنا لمقتضيات المادة 17#من قانون المعاملات الإلكترونية العماني، إلى أنه لا يمكن تحديد زمان ومكان إبرام العقود عبر الإنترنت من خلال مقتضياتها، وعليه لا بد من الرجوع إلى القواعد العامة في القانون المدني العماني.

للإطلاع على هوامش المقال أو الطبع يرجى التحميل على الرابط التالي




الخميس 28 يوليوز 2011

تعليق جديد
Twitter