MarocDroit  -  موقع العلوم القانونية
plateforme des décideurs juridiques - Platform of Legal Decision-Makers



المحاماة و حرية التعبير " نعم للانضباط لا للتقييد "

     

د/ خالد الإدريسي



​ملاحظات في سياق منشور السيد نقيب هيئة المحامين بالدار البيضاء حول علاقة المحاماة بالإعلام


تفضل السيد نقيب هيئة المحامين بالدار البيضاء بإصدار منشور يتعلق بعلاقة المحاماة بالإعلام ، مذكرا فيه بمجموعة من الشروط و الضوابط الواجبة التي يجب على المحامي التقيد بها في علاقته بوسائل الإعلام . و إذ نثمن موقف السيد النقيب هذا و أيضا مواقفه السابقة التي يحرص فيها دائما على تقديم مواقف واضحة و صارمة في مواجهة مظاهر و ظواهر غير صحية قد تطفو على سطح الممارسة الحرة و السليمة لمهنة المحاماة بصفة خاصة و على مجال العدالة بصفة عامة ، و إذ نؤيد بعضا من هذا الموقف لمواجهة بعض الممارسات التي يقوم بها بعض زملائنا الذين يستهدفون حب الظهور و تحقيق " البوز " و لو على حساب الضوابط المهنية و أعراف و تقاليد مهنة المحاماة النبيلة و العريقة . فإنني مع ذلك أؤكد و بصدق أن المنشور قد زاغ عن المسار حينما لم يبقى في حدود انتقاد سلوكيات بعض الزملاء الذين تستعملهم وسائل الإعلام كمطية لتحقيق الإثارة المجانية عن طريق تصريحات غير محسوبة تهم قضايا رائجة تتعلق بالحياة الخاصة لأشخاص متابعين أمام القضاء ، و إنما ذهب إلى محاولة إخراس أفواه المحامين بالمرة و منعهم من التحدث في الشأن المهني إلا في مكاتبهم و بمناسبة قضاياهم أو في الجمعيات العمومية ، لأن هذه المهمة بحسبه موكولة فقط و بشكل حصري لمؤسسة النقيب ، فتوسع المنشور و تأكيده على أن النقيب الممارس وحده دون غيره ، أو لمن فوض له الصلاحية فقط لهم الحق للكلام في الشأن المهني ، و انه إذا كان المحامي من حقه هو الآخر أن يتحدث عن هواجس المهنة و همومها ، فإن ذلك مقيد بالمكان و الزمان اللذين تنعقد فيهما الجمعية العمومية , و أنه حرصا منه على تطبيق القانون و تفعيل أعراف المهنة و تقاليدها و حفاظا على كرامة المهنة و شرف المحام فإنه يأمر الزميلات و الزملاء ( الذين ينتمون طبعا إلى هيئة المحامين بالدار البيضاء ) المعنيين بهذا المنشور بالكف ، بصفة نهائية عن المشاركة في أي وسيلة من وسائل الإعلام بالاستشارة أو الفتوى أو برأي حول الشأن المهني ، أو أي تصريح من شأنه أن يشكل شكلا من أشكال الدعاية أو الإشهار سواء بالتصريح أو التلويح .

نعم سيدي النقيب يؤسفني أن أقول أن العبارات المذكورة أعلاه تتعارض مع طبيعة المهنة التي تفترض الحرية و الاستقلالية كما أكدت على ذلك المادة الأولى من قانون المحاماة التي اعتبرت المحاماة مهنة حرة مستقلة ، و تتعارض مع دستور المملكة الذي جعل من حرية الرأي و التعبير أحد أهم ثوابته و جعله حقا راسخا لكل مواطن و مواطنة ، و إذا كان هذا الحق ممنوح لكافة المواطنين فمن باب أولى أنه أكثر تطلبا بالنسبة لرجال و نساء الدفاع من أجل ممارسة مهنية و حقوقية أكثر جودة و مثالية ، و هذا الأمر يتنافى أيضا مع الاتفاقيات و المواثيق الدولية التي وقع وصادق عليها المغرب و أصبحت جزءا من قانونه الداخلي . بل إن هذا الموقف يقربنا من نظام المؤسسات العسكرية التي تفرض الانضباط العسكري و التقيد بالأوامر و عدم انتقاد مواقف و قرارات الرؤساء الذين يفرضون ما شاءوا من أوامر ، و ما على العسكر سوى الطاعة و الولاء و التقيد بالأوامر دون قيد أو شرط أو مناقشة .

إن المحامي فاعل سياسي و حقوقي ودوره لا يجب أن يقتصر فقط على الجانب التقني و الحرفي من المهنة من خلال القيام بما تفرضه الممارسة المهنية من مساطر و إجراءات داخل المكاتب و المحاكم ، و لكن عمل المحامي باعتباره من نخبة المجتمع أسمى من ذلك , باعتباره يمارس مهنة نبيلة أساسها الدفاع عن الحق و محاربة الباطل و جميع مظاهر الظلم و انعدام العدالة ، يمكن أن يعبر عن رأيه بكل حرية عن أرائه و أفكاره سواء تعلقت بالمهنة و مشاكلها و إكراهاتها و مستقبلها ، أو تعلقت بالشأن العام السياسي و الحقوقي و الاقتصادي و الاجتماعي داخل بلدنا الحبيب . فالمحاماة أكبر من مجرد صنعة بل هي لب العدالة و جوهر الحقوق ، و لذلك فإن جميع حقوق الإنسان و الحريات العامة التي دافعت عنها المجتمعات و في طليعتهم رجال و نساء الدفاع ، يجب أن يتمتع بها هؤلاء بالأولوية ، و لا سيما حرية الرأي و التعبير التي تبقى المركز الذي تدور عليه جميع الحقوق و الحريات الأخرى .

و إذا لم يتحدث المحامي في الأمور المهنية داخل و خارج مكتبه ، فمن يتحدث عنه أمام الحملات الهوجاء التي تستهدف مهنته و حريته و استقلاليته و قوت يومه ، هل يمكن الوثوق بالمؤسسات المهنية و لا سيما جمعية هيئات المحامين بالمغرب التي لا نرى منها إلا مواقف متخاذلة و سطحية على بعض القرارات و المواقف الصادرة عن الدولة و التي تمس بشكل مباشر مهنتنا العتيدة . ما هو موقف المؤسسات المهنية الرسمية التي يطالب السيد النقيب جعل الكلام في المهنة حق حصري لها دون غيرها من محامين سواء كأفراد أو كإطارات مهنية موازية من المعارك الكبرى التي تمت خسارتها جميعها في مواجهة وزارة العدل كجهاز وصي علة مهنة المحاماة . ما موقفها من الإصلاح التشريعي لا سيما المقتضيات التي تمس المهنة بشكل سلبي و مباشر في مشاريع القوانين المتعلقة بالمحاماة و قانون المسطرة المدنية و قانون المسطرة الجنائية ، و ما موقفها من نظام التغطية الصحية و الضرائب و الفصل 9 من قانون المالية الحالي و أيضا من إغراق المهنة بآلاف المترشحين الجدد . من يذكرني بمكسب وحيد تحقق من خلال موقف واحد من مواقف هذا المؤسسات في مواجهة مشاريع و قرارات الدولة ، هل إصدار مجرد بلاغات لا تسمن و لا تغني و لا تمنع الدولة من إقرار ما تود إقراره , دون مراعاة لهذه البلاغات و المواقف التي تتميز بعدم القوة الصرامة ، و كأنها تصدر لتبرير التخاذل أكثر منه من أجل اتخاذ مواقف حاسمة للتأثير على القرار العام و حث الدولة و الوزارة الوصية على التراجع عن المشاريع و القرارات التي تتعارض مع مصالح مهنتنا . و هنا لا بد من التنويه بموقف هيئة المحامين بالرباط و نقيبها بالنزول إلى الميدان في وقفة الكرامة أمام البرلمان من أجل النضال الميداني لمواجهة الهجمات المتكررة التي تتعرض لها المحاماة ، و بالتالي الانتقال بشكل سليم من النضال الافتراضي و النظري إلى النضال الميداني ، و للأسف لم تساندها لا الجمعية و لا باقي الهيئات .


و من باب القياس مع زملائنا القضاة فإن الجميع لاحظ كيف ارتفعت وثيرة حرية الرأي و التعبير لديهم منذ صدور دستور 2011 الذي وسع من هذا الحق و ضيق من واجب التحفظ و منح الإمكانية للقضاة من أجل تأسيس جمعيات مهنية تدافع عن استقلاليتها و حقوقها من دون قمع و لا تضييق و من دون تكميم للأفواه و إخراسها ، و بالفعل لاحظنا كيف تطورت إستقلالية القضاة و القضاء بعد الدستور و كيف تم إنشاء العديد من الجمعيات القضائية التي أصبحت لها مطالب حقوقية و نقابية وصلت إلى حد انتقاد قرارات المجلس الأعلى للسلطة القضائية المتعلقة بالجانب التأديبي و أيضا الجانب المتعلق بمنح المسؤوليات و مطالب أخرى تجاوزت هذا الجانب إلى ما هو مالي يسعى إلى تحسين الوضعية المادية للقضاة . فإذا كانت حرية الرأي و التعبير أصبحت واسعة و أصيلة لدى زملائنا القضاة ، رغم أنهم بحكم وظيفتهم القضائية ملزمين بالحياد و التحفظ ، فكيف يمكن حرمان المحامين من هذا الحق و هذه الحرية و هي التي تشكل العمود الفقري لمهنتهم و رسالتهم .

إن المنشور موضوع التعليق و المتكون من ثلاث صفحات يبقى مهم لأنه يثير نقاش آني في موضوع يتميز بالكثير من الحساسية لارتباطه بصورة المحامي داخل المجتمع ، و التي بدأ بعض المتطفلين على المهنة خدشها و تشويهها بما يصدرونه من مواقف سلبية ، جعلت هناك اعتقاد أن المحامي أقرب إلى " الحلايقي " الذي يهوى الحديث من أجل الإثارة المجانية ، من دون أن تحكمه أي ضوابط قانونية و أخلاقية , كما أن هذا الأمر مرتبط باستقلالية المحاكم في البت بحياد و موضوعية و من دون التأثر بما يروج في الصحافة عن طريق هؤلاء الزملاء هداهم الله . لذلك حبذا لو تم الاحتفاظ بالصفحتين الأوليتين من المنشور التي كانت مضامينها بالفعل مثالية و تقدم إجابات واضحة و صارمة لمواجهة عصابات البوز و ضبط علاقة سليمة مابين المحاماة بوسائل الإعلام ، و حذف الصفحة الثالثة لأنها تضرب في العمق مكاسب الصفحتين السابقتين ، و تؤطر لقمع حرية الرأي و التعبير لدى المحامين و منعهم من التفاعل مع ما يمس القضايا العامة سواء كانت مرتبطة بمهنة الدفاع أو غيرها .
 



الجمعة 29 ماي 2020

تعليق جديد
Twitter