MarocDroit  -  موقع العلوم القانونية
plateforme des décideurs juridiques - Platform of Legal Decision-Makers



الدور التركي الإقليمي المتصاعد إلى أين؟

     

ذ محمد بوبوش

باحث بقسم العلاقات الدولية،جامعة محمد الخامس،الرباط



الدور التركي الإقليمي المتصاعد إلى أين؟
مرت السياسة الخارجية التركية بثلاثة مراحل مختلفة؛ ففي فترة التحول من السلطنة العثمانية إلى الدولة التركية، اتصفت بأنها (دولة جبهة) وهي الدولة التي تخوض الحروب في أماكن عدة، وبعد انضمام الجمهورية التركية إلى حلف شمال الأطلسي عقب الحرب العالمية الثانية ، تحولت إلى (دولة جناح) فأصبحت جزءًا من الجناح الجنوب الشرقي لحلف شمال الأطلسي، وتبلورت سياسة تركيا الخارجية وفق هذا الوضع الجديد، وبعد انتهاء الحرب الباردة، تم النظر إلى تركيا – كما يشير بعض الكتاب مثل هانتنغتون – على أنها (دولة طرف) أي أنها دولة ممزقة توجد على أطراف الغرب من جهة، وعلى أطراف الشرق من جهة أخرى.


أولا:أسس السياسة الخارجية التركية

يعتبر وزير خارجية تركيا أحمد داوؤد أوغلو المنظّرالأهم للاستراتيجية التركية " العثمانية الجديدة " التي قوامها إخراج تركيا من بلد " طرف " عضو في محاور وعداوات، إلى بلد " مركز " على مسافة من الجميع، وفي الوقت نفسه إلى بلد ذي دور فاعل ومبادر في كل القضايا الإقليمية والدولية. وقد وردت ملامح هذه الاستراتيجية في كتابه الأشهر " العمق الاستراتيجي ".

وحقيقة الأمر أن التحولات في السياسة الخارجية التركية، لم تكن الأحداث في العراق وحدها هي الدافع وراءها، بل أنها ترتبط ببرنامج حزب العدالة والتنمية، وتخطيطه للسياسة الخارجية التركية الجديدة. بل وترتبط أكثر بمنظر الإستراتيجية التركية الجديدة، الذي يشغل الآن منصب كبير مستشاري رئيس الوزراء ، وهو البروفسور أحمد داوود أوغلو، أستاذ العلوم السياسية بجامعة بايكنت.ويحدد أحمد داوود أوغلو خمسة أسس للسياسة الخارجية الجديدة التي تعمل أنقره على تطبيقها :

1- الموازنة بين تعزيز الحريات في الداخل ومواجهة الأخطار الأمنية. وتركيا البلد الوحيد الذي نجح في هذه المعادلة، وهي هنا مثال للدول الأخرى. ومن هذه الزاوية، تركيا بلد مركز في المنطقة تاريخيً وجغرافيًا. ويقصد به بمعنى آخر إن مشروعية النظم السياسية يمكنها أن تتحقق بتوفيرها الأمن لشعوبها، وعدم تقليص الحريات في مقابل ذلك. وأن الأنظمة التي توفر الأمن لشعوبها وتحرمها من الحرية تتحول مع الوقت إلى أنظمة سلطوية، وكذلك الأنظمة التي تضحي بالأمن بدعوى أنها ستقدم الحريات ستصاب بحالة من الاضطراب المخيف

2- تصفير المشكلات مع دول الجوار الجغرافي لتركيا. وهذا سيخرج تركيا من كونها بلدًا طرفًا له مشكلات متواصلة مع جيران. ونجحت تركيا في ذلك أيما نجاح مع سوريا وإيران و ايونان وروسيا. بقيت فقط العلاقات مع أرمينيا التي يتم الشغل عليها في هذه المرحلة.

3- سياسة خارجية متعددة البعد مرتبطة بموقع تركيا على تقاطع طرق القوى والمناطق الحيوية في العالم: آسيا - أوربا: إسلام - غرب: أوراسيا – الأطلسي. شمال - جنوب: أمريكا - أوربا. وفي هذا الإطار ليست علاقات تركيا مع أي طرف بديلاً من العلاقات مع طرف آخر.

وبمعنى آخر/يرتكز هذا المبدأ على أن العلاقات مع اللاعبين الدوليين ليست بديلة عن بعضها البعض وإنما هي متممة لبعضها البعض. وهو مبدأ يسعى لرؤية علاقات تركيا الإستراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية علاقات في ظل ارتباطها بحلف الناتو، وتحت مفهوم العلاقات الثنائية وكذلك يرى جهود تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوربي، وكذلك سياستها مع روسيا وأوراسيا على ذات الوتيرة من التزامن علاقات تجري كلها في إطار التكامل، وليست علاقات متضادة أو بديلة عن بعضها البعض

4- تطوير أسلوب دبلوماسي جديد في السياسة الخارجية. وحتى الآن تعرف تركيا في النظام الدولي على أنها جسر بين جهات عدة. هذا يعني أن دور الجسر هو الاكتفاء بمرور الآخرين فوقه. في حين أن تركيا يجب أن تعرف في المرحلة الجديدة على أنها بلد مركزٌ. وهنا على الدبلوماسية التركية أن توائم حركتها تبعًا للساحة التي تتحرك فيها، ولكل ساحة خطابها وأسلوبها. وتكون تركيا بذلك مساهمة، لا عبئًا في التفاعل الدولي.

5- الانتقال إلى دبلوماسية منتظمة ومتواصلة. وتتمثل في الالتقاء بأكبر عدد من المسئولين على مختلف المستويات في الدول الأخرى، وفي كل القارات.

تسعى تركيا الآن – في طور سياستها الخارجية الجديدة تجاه دول الشرق الأوسط؛ العربية، والإسلامية (إيران)- إلى اتخاذ زاوية رؤية تمكنها من تحسس نبض العالم العربي، والتقاط إيقاع التغير الاجتماعي والثقافي والسياسي في بنيته، وجعل ذلك مرحلة إعداد أولية لدبلوماسيتها.


ثانيا:أسباب ودوافع التحرك التركي المصاعد

يمكن تقسيم الأسباب الموجبة لدور تركي إقليمي في المنطقة إلى موضوعية وأخرى ذاتية. ويأتي في مقدم الأسباب الموضوعية ذلك الفراغ الكبير الضارب أطنابه في المنطقة نتيجة انهيار ما سمي النظام الإقليمي العربي، خصوصاً عقب احتلال العراق عام 2003. ثم يأتي عامل أخر مهم ضمن الأسباب الموضوعية المسهلة لقيام تركيا بدور إقليمي وهو أن تركيا ترسم سياستها الإقليمية بغطاء وتأييد من الولايات المتحدة الأميركية وباعتبارها ثقلاً موازياً للدور الإقليمي الإيراني الذي لا ترضى عنه أميركا، حتى مع تأكيد تركيا المستمر أنها لا تتواجه مع إيران في المنطقة. والسبب الثالث تمدّد تركيا إقليمياً في المنطقة بتكاليف سياسية أقل بكثير من العائد السياسي الذي تجنيه، بحيث أن الجدوى الإستراتيجية من لعب هذا الدور تكون متحققة تماماً في حالة الشرق الأوسط. وتكفي هنا الإشارة إلى الدور الإقليمي الإيراني والذي استثمرت فيه إيران مالياً وإيديولوجياً لبناء شبكة من التحالفات مع الدول والحركات والأحزاب السياسية لمدة ثلاثين عاماً. المقارنة بين مساحات التأثير التي يملكها كل طرف توضح بأن تركيا تتنافس مع إيران بأدوات جديدة ولكن بمدخل أقل كلفة سياسية من إيران بكثير. رابع الأسباب الموضوعية التي تدفع تركيا إلى لعب دور إقليمي في المنطقة يتمثل في أن الشرق الأوسط هو المجال الجغرافي الوحيد في جوار تركيا الذي يمكنها فيه لعب دور إقليمي دون الاصطدام بقوى عالمية، بالمقارنة بالقوقاز حيث النفوذ الروسي أو في ألبانيا والبوسنة حيث النفوذ الأوروبي.

يتمثل خامس الأسباب الموضوعية في تلك الصورة الإيجابية لتركيا عند شرائح عربية واسعة، والترحيب غير المسبوق بهذا الدور من أوسع القطاعات العربية بدور تركي في المنطقة لأول مرة منذ قيام الجمهورية عام 1923. ووصل الأمر إلى حد الحديث عن "النموذج التركي" وضرورة الاستفادة من الدروس التي يقدمها مثل التناوب السلمي على السلطة وإدماج التيارات الإسلامية في العملية الديموقراطية والفصل بين الحزبي والدولتي، وليس أخراً توسيع هامش المناورة تحت سقف التحالف مع القطب العالمي الأوحد. والسبب الموضوعي السادس لدور تركيا الإقليمي يتلخص في توافر تاريخ مشترك بين تركيا والعرب ووجود تقارب ثقافي وحضاري بينها وبين الدول العربية، وهو ما لا يجعل تركيا عنصراً وافداً إلى المنطقة ويسهل قيامها بهذا الدور.


ثالثا:مرتكزات الدور التركي في المنطقة

يرتكز التحرّك التركي في المنطقة على ثلاث آليات رئيسة هي:

الخطاب المعتدل، الذي يحترم الآخر ويهدف إلى مخاطبة العقل، ويحافظ على التوازن المطلوب بين الحقوق المشروعة والموقف المبدئي من القضايا المطروحة، ويعزز هذا النوع من الخطاب عامل الثقة المطلوب توافره في الدور الذي تقوم به تركيا على مساحة المنطقة بأكملها.

التركيز على دور الوسيط، فالدور التركي في المنطقة لا يسعى إلى زعامة، وإنما لإيجاد فضاء متماسك يؤمّن مصالحه، وهو في هذا الإطار لا يسعى إلى نزعة هيمنة بالقوة أو التداخل رغماً عن رغبة الطرف الآخر، ولذلك فإن الدور التركي يكتسب شرعيته من الأطراف المتنازعة مباشرة وبمباركة منها.

زيادة القوة الناعمة بهدف جعل تركيا نواة الدول الساعية للارتقاء إقليمياً من دون انتهاج المنهج الصدامي، وهذه الطريقة تؤدي إلى أن يأتي الارتقاء الإقليمي الجيوــ سياسي لتركيا منسجماً مع طبيعة المنطقة وإرثها، ويستمد قوته من النهج الإصلاحي الداخلي على الصعيدين السياسي والاجتماعي، مع التركيز على الإنجازات الاقتصادية للبلاد والقوة التي وصلت إليها في هذا المجال، وأيضاً من المنهج الانفتاحي الخارجي على الجوانب نفسها تاريخياً أو قومياً، أو عبر فرض نفسها بالقوة على الآخرين.

نجاح تركيا في اختراق الخلافات.

رابعا: تفاعلات السياسة الخارجية التركية وتجسيد نظرية العمق الاستراتجي

تهتم تركيا في توجهاتها، وخصوصاً تلك المتعلقة بالمنطقة العربية، بثلاث مسائل رئيسة: الأمن والاقتصاد والمياه. وهي المسائل التي تفتح مجالاً جديداً لقراءة أكثر عمقاً للخارطة السياسية في منطقة الشرق الأوسط عموماً، وفي التوجه التركي تجاه هذه المنطقة على وجه الخصوص.

ولعل هذا التعاون قد انعكس سلباً على علاقة تركيا بمحيطها العربي، بعد أن أثار حفيظة الدول العربية رغم أن بعضها كانت له علاقات طبيعية مع إسرائيل. وجاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر حدثاً فارقاً بالنسبة لتركيا كغيرها لتفتح أمامها الباب للعب دور على الساحة السياسية الدولية، فكانت جزءاً من التحالف الدولي الذي شكّلته الولايات المتحدة لمحاربة ما يُسمى الإرهاب، وكانت القوات التركية أول من توجّه لأفغانستان لإسقاط نظام طالبان. ومع تغير الظرف السياسي الدولي الذي واكبه وصول حزب العدالة والتنمية ذي التوجهات الإسلامية إلى رأس السلطة في تركيا، وجد الأتراك أن الوقت قد حان للعب دور فاعل في الإقليم في مواجهة تحالفات وأدوار تجلّى تأثيرها في المنطقة بعد الغزو الأمريكي للعراق. وقد استضافت تركيا للمرة الثانية مؤتمر دول جوار العراق في إطار المساعي الدولية المبذولة لضبط الأوضاع الأمنية فيه، كما لايمكن بحال غضّ الطرف عن موقف البرلمان التركي بقيادة حزب العدالة والتنمية الذي رفض انطلاق أي عمل عسكري أمريكي من الأراضي التركية باتجاه العراق أو مشاركة القوات التركية في تلك العمليات، رفض كان له صدى في الشارع العربي مثلما كان له أثره في توتير العلاقات الأمريكية التركية.

* تركيا وإيران

على صعيد العلاقات التركية ـ الإيرانية،على الرغم من العقود الطويلة من العداء الأيديولوجي بين الإمبراطوريتين السابقتين، إلا أنه في السنوات القليلة الماضية انخرطت كل من أنقرة وطهران في علاقات اقتصادية وسياسية قوية. بالإضافة إلى تطويرهما لآليات جديدة لمكافحة الإرهاب.

يُمكن القول أنه على الرغم من اقتناع تركيا بعدم خطورة برنامج طهران النووي إلا أنها تعارضه على اعتبار أنه سوف يُهدد توازن القوى. فضلاً عن زعزعة الاستقرار في المنطقة. وفى سياق متصل تُؤكد تركيا على وجود عقبتين رئيسيتين أمام سعي طهران لامتلاك التكنولوجيا النووية؛ الأولى: المعارضة الدولية للبرنامج، ثانيًا: العقبات التكنولوجية التي قد تحول دون إمكانية تطوير الأسلحة النووية.

* تركيا وسوريا:

في يونيو 2010 وصف رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان علاقة بلاده بسورية قائلاً: "إننا لا نتقاسم فقط نفس الجغرافيا أو نتنفس نفس الهواء أو نعيش في نفس المنطقة، بل نمتلك تاريخاً مشتركاً ولنا حضارة ومشاعر وثقافة مشتركة". وفي يونيو 2011 وصف أردوغان الوضع في سورية بأنه يشهد" فظائع" وبأن السوريين لا يتصرفون حياله " بشكل إنساني".

بين يونيو 2010 ويونيو 2011 فعلت السياسة فعلها بالعلاقات التركية- السورية، فالسياسة هي لغة المصالح، وما كانت تركيا تعتبره من مصلحتها قبل اندلاع الحركة الاحتجاجية السورية في 15 مارس الماضي لم تعد تعتبره كذلك بعدها. وبالتالي فإن كل القفزات المتسارعة في العلاقات الثنائية بين البلدين من أول المجلس الاستراتيجي وإلغاء تأشيرات الدخول وحتى إجراء مناورات عسكرية مشتركة أصبحت كلها في مهب الريح. صحيح أن الدولتين ما زالتا تحرصان على شعرة معاوية في علاقتهما الثنائية، إلا أن تطور الأوضاع في سورية وكذلك رد الفعل التركي مفتوحان على كل الاحتمالات. لقد تركيا انتقلت في موقفها من الأزمة السورية بسرعة كبيرة من مرحلة نصح بشار الأسد لإدخال إصلاحات سياسية إلى محاولة بناء جسور للتواصل مع مختلف الفاعلين الرئيسيين داخل سورية وخارجها (المجلس الوطني السوري

على صعيد آخر استقبلت تركيا موجات اللاجئين السوريين التي شملت نحو 10000 منهم، ولوحت باللجوء إلى القوة وإنشاء منطقة عازلة على حدودها مع سورية، خصوصاً بعد التحركات العسكرية السورية على حدودها في يونيو الماضي. وبالتوازي مع ذلك، وبالتقاطع معه، لم تتوقف التصريحات النارية التركية التي تُكذب بيانات المسؤولين السوريين عن المسلحين والشبيحة في مجازر حماة الأولى و الثانية وجسر الشغور وغيرها، أو التي تحدد مهلة زمنية للرئيس السوري حتى يتخذ إجراءات جذرية لاحتواء الأزمة، كما تقاطر المسؤولون الأتراك على دمشق من رئيس الوزراء إلى وزير الخارجية إلى مدير المخابرات.

لقد كان هدف تركيا من كل الإجراءات السابقة توصيل رسالة للمواطن السوري من شقين: أحدهما أن تركيا لن تدعم نظام الأسد ولن تسمح بتسلحه، ومن هنا كان توقيفها لطائرتين إيرانيتين متوجهتين إلى سورية حوت إحداهما شحنة سلاح. وثانيهما أن تركيا ستدعم الشعب السوري في محاولته إنهاء الأزمة، وفي حال قام المجتمع الدولي بإجراءات تصعيدية ضد سورية فإن تركيا ستحذو حذوه.

* تركيا والقضية الفلسطينية

وفيما يخص القضية الفلسطينية ،تفتخر تركيا بكونها دولة ديمقراطية عصرية تؤمن بالمبادئ التي تقوم عليها الدولة الحديثة وبما أقرته الحضارة الإنسانية المعاصرة من مبادئ حقوق الإنسان والحريات العامة وحق الشعوب في الاستقلال؛ لذا تفسر تركيا تدخلها في الشأن الفلسطيني من زاوية معارضتها لفكرة الاحتلال في مرحلة تاريخية وصلت فيها البشرية إلى النضج الكافي لرفض الممارسات القمعية للاحتلال الإسرائيلي، وهذا ما يضع تركيا في مربع المؤازرين لنضال الشعب الفلسطيني، ويدفعها نحو التحرك من أجل كبح جماح الغطرسة الإسرائيلية المستمرة، وقد كان الموقف التركي من الحصار على غزة والحرب الإسرائيلية عليها واضحًا في إدانته لإسرائيل.

خ‌. تنطلق تركيا في موقفها من القضية الفلسطينية من كونها دولة عضو في الأمم المتحدة ومن واجبها الدفاع عن قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بالشعب الفلسطيني، وتَنكُّر إسرائيل لهذه القرارات خلق حالة من التناقض بين الموقفين التركي والإسرائيلي، ودفع تركيا نحو تذكير إسرائيل بمخالفتها الصريحة لقرارات الأمم المتحدة ومطالبة الدول الكبرى القيام بواجبها اتجاه القرارات التي اتخذتها وعدم الكيل بمكيالين.

غير أن انقسام الأتراك جغرافياً وسياسياً بين الشرق الأوسط وأوروبا، وحرصهم على تفعيل دورهم في المنطقة لإحداث توازن ما في وجه تحالفات إقليمية جديدة قد لايكون على حساب مصالحهم الدولية بينما الطريق إلى الاتحاد الأوروبي لايزال مليئاً بالعقبات.

* تركيا وعضوية الاتحاد الاوروبي

لم يكن التوجه التركي نحو الارتباط بأوروبا أمراً مستغرباً؛ فتركيا هي وريثة الدولة العثمانية التي كانت جيوشها تهدد العواصم الأوروبية لقرون طويلة ووصل نفوذها إلى القلب الأوروبي، الأمر الذي مكنّها في مرحلة ما بعد انتهاء الإمبراطورية من التعامل مع أوروبا بقدر من الندية. وعندما جاء حزب "العدالة والتنمية" إلى الحكم كان أحد أهم رهاناته السياسية هو استمرار السعي إلى تحقيق هدف انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، مواصلاً جهود من سبقوه.

وقد حقق هذا المسعى التركي بعض النجاحات البسيطة، ففي أبريل/نيسان 1987 أصبحت تركيا مرشحة رسمياً لعضوية الاتحاد الأوروبي ، وفي عام 1998 اعتمدت المفوضية الأوروبية وثيقة "الإستراتيجية الأوروبية تجاه تركيا"، والتي حددت إجراءات تمهد لعضوية أنقرة وتحثها على مواءمة تشريعاتها مع تشريعات الاتحاد. وبالفعل أجرت أنقرة عدداً من التعديلات التشريعية والقانونية لتتواءم مع المتطلبات الأوروبية، منها على سبيل المثال إلغاء جرائم الشرف ضد المرأة، والتخلي عن مشروع قانون يعاقب على الزنا، وإلغاء عقوبة الإعدام، ووقف التعذيب على أيدي قوات الأمن، ومنح الصحافة قدراً أكبر من الحماية والحرية . وسبق ذلك انضمام تركيا لمجلس أوروبا وللاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان والحريات الأساسية ولحلف شمال الأطلنطي (ناتو) . وتوقع قادة تركيا أن الاتحاد الأوروبي سيرحب بعضويتها بعد كل هذه الخطوات، إلا أن هذه المسألة تأخرت أكثر من ربع قرن.

ويتمحور السجال الأوروبي بشأن عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي في ظاهره حالياً حول مسألة توسيع نطاق الممارسة الديمقراطية، وتبنّي حكم مدني كامل، يتم فيه تحجيم دور الجيش في الحياة العامة والشؤون السياسية. غير أن تسريع هذا التوجه ليس أمراً سهلاً على حزب "العدالة والتنمية"؛ فالجيش التركي ما زال له نفوذه وشرعيته، ويحظى منذ تأسيس الدولة التركية الحديثة بالاحترام الشعبي والتبجيل، وهو حارس الدستور العلماني للدولة. ومن القضايا الخلافية الأخرى التي تتخذ كذريعة لعرقلة انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، القضية القبرصية، وأوضاع حقوق الإنسان والأقليات في تركيا، والاتهامات الخاصة بالمذابح المزعومة التي ارتكبتها الدولة العثمانية بحق الأرمن.

قد يبدو للوهلة الأولي أن هناك تصادما بين توجه تركيا نحو الشرق الأوسط وتوجهها نحو الاتحاد الأوروبي في الغرب، وهو أمر غير صحيح لعدة اعتبارات. يتقدم هذه الاعتبارات حقيقة مفادها أن جانبا كبيرا من المقبولية الشعبية والنخبوية، التي تحظي بها تركيا في المنطقة، يعود إلي النموذج الذي تقدمه من حيث الانفتاح علي الغرب، والتناوب السلمي علي السلطة بين أحزابها السياسية، والتقدم الاقتصادي الذي أحرزته بحيث أصبحت الاقتصاد رقم 17 علي العالم، وكلها اعتبارات وعوامل ما كان لتركيا أن تحظي بها دون ارتباط عميق مع الغرب. وعلي الناحية الأخرى، فمن شأن دور تركيا المتعاظم في الشرق الأوسط أن يضمن للاتحاد الأوروبي أدوارا في صراعات الشرق الأوسط الملتهبة بما يحفظ المصالح الأوروبية في تلك المنطقة فائقة الأهمية بمعادلات السياسة الدولية، ويجعل تركيا في الوقت ذاته 'دولة حاجزة' لوصول آثار الصراعات الشرق أوسطية إلي قلب الاتحاد الأوروبي.

*تركيا والولايات المتحدة

اتسمت علاقات تركيا مع الولايات المتحدة بشيء من الثبات، إذ جمعت بينهما روابط متينة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أي منذ إعلان مبدأ ترومان وسياسة "الاحتواء" الأمريكية.
وانطلقت الولايات المتحدة في علاقاتها مع تركيا من تصور استراتيجي مفاده الاستفادة من الدور الجيوستراتيجي لتركيا في مواجهة الاتحاد السوفيتي السابق، وقد أقيمت على الأراضي التركية قواعد عسكرية عدة ومحطات تنصت ورادار. فيما حظيت تركيا على الدوام بمساعدات اقتصادية وعسكرية ضخمة من الولايات المتحدة إلى درجة أن قواتها البرية تتلقى الحصة الكبرى من بين قوات الحلف الأطلسي، ورغم أن العلاقات بينهما مرت أحياناً بفترات توتر لا سيما في أعقاب تفجر الأزمة القبرصية عام 1974 إلا أنها كانت ترتقي دوماً إلى حالة أرقى وأمتن، خاصة بعد توقيع اتفاقية التعاون الدفاعي والاقتصادي بين البلدين في 10 كانون الثاني عام 1980 والتي أعطت دوراً متميزاً لتركيا على الصعيد العسكري والاستراتيجي في المنطقة

تحرص تركيا على توطيد علاقتها الإستراتيجية مع الولايات المتحدة أكثر فأكثر بغية الحصول على مساعدتها في مواجهة المشكلات المختلفة وللضغط على العواصم الأوروبية للتخفيف من حدة معارضتها لدخول تركيا عضوية الاتحاد الأوروبي. وفي كثير من الأحيان تتحرك تركيا والولايات المتحدة بصورة مشتركة في أكثر من قضية ومحور سواء في الشرق الأوسط أي توطيد التحالف العسكري التركي الإسرائيلي أو في البلقان أي بشأن قضية كوسوفو وقبلها البوسنة والهرسك. أو في آسيا الوسطى بخصوص النفط ومشاريعه إضافة إلى قضية كاراباخ المتنازع عليه بين أذربيجان وأرميني

ولعل ما يعكر صفو العلاقات التركية الأمريكية أحياناً تلك التصريحات الصادرة عن بعض المسؤولين الأمريكيين فيما يتعلق بحقوق الإنسان والأسلوب الدموي الذي تنتهجه المؤسسة العسكرية التركية ضد أكراد تركيا، علماً بأن واشنطن تتجاهل عن عمد أوضاع الأكراد في تركيا على مذبح الاعتبارات الإستراتيجية، فيما تنسق في الوقت ذاته مع أنقرة بشأن أوضاع أكراد العراق، سواء في إطارات قوات الحماية الدولية المتمركزة في جنوبي شرق تركيا أو في إطار رعاية المصالحة بين الأطراف الكردية المتنازعة في شمالي العراق.

وفي الواقع العلاقات التركية الأمريكية هي علاقات إستراتيجية محورية مرشحة للمزيد من التطور بسبب أهمية كل طرف للآخر في تحقيق تطلعاته حيث تتقاطع المصالح والمواقف بشأن العديد من القضايا الحيوية في العالم


خاتمة:

أن التحدي الذي تواجهه تركيا يكمن, أولاً, في ما إذا كانت تملك القدرة على مواصلة دور ناشط وفعال في المنطقة من دون تقويض أولويات أخرى, وثانياً, في مدى تقبل القوى الإقليمية الأخرى للدور الذي تعتزم الاضطلاع به. لكن, حتى الآن, يبدو الأتراك قادرين على التوفيق بين رغبتهم في التأثير على مجريات الأحداث في الشرق الأوسط وبين مصالحهم القومية الأخرى في كل من القوقاز وقبرص وأوروبا. وفي المحصلة, يخلص كوك إلى أنه في مرحلة تشهد فيها الولايات المتحدة تراجعاً على مستوى المصادر, يمكن لتركيا أن تلعب دور الحليف الحاسم للأميركيين لناحية تحقيق مصالح واشنطن وأنقرة المتداخلة.

الهوامش:

أحمد داوود أوغلو: الإستراتيجية التركية الجديدة، حوار:محمد نور الدين، شؤون الأوسط 116،خريف 2004، بيروت، ص: 142.
محمد نور الدين: تركيا إلى أين؟ دور وتحديات، مجلة المستقبل العربي، العدد 364، يونيو 2009،ص: 39-40.
محمد نور الدين: قوس العلاقات المتعرج، موقع قنطرة:
http://ar.qantara.de/webcom/show_article.php/_c-340/_nr-42/i.html
خورشـيد حسين دلي: تركيا وقضايا السياسة الخارجية-دراسة- منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1999
محمد نور الدين، تركيا في الزمن المتحول، قلق الهوية وصراع الخيارات، لندن، رياض الريس للكتب والنشر 1997 ص:22- 54.
إسلام جوهر،شادي عبد الوهاب: سياسة تركيا تجاه المشرق العربي: العراق وسوريا ولبنان، مجلة أوراق الشرق الأوسط، القاهرة، المركز القومي لدراسات الشرق الأوسط، العدد 43، يناير 2009، ص: 150-151.
على المليجي على: رابطة الجوار العربي بين الطموحات والتحديات، مجلة كلية الملك خالد العسكرية، العدد 101، 1 يونيو 2010.
برنامج ما وراء الخبر: أبعاد الدور التركي في الشرق الأوسط:الجزيرة نت: تاريخ الحلقة 13/11/2007، على الرابط:
http://www.aljazeera.net/NR/exeres/F2EA5684-2AF8-4B57-AD08-CFFAD7EF129B.htm

نيفين عبد المنعم مسعد: موقف تركيا من الأزمة السورية وإعادة تشكيل خريطة الشرق االاوسط: 7 اغسطس 2011 مركز الامارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية
http://www.ecssr.ac.ae/ECSSR/appmanager/portal/ecssr?_nfpb=true&lang=ar&_pageLabel=featuredTopicsPage&ftId=%2FFeatureTopic%2FNevine_Mossaad%2FFeatureTopic_1428.xml&lang=ar&_event=viewFeaturedTopic&_nfls=false
عوني فارس : تركيا والقضية الفلسطينية.. تطلعات شعوب ومحددات ساسة. مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 2/12/2009، على الرابط:
http://www.alzaytouna.net/arabic/?c=198&a=103848

للإطلاع على هوامش المقال أو نسخه يرجى التحميل على الرابط التالي




الخميس 24 نونبر 2011

تعليق جديد
Twitter