MarocDroit  -  موقع العلوم القانونية
plateforme des décideurs juridiques - Platform of Legal Decision-Makers



الجهوية و اللاتمركز الإداري من منظور خطاب العرش الملكي الأخير

     

عبد الصمد الركيك
باحث في القانون العام



الجهوية و اللاتمركز الإداري من منظور خطاب العرش  الملكي الأخير
إن أهمية الخطاب الملكي في تحديد السياسة العامة، تجعل من هذه الأخيرة تجسيدا للخطوط العريضة التي يشير إليها جلالة الملك في خطبه السامية بخصوص الميادين السياسية والاقتصادية وكذا الاجتماعية.

و يشكل الخطاب الملكي بمناسبة عيد العرش المجيد بتاريخ 30يوليوز 2012، التذكير المرجعي الموجه للاختيار الجهوي المتقدم، بل بالإمكان الإقرار بوجود خارطة طريق ملكية للجهوية المأمولة.

فإذا كانت اللامركزية الجهوية هي الغاية، فإن اللاتمركز الإداري يعد الوسيلة لتحقيق تلك الغاية .

لذلك أجمع الباحثون و المهتمون بموضوع الجهة،أن اللامركزية الجهوية أصبحت البديل والأداة الأساسية لخوض معركة التنمية،بحيث تشكل شرط جوهري لتنظيم وإعداد مجال ترابي قادر على تحقيق توازن بين اللامركزية الجهوية و اللاتمركز الإداري ،تمنح للسكان حق إدارة شؤونهم بالشكل الذي يجعل عملية اتخاذ القرار تستجيب لتنمية الأنشطة الاقتصادية و الاجتماعية. بل الأكثر من ذلك فقد أراد جلالته جعل الجهوية المتقدمة المنطلق لإيجاد أجوبة خلاقة للقضايا المغربية الكبرى، وهو الشيء الذي يحتم على الجميع من فاعلين ومجتمع مدني واقتصاديين المساهمة في الوظيفة الجهوية المرتقبة من أجل المشاركة في صنع القرار المتعلق بمستقبلهم . فالإدارة في العصر الحالي لم تعد تعتمد على الهيئات المركزية فحسب،بل تجاوزت ذلك لتجعل من لاتمركز القرار ولامركزية الأنشطة الاقتصادية و الاجتماعية أساسا لتحقيق التنمية المندمجة و المتوازنة تشمل كافة المجالات و القطاعات الحيوية،وهي الوظيفة المرتقبة من الجهوية المتقدمة التي ستعمل على تدشين جيل جديد من الإصلاحات المؤسساتية،وإرادة تغييرية مستقبلية لنمط تدبير مجالنا الترابي،وفق قواعد القرب و الحكامة الجيدة و التقطيع الترابي المنطلق من محددات وغايات ترمي إلى محاربة الفقر و التهميش و الهشاشة و الإقصاء،إنها عودة نحو المحلي في وقت استنفدت فيه كل السياسات التنموية المنطلقة من المركز و ما يمكن أن تحققه،في تجسيد تقلص دور الدولة الحائزة لوحدها على ميكانيزمات السلطة و التي تسمح بتشكيل فضاءات مجالية منافسة خارج وصاية المركز .

إن ضرورة التنمية المندمجة، وأهمية مفاهيم الديمقراطية والحكامة والحرية في أسلوب الإدارة المعاصرة المحفزة لمشاركة السكان في القرار التنموي، أدت إلى التفكير في إعادة النظر في مكنزمات الإدارة الترابية والأسس التي تقوم عليها وإعادة تأطيرها لتساير المعطيات الداخلية والخارجية،في سبيل تقدم ورفاهية التراب الوطني.

وجاء تبني هذه المفاهيم في الخطاب السياسي نتيجة تراكمات سوسيوسياسية واقتصادية طبعت تطور المجتمع المغربي في الأوانة الأخيرة.

لذلك لجأت أغلب الدول إلى إتباع تنظيم اللامركزية الجهوية لرصد متطلبات السكان وتحديد احتياجات الحياة اليومية،وكان المغرب من بين الدول التي سارعت إلى ذلك بعد استقلاله السياسي،وجعل من الاختيار اللامركزي المقرون باللاتمركز الإداري أحد أسس الإدارة الترابية،من أجل تشييد دعائم الدولة المغربية المعاصرة.

إلا أن هذا الإهتمام سيتعزز أكثر فأكثر من خلال محدودية التجربة الجهوية لسنة 1997، التي ساهمت بشكل وافر في تطوير الوعي بأهمية اللامركزية المقرون باللامركزية الإدارية كأسلوب للإدارة والتسيير،خصوصا أن الخلاصات التقييمية لهذا المسار ومنها التقرير الذي أصدرته اللجنة الاستشارية للجهوية،انتهت إلى أن الآليات القانونية المؤطرة للجهة،لم تمكن من خلق شروط كبيرة للجهات تم دون رصد إمكانيات مالية مناسبة،إضافة إلى وجود تقطيع ترابي متضخم 16جهة بالنسبة لدولة لا تتعدى مساحتها الترابية710.000كلم مربع،وغير منسجم وغير موفر لشروط "أحواض الحياة" بالنسبة للجهات .

لكل ذلك، يطرح موضوع الجهوية المتقدمة تساؤلا مبدئيا، يهم في المقام الأول إشكالية التحديد لمفاهيمي لمثل هذه المصطلحات التي أصبحت حاضر وبقوة في المقاربات المقارنة للتنمية والتنمية المستدامة، وأيضا أصبح لها نفس الحضور خاصة في الاهتمام المرتبط بالمسار العام للتطور اللامركزي المغربي سواء في أبعاده التاريخية القديمة، أو في أبعاده الحاضرة من خلال التراكم الموضوعي لتجربة التنظيم الجهوي في ظل القانون رقم 47/96، وكذا الأبعاد المستقبلية لذات المفهوم من خلال المسار الذي تعرفه القضية الوطنية الأولى (قضية الصحراء) والدفع المغربي لمبادرة الحكم الذاتي، وكذا التحول المتجدد للتعاطي مع مفهومي اللامركزية واللاتمركز الإداري من خلال تطوير ورش الجهوية للانتقال بهذه الأخيرة من مقاربة تقليدية ذات جوهر إداري، إلى جهوية متقدمة ذات جوهر اقتصادي وتنموي ، وهو مفهوم ذهبت إليه العديد من القراءات، حيث نلاحظ أن هناك خلط بين الجهوية المتقدمة والجهوية الموسعة التي تختلف جذريا عنها شكلاومضمونا .

فالخطاب الملكي لذكرى المسيرة الخضراء بتاريخ 6 نونبر 2008 تحدث صراحة عن "جهوية متقدمة ومتدرجة، تشمل كل مناطق المملكة، وفي مقدمتها جهة الصحراء المغربية"، وهو ما تم تأكيده في الخطاب الملكي بمناسبة عيد العرش بتاريخ 30 يوليوز 2009 حيث دعا جلالته إلى "إقامة جهوية متقدمة..."، وجاءت نفس العبارة أيضا في الخطاب الملكي بتاريخ 3 يناير 2010 بمناسبة تنصيب اللجنة الاستشارية للجهوية.

فالأمر يتعلق تحديدا بجهوية متقدمة وليست موسعة، لأن الجهوية الموسعة تقوم على أساس الجهوية السياسية في إطار اللامركزية السياسية، والذي يتطلب وجود برلمانا جهويا حقيقيا وحكومة جهوية، حيث يقتصر دور ممثل السلطة المركزية على ضمان التنسيق بين المركز والجهات، وهو نموذج شبيه بالنظام المنشود في المقترح المغربي للحكم الذاتي بأقاليمنا الجنوبة .

أما الجهوية المتقدمة فيمكن تلخيصها في نظام أكثر تقدما للجهوية من النظام المطبق حاليا، بمعنى أن عملية الإصلاح يجب أن تنطلق مما هو موجود مع توسيع اختصاصات الجهات وإعادة تركيب البنيات الجهوية، وتخويل المنتخبين الاختصاصات التقريرية والتنفيذية، وإيجاد نظام يعزز الاستقلالية المالية والتدبيرية للجهات وإعادة النظر في علاقتها بالسلطات المركزية،من حيث إقرار ميثاق فعال وحقبقي اللاتمركز الإداري يكون منسجم و ملازم للجهوية المتقدمة ، كما دعا إلى ذلك صاحب الجلالة الملك محمد السادس في خطابه الأخير بتاريخ 30يوليوز2012 بمناسبة عيد العرش المجيد، الذي يعتبر الإطار المرجعي للامركزية الجهوية و اللاتمركز الإداري من خلال خطبه السامية،و التي يمكن أن نستشف من خلالها مفهوم الجهوية المتقدمة المعبرة عن تصور قانوني/سياسي إداري و اقتصادي لعلاقة المركز/العاصمة بمحيطها الترابي،بحيث على ضوئها يتم تحديد نمط التنظيم السياسي و الإداري الذي يساعد على توزيع السلطة وإعادة هيكلة المؤسسات داخل الدولة،حيث أدت التراكمات السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية بالمغرب إلى ضرورة تحقيق وقفة تأملية،كفيلة بتقييم الوضع الحالي وتحليل حصيلة المراحل السابقة،وحصر ما تم تحقيقه على مختلف المستويات.

ومن تم جاء تدشين مرحلة جديدة في مسلسل اللامركزية الجهوية،بتبني الجهة أعلى جماعة ترابية في التنظيم الترابي بالمملكة بموجب دستور فاتح يوليوز2011 ( الباب التاسع والمنظم بالفصول من 135 إلى 145 منه)وإنطلاق إصلاح جهوي جديد يرتكز على توازن فعال بين اللامركزية الجهوية و اللاتمركز الإداري بناء على مبدأ التفريع.

وفي نفس المنحنى جاء التقرير الختامي للجنة الاستشارية لبلورة الإرادة الملكية حول الجهوية المتقدمة، حيث دعا جلالته إلى جعل الجهوية " تحولا نوعيا في أنماط الحكامة الترابية "، وذكر جلالته في خطابه المؤرخ في 3 يناير 2010 على أن الجهوية المتقدمة ستعمل على إعادة توزيع الاختصاصات بشكل منسجم على مختلف المستويات الإدارية وتترجم بتضامن كبير ما بين الجهات، ولا تغير في الثوابت السامية لوحدة الدولة والأمة والتراب ،وهو تأكيد نجده في خطاب العرش المجيد بتاريخ 30يوليوز2012 داعيا في تفس الإطار الحكومة للإعداد ميثاق حول اللاتمركز الإداري.

وهنا تتجلى لنا أهمية الرهان، من خلال خطاب الملكي الأخير بتاريخ 30يوليوز 2012 بمناسبة عيد العرش المجيد، وما قدمه من توجيهات تسمح للمغرب بالانتقال من تنظيم إداري مبني على مركزية مفرطة،إلى نظام يتأسس على الحكامة الجيدة والمقاربة الترابية أي نظام إداري جديد يشيه إلى حد كبير،الأنظمة المطبقة في الدول الجهوية كإسبانيا وإيطاليا.

لذلك، فإن الأمر يقتضي منا التساؤل حول كيفية تحقيق التوازن بين اللامركزية الجهوية و اللاتمركز الإداري في إطار الجهوية المتقدمة بالمغرب،ذلك أن الخاصية العامة لعيوب اللامركزية الإدارية المغربية هو ضعف التوازن المولى لكل من مبدأ اللامركزية و اللاتمركز الإداري في التطور الإداري العام الوطني و الذي أصبح يقتضي بحق ضرورة تبني لا تمركز الدولة.

ولتحقيق هذه الأهداف،فإن اللامركزية الجهوية مدعوة للأن تصبح الإطار الأوسع للتنسيق بين مختلف القطاعات الحكومية لتفادي مشكل تداخل الاختصاصات أو التخلي عنها،غير أن تفعيل دور الجهة وتقوية اختصاصاتها لن يكتمل في نظرنا إلا بتحديد وتوزيع الاختصاصات ما بينها وبين الجماعات الترابية الأخرى،مع اعتماد تناسق و توازن في الصلاحيات و الإمكانيات بين مختلف الجماعات الترابية و السلطات العمومية،لتجاوز مشكل رهان السلطة على مستوى الجهوي بين السلطات اللامركزية ونظيرتها المعينة-والي الجهة- في إطار سياسة اللاتمركز الإداري، فجلالته دعا إلى جهوية متقدمة بمجالس ديمقراطية وصلاحيات موسعة وهو ما يعني في نظرنا إعادة النظر في علاقة الدولة بهذا النوع من الجماعات من حيث الاختصاصات،بل يجب أن يكون المبدأ الذي يحكم هذه العلاقة هو "مبدأ التفريع أو الفرعية. Principe de Subsidiarité (الفصل 140 الفقرة الثانية من دستور المملكة المغربية لفاتح يوليوز 2011).

هكذا إذن،فإن اللاتمركز الحقيقي و الفعال يقتضي أن لا تقتصر المصالح اللاممركزة على تنفيذ الأوامر،و التوجيهات،و التعليمات،و القرارات المركزية من خلال قرارات أخرى تطبيقية فردية،وإنما أن تقوم هذه المصالح الترابية المحلية التقنية بأدوار مهمة في مجال التنمية الجهوية.

لذلك نرى أن ما قصده الملك في أكثر من خطاب وخاصة الخطاب الأخير بتاريخ 30يوليوز 2012 بمناسبة عيد العرش المجيد، حول اللاتمركز الإداري، هو نقل السلطة التقريرية للمصالح اللاممركزة لجعلها فعلا سلطة محلية حقيقية وفاعلة في المجال المحلي،كما نرى كذلك أن ينصب هذا النقل على جميع الصلاحيات التي لها طابع جهوي في حين تقتصر المصالح المركزية على الوظائف التي لها طبيعة وطنية عامة أو تتجاوز الجهة الواحدة إلى جهتين أوأكثر بل وإلى مجموع التراب الوطن.

وخلاصة القول،فإن الوضعية الاقتصادية و الاجتماعية تفرض على المشرع العادي(البرلمان) و الفرعي (الحكومة) الإسراع في إنزال المقتضيات الدستورية إلى حيز الوجود من خلال:

*إصدار القانون التنظيمي المتعلق بالجهات و المراسيم التطبيقية له
*إعداد ميثاق حول اللاتمركز الإداري


النسخة الحاملة للهوامش




الثلاثاء 13 نونبر 2012

تعليق جديد
Twitter