MarocDroit  -  موقع العلوم القانونية
plateforme des décideurs juridiques - Platform of Legal Decision-Makers





البعد المفاهيمي من أجل تصوير القضاء الجنائي الجزائري

     



البعد المفاهيمي من أجل تصوير القضاء الجنائي الجزائري


د عبد العزيز خنفوسي

 أستاذ جامعي دائم

كلية الحقوق والعلوم السياسية، جامعة الدكتور "مولاي الطاهر" بسعيدة، الجزائر.











 
مقدمة:

لكل سلطة من سلطات الدولة وظائف محددة بنصوص دستورية، وهذا بشكل يضمن سيادة مبدأ المشروعية ويكفل الحريات الفردية، وكما لا يحق لها تجاوز هذه الوظائف، فإنه لا يجوز التنازل عن جزء منها، والوسيلة الناجعة في ذلك حسب تعبير الفقيه "مونتسكيو" هي قيام كل سلطة بإيقاف السلطتين الأخريين عند حدهما.
هذا وقد أثبتت التجارب أن السلطتين التنفيذية والتشريعية - باعتبارهما سلطتين سياستين- يمكن أن تتعاونا أو حتى أن تندمجا فيما بينهما عن طريق تطبيق الديمقراطية السياسية المنتجة للحزب الغالب في الحكم والبرلمان، أما السلطة القضائية فطبيعة عملها تستدعي استقلالها لتكون محايدة في نشاطها القضائي.
ويعني استقلال القضاء أن تقوم المحاكم بعملها مستقلة عن سائر الهيئات الحكومية، فالفصل في المنازعات هو من اختصاص السلطة القضائية التي لا تخضع في عملها لغير القانون، فليس لأية سلطة الحق في أن تملي على المحكمة أو توحي إليها بوجه الحكم في أية دعوى منظور أمامها، أو أن تعدل الحكم الذي أصدره القضاء أو توقف تنفيذه.
ولما كان القضاء الجنائي جزءًا لا يتجزأ من القضاء بأكمله، فإنه من الواجب علينا أن نتعرض لتنظيم القضاء الجنائي، وهذا من خلال الوقوف على ماهيته، التعرض لضمانات القضاء الجنائي، إبراز المبادئ التي تحكم هذا القضاء.

أولا: المقصود بالقضاء الجنائي.

إن المقصود بالقضاء الجنائي هو كل نشاط السلطة القضائية في كل ما يختص بنسبة الجريمة إلى محدثها (فاعلها أو مرتكبها) والعقاب عليها، فهذا هو الموضوع الأصيل لقانون الإجراءات الجزائية، وهو ما يخرج عن اختصاص القانون الدستوري أو القانون الإداري.
وفي تحديد المقصود بنشاط السلطة القضائية في المسائل الجنائية وجدنا أنه لابد أن نعرض لفكرة العمل القضائي(1)، ذلك أن نشاط السلطة القضائية يمكن أن يكون موضوعا لفروع شتى من القانون، أما ذلك النشاط الذي يكون بمثابة الموضوع الأصيل لقانون الإجراءات الجزائية فهو الأعمال القضائية الجنائية، أي تلك الأعمال التي تهدف إلى فض النزاع الجنائي - استنادا إلى نموذج قانون جنائي-، وتنتهي في نهاية الأمر إلى تحديد الحقوق والواجبات بصورة جادة.
 
 
ثانيا: ضمانات القضاء الجنائي.

لا تنصرف ضمانات القضاء الجنائي إلى القضاء كسلطة أو القاضي كحكم في خصومة قضائية وحدها، وإنما تنصرف إلى المتقاضين أيضا.
فسلطة القضاء الجنائي تتمتع بالاستقلال إزاء غيرها من السلطات، والقاضي الجنائي يتمتع بالحيدة في نظر الخصومات، والمتقاضون يكفل لهم القانون حقا في اللجوء إلى "قاضيهم الطبيعي"، كما يكفل لهم "المساواة" أما القانون والقضاء، وعليه يمكن القول بأن ضمانات القضاء الجنائي تنحصر في أربعة مسائل أساسية وهامة هي: الاستقلال والحيدة والقضاء الطبيعي والمساواة، وسوف نتناول هذه الأمور تباعا لما يلي:

1- استقلال القضاء:

    إن استقلال القضاء وحصانته ضمانان أساسيان لحماية الحقوق والحريات، وفي هذا الصدد نجد أن المادة 138 من دستور 1989 الجزائري المعدل والمتمم تنص على ما يلي:" السلطة القضائية مستقلة وتمارس في إطار القانون"، ومن جهة أخرى نجد أن المادة 139 من نفس الدستور تنص على ما يلي:" تحمي السلطة القضائية المجتمع والحريات، وتضمن للجميع ولكل واحد المحافظة على حقوقهم الأساسية".
من ذلك يتضح لنا أن القضاء سلطة مستقلة عن سائر السلطات تنفيذية كانت أو تشريعية، ولا سلطان لإحداهما عليها في ممارستها لأعمالها القضائية، فلا تستطيع الحكومة أن تملي عليها قرارا أو إجراءًا أو حكما، كما لا تملك السلطة التشريعية أن تنازعها اختصاصها القضائي بأية ذريعة، ذلك لأنها إن فعلت ذلك قوضت - باسم القانون- ضمانا أساسيا للحقوق والحريات، ودعامة رئيسية من دعامات دولة القانون بحكم الدستور(2).
كذلك فإن القاضي يستمد استقلاله في عمله القضائي من استقلال القضاء إزاء غيره من السلطات، فالمجلس الأعلى للقضاء هو المختص بنظر كل ما يتعلق بشؤون القضاء الإدارية تعيينا وترقية ونقلا وندبا طبقا للمادة 155 من نفس الدستور السابق التي نجدها تقول:" يقرر المجلس الأعلى للقضاء طبقا للشروط التي يحددها القانون، تعيين القضاة، ونقلهم، وسير سلمهم الوظيفي.
ويسهر على احترام أحكام القانون الأساسي للقضاء، وعلى رقابة انضباط القضاة تحت رئاسة الرئيس الأول للمحكمة العليا ".
 
 
وبالتالي يمكن القول بأنه ليس للنيابة العامة أي تأثير على القاضي الجزائي، وإنما هي تتقدم بطلباتها ويفصل فيها طبقا للقانون، كما أنه لا تأثير لقضاء أعلى على قضاء أدنى، أو قيام رئيس المحكمة ببسط سلطته على قضاة المحكمة، وإنما يستمد القاضي الجنائي سلطاته من القانون ولا سلطان عليه إلا سلطان الضمير.

2- حياد القاضي:

نقصد بهذا المبدأ التأكيد على أن القاضي الجنائي - في عمله القضائي- لا ينحاز لطرف على حساب طرف آخر ولا يخضع لهوى أو شفاعة أو طلب، وإنما يجري في حكمه  بناءًا على مقتضى القانون والضمير، ولقد أراد القانون أن يحصنه إزاء الميل أو الهوى وشبهة المنفعة، فحظر عليه الاشتغال بالعمل السياسي، أو القيام بأي عمل تجاري، كما حظر عليه أن يشتري باسمه أو باسم مستعار الحق المتنازع فيه كله أو بعضه إذا كان النظر في النزاع يدخل في اختصاص المحكمة التي يباشر عمله في دائرتها (المادة 402 من القانون المدني الجزائري المعدل والمتمم).

3- القاضي الطبيعي:

إن محاكمة المتهم أمام قاضيه الطبيعي حق كفله الدستور المصري في المادة 68 التي تناولت هذا الحق بقولها:" لكل مواطن حق الالتجاء إلى قاضيه الطبيعي"، والمقصود بالمواطن هنا أي طرف من أطراف الخصومة مواطنا كان أو غير مواطن، فهذه ضمانة للعدل في القضاء وهي مبسوطة لكل من وقف موقف الاتهام وأيا كان جنسه أو جنسيته.
أما الدستور الجزائري فقد نص على هذا الحق في المادة 140 من دستور 1989 المعدل والمتمم بقولها:" أساس القضاء مبادئ الشرعية والمساواة. الكل سواسية أمام القضاء، وهو في متناول الجميع ويجسده احترام القانون".
وبالتالي ثمة خلاف في الفقه حول معنى "القاضي الطبيعي"، ولكنه في الحقيقة يدرك بالبداهة قبل أن يُدرك بالاجتهاد، إذ هو القضاء صاحب الولاية أصلا في نظر الدعوى وقت ارتكاب الجريمة، والذي يُقدم إليه المتهم محاطا بكافة الضمانات التي كفلها له الدستور والقانون بقصد تحقيق محاكمة عادلة(3).
وأما الضمانات التي قررها الدستور الجزائري المعدل والمتمم فهي كثيرة وعديدة، وهذا مثل كفالة الحرية الشخصية طبقا للمادة 39 من دستور 1989 المعدل والمتمم، واستقلال القضاء (المادة 138)، وشرعية الجرائم والعقوبات (المادة 46)، وقرنية البراءة في أن كل شخص يُعتبر بريئا حتى تثبت جهة قضائية نظامية إدانته (المادة 45)، ومبدأ المساواة أمام القانون (المادة 29)، وكفالة حق الدفاع أصالة أو بالوكالة معترف به، وكذا الحق في الدفاع مضمون في القضايا الجزائية حسب ما جاء في المادة (151).
هذا وهناك ضمانات أخرى رتبها القانون تتمثل في الآتي: مبدأ الفصل بين قضاء التحقيق وقضاء الحكم، ومبدأ التقاضي على درجتين، واشتراط الإجماع عند الحكم بالإعدام والطعن في الأحكام الغيابية بالمعارضة والطعن في الأحكام النهائية (الباتة) الحائزة لقوة الشيء المقضي به بطريق الطعن بالنقض أمام المحكمة العليا(4).
والأصل أن تتوافر هذه الضمانات في القضاء العادي الذي يعتبر القضاء الجنائي جزء منه، وهنا لاشك في أن تكون للمتهم مصلحة في اللجوء إليه بوصفه "قاضيه الطبيعي"، على أنه إذا استخلص المشرع من ولاية هذا القضاء بعض الدعاوى الخاصة ببعض الجرائم أو بعض المتهمين، وأنشأ لها قضاءً خاصا (كقضاء الأحداث)، فإن هذا لا يقدح في كون أن هذا القضاء يعتبر قضاءً طبيعيا طالما يتمتع بذات الضمانات الدستورية والإجرائية إن لم يكن أكثر.
ولكن الصعوبة تظهر عندما ينعقد الاختصاص لنوعين من القضاء هما: القضاء العادي والقضاء الاستثنائي (كالمحاكم العسكرية ومحاكم أمن الدولة)، فإن هذا لا يمنع من اعتبار أحدهما "قضاءً طبيعيا" بالنسبة للآخر متى كان حظه من الضمانات أوفر، وتكون للمتهم مصلحة في التمسك بحقه الدستوري في اللجوء إلى قاضيه الطبيعي وهو القضاء الذي يوفر له الضمانات الأوفى في محاكمة عادلة.

4- المساواة أما القانون:

يأتي مبدأ المساواة أمام القانون على رأس المبادئ التي تحمي الحريات وتصون الحقوق، وهذا لأنه أساس العدل والحرية والسلام الاجتماعي.
ولقد نص الدستور الجزائري في المادة 29 على هذا المبدأ في الباب الأول الخاص بالمبادئ العامة التي تحكم المجتمع الجزائري بقوله:" كل المواطنين سواسية أمام القانون. ولا يمكن أن يتذرع بأي تمييز يعود سببه إلى المولد، أو العرق، أو الجنس، أو الرأي، أو أي شرط أو ظرف آخر، شخصي أو اجتماعي".
وعليه فإن الأساسيات التي ذكرتها المادة 29 من الدستور لا تفرق بين المواطنين بل إنها تجمع بينهم، أو إن شئت فهي تساوي بينهم، وكل مواطن في مركز قانوني معين يجب أن يحظى بنفس المعاملة التي يحظى بها مواطن آخر في نفس المركز، ولا يجوز التمييز بينهما بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة، بل لا يجوز التمييز بينهما لأسباب أخرى تتعلق بالمولد أو المركز الاجتماعي أو الانتماء الطبقي أو الفئوي أو السياسي، فهذه كلها أسباب يتسع لها النص وتدخل في الإطار العام لمبدأ المساواة في الحريات والحقوق والواجبات، والمساواة أمام القانون لا تعني التماثل التام في الحقوق والواجبات، وإنما تعني التماثل في التمتع بالضمانات المقررة لحقوق المواطنين كلما وجد شخصان في نفس المركز القانوني ومهما كان اختلافهما في سائر الأسباب.
هذا وتتفرع عن المبدأ السابق مجموعة من الحقوق والحريات يكفل الدستور حمايتها لسائر المواطنين، فالحرية الشخصية، وحرية العقيدة وممارسة الشعائر الدينية وحرية الرأي، وحرية الانتقال والإقامة وحرية الصحافة والنشر، وحرية البحث العلمي والأدبي والإبداع الفني والثقافي كلها حريات يكفلها الدستور الجزائري (راجع المواد 36، 37، 38، 39)، وكذا حق الهجرة وحق الاجتماع وتكوين جمعيات وإنشاء النقابات والاتحادات، وحق الانتخاب والترشح وإبداء الرأي في الاستفتاء، وحق التقاضي وحق الدفاع أصالة أو بالوكالة فهي كلها حقوق مكفولة بنصوص الدستور طبقا للمواد (41، 42، 43، 44، 45، 46، 50، 51، 56...الخ).
والذي يهمنا من هذه الحقوق هو "حق التقاضي"، كما يهمنا أن نقف على مداه في ظل مبدأ المساواة، وما يستتبع ذلك من تحقيق التكافؤ بين المتقاضين في الحقوق والواجبات، وقد نصت المادة 140 من دستور 1989 المعدل والمتمم على ما يلي:" أساس القضاء مبادئ الشرعية والمساواة، الكل سواسية أمام القضاء، وهو في متناول الجميع ويجسده احترام القانون".
وظاهر هذا النص أن الناس سواسية أمام القضاء لا فرق بين مواطن ومواطن، أو بين مواطن وأجنبي، كما لا فرق بين قضاء مدني وقضاء جنائي، أو قضاء عام وقضاء خاص أو استثنائي.
وإذا كان مبدأ المساواة لا يفرض على القضاء أن يعطي للناس كافة نفس الحقوق ويحملهم بنفس الواجبات، فإن ذلك شرطه أن يكونوا في ذات "المركز القانوني"، بما يستتبعه ذلك من تحمليهم بنفس الآثار، ومن أجل هذا فلا يخل بمبدأ المساواة أن يختص المشرع بعض الأشخاص بمحاكم خاصة على أساس الاعتداد بعامل السن أو عامل الوظيفة العامة فيؤثرها بمحاكم خاصة (محاكم الأحداث)، أو قواعد إجرائية خاصة طالما أن هذه المحاكم أو تلك القواعد لا تخرج عن الأصول العامة لقواعد الإجراءات(5).
وبالتالي يثور الخلاف في صدد الإجراءات المتعلقة بمحاكمة رئيس الجمهورية والوزير الأول، إذ خصهما القانون بمحكمة خاصة تختلف في تشكيلتها والإجراءات التي تتبع أمامها ومباشرة سلطة الاتهام فيها، ومراجعة أحكامها عن ما تقرره القواعد العامة في قانون الإجراءات الجزائية، وهو ما يوحي بالخروج على مبدأ المساواة أمام القضاء.
بيد أننا نعتقد أن التزام المشرع بتشكيل هذه المحكمة لا يُعد خروجا على مبادئ الدستور، إذ أن المادة 158 من دستور 1989 المعدل والمتمم توجب أن تؤسس محكمة عليا للدولة تختص بمحاكمة رئيس الجمهورية عن الأفعال التي يمكن وصفها بالخيانة العظمى، والوزير الأول عن الجنايات والجنح التي يرتكبانها بمناسبة تأديتهما مهامهما. هذا ويحدد القانون العضوي تشكيلة المحكمة العليا للدولة وتنظيمها وسيرها وكذلك الإجراءات المطبقة.
ومؤدى ما سبق أن القواعد الخاصة بمحاكمة رئيس الجمهورية والوزير الأول أمام محكمة عليا للدولة، إنما أوصى بها دستور 1989 المعدل والمتمم نفسه على ما رأينا، ومن ثم فلا خروج على مبدأ المساواة في هذا الصدد، وإنما يتم الخروج عليه إذا غالى المشرع في التنظيم القضائي لهذه المحكمة بما يخرج الإجراءات المقررة فيها عن المبادئ المقررة في الدستور.
والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا الصدد: لماذا لم يتم إنشاء هذه المحكمة إلى حد هذه الساعة؟

ثالثا: المبادئ الأساسية التي تحكم القضاء الجنائي.

         ثمة مبادئ أساسية ثلاثة تحكم فكرة القضاء الجنائي الجزائري، ويُعتبر الخروج عليها عيبا يلحق العمل الإجرائي المخالف إياها، ويرتب - كجزاء- إما بطلان العمل أو انعدامه.
وهذه المبادئ الثلاثة هي:
  1. مبدأ عدم وحدة القضاء الجزائي والقضاء المدني: إن هذا المبدأ قد ظهر في الآونة الأخيرة، وهذا ليس فقط لاعتبارات عملية تساعد على استقرار العدالة، وإنما لدواع علمية تفرضها طبيعة العمل من ناحية وأهداف القانون الجنائي من ناحية ثانية.
ومما لاشك فيه أننا نحيا في عصر "التخصص العلمي"، ولا جدال في أن القانون ليس فنا محضا ولكنه علم قبل كل شيء، وتطور أفكار القانون وانضباط أحكامه وتحديد قواعده واكتشاف مبادئه إنما هي وليدة البحث العلمي قبل كل شيء.
وفضلا عما سبق فثمة خلاف جوهري بين الخصومة الجنائية والخصومة المدنية لا يعود فحسب إلى اختلافهما موضوعا وسببا وأطرافا، وإنما يعود أيضا إلى اختلاف القانون الجنائي عن القانون المدني طبيعة وأهدافا.
فمن المسلم به الآن فقها وقضاءً ما يتمتع به قانون العقوبات من ذاتية تحمل المفسر على إعطائه دلالة خاصة لذات الأفكار التي يعرفها القانون المدني، ففكرة المنقول والحيازة والعقد الباطل والمركز الظاهر والإفلاس والمسؤولية والغلط دلالات في القانون الجزائي حملت الفقه على القول "بذاتية قانون العقوبات".
كذلك من المسلم به الآن أن هدف القانون الجنائي لا ينحصر في فكرة الردع العام أو الخاص، وإنما يمتد إلى وقاية المجتمع وإلى إصلاح المجرم، ولهذا فقد وُجدت إلى جانب العقوبة تدابير احترازية أو وقائية وتدابير إصلاح (حماية وتأديبا)، وتطبيق هذه التدابير بل وتقدير العقوبة ذاتها لا يحتاج إلى بصيرة قانونية فحسب، وإنما يحتاج إلى ثقافة خاصة تتكفل بها الآن علوم متخصصة مساعدة لقانون العقوبات، وهذا مثل علم الإجرام وعلم النفس الجنائي وعلم الاجتماع الجنائي وعلم العقاب، وهذا لا يتأتى إلا بتخصص القاضي الجنائي.
  1. مبدأ الفصل بين قضاء التحقيق وقضاء الحكم: من المبادئ الجوهرية في قانون الإجراءات الجزائية الجزائري مبدأ الفصل بين قاضي التحقيق وقاضي الحكم، ومعنى ذلك أنه لا يحق أو لا يجوز لمن تولى التحقيق أن يحكم في ذات الخصومة التي تولى التحقيق فيها، وهذا المبدأ قننته المادة 247/02 من قانون الإجراءات الجنائية المصرية بقولها:" يُمتنع على القاضي أن يشترك في الحكم إذا كان قد قام في الدعوى بعمل من أعمال التحقيق أو الإحالة...".
وعليه يلاحظ هنا أننا نحمل قاضي التحقيق على معناه الواسع أي معنى القاضي الذي مارس سلطة التحقيق في الخصومة سواء أكان وكيل الجمهورية أو قاضي التحقيق(6).
  1. مبدأ التقاضي على درجتين: يحكم هذا المبدأ نظام القضاء الجنائي الجزائري بصفة عامة، ومؤداه أن الخصومة الجنائية لا يبث فيها نهائيا على مرحلة واحدة بل الأصل أنها لا تصبح نهائية إلا في مرحلة تالية سواء تعلقت بمخالفة أو جنحة أو جناية.
  • في المخالفات: تنص المادة 416 ف02 من ق.إ.ج.ج المعدل والمتمم على:" تكون قابلة للاستئناف:- الأحكام الصادرة في مواد المخالفات إذا قضت بعقوبة الحبس أو عقوبة غرامة تتجاوز المائة دينار أو إذا كانت العقوبة المستحقة تتجاوز الحبس خمسة أيام".
وأما المادة 417 من نفس القانون فجاءت كما يلي:" يتعلق حق الاستئناف
  1. بالمتهم
  2. والمسئول عن الحقوق المدنية .
  3. ووكيل الجمهورية .
  4. والنائب العام.
  5. والإدارات العامة في الأحوال التي تباشر فيها الدعوى العمومية
  6. و المدعي المدني.
وفي حالة الحكم بالتعويض المدني يتعلق حق الاستئناف بالمتهم وبالمسئول عن الحقوق المدنية.
ويتعلق هذا الحق بالمدعى المدني فيما يتصل بحقوقه المدنية فقط".
  • في الجنح: تنص المادة 416 ف01 من ق.إ.ج.ج المعدل والمتمم على ما يلي:" تكون قابلة للاستئناف:- الأحكام الصادرة في مواد الجنح".
  • في الجنايات: فبالرغم من أن الاختصاص فيها هو لمحكمة الجنايات وأحكامها غير قابلة للاستئناف، إلا أنه يلاحظ من ناحية أنه لا يجوز الإحالة على محكمة الجنايات إلا بضوابط معينة، فقد اشترط المشرع الجزائري طبقا للمادة 248 من ق.إ.ج.ج المعدل والمتمم أن تتم الإحالة إلى محكمة الجنايات بموجب قرار نهائي صادر عن غرفة الاتهام، الشيء الذي يمكن معه القول أن القرار الذي تصدره غرفة الاتهام يكاد يكون صادر عن درجة أولى من درجات التقاضي.
  •  
الخاتمة:

      تعد الحماية القضائية من مقومات القانون، حيث لا يعترف المشرع بحق معين لشخص دون أن يزوده بالوسيلة اللازمة للحصول عليه، فلا قانون بلا قاض، ولا حق أو واجب قانوني بلا قضاء يفرضه وخصومة تكون أداة له في حمايته.
      إن اللجوء إلى القضاء هو حق دستوري معترف به لكل شخص- طبيعيا كان أو معنويا- بلا تمييز بسبب الجنس أو الدين، فلا يسأل رافع الدعوى حين يستعمله إلا إذا أخطأ أو تعسف في ذلك، ولا تعد مجرد خسارة الدعوى داعيا لمساءلته إلا في حالات استثنائية.
      وعليه تقوم أغلبية النظم القانونية العالمية المقارنة والتي منها النظام القانوني الجزائري على مبادئ متماثلة ومتعددة يجمع بينها قاسم مشترك واحد هو وحدة الغرض الذي يتمثل في حسن سير العدالة، وكذلك من أجل تحقيق استقرار الأوضاع في الدولة وحصول الأشخاص على قضاء عادل بإجراءات مبسطة ونفقات قليلة.
 
 
الهوامش والمراجع:

(1)- أنظر: أحمد سديري، تكوين القاضي الجزائري، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1989، ص:15.
(2)- أنظر: عبد الحفيظ بن عابيد، استقلالية القضاء وسيادة القانون في ضوء التشريع الجزائري والممارسات، منشورات بغدادي، الجزائر، 2008، ص: 54.
(3)- أنظر: محند أمقران بوبشير، السلطة القضائية في الجزائر، دار الأمل للطباعة والنشر والتوزيع، تيزي وزو، الجزائر، 2002، ص: 68.
(4)- أنظر: محند أمقران بوبشير، عن انتفاء السلطة القضائية في الجزائر، رسالة دكتوراه دولة في القانون، كلية الحقوق، جامعة مولود معمري، تيزي وزو، الجزائر، 2006، ص: 73.
(5)- أنظر: شفيق شيخي، الاستقلال الوظيفي للقضاة في الجزائر، مذكرة لنيل درجة الماجستير في القانون العام، فرع: تحولات الدولة"، مدرسة الدكتوراه في القانون الأساسي والعلوم السياسية، كلية الحقوق، جامعة مولود معمري، تيزي وزو، الجزائر، 2010/2011، ص: 123.
(6)- أنظر: تنص المادة 545 من قانون الإجراءات الجزائية الجزائري المعدل والمتمم على ما يلي: "...وإما أن يكون قاضي التحقيق قد أصدر أمرا بإحالة الدعوى إلى جهة من جهات الحكم...".
 
 
 
 



الاربعاء 27 نونبر 2013

تعليق جديد
Twitter