تقديم عام:
يتشكل النظام الحزبي من التفاعلات المنظمة بين الأحزاب المتنافسة، وقد استخدم هذا المفهوم "النظام الحزبي" لأول مرة في الدراسات المنهجية من طرف الفقيه الفرنسي "موريس دوفرجيه" في كتابه الأحزاب السياسية، والذي يعرف الحزب السياسي بأنه "منظمة طويلة الأمد، تسعى إلى تأطير وتمثيل المواطنين عن طريق بلورة برنامج سياسي متميز، تحاول من خلاله الوصول إلى السلطة".
ويمكن التمييز في سياق الحديث عن الأنظمة الحزبية بين النظام الحزبي غير التنافسي الذي يتكرس حضوره في الدول غير الديمقراطية ويتوزع على نمطين، أي كل من نظام الحزب الوحيد من جهة، ونظام الحزب المسيطر من جهة ثانية. هذا في مقابل النظام الحزبي التنافسي الذي تعتمده في الغالب الديمقراطيات الليبرالية والذي يشمل كلا من نظام الثنائية الحزبية، ونظام التعددية الحزبية . وسينصرف اهتمامنا في هذا الحيز على تناول الإطار النظري لنظام التعددية الحزبية مع عرض بعض التطبيقات والنماذج العملية:
أولا: تعريف نظام التعددية الحزبية وأشكاله
إننا نصادف نظام التعددية الحزبية في الدول التي تقر قوانينها بوجود أكثر من حزبين على الأقل تتنافس فيما بينها للوصول إلى السلطة بطرق سلمية. ويعد التنوع الأيديولوجي والإثني والديني إحدى أهم العوامل المحددة لتبني نظام التعددية الحزبية من طرف الدول الحديثة، هذا إلى جانب وجود تناقضات اجتماعية وطبقية داخل الدولة الواحدة، بحيث قد يعبر كل حزب سياسي عن آمال وتطلعات طبقة اجتماعية معينة. كما تؤدي الإختلافات السياسية بين الجماعات دورا في اعتماد النظام الحزبي التعددي كتلك المتعلقة بتحديد شكل نظام الحكم (ملكي، جمهوري...)، بالإضافة إلى الخلافات القائمة على العصبيات القومية بخاصة في الدول التي تحتضن جماعات مختلفة من حيث الأصل الإثني والثقافي (كدعاة الإستقلال في إقليمي الباسك وكتالونيا في إسبانيا...).
وتأسيسا على ذلك، فإن نظام التعددية الحزبية يترجم واقع وجود مصالح متضاربة بين الشرائح والطبقات الإجتماعية المتنوعة داخل الدولة الواحدة، مما يصعب معه على حزب سياسي بمفرده أن يفلح في الحصول على الأغلبية البرلمانية الكافية التي تؤهله لتشكيل الجهاز التنفيذي. وتبعا لذلك تعمد الأحزاب إلى عقد تحالفات فيما بينها في ظل هذا النظام الحزبي، فقد نكون أمام تحالفات انتخابية ترتسم ملامحها قبل إجراء الإنتخابات لاسيما في الدول التي تتبنى نظاما انتخابيا في دورتين، كما قد تكون في شكل تحالفات حكومية تنعقد عند الشروع في تشكيل الحكومة بالنظر لاستحالة تشكلها من حزب واحد.
أما بخصوص أشكال وصور نظام تعدد الأحزاب فيتعين التمييز هنا بين التعددية الحزبية المفرطة أو المطلقة وبين التعددية الحزبية المعتدلة. أما الصنف الأول فهو يحيل إلى النظام الحزبي الذي يوجد به عدد كبير من الأحزاب الصغرى التي لا تسعى إلى التكتل أو التجمع، بحيث يتمسك كل حزب بموقفه الذي يترجم مصالح فئة محدودة، دون أن يعبأ بمحاولة التوفيق بين مصالح هذه الفئة ومصالح الفئات الأخرى مما يحول دون التوصل إلى بناء تحالفات قوية ومنسجمة بين تلك الأحزاب.
في حين يحيل نظام تعدد الأحزاب المعتدل إلى قيام تحالفات ثابتة تتمتع بقدر أكبر من الإنسجام والتآلف بما يؤدي إلى تشكل جبهتين كبيرتين، بحيث تضم كل جبهة عددا من الأحزاب المتقاربة في التوجهات السياسية والأيديولوجية (كأن تتحالف أحزاب اليسار الوسطي، وأقصى اليسار، إلى جانب الأحزاب البيئية). ففي هذه الحالة يتكون ائتلاف من حزبين كبيرين ينشطان إبان فترة الإنتخابات وداخل البرلمان بعد تشكيله مما يرسي نظاما يقترب إلى حد ما من نظام الحزبين السياسيين، ويجعل من نظام التعددية الحزبية المعتدلة مرحلة وسطى بين نظام التعددية الحزبية المفرطة ونظام الثنائية الحزبية القائم في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية.
كما يؤثر النظام الإنتخابي تأثيرا واضحا وحاسما في تحديد طبيعة نظام التعددية الحزبية، فلئن كان نظام الإقتراع الأغلبي على دورتين يشجع على قيام التعددية المعتدلة كما هو الشأن في انتخابات الجمعية الوطنية بفرنسا، فإن نظام التمثيل النسبي للأحزاب يشجع على قيام التعددية المفرطة كما هو الحال في الجزائر. وتجب الإشارة إلى أن هناك صنفا آخر من الباحثين يقيم تمييزا بين شكل لا متماثل من نظام تعدد الأحزاب حيث نجد حزب يتمتع بالأغلبية تنافسه في ذلك عدة أحزاب صغيرة غير قادة على تحقيق تحالف فيما بينها، في مقابل شكل متماثل حيث لا يتمكن أي حزب من الحصول على أغلبية مما يضطره إلى البحث عن تحالفات.
ثانيا: مزايا وعيوب نظام التعددية الحزبية
إن أهم ميزة لنظام التعددية الحزبية تكمن في كونه يسمح بتمثيلية أوسع لكافة شرائح المجتمع بانتماءاته وتوجهاته المختلفة (الطبقية، الأيديولوجية، الثقافية...)، كما أن نظام تعدد الأحزاب يمنح عدة خيارات للمواطنين في ظل تعدد وتنوع برامج ومواقف الأحزاب السياسية مما يسمح بتكريس ثقافة سياسية تؤمن بالتعددية وقبول الإختلاف سواء لدى النخب السياسية أو الجماهير باعتبارها إحدى أهم مقومات النظام الديمقراطي. وعطفا على ذلك، يسمح نظام التعددية الحزبية بخلق شروط المشاركة السياسية الإعتيادية وبخاصة حين يتعلق الأمر بأحزاب المعارضة التي تحرص على فضح تجاوزات وشطط السلطة التنفيذية والدفاع عن برامجها وأفكارها، ولذلك يعد هذا النوع من النظم الحزبية التنافسية إحدى أهم آليات الفصل بين السلطات والرقابة المتبادلة فيما بينها.
وبالرغم من مزايا نظام التعددية الحزبية، فإنه لا يخلو من عيوب ومساوئ عدة يأتي في مقدمتها عجزه عن تأمين الإستقرار السياسي والحكومي بصورة فعالة بخلاف ما هو عليه الحال في نظام الثنائية الحزبية، بحيث يحد نظام تعدد الأحزاب من إمكانية انبثاق أغلبية برلمانية ثابتة ومتجانسة وقادرة على مساندة الحكومة بإخلاص لمدة طويلة، وهو ما يفضي إلى تشكل مجالس برلمانية فسيفسائية غير مستقرة مما يؤدي في المحصلة إلى عدم استقرار في المؤسسات الدستورية للدولة وعلى رأسها السلطة التنفيذية من خلال التغيير المستمر والروتيني في هيكل الجهاز الحكومي.
وإلى جانب ذلك، فبخلاف نظام الثنائية الحزبية حيث يحاول كل من الحزبين المتنافسين الحصول على أكبر قدر ممكن من المساندة والتأييد الشعبي عن طريقة التوليف بين المطالب والمصالح الإجتماعية المتباينة، فإن نظام تعدد الأحزاب يبدو أقل قدرة على النهوض بوظيفة تجميع المصالح والحرص على المصلحة العامة. وبالتالي، فمن شأن العمل بنظام التعددية الحزبية أن يؤدي إلى إفراغ مفهوم المواطنة من جوهره لصالح الولاءات الفرعية والضيقة، ولاسيما في الدول التي تفتقر إلى تقاليد ديمقراطية راسخة وعريقة كما هو الشأن بالنسبة للأحزاب العراقية التي تأسست بعد عام 2003 على أساس إثني طائفي مذهبي لا على أساس الهوية الوطنية الجامعة.
وإذا كان نظام التعددية الحزبية يتيح خيارات أوسع أمام الكتلة الناخبة، فإن الناخب في ظل هذا النظام لا يختار الحكام بكيفية مباشرة، ولا يساهم في صنع القرارات الوطنية الهامة بقدر ما ينيط هذه المهمة بوسطاء وهم النواب الذين يعملون على تحقيق التحالف أو الإئتلاف البرلماني بين الأحزاب لتشكيل الحكومة، بالنظر لصعوبة حصول أي حزب على الأغلبية البرلمانية المطلقة التي تمكنه من تأليف الحكومة بمفرده وهو ما قد يدفع بالمواطنين إلى العزوف ووضع النظام السياسي موضع تساؤل. وإضافة إلى ذلك، يؤدي نظام تعدد الأحزاب إلى ضعف المعارضة البرلمانية، لأنها لا تتركز في يد حزب واحد يكرس لها كل طاقاته كما هو الشأن في نظام الثنائية الحزبية، وإنما تكون موزعة بين عدد من الأحزاب غير المتناسقة لجهة عملها وأهدافها ومبادئها.
ثالثا: نماذج عملية لنظام التعددية الحزبية
يعتبر النموذج الفرنسي من أبرز تطبيقات نظام التعددية الحزبية، حيث تتنافس مجموعة من الأحزاب السياسية فيما بينها لإيصال ممثليها إلى الجمعية الوطنية بغية تطبيق البرامج والأفكار التي تنادي بها حتى تعزز مشروعيتها بنظر ناخبيها، وتتمكن من الوصول إلى مراكز القرار إذا كانت تندرج ضمن أحزاب الموالاة، أو اقله محاولة التأثير فيه إن كانت في موقع المعارضة. وقد عرفت الأيام الأولى من الثورة الفرنسية سنة 1789 ظهور نواد كنادي اليعقوبيين الذي كان من أهم أعضائه "روبسبيير" (1758-1794) و"سان غيست" (1767-1794) مما شكل نواة أولى لظهور الأحزاب السياسية بمفهومها الحديث، إذ يوجد حاليا أكثر من أربعمائة حزب سياسي معترف به في فرنسا.
وبخصوص الإطار القانوني المنظم للأحزاب السياسية، يمكن الإحالة هنا إلى ما تضمنته المادة الرابعة من الباب الأول في الدستور الفرنسي التي أشارت إلى أن الأحزاب والتجمعات السياسية تساهم في التعبير عن الإقتراع، إذ يلاحظ أن الدستور الفرنسي لم يشر إلى الأحزاب إلا على أنها مساهمة في النشاط الإنتخابي متجاهلا أدوارها التقليدية (كالتأطير السياسي والوظيفة الإعلامية) والحديثة (مثل وظيفة الوساطة) في الحياة السياسية والديمقراطية. كما نص الدستور الفرنسي على أن الأحزاب السياسية تمارس نشاطها بحرية ولم يضع أية قيود على تشكيلها أو عملها ونشاطها طالما ظلت متقيدة بالمبادئ الأساسية للنظام السياسي الجمهوري.
وقد جرت العادة على تصنيف الأحزاب السياسية الفرنسية تحت توجهين سياسيين مركزيين: أحزاب اليمين في مقابل أحزاب اليسار، بحيث يضم كلا التوجهين أحزاب وسط وأخرى تتموضع في أقصى اليمين أو أقصى اليسار. هذا ويشار إلى أن هذه التسمية (يمين ويسار) تمتد بجذورها إلى عام 1789 حيث كان يجلس على يمين الجمعية التأسيسية أنصار النظام الملكي، بينما كان يجلس إلى اليسار أنصار الثورة ودعاة النظام الجمهوري. ومن أبرز أحزاب اليمين في فرنسا نذكر حزب الجمهوريين الذي يضم خليطا من القوى الليبرالية الديغولية واليمين الوسطي، إلى جانب حزب الجبهة الوطنية الذي يصنف في خانة اليمين المتطرف أو أقصى اليمين. أما أحزاب اليسار فيمكن الإشارة إلى الحزب الإشتراكي ذي التوجه المعتدل، إلى جانب أحزاب تقع في أقصى اليسار كالحزب الشيوعي وحزب فرنسا الأبية...
ومن جهة أخرى، يعد النظام السياسي الألماني من أبرز النماذج في تطبيق التعددية الحزبية، فإلى غاية سنة 1983 كانت الأحزاب الممثلة في البرلمان الألماني "بوندستاغ" هي الأحزاب عينها التي شكلت أول برلمان منتخب سنة 1949، وهي أحزاب الإتحاد المسيحي والحزب الديمقراطي الحر والإتحاد المسيحي الإجتماعي التي كانت تمثل كافة أنحاء ألمانيا تحت اسم "الإتحاد الديمقراطي المسيحي" باستثناء ولاية "بايرن"، والقاسم المشترك فيما بينها هو اندراجها ضمن تيار اليمين المحافظ بحيث كانت جزءا لا يتجزأ من عائلة الأحزاب الأوروبية المسيحية. غير أنه ما لبث أن برز على المشهد الحزبي الألماني أحزاب أخرى ممثلة في البرلمان الألماني كالحزب الإشتراكي الذي يصنف في يسار الوسط، إلى جانب حزب الخضر المدافع عن البيئة، وحزب البديل من أجل ألمانيا الذي يقع في أقصى اليمين...
قائمة المراجع:
- محمد زين الدين، القانون الدستوري والمؤسسات السياسية، ط3، الدار البيضاء، مطبعة النجاح الجديدة، 2016، ص: 215-229-231.
- جان ماري رانكان، علم السياسة، ترجمة: محمد عرب صاصيلا، بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1997، ص: 289.
- نعمان أحمد الخطيب، الوجيز في النظم السياسية، ط2، عمان، دار الثقافة للنشر والتوزيع، 2011، ص: 408.
- عبد الحميد بن علي، مقياس التنظيم الحزبي والأحزاب، السداسي الثاني، جامعة سعيدة الدكتور مولاي الطاهر، الجزائر، السنة الجامعية: 2019،2020.