MarocDroit  -  موقع العلوم القانونية
plateforme des décideurs juridiques - Platform of Legal Decision-Makers




مفهوم التفسيـر وأنواعه

     

ذ. محمد لشقار
باحث جامعي

كلية الحقوق

جامعة عبد المالك السعدي
طنجة



مفهوم التفسيـر وأنواعه
مقــدمة

إذا كان الأصل في النص القانوني أن يكون واضح الدلالة على المراد منه ولا يحتمل الدلالة على غيره ولا يحتاج المفسر إلى اجتهاد لتعيين المراد منه، لأن المشرع وضح ماقصده وعين ماأراده وكفى المفسر عناء الاجتهاد في تبيينه، الشيء الذي يتفق مع ما جاء في القواعد والأثار الرومانية " خير القوانين مالا يدع لاجتهاد القاضي إلا القليل".

إلا أنه واستثناء للأصل ترد بعض النصوص القانونية متضمنة لنوع من الخفاء والغموض تحتاج في تطبيقها إلى إزالته، أومحتملة أكثر من معنى مما يفرض ترجيح أحد المعاني وتعيين المراد، وهذا هو المراد من التفسير على اعتبار أن المفسر يوضح ما غمض من ألفاظ القاعدة القانونية، ويكمل ويفصل ما ورد مجملا في نصها، ويعمل على إزالة أوجه التناقض بين أحكامها. وهو في ذلك أي المفسر يقوم بعملية الاستنباط مما يفرض فيه أن يكون ملما بالمعرفة القانونية وبقواعد المنطق.

وفي مقابل ماسلف ذكره، فإن التفسير عند جمهور الفقهاء لاينصب إلا على المكتوب مما يثير طرح مجموعة من التساؤلات من قبيل ما المقصود بالتفسير؟ وماهي أسبابه ودواعيه؟ وماهي الوسائل والطرق التي يعتمدها في اجلاء معاني النص ودلالاته؟ وماهي أنواعه والجهات الممارسة له.

للاجابة على هذه الاشكاليات وغيرها ارتأينا تقسيم هذا الموضوع إلى:
المبحث الأول: مفهوم التفسير
المبحث الثاني: أنواع التفسير

المبحث الأول: مفهوم التفسير


سنحاول من خلال هذا المبحث أن نحدد المقصود من التفسير( المطلب الاول)، ثم لنخلص في النهاية إلى أسباب التفسير وطرقه ( المطلب الثاني

المطلب الأول: تعريف التفسير ونطاقه


أولا: تعريف التفسير


إن ما يلاحظه الباحث في موضوع التفسير هو تضارب تعاريف هذا الأخير واختلافها باختلاف توجهات رجال الفقه ومرجعياتهم.

أمام هذا الاختلاف والتنوع في تحديد المقصود من التفسير يمكن أن نورد بعضا من هذه التعاريف على أساس أن نتوصل إلى تعريف نعتمده على الأقل كمنطلق لدراستنا هذه.
ومن ثم، يقصد بالتفسير في اللغة مطلق التبيين، إذ يقال فسر الشيء يفسره، أي أبانه .

ويعرف التفسير في الإصطلاح القانوني حسب رأي صلاح الدين زكي بأنه تحديد المضمون الحقيقي للقاعدة القانونية بالكشف عن مختلف التطبيقات التي تنسحب عليها أحكامها وإضاح ما غمض من هذه الأحكام واستكمال النقص فيها ورفع ما قد يبدو في الظاهر من التناقض بين أجزائها أو يلوح من التعارض بينها وبين غيرها من القواعد القانونية .

وهو كذلك حسب رأي البعض أي تفسير القوانين
( Interprétation des lois )
تبيين معنى القاعدة القانونية المتضمنة في نص مكتوب .وتحديد المعنى الذي تتضمّنه القاعدة القانونية وتبين
نطاقها، حتى يمكن مطابقتها على الظروف الواقعية التي يثار بصددها تطبيق هذه القاعدة، وهو أيضاً الاستدلال على الحكم القانوني وعلى الحالة النموذجية التي وضع لها هذا الحكم من واقع الألفاظ التي عبّر بها المشرّع عن ذلك .

أما فقه الأصول فيرى بأن التفسير هو تبيين المراد من النص تبيينا صادرا من الشارع نفسه، بحيث يكون قاطعا للاحتمال والتأويل. ولا يعد التفسير في نظرهم كذلك إلا إذا كان التبيين صادرا من الشارع نفسه، بمعنى أن كل تفسير صادر عن غير الشارع كأن يصدر عن هيئة قضائية أو عن فقهاء القانون لا يعد سوى شرح وإضاح للقاعدة القانونية لكونه لا يقطع الاحتمال ولا يعبر عن إرادة الشارع بشكل قاطع.

وأن يكون التبيين الصادر عن الشارع تبيينا قاطعا للاحتمال، بمعنى لا بعتبر كل تبيين غير قاطع للاحتمال تفسيرا حتى وإن كان صادرا عن الشارع نفسه .

وهو رأي في نظرنا معاب لتشدده وتضييقه في تحديد مفهوم التفسير، واسناده مهام التفسير للهيئة التشريعية دون غيرها، الشيء الذي يقلل من قدرة وكفاءة باقي الهيئات الاخرى.

وباستقراء التعاريف السالفة الذكر تتضح الصعوبة التي تعتري إيجاد تعريف جامع مانع للتفسير، فثارة يقصد به التحديد والبيان والكشف عن إرادة المشرع، وثارة اخرى يراد به استكمال ما شاب القاعدة القانونية من نقص والاستدلال على ما أقرته من أحكام، وثارة ثالثة يتوخى منه التوفيق بين ماتعارض من أحكام القانون.

الشيء الذي كان محل خلاف بين فقهاء القانون، حيث انقسم هؤلاء في تحديدهم المقصود من التفسير إلى تيارات ومدارس يمكن التمييز فيها بين اتجاهين: أولهما يضيق من مفهومه التفسير وهو طرح تبنته مدرسة التزام النصوص. ومن ثم، فإن التفسير في نظرها هو ازالة غموض النص وتوضيح ما ابهم من أحكامه ، ووفقاً لهذا التصور فإن التفسير لا يقع إلا في حالة غموض النص ولا شأن للتفسير بنقص النصوص أو قصورها أو تعارض أجزاء القانون ، لأن هذه الأمور، حسب وجهة النظر هذه، من اختصاص المشرع لا المفُسر.

وثانيهما يوسع من معنى التفسير وتبنته أغلب المدارس القانونية الحديثة، حيث يقصد به في نظهرهم توضيح ما غمض من ألفاظ النصوص القانونية، وتقويم عيوبها، واستكمال ما نقص من أحكام القانون والتوفيق بين أجزائه المتعارضة وتكييفه على نحو يجاري متطلبات تطور المجتمع وروح العصر. والتفسير بهذا المعنى يلازم تطبيق القانون، سواء كان النص واضحاً او غامضا ً.
مما يدفعنا إلى القول بأن التفسير هوعمل محله نص القاعدة القانونية وغايته تحديد مضمونها وكشف وبيان إرادة المشرع من سنها وتوضيح ما شابها من نقص وغموض بقصد استكمال أحكامها، بحيث يكون النص المفسر ملزما ومتمتعا بخصائص ومميزات باقي النصوص القانونية.

ثانيا: نطاق التفسير


التفسير لا يرد إلا على التشريع المكتوب، بحيث تعد الكتابة شرطا لقيامه . والمقصود بالتشريع جميع القواعد والنصوص القانونية الصادرة عن سلطة الدولة، فضلا على التشريع السماوي الذي يخضع بدوره لعملية التشريع.

وفي مقابل التشريع نجد العرف والمبادئ العامة للقانون وغيرها، حيث أجمع الفقه على عدم اخضاعها للتفسير لكون العرف يعمد القاضي لتأكد من وجوده فقط حيث أن الأمر يتعلق في هذه الحالة بمسألة الاثبات لاغير، في الوقت الذي يتوصل إلى المبادئ العامة للقانون عن طريق الاجتهاد مما يجعله في غنى عن تفسيرها.

المطلب الثاني: دواعي التفسير وطرقه


إن تحديد المقصود بالتفسير بدقة وشمولية لا يستقيم إذا لم يتطلع الدارس لموضوع التفسير لمعرفة الأسباب الداعية إليه، والطرق التي يمكن للمفسر أن يسلكها في تفسيره للنص القانوني.

أولا: دواعي التفسير وأسبابه


إن الأسباب الداعية للتفسير كثيرة ومتنوعة لا يمكن الوقوف عليها في عرض مصغر كهذا، مما يلزمنا الاقتار على دراسة الأهم منها وترك الأسباب الأخرى لفرصة قادمة انشاء الله. وعليه يميز الدارس لعلم التفسير بين نوعين من الأسباب هي: الأسباب الداخلية المتعلقة بذاتية النص، والأسباب الخارجية الراجعة إلى الظروف والسياق الذي سن فيها النص القانوني.

‌أ) الأسباب الداخلية:

1. الخطأ المادي أو المعنوي: وهو كل تشويه مادي أو معنوي لصياغة النص، بحيث لا يستقيم النص إلا بنصحيح هذا الخطا.

2. الغموض او الابهام: ويقصد به عدم وضوح عبارات النص، بحيث يجعله يحتمل أكثر من معنى, ودور المفسر في هذه الحالة اختيار المعنى الأكثر صحة والأقرب إلى الصواب من بين باقي المعاني الاخرى ، وكمثال على الغموض الذي قد يشوب النص القانوني مصطلح الليل الذي ورد ذكره في الفصل 510 من ق.ج.م حيث يشدد المشرع المغربي من خلال مقتضى هذا الاخير العقوبة على السرقة الواقعة ليلا، ومن ثم، فإن للفظ الليل معنيين هما إما تخييم الظلام حسب العامية، أو الفترة الممتدة بين غروب الشمس وشروقها من منظور علم الفلك .

3. النقص والسكوت: لا يمكن أن يتسم النص القانوي بالنقصان إلا إذا كانت عباراته خالية من بعض الألفاظ التي لا يستقيم الحكم إلا بها ، أو بعبارة اخرى هو كل ما يصيب النص أو النظام القانوني من ثغرات أو فرغات غير مملوءة . وكمثال على النقص الذي قد يصيب النص القانوني الفصل 124 من ق.ج.م الذي جاء في فقرته الأولى "لا جناية ولا جنحة ولا مخالفة ... إذا كان الفعل قد أوجبه القانون وأمرت به السلطة التشريعية"، وباستقراء هذا النص يتضح أن المشرع قد اشترط لاعتبار الفعل مبررا قانونا لابد من توافر شرطان هما: أن يكون الفعل قد أوجبه القانون وأمرت به السلطة التشريعية، وباعتماد الواو بدل "أو" في متن النص (... وأن تأمر به السلطة التشريعية) يكون المشرع قد أوجب توافر الشرطين لا أحدهما فقط .

4. التناقض والتعارض: ويتحقق هذا السبب في الحالة التي يكون فيها الحكم الدال عليه النص الأول يخالف الحكم الذي يمكن استنتاجه من النص الثاني, حيث إذا لم يكن بالامكان التوفيق بين النصين وتطبيقهما معا يعتبر النص المتقدم ناسخا للمتقدم.

وكمثال على هذه الحالة من الدستور الفرنسي حيث وقع في صعوبة التوفيق بين حق الملكية باعتباره حقا مقدسا لايمس ومبدأ التأميم المنصوص عليه في الفقرة السابعة من ديباجة دستور 1946، وهو نفس الشيء الذي يواجهه القاضي الفرنسي بقضية الحجاب الاسلامي بين الحرية الدينية والعلمانية كمبدأين دستوريين .

‌ب) الاسباب الخارجية:

يمكن اجمال هذه الأسباب في الانتفاض ضد الشكلانية وتغيير وظيفة القانون وتضخم في أدوار أجهزة الدولة بالاضافة إلى الأدوار الحقوقية للقاضي.

ثانيا: طرق التفسير


يعتمد التفسير طرقا متعددة ومتنوعة ميز الفقه فيها بين وسائل وطرق داخلية واخرى خارجية.

‌أ) الوسائل الداخلية:

1. التفسير اللفظي: وهو اعتماد المعاني اللغوية والاصطلاحية لألفاظ النص القانوني بغية الوقوف والكشف عن قصد المشرع.

2. الاستنتاج بطريق القياس: وهو تطبيق حكم وارد في حالة معينة على حالة اخرى مشابهة لم يرد في حكمها نص، فقياسا على الحديث النبوي القاضي بعدم توريث الوارث الذي قتل موروثه لا يستحق الموصى له الوصية إذا قتل الموصي .

3. الاستنتاج بمفهوم المخالفة: ويكون بتطبيق ومنح واقعة غير منصوص عليها في القانون عكس الحكم الذي أعطي لواقعة منصوص عليها فيه لوجود اختلاف في العلة أو لانتفاء شرط من الشروط المعتبرة في الحكم،ومثاله أن يشترط نص لمزاولة مهنة ما الحصول إذن إداري بذلك، فإن مفهوم المخالفة يقتضي إبطال مزاولة المهنة المشار إليها في غياب الترخيص الاداري.

4. الاستنتاج من باب أولى: وهو تطبيق حكم وارد في حالة معينة على حالة اخرى لم يرد في حكمها نص لا لأن علة الحكم الوارد في الحالة الأولى أو سببه متوفران في الحالة الثانية فحسب كما هو الحال بالنسبة للاستنتاج بطريق القياس. ولكن لأنهما أكثر توافرا في هذه الحالة منهما في الحالة الأولى، ومثال ذلك قوله تعالى في حسن معاملة الوالدين:{ ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما }، وستنتج من ذلك عدم ضربهما من باب أولى، ومثاله كذلك تحريم الخمر الذي لما له من لأضرار على الانسان, ومن ثم، فمن باب أولى تحريم المخدرات الأكثر فتكا بجسم الانسان .

‌ب) الوسائل الخارجية( التكميلية):

1. حكمة التشريع
(ratio legis)
: هي تحري الغاية النهائية التي يقصدها المشرع من وضع التشريع (كدعم الاقتصاد، رعاية الفئات الضعيفة، منفعة قطاع معين من قطاعات الانتاج كالزراعة، حماية الأقليات، الحفاظ على أمن المجتمع). مثال: ما المقصود بـ "الليل" كظرف مشدد في القانون الجنائي، الظلام الفلكي أم الظلام الفعلي؟ حكمة التشريع تدعو إلى الاعتداد بالظلام الفلكي الذي يسكن فيه الناس و يسترخون.

2. الأعمال التحضيرية
(preparatory works)
: وهي مجموعة المذكرات التفسيرية، ومناقشات المجالس التشريعية، ومحاضر جلسات هذه المجالس وأعمال اللجان التي تقترن عادة بالتشريعات عند تحضيرها وهذه الوثائق تفيد المفسر لمعرفة قصد المشرع الحقيقي عند وضع النص، ويجب التنبيه إلى أن هذه الأعمال قد لا تعبر عن وجهة المشرع تعبيرا حقيقيا، ولذا فان الرجوع إليها يكون على سبيل الاستئناس.

3. المصادر التاريخية: في حالة غموض النص الوطني، على المفسر الرجوع الي القانون الأجنبي الذي يمثل الأصل التاريخي الذي استقي منه النص الوطني. و كمثال لذلك القوانين الكويتية التي تم استياقها من نظيرتها المصرية التي تم الشروع في وضعها عام 1883 (و قد وضعت القوانين المصرية بالفرنسية ثم ترجمت إلى العربية، مما يعني أن النص الفرنسي هو الأصل).
وختاما يمكن القول بأن التفسير هو عملية كشف وبيان لمقاصد المشرع من سن القاعدة القانونية، واستكمال ماشابها من نقص وعيب، والتوفيق بين ما تعارض من أحكامها وبين هذه الأخيرة وأحكام النصوص الاخرى، وذلك باعتماد أساليب وطرق سلف ذكرها.

إذن, وبعد وقوفنا على القصد المتوخى من التفسير، كان بالامكان لنا التطرق بالدراسة والتحليل لأنواع التفسير وأشكاله.

المبحث الثاني: أنواع التفسير


لقد اختلف الفقه بخصوص أنواع التفسير وانقسم في ذلك إلى اتجاهين:الأول يعتمد معيار دلالة النص على المعنى، ويرى بذلك أن التفسير على ثلاثة أنواع هي:

التفسير الحرفي: وهو التفسير الذي يقف عند المعنى الحرفي للنص، وهو منتقد من قبل من رأى أن فكرة التفسير تتضمن بالضرورة ملاحظة أمور خارجة عن الكلمات، وليست هناك جملة من الألفاظ يمكن أن تحدد المعنى دون ملاحظة البيئة والسياق.لذلك، ووفقا لهذا الرأي، فإن الوضوح ليس إلا مظهراً خادعاً، وإن الخروج على حرفية النصوص أمر لا مناص منه.

والتفسير الضيق: وهو التفسير الذي يتجاوز المعنى الحرفي ويمتد إلى دلالة المنطوق.

والتفسير الواسع وهو التفسير الذي يتجاوز المعنى الحرفي ويمتد إلى دلالة المفهوم أو القياس .

أما الاتجاه الثاني فيرى بضرورة اعمال معيار مصدر التفسير في التمييز بين أنواع هذا الأخير حيث يقوم به عادة المشرع والقضاء (المطلب الأول) والفقه والادارة (المطلب الثاني

المطلب الأول: التفسير التشريعي والقضائي


أولا: التفسير التشريعي


هو التفسير الذي يصدر من المشرع في شكل نص لاحق لازالة غموض أو سد نقص في قانون اختلف في تفسيره وأثير التناقض في أمر تطبيقه، ويسري بأثر رجعي على الوقائع القائمة في ظل القانون المفسَر والتي لم تصدر بشأنها الأحكام على ألا يتضمن أحكاما جديدة لم يتضمنها القانون المفسَر. فإن تضمنها فإنها تسري للمستقبل فقط .

ويعتبر التفسير التشريعي استثناء من الأصل، إذ يفترض في النص التشريعي عند وضعه وضوح معانيه بما تنتفي معه الحاجة الي تدخل تشريعي لاحق لتفسير النص، هو ملزم للكافة بما في ذلك القضاة بحكم كونه نصا تشريعيا.

والأصل أن يصدر التفسير التشريعي عن السلطة التشريعية، إلا أنه واستثناء يصدر من السلطة التنفيذية بموجب تفويض خاص من السلطة التشريعية، أو من المحكمة العليا.
ومن الأمثلة على التفسير التشريعي نسوق ماأورده أستاذنا الفاظل د.أشحشاح في سياق محاظراته عن تفسير القانون التي ألقاها بكلية القانون بطنجة، حيث أكد أن محكمة النقض الفرنسية لم تكن جهازا قضائيا بقدر ماكانت مصلحة تابعة للهيئة التشريعية تقوم بإلغاء الأحكام التي تخالف القانون، وأمام إصرار المحاكم على إبقاء هذه الأحكام اضطرت هذه المصلحة إلى احالتها على الهيئة التشريعية، مما عاد بالأثر السلبي على القضاء حيث أصبح الفصل في المنازعات أكثر تأخرا لانتظار فصل الهئة التشريعية في أمرها، كما مس هذا الأمر مبدأ فصل السلط حيث أصبح المشرع قاضيا.

ومن الأمثلة كذلك، تفسير المشرع المصري للفقرة الثالثة من المادة 11 لقانون الوقف رقم 40 لسنة 1946 والتي جاء فيها ( ولا يجوز الرجوع ولا التغيير في وقف المسجد ولا فيما وقف عليه )
،حيث كانت هذه الفقرة تحتمل أكثر من معنى مما اختلفت معه المحاكم في تطبيقها، إذ سمعت بعض المحاكم للإشهاد بالرجوع في الوقف في الوقت رفضته محاكم اخر، الأمر الذي استدعى تدخل المشرع لتفسير المراد من هذه الفقرة فأصدر القانون رقم 78 لسنة 1947 والذي بمقتضاه أصبح نص الفقرة السالفة الذكر على الشكل التالي: ( ولا يجوز الرجوع ولا التغيير في وقف المسجد ابتداء ولا فيما وقف عليه ابتداء )، وبهذا يكون المشرع المصري قد قطع الاحتمال الذي كان يثار بشأن تفسير هذه الفقرة بإظافة لفظ "ابتداء".

ومن التشريع المغربي يمكن أن نسوق الفصل 13 من القرار الوزاري الصادر بتاريخ 19/09/1951 والمتعلق بوضعية موظفي الدولة الشاغلين للمسكن الوظيفي والذي كان محل خلاف من حيث التطبيق إلى أن صدر قرار الوزير الأول في 05/04/1977 موضحا إرادة المشرع التي انصرفت إلزامية اخلاء المسكن الوظيف في حالة الانقطاع عن العمل لأي سبب من الأسباب في الأجل المحدد قانونا.

هكذا، نستخلص أن التفسير التشرعي هو من اختصاص المشرع والسلطة التنفيذية, بالاظافة إلى المحكمة العليا.

ثانيا: التفسير القضائي


هو تأويل القاضي للنص القانوني عند تطبيق أحكامه على القضايا المعروضة عليه، ويواجه القاضي بحكم وظيفته غموض التشريع ونقصه وعيوبه ومن ثم يعمل على استنباط الأحكام للوقائع لسد النقص ورفع العيوب من النصوص . وبما أن القضاء يواجه وقائع الحياة المتجددة ويتميز تفسيره للقانون بالطابع العملي فإنه وعبر التاريخ كان عاملا مهما من عوامل تطوير القانون، بل إنه اعتبر مصدرا من مصادر القانون.

وللتفسير القضائي عدة خصائص تجعله متميزا عن باقي أنواع التفسير الاخرى منها ما يلي:

 هو تفسير عملي وذو طبيعة واقعية، حيث أن القاضي يباشر تفسير القانون بمناسبة تطبيقه للقانون على القضايا الواقعية المعروضة عليه مما يدفعه إلى الملاءمة في تفسيره للنص بين الجانب النظري للنص والجانب الواقعي للخصومة .

 لا يتمتع بأية صفة إلزامية إلا بالنسبة للواقعة التي صدر من أجلها، ويترتب على ذلك جواز مخالفته وتبني تفسير مغاير له في القضايا الاخرى المشابهة، وقد خرج عن هذه القاعدة المشرع المصري عندما قرر في المادة ( 178 ) من الدستور الحالي أن تفسير المحكمة الدستورية العليا للتشريع ملزم للمحاكم على اختلاف درجاتها .

 إن القاضي المفسر ملزم بالتقيد بالحدود التي رسمها له القانون ولا يجوز له الخروج عنها.

 لا يجوز للقاضي أن يمتنع عن التفسير وإلا اعتبر متنكرا للعدالة وعوقب طبقا للقانون.

 كما يعتبر التفسير القضائي تفسيرا غير موحد نسبيا.

وقد ذهبت بعض التشريعات إلى اعتبار القاضي بمثابة مشرع في حالة النقص التشريعي بنصوص صريحة فقد نصت المادة 2/1 مدني سويسري على أنه ( ... وفي حالة عدم وجود نص يمكن تطبيقه يحكم القاضي وفقاً للعرف، وفي حالة عدم وجود عرف فإنه يحكم وفقاً للقواعد التي كان ليضعها لو كان عليه أن يقوم بعمل من أعمال المشرع، وهو يستهدي في ذلك بالحلول التي يقررها الفقه والقضاء.

ونصت المادة (1) مدني تركي لسنة 1926 على أنه ( ... إذا لم يوجد حكم في قضية ما يحكم القاضي بموجب العرف والعادة، فإذا لم يجد فيحكم بموجب القاعدة التي كان يضعها فيما لو كان مشرعاً ).

بينما إحالة تشريعات اخرى إلى القانون الطبيعي أو قواعد العدالة أو المباديء العامة للقانون فقد نصت الفقرة (2) من المادة (1) من القانون المدني المصري لسنة 1948 النافذ على أنه ( فإذا لم يجد نص تشريعي يمكن تطبيقه، حكم القاضي بمقتضى العرف، فإذا لم يجد فبمقتضى مباديء الشريعة الاسلامية، فإذا لم توجد فبمقتضى مباديء القانون الطبيعي وقواعد العدالة )

ونصت المادة (12/2) مدني إيطالي لسنة 1942 على أنه ( إذا لم يوجد نص تشريعي يرجع القاضي إلى النصوص التي تنظم الحالات المتشابهة ... فإذا بقيت المسألة مع ذلك غامضة فإنه يحكم وفقاً للمباديء العامة في النظام القانوني في الدولة ). ويذهب أحد رؤساء المحكمة الاتحادية الألمانية إلى القول ( يستطيع القاضي بالدرجة الأولى إنشاء القانون من خلال تفسيرالقانون الوضعي أو سد الفراغ بواسطة قياس النظير أو المصالح المرسلة في ملاءمة القانون الوضعي للتقدم المضطرد، كما يستطيع القاضي بالدرجة الثانية إنشاء القانون من خلال تقييم القانون الوضعي بالقياس إلى معايير النظام القانوني الفوقي أو في إبطال حكم قانوني تنتهك فيه مثل هذه المعايير) .

ومن الأمثلة على التفسير القضائي نسوق ماذهب إليه القضاء المدني المغربي بخصوص تفسير الفصل 230 من ق.ل.ع المتعلق بسلطان الارادة، حيث ذهب في بداية الأمر وقبل إقرار مشروعية الشرط الجزائي بتعديل الفصل 264 من ق.ل.ع سنة 1995 إلى أن الاتفاق على الشرط الجزائي هو اتفاق صحيح ومشروع يجب تنفيذه في أكثر من نازلة .

المطلب الثاني: التفسير الفقهي والاداري


أولا: التفسير الفقهي


هو التفسير الذي يباشره الشراح في مؤلفاتهم التي يتناولون فيها نصوص التشريع بالتحليل بقصد الكشف عن معانيها وما تشتمله من أحكام، وهو مرجع لا غنى عنه للقاضي في تطبيقه للقانون على المنازعات و كذلك بالنسبة للمشرع الذي يلجأ إليه أحيانا لتعديل النصوص وفق ما استقر عليه الفقه. كما أنه تفسير يغلب عليه الطابع النظري بحكم طبيعة عمل الفقيه بتفسيره للنصوص النظرية .
وبعبارة أخرى، هو التفسير الذي تتضمنه كتابات وأدبيات الفقه القانوني وما يدونه شراح القانون في مصنفاتهم عند تصديهم لاستخلاص أحكام القانون والتعليق على مضمونه .

والتفسير الفقهي لا يرتبط بنزاع واقعي فهو غاية في حد ذاته بعكس التفسير القضائي المرتبط بواقعة معينة.

ويعد التأصيل والتحليل للنصوص التشريعية من قبل الفقهاء، عاملا مساعدا في توضيح أحكام القانون وبيان أوجه النقد للقصور فيه، الأمر الذي يؤدي إلى تبني تلك التفسيرات الفقهية فيما بعد على شكل نصوص قانونية ملزمة .

والتفسير الفقهي يبحث في الأصول والمصادر، مثل وضع التعريفات القانونية وتحليل شروط تطبيق نص معين أو وضعها في حالة خلو التشريع منها صراحة، وكذلك البحث في أركان وعناصر الوقائع المادية مثل أركان العقد وأركان الجريمة، أو انتقاد النصوص القائمة واقتراح البدائل الملائمة.

وهكذا، كان الفقه عبر التاريخ خير مرشد للمشرع والقاضي والمفسر، فغالبا ما يتأثر المشرع بنظريات الفقهاء ويتبناها في تشريعاته، وغالباً ما يتبنى القضاة أراء الفقهاء السديدة ويعلنوها من خلال أحكامهم.

ومن الاتجاهات الحديثة في العمل القضائي الاستفادة من الفقهاء وأساتذة القانون من خلال تكليفهم بمهام رسمية ووظيفية ضمن مكاتب المحاكم للاستفادة من مشوراتهم القانونية كما هو متبع في مجلس الدولة الفرنسي ومجلس الدولة المصري، وما نصت عليه المادة (25) من قانون مجلس شورى الدولة العراقي رقم (65) لسنة 1979 المعدل بشأن الاستعانة بخبرة عضو الهيئة التدريسية في الجامعات العراقية أو انتدابه، ونصت الفقرة الثانية من المادة (92) من دستور جمهورية العراق لسنة 2005 على أنه ( تتكون المحكمة الاتحادية العليا من عدد من القضاة، وخبراء الفقه الاسلامي وفقهاء القانون يحدد عددهم، وتنظم طريقة اختيارهم، وعمل المحكمة، بقانون يسن بأغلبية ثلثي أعضاء مجلس النواب) .

ومن الأمثلة على التفسير الفقهي ماذهب إليه أوبان في معرض تفسيره لنص مدني متعلق بالتعويض، والذي من خلاله حاول أن يجد تفسيرا ينكر به القول بتنوع التعويض بحسب طبيعة المسؤولية ماإذا كانت عقدية أوتقصيرية، وهو في ذلك يرى بأن مضمون النص يتجه إلى إقرار التعويض المناسب للخطأ الواقع مع التمييز بين الخطأ العمدي وغير العمدي دونما إعتبار لطبيعة المسؤولية .

ثانيا: التفسير الاداري


يتكون التفسير الاداري من التوجيهات التي توجهها السلطة التنفيذية إلى موظفيها لتفسير أحكام القانون وكيفية تطبيقه. وهو تفسير غير ملزم إلا بالنسبة للموظفين الذين صدر إليهم.
وهو التفسير الذي تتولاه السلطة التنفيذية من تلقاء نفسها وهي بصدد تنفيذ القوانين على الحالات الواقعية وهو الأضخم في الحياة العملية، والتفسير الاداري غير ملزم للمشرع والقضاء، هذا ما أكده قضاء المجلس الأعلى عندما اعتبر المنشور لا يقوى قوة القانون ولا ترتب مخافته إلغاء الحكم. وإنما يعتبر بمثابة رأي شخصي ويقتصر إلزامه على من وجه إليه التفسير من رجال الادارة. وتصدر التفسيرات الادارية على شكل تعليمات أو لوائح أو منشورات، وهي بمثابة قرارات إدارية تنظيمية يجوز الطعن فيها أمام القضاء الاداري .

الخـاتــمة


في الختام, يمكن القول أن التفيسر عملية معقدة تتداخل فيها مجموعة الهيئات لا يمكن حصرها في أي دراسة من الدراسات المتعلقة بالتفسير, وإن كنا قد اقتصرنا نحن فقط على دراسة التفسير التشريعي والقضائي والفقهي والاداري في هذا العرض المتواضع باعتبارها التفسيرات الأساسية التي يتم اعتمادها من قبل غالبية الفقه, فإنه في مقابل ذلك يوجد من أنواع التفسير ما يمكن أن نفرد له دراسة مستقلة لغناه الفكري والمعرفي ومحتواه التفسيري كالتفسير الملكي الذي يعد من التفسيرات التي استأثر بها البلاط منذ العهود الأولى لظهور القانون والتفسير.




تم بهدي الله ورعايته
في م.مدارس الشريف الادريسي/ باب برد
بتاريخ 17 يناير 2009م الموافق لـ 20 محرم 1430هـ

لائحة المراجع المعتمدة

1) الشيخ عبد الوهاب خلاف "تفسير النصوص القانونية وتأويلها"،مجلة المحامات المصرية، العدد 1/1950، الطبعة الإلكترونية، منشورات الدليل الالكتروني للقانون العربي: www.arablawinfo.com
2) د. محمد لبقالي "المدخل لدراسة القانون" الطبعة الثانية 2003، مطبعة اسبارطيل- طنجة.
3) د. نور الدين أشحشاح "محاضرات في تفسير النصوص القانونية"، الطبعة 2006\2007.
4) مداخلة د. علي القاسمي في موضوع " النظرية الخاصة في علم المصطلح وتطبيقاتها في مهنة المحاماة" ألقيت في ندوة عن لغة القانون نظمتها جمعية المحامين في فاس بالمملكة المغربية عام 1997.
5) مفهوم القانون الخاص وطبيعته د. محمد يحيى المحاسنة ، منشورات الدليل الالكتروني للقانون العربي
www.arablawinfo.com
6) فارس حامد عبد الكريم" الإدارات العامة والتفسير الرجعي للقانون" الجزء الثاني، مقال منشور بموقع الناس العراقي بتاريخ 2-8-2008.
7) الشيخ محمد أمين "تفسير القانون" منشورات الدليل الالكتروني للقانون العربي بتاريخ 1-1-2008.
8) د. مشاعل عبد العزيز الهاجري"المدخـل لدراسة العلوم القانونية"، منشورات
www. law.kuniv.edu.kw.
9) مقال نشر دون ذكر صاحبه تحت عنوان "تفسير القانون" بالدليل الالكتروني للقانون العربي.
10) د.كمال رحيم " تفسير القانون"منشورات الموقع الالكتروني
www.annaba23.com
11) ملخص احدى محاضرات الدكتور عبدالهادي محمد الغامدي في موضوع " القانون" نشرت على الموقع الالكتروني
www.kau.edu.saFiles
12)
محرك البحث الالكتروني www.google.com
13) قرار المجلس الأعلى عدد 485 بتاريخ 5/ 10/ 1987، مجلة المحامي ع 19/20.
14) - د. مرزوق ايت الحاج" المسؤولية المدنية" الطبعة الثاية 2005، مطبعة طوب بريس.
15) عبد الرزاق أيوب " سلطة القاضي في تعديل التعويض الاتفاقي" الطبعة الأولى 2003، مطبعة النجاح- الدار البيضاء.
16) د. جميلة لعماري "مدخل إلى القانون المقارن " الطبعة الأولى 2004، مطبعة سليكي إخوان-طنجة

الفهرس


مقدمة..........................................................................................
المبحث الأول: مفهوم التفسير..................................................................
المطلب الأول: تعريف التفسير.................................................................
أولا: تعريف التفسير...........................................................................
ثانيا: نطاق التفسير.............................................................................
المطلب الثاني: دواعي التفسير وطرقه.........................................................
أولا: دواعي التفسير وأسبابه...................................................................
الأسباب الداخلية...............................................................................
الاسباب الخارجية.............................................................................
ثانيا: طرق التفسير............................................................................
الوسائل الداخلية:..............................................................................
الوسائل الخارجية( التكميلية)...................................................................
المبحث الثاني: أنواع التفسير..................................................................
المطلب الأول: التفسير التشريعي والقضائي....................................................
أولا: التفسير التشريعي........................................................................
ثانيا: التفسير القضائي.........................................................................
المطلب الثاني: التفسير الفقهي والاداري.......................................................
أولا: التفسير الفقهي............................................................................
ثانيا: التفسير الاداري..........................................................................
الخاتمة.........................................................................................
لائحة المراجع.................................................................................
الفهرس.......................................................................................


لائحة المراجع.................................................................................
الفهرس.......................................................................................

لتحميل النسخة الحاملة للهوامش

مفهوم_التفسير.pdf مفهوم التفسير.pdf  (3.31 ميغا)



السبت 28 يناير 2012
MarocDroit منصة مغرب القانون "الأصلية"

تعليق جديد
Twitter