MarocDroit  -  موقع العلوم القانونية
plateforme des décideurs juridiques - Platform of Legal Decision-Makers




مستجدات نظرية السبب في القانون المدني الفرنسي في إطار إصلاح القانون المدني الفرنسي

     

من إعداد: مليكة منجم
سلك الماستر العلوم القانونية
تخصص القانون المدني
جامعة محمد الخامس الرباط
كلية العلوم القانونية و الاقتصادية
و الاجتماعية-أكدال



مستجدات نظرية السبب في القانون المدني الفرنسي في إطار إصلاح القانون المدني الفرنسي
 
 
مقدمة:

          يعود الفضل في نشوء فكرة السبب إلى الكنسيين و قد اعتدوا بالباعث في التعاقد، و اشترطوا مشروعية السبب عكس الرومانيين قبلهم فقد كان اهتمامهم منصبا حول شكلية العقد واعتبروا السبب ركن من أركانه فقط لا يتعدى نطاق المصدر المنشئ للعقد. و تثير نظرية السبب إشكالية شيقة و شاقة فهي من المواضيع التي أغرت الكثير من الفقهاء بالخوض فيها خاصة في بداية القرن العشرين و قد توصل أنصار النظرية التقليدية في السبب إلى وضع بناء لهذه النظرية إلا أنه سرعان ما تهدم هذا البناء بفعل قوة الانتقادات التي وجهت إليه من طرف أنصار المفهوم الجديد لنظرية السبب.[1]

     و يعود الاختلاف بين هؤلاء الأنصار في تحديد نوعية السبب المقصود عند إبرام العقود، ففي النظرية التقليدية لا يتعدى مفهوم السبب القصد المباشر(raison proche) من عملية التعاقد لذلك فهو يتميز بالتجريد و الموضوعية (objective et abstraite) مثلا في عقد البيع سبب التزام البائع بتسليم المبيع هو التزام المشتري بدفع الثمن للبائع. و يعود ظهور النظرية التقليدية للفقيه الفرنسي دوما (domat) في نهاية القرن السابع عشر، ثم جاء بعده بوتييه (pothier) الذي كان بمثابة وسيط نقل عنه المشرع الفرنسي مبادئ (دوما) فتمت صياغتها في ثلاث فصول من 1131 إلى 1133 هذه الفصول خضعت لتغيير عميق بمقتضى المرسوم الجديد المتعلق بتغيير و تعديل القانون المدني الفرنسي الذي صدر بتاريخ 10 فبراير 2016 و دخل حيز التنفيذ بتاريخ 01 أكتوبر 2016 بسبب ما كان يثيره القانون المدني ككل من مشاكل و بالأخص نظرية السبب.

هذا الموضوع يستوجب تناوله التطرق لثلاث نقاط أساسية: 

-واقع الحال لركن السبب قبل صدور مرسوم 10 فبراير 2016:

     حدد المشرع الفرنسي بموجب مدونة نابليون سنة 1804 المقتضيات المنظمة للسبب فتمت صياغتها في المادة 1108 و المواد 1131 و1132 و 1133 .

فقد نصت المادة  1108 على "الشروط الأساسية لصحة الاتفاق:
*اتفاق الأطراف المتعاقدين.
*أهلية التعاقد.
*محل الاتفاق مشروعا.
*سبب قانوني للالتزام."
و نصت المادة 1131على :"الالتزام لا ينتج أي أثر إذا لم يكن مبنيا على سبب أو على سبب كاذب أو على سبب غير مشروع".
و نصت المادة 1132 من نفس القانون على:" الاتفاق لا يكون صحيحا إذا لم يذكر سببه."
أما الفصل 1133 ينص على :" السبب يكون غير مشروع إذا حرمه القانون أو إذا كان مخالفا للآداب أو النظام العام".[2]

      مدونة نابليون كانت تقضي بضرورة وجود الأركان الأربعة كما هو ظاهر في المادة 1108 (الاتفاق و الأهلية و المحل ثم السبب)، و اعتبرت المادة 1131 بأن الالتزام الذي لا سبب له أو الذي يكون سببه كاذب أو غير مشروع فهو يعدو كأن لم يكن، بينما أقرت المادة 1132 أن الاتفاق ليس صحيحا من الأصل إذا لم يذكر سببه، ثم أضافت المادة 1133 أن السبب الغير مشروع هو ما حرمه القانون أو ما يخالف الآداب أو النظام العام.
        رغم تحديد النظرية التقليدية لمفهوم السبب والتي تم نقل مبادئ المواد السالف ذكرها منها إلا أنها ظلت ضيقة خاصة بسبب ما أثاره خصوم هذه النظرية، و ما واجهه القضاء من مشاكل يعزى سببها إلى الغموض الذي يكتنف هذا الركن، فظهرت النظرية الحديثة و التي ربطت السبب بالعقد و ليس بالالتزام؛ فالمقصود بالسبب وفق هذه النظرية هو الدافع و الباعث وقد عرف الدكتور الدريني الباعث بأنه الدافع الذي يحرك إرادة المنشئ للتصرف إلى تحقيق غرض غير مباشر[3] . و كما قال أستاذنا الجليل عبد القادر العرعاري أن هذا المفهوم  رحبت به المحاكم و اعتبرت الباعث معيارا لتحديد سبب العقد و ربطت البطلان بالحالات التي يكون فيها الباعث غير مشروع أو مخالفا للآداب العامة، و عموما النظرية الحديثة ما هي إلا تكملة للنقص الذي كان يعتري النظرية التقليدية [4].

       لكن رغم كل هذه التغيرات إلا أن نظرية السبب بقيت مصدر لخبطة و ارتباك و خلط، الأمر الذي حمل المشرع الفرنسي إلى التفكير في تغيير القانون المدني الفرنسي ككل و لم يسلم ركن السبب من ذلك.

-البواعث و المبررات التي على أساسها تم تكريس هذا التعديل:

    تنقسم المبررات التي دفعت المشرع الفرنسي إلى تعديل القانون المدني الفرنسي إلى قسمين:
 
  1. مبررات عامة :
من خلال تصريحات الرئيس الفرنسي عن بعض دواعي تنزيل القانون المدني الجديد يظهر أن أول هاجس من هذا التعديل هو إقرار و ضمان الأمن القانوني، ثم تقوية التنافسية التشريعية مع القوانين المتقدمة في المجال المدني و الأعمال على غرار التشريع الألماني و الانجليزي و الأمريكي.
  1. مبررات خاصة بركن السبب:
يرجع الدافع الذي جعل المشرع الفرنسي يقدم على تعديل الشق المتعلق بالسبب كركن أو شرط -على حد تعبير المشرع-في العقد، في تداخل ركن السبب و ركن المحل من حيث الوظيفة، و تأسيس المحاكم للبطلان بسبب الالتزام و ذلك بقصدها في الأصل تقرير البطلان على أساس عدم مشروعية المحل[5]. وقد صدر في هذا الشأن أحكام و قرارات عدة منها:
*حكم فرنسي صادر عن المحكمة الاستئنافية في 30 نونبر 1839 يقضي ببطلان عقد الإيجار إذا كان المستأجر قد قصد إدارة العين المؤجرة للدعارة. و في نفس السياق صدر قرار عن محكمة النقض الفرنسية في 11 نونبر 1890 يقضي ببطلان عقد الاستخدام في محل للغرض ذاته[6].
و إلى جانب القضاء ساهم الفقه أيضا في التحفيز لإعادة النظر في القانون المدني الفرنسي و خاصة فيما يتعلق بنظرية السبب؛ فقد حاول الفقيه (بلانيول) الإشارة إلى عدم صحة النظرية التقليدية للسبب بل و اعتبرها لا هي صحيحة و لا هي مفيدة.
فمن حيث عدم صحتها فقد قال بلانيول بالنسبة للعقد الملزم لجانبين أنه لا يجوز القول كما تزعمت النظرية التقليدية أن سبب أحد الالتزامين المتقابلين هو التزام الآخر و اعتبرها استحالة منطقية لكون الالتزامين معا يولدان في وقت واحد و هو العقد و لا يمكن أن يكون أحدهما سببا للآخر لأن السبب يتقدم المسبب.
أما فيما يتعلق بالعقد العيني حسب النظرية التقليدية التي تعتبر أن سبب الالتزام هو تسليم العين يقول بلانيول أن هذا التسليم ما هو إلا المصدر الذي أنشأ الالتزام فالعقد العيني لا يتكون إلا بهذا التسليم فيختلط هنا السبب بالمصدر و يصبحان شيئا واحدا.
يضيف بلانيول أن النظرية التقليدية تعتبر سبب الالتزام في عقد التبرع هو نية التبرع و هذا قول يعتبر خال من أي معنى و إلا فأية قيمة لنية التبرع في ذاتها إذا لم تقرن بالعوامل التي دفعت إليها؟
أما من حيث قول بلانيول أن هذه النظرية ليست مفيدة لأن الفائدة المتوخاة منها تحصل بشيء آخر يغني عنها؛ فبالنسبة للعقود الملزمة لجانبين يكفينا أن نقول إن الالتزامين المتقابلين مرتبطان أحدهما بالآخر حيث يتوقف مصير كل منهما على مصير الثاني و تغني فكرة الارتباط عن فكرة السبب في هذه العقود.
أما بخصوص العقود العينية و عقود التبرع فانعدام السبب بالمعنى المفهوم هو انعدام التسليم في العقد العيني و انعدام نية التبرع في الهبة وهذا له معنى واحد و هو انعدام العقد ذاته فليس إذن من حاجة إلى تعليل عدم قيام الالتزام بانعدام السبب ما دام العقد ذاته غير موجود.
هذه المبررات و غيرها دفعت المشرع الفرنسي في التفكير و إعادة صياغة المقتضيات المتعلقة بالسبب كركن أو شرط في العقد فتم إصدار المرسوم الجديد بتاريخ 10 فبراير 2016 و الذي دخل حيز التنفيذ في 01 أكتوبر 2016.

-تقييم و مقارنة المستجدات التشريعية الفرنسية المتعلقة بالسبب و سابقتها:

        تنص المادة 1128 من المرسوم الجديد الصادر ب 10 فبراير2016 على أساسيات صحة العقد و حددتها في ثلاثة شروط:
*اتفاق الأطراف.
*أهلية المتعاقدين.
*مضمون قانوني و مشروع.[7]
يظهر من خلال النص أعلاه عكس ما ورد في المادة 1108 من مدونة نابليون القديمة، و التي كانت تشترط توفر ركن الاتفاق بين الأطراف و الأهلية للتعاقد و المحل ثم السبب، فألغت المادة المشار إليها أعلاه 1128 السبب كشرط أو ركن في العقد و حسننا ما فعلت، بهذا يكون المشرع الفرنسي قد تجاوز الهفوات التي كان يقع فيها القضاء بسبب الخلط بين السبب و المحل كما سبق و أشرنا سابقا، بل و كان هذا الإصدار بمثابة استجابة أيضا لما نادى به الفقه و خاصة الطرح الذي قدمه بلانيول و ما استقر عليه العمل القضائي.

يعتبر هذا المرسوم قفزة نوعية تحتسب لصالح المشرع الفرنسي بعد طول جمود و غياب، لكن كما يقول الشاعر لكل شيء إذا ما تم نقصان؛ بالرغم من الاستغناء الصريح عن مفهوم السبب ضمن مقتضيات المادة 1128 التي تحدد أركان صحة العقد إلا أنه من خلال الاطلاع على المقتضيات الجديدة الواردة في المرسوم نكتشف بعض التطبيقات الخاصة التي احتفظت بعنصر السبب ولو بشكل ضمني من قبيل المادة 1162 التي جاء في مضمونها "التنازل عن شروط العقد أو عن سببه يعتبر خرقا للنظام العام..." و نفس المضمون قضت به المادة 1135 من المرسوم الجديد.

إن حذف ركن السبب من بعض المقتضيات و تركه ساري المفعول ف أخرى و لو بشكل ضمني
سيبقي المشكل قائما و هذا ما يجعلنا نطرح التساؤل التالي:

هل كان قصدا من المشرع الإبقاء على مقتضيات السبب الواردة في فصول أخرى ضمن المرسوم و لو بشكل ضمني؟ أم أنه كان سهوا منه و غفلة بسبب كثرة النصوص و المواد علما أن القانون المدني الفرنسي يضم عدة مقتضيات في مجالات مختلفة كالأسرة و التجاري و الشركات...؟
إن هذه الأخطاء التي وقع فيها المشرع الفرنسي رغم حرصه الشديد يمكن أن يستفيد منه المشرع العربي ككل و خاصة المشرع المغربي نظرا لما تفرضه التنافسية التشريعية اليوم، و على ذكر المشرع المغربي فهو الآخر نظم عنصر السبب في الفصول من 62 إلى الفصل 65 من قانون الالتزامات و العقود، هذا الأخير الذي لم يخرج عما قضت به مدونة نابليون القديمة حول كون العقد لا يقوم صحيحا إلا بتوفر أركانه الأربعة : الإرادة,الأهلية,المحل,السبب حسب الفصل 2 من ق.ل.ع.

و يمكن اعتبار الفصل 62 من ق.ل.ع صورة مقابلة للمادة 1133 من القانون المدني الفرنسي القديم، و التي تعتبر الالتزام الذي لا سبب له أو المبني على سبب غير مشروع لا ينتج أي اثر و يكون السبب غير مشروع إذا كان مخالفا للأخلاق الحميدة أو للنظام العام، و هذا إن دل على شيء إنما يدل على كون أغلب مقتضيات ق.ل.ع هي نقل عن المشرع الفرنسي.

خير ما يمكننا الختم به هو القول أن الدور قد حان على المشرع المغربي لإعادة النظر و مراجعة مجموعة من المقتضيات القانونية و على رأسها ق.ل.ع، فنظرية السبب ليست سوى مثال بسيط عن الكثير من المقتضيات التي تتصف بالمعيبة أو الغامضة أو الغير مناسبة للمكان و أحيان للزمان..، و تجاوزا لذلك يجب الأخذ بعين الاعتبار الأخطاء التي وقع فيها المشرع الفرنسي وقت إعداده للمرسوم الصادر مؤخرا و ذلك بهدف المضي قدما في المجال التشريعي وما يعكسه ذلك على المجتمع ككل.

 المراجع:
 
*عبد القادر العرعاري؛ مصادر الالتزامات الكتاب الأول؛نظرية العقد؛الطبعة الثالثة 2013.
* فتحي الدريني؛ الحق و مدى سلطان الدولة في تقييده و نظرية التعسف في استعمال الحق.
*عبد الرزاق أحمد السنهوري؛الموجز في النظري العامة للالتزامات في القانون المدني المصري.
* القانون المدني الفرنسي ؛ مدونة نابليون لسنة 1804.*مرسوم القانون المدني الفرنسي الجديد الصادر ب10فبراير 2016.
         * قانون الالتزامات و العقود.
            *  https://www.legifrance.gouv.fr/        
                                                                              
 
 الهوامش
 
[1]عبد القادر العرعاري؛مصادر الالتزامات الكتاب الأول؛نظرية العقد؛الطبعة الثالثة 2013 الصفحة 254.                                           
[2]-القانون المدني الفرنسي ؛ مدونة نابليون لسنة 1804.                                                                                                    
-[3]الدكتور فتحي الدريني؛الحق و مدى سلطان الدولة في تقييده و نظرية التعسف في استعمال الحق ؛الصفحة 433.                                  
[4]-عبد القادر العرعاري؛المرجع السابق؛الصفحة 264.                                                                                                      
[5]-عبد القادر العرعاري ؛ المرجع السابق؛ الصفحة 254.                                                                                                  
[6]-عبد الرزاق أحمد السنهوري؛الموجز في النظري العامة للالتزامات في القانون المدني المصري؛الصفحة129 ؛أحكام دالوز.                     
-مرسوم القانون المدني الفرنسي الجديد الصادر ب10  فبراير 2016.                                                                                 [7]



الجمعة 13 ديسمبر 2019
MarocDroit منصة مغرب القانون "الأصلية"

تعليق جديد
Twitter