ملخص حول موضوع الرسالة
إن توثيق المعاملات و العقود بين الناس منبع لاستقرارها و شعور المتعاملين في إطارها بالأمن و الاطمئنان و ضمان حقوقهم، فالتوثيق من أهم عناصر بناء المجتمعات إذ يشكل العمود الفقري للحركة الاقتصادية و التجارية و الصناعية باعتبارها من بين أهم الآليات القانونية لتنظيم المعاملات و العلاقات الاقتصادية بين أفراد المجتمع و مؤسساته .
وقد عُرفت ظاهرة توثيق المعاملات بين الأفراد منذ الحضارات القديمة وذلك سعيا وراء ضبطها و قطع دابر النزاع و الخصام فيها حتى أصبحت سيدة وسائل الإثبات.
و هكذا سادت نظم التوثيق في حضارات مصر القديمة و فارس و اليونان ... و عند الرومان و كلهم من الحضارات الإنسانية الكبرى , والتوثيق في المغرب له جذور ممتدة العمق في التاريخ تعود أصولها إلى ظهور الإسلام و منذ ذلك الحين مر التوثيق بمجموعة من المحطات كانت لكل محطة خصوصياتها سواء بتضييق الخناق أو بتوسيع دائرة التعامل في إطار هذا العلم الجليل .
و نظرا للحركية و التطور الذي يعرفها المغرب في مختلف الميادين، فإن مهنة التوثيق العصري لا تخرج عن هذا الإطار إذ يعتبر القانون 32.09 بادرة حسنة من المشرع المغربي للزيادة من شدة و دقة تنظيم هذا المرفق و الذي كان منظما في سابق الأمر بموجب ظهير4 ماي 1925هذا الأخير الذي استوحى جل أحكامه من القانون الفرنسي 25 فانتوز، أضف إلى ذلك مجموعة من المقتضيات المؤطرة لمؤسسة التوثيق و المنظمة في مواد قانونية أخرى لعل أبرزها القانون المدني
المغربي.
ولما كان الموثق العصري يضطلع بمهام قانونية، فقد خصه المشرع المغربي بمكانة مميزة من حيث نظامه القانوني ووضع على عاتقه جملة من الالتزامات تستوجب فيمن يمارس مهنة التوثيق أن يتقيد في سلوكه بمبادئ الأمانة و النزاهة و التجرد و الشرف و ما تقتضيه الأخلاق الحميدة .[1] لممارسة هذه المهنة و استعدادا كاملا لتحمل أعبائها الشاقة مستبعدا تحقيق الأطماع المادية و التي قد تؤدي بمن يسعى في تحقيقها إلى الخروج عن الجادة و عدم الوفاء بقدسية اليمين القانونية التي طوق بها نفسه قبل الشروع في أداء مهامه التوثيقية.
و إخلال الموثق بالتزاماته و خرق مقتضيات قوانينه المهنية قد يعرضه إلى المسائلة التأديبية التي تترتب عنها عقوبات قد تصل إلى عزله من المهنة، كما يمكن أن يتعرض إلى المسائلة الجنائية التي قد تقوده إلى عقوبات سالبة للحرية بالإضافة إلى المسؤولية المدنية التي قد ينتج عنها تعويض مادي لمن لحقه ضرر في الوثيقة .
كما تجدر الإشارة أن القضاء أصبح يشهد ظاهرة عرض عدة قضايا على المحاكم و تقديم الكثير من الشكاوى على مكاتب الوكلاء العامون للملك و التي غالبا ما يكون موضوعها بطلان العقود الرسمية و الإدعاء فيها بالزور أو المتعلقة بعدم تنفيذ الموثق لالتزاماته المهنية أو تنفيذه المعيب لها ، وهو الأمر الذي جعل بعض الموثقين موضع العديد من المتابعات التأديبية و المدنية و كذا الجنائية.
من هذا المنطلق ، و محاولة منا لإعطاء الموضوع حقه من الدراسة ارتأيت أن الإحاطة بجوانبه الأساسية تقتضي معالجته في إطاره القانوني و المسطري من خلال الوقوف على مقتضيات القانون 32.09 المنظم لمهنة التوثيق العصري و كذلك إستنادا إلى مقتضيات قانون الالتزامات و العقود و المسطرة المدنية و القانون الجنائي و المسطرة الجنائية و كل من مدونة الضرائب و مدونة تحصيل الديون العمومية و دون إغفال الجانب العملي باعتباره المجال التطبيقي لهذه المقتضيات.
أهمية الموضوع :
يحظى موضوع دراسة مسؤولية الموثق العصري بأهمية بالغة ، نظرا لما توفره مثل هذه الدراسات من فرص الوقوف على مكامن الخلل و إبرازها قصد معالجتها و نقط القوة للاستفادة منها لتكون بذلك الفائدة فائدتين، كما أن دراسة التوثيق العصري تزيد من درجة التعريف به كمؤسسة قانونية و تخاطب شريحة واسعة من أفراد المجتمع حيث أصبحت جل المعاملات لا يمكن إبرامها إلا أمام موثق مؤهل ، و كذا لما يترتب من مخاطر إخلال الموثق بالتزاماته و ثبوت مسؤوليته من انعكاسات سلبية على المجتمع، و من الناحية الاقتصادية و الاجتماعية تمس العنصر المالي و البشري و النسيج الاقتصادي ككل ، في مقابل الضمانات القانونية التي كرسها المشرع المغربي للأطراف المتعاقدة في حالة ثبوت مسؤولية الموثق حماية لحقوق و مصالح المتضررين ، الشيء الذي لا محالة سيزيد من بعث الثقة في نفوس المتعاقدين و حثهم على توثيق عقودهم و إضفاء الرسمية عليها مما سيساهم في التشجيع على التعاقد و الاستثمار.
دواعي اختيار الموضوع :
إن البحث في الدوافع الكامنة وراء اختياري لهذا الموضوع ، ترجع بالأساس إلى دوافع ذاتية و علمية ، فالدوافع الذاتية تتمثل في نذرة الأبحاث و الدراسات الفقهية التي تناولت مسؤولية الموثق العصري في ظل القانون 32.09 الحديث العهد، الشيء الذي زادني رغبة و إصرارا على اختياره كموضوع لبحثي للاقتراب أكثر من عمق الموضوع و ملامسة الجوانب و الإشكاليات العلمية فيه .
أما الدوافع العلمية فتتجسد في الرغبة في صياغة بحث قانوني متناسق و متكامل يحمل في طياته الإجابة على مختلف الإشكالات التي يطرحها موضوع مسؤولية الموثق العصري لاسيما أن هذا الأخير يعتبر من الموضوعات الجديدة التي لم تنل حقها من البحث و التمحيص أضف إلى ذلك أن دراسة هذا الشق الهام من قانون التوثيق حسب تصوري الخاص من أهم ما يمكن دراسته لكونه يشكل الخيط الرابط بين مؤسسة التوثيق العصري و الحماية القانونية المكرسة للزبناء و المتعاملين معها و ذلك على ضوء القانون الجديد و الوقوف على مركز مرفق التوثيق ضمن خارطة مرافق الدولة في حماية و ضمان حقوق المتعاقدين. .
إشكالية البحث:
وبناء على ما سبق، فإن الإشكالية الرئيسية التي سأعالجها في إطار هذا البحث قمت بصياغتها على الشكل التالي:
إلى أي حد ساهم المشرع المغربي في إقرار المسؤولية الموثق العصري من أجل تحقيق الأمن التعاقدي وتحصين مختلف المعاملات المرتبطة بمرفق التوثيق العصري تحسبا لأي نزاع محتمل من جهة، ومن جهة أخرى قصد إدخال الطمأنينة والأمان في نفوس المتعاملين مع مؤسسة التوثيق العصري و ضمان حقوقهم؟
لنكون بذلك أمام مجموعة من التساؤلات الفرعية التي انبثقت عن الإشكالية الرئيسية نجملها كما يلي:
- ما هي أنواع مسؤولية الموثق العصري ؟
- ما هو الأساس القانوني الذي تقوم عليه ؟
- ما هي مجالات وآليات تطبيقها وتفعيلها ؟
منهج البحث:
اعتمدت أثناء دراستي للموضوع المزج بين المنهجين التحليلي و المقارن، فتارة نحلل المواد والنصوص القانونية، وأخرى نقارن بين مقتضيات هذه المواد في القانون 09-32 وظهير 4 ماي 1925 الملغى وتشريعات مقارنة أخرى.
ولتحقيق كل ما سبق، وكذا لجعل الموضوع منسجما شكلا وموضوعا، فقد ارتأيت تقسيمه وفق الشكل التالي:
- الفصل الأول:المسؤولية المدنية للموثق العصري.
- الفصل الثاني : المسؤولية التأديبية و الجنائية للموثق العصري.
[1]- انسجاما مع مقتضيات المواد 4.3.2 و 5 من القانون 32.09 المنظم لمهنة التوثيق العصري .