يعود الأستاذ مصطفى الشويكي بعد غيبة قصيرة قضاها في تحضير و إتمام إصداره الجديد تحت عنوان : المغرب أمام التحدي الحضري، أية سياسة للمدينة ؟ إصدار يلخص باقتضاب مركب واقع هذا التحدي، و الذي يعتبر شاملا لجميع مناح المدينة المغربية من خلال، أولا، قراءة معمقة في الكتابات الرسمية التي رافقت النقاش العمومي حول سياسة المدينة، و أيضا خبرة أستاذ و تجربة باحث في الجغرافيا الحضرية الذي اشتغل طوال عقود داخل أكبر مختبر حضري في المغرب: الدار البيضاء.
إن الحديث في/على الكتاب يستوجب و بالضرورة بعض التوضيحات الأولية لكي يسهل النقاش و يتأسس النقد داخل تفاصيل و محتويات المؤلف.
في التحدي و أشياء أخرى
بداية، كلمة تحدي تفيد ضمنيا الإلزام بالشيء و الإعتراف بوجوده. أي أنه بعدم قبول التحدي رفض للواقع و هروب للأمام. ثانيا، كلمة تحدي تأخذ شكلا مركبا داخل المؤلف. فنتساءل هل التحدي هنا بالأساس سياسي، أي أن رفعه منوط بالدولة كجهاز و السلطة المشروعة كأداة لهذا الجهاز، أم أن المجتمع ـخلافا للفردـ معني هو بالأساس أم أن الفرد هو المستهدف ...
من هنا يظهر أن التحدي، إذ هو يأخذ شكلا مركبا فإن إستعماله ليس مطلق، بل إشكالي و أذاتي. بمعنى آخر، التحدي هنا إرادة لإرساء النقاش بالضرورة، ثانيا لدق ناقوس الخطر و التحذير من واقع حضري بدأ يتخذ أشكالا و أنماطا وظيفية جديدة، ثالثا لإعادة طرح و كتابة إشكالات حضرية و إن كانت على ما تبدو كلاسيكية، فهي بصيغتها الآنية تنتمي لنسق حضري حديث. فالتحدي هنا ليس فقط البحث عن توصيفات جديدة للظاهرة الحضرية ـ وعيا منا بأهميتها الأساسية بطبيعة الحال ـ بل إرادة للبحث الفعلي عن مخارج.
التحدي أم التحديات
الحديث عن التحدي ـ بصيغة الفرد ـ ليس المراد منه وصف و تجميع الإشكالات الحضرية بقدر ما يطمح إلى ضم جميع الصعوبات، المعيقات و الإختلالات الحضرية في شكل جبهة واحدة لتأخذ رمزية التحدي في شكل شمولي متكامل. ذالك باعتبار أن الظاهرة الحضرية كبنية و نمط تسييري، تلزمنا في شموليتها أكثر من رؤيتها قطاعيا. من خلال هذا، تظهر أوليا منهجية الكاتب، إذ من خلال جرد مجموع هذا التحدي المتعدد الأبعاد يذهب بنا في الأخير لمفهوم حديث درج في النقاش حول آفاق المدينة، هو سياسة المدينة كرهان و جواب على الوضع القائم.
مدينة " الغير مهيكل "
الإجماع الحاصل اليوم هو أن المدينة بصفة عامة، تعاني عالميا من أزمات، لكن تعريف الأزمة هو بالذات ظرفيتها أي إستمراريتها المحدودة في الزمن و المكان و زوالها يكون عند إصلاح الخلل. الحال بالنسبة للمدينة المغربية مغاير، فإعادة إنتاج الأنماط الحضرية على جميع الأصعدة : التعميرية، السياسية الإقتصادية، الإجتماعية و البيئية منذ بداية الاستعمار ـ لما عرفته هذه الفترة من تفرقة إجتماعية /مجالية ـ إلى ما بعد الإستعمار هو الطابع الغالب. فأثر التراكمات التاريخية يظهر جليا للعيان حين تستعصي الأزمة و تكثر الإختلالات.
تحليل الأبعاد المكونة للشيء الحضري المغربي تظهر في آن واحد وحدة الظاهرة و تعددية مظاهرها. بصيغة أخرى، تقاطع المظاهر هو الذي يبعث إلى الوحدة. بهذا التحليل نتجه نحو إعادة توجيه التاكتيكات التي رافقت معالجة الإشكاليات المطروحة. فالتركيز كما هو الحال بالنسبة لللمدينة المغربية على الجانب التعميري فقط ـ كتاكتيك ـ هو إختزال للإشكالية و بالتالي الحصول على نتائج محبطة لأن مثل هذه المقاربة تصنع لذاتها واقعا مغاير. التوسع الحضري مثال مفيد هنا. توسع يتم حسب " الهمزة العقارية " و المبادرة الفردية لرأس المال. الظاهر منه ملئ الخصاص السكني أما المترتب عنه فهو إهدار نجاعة المجال بفتح مجالات جديدة للتهيئة خالقا معه مشاكل التنقل و التجهيزات العمومية، ترييف المدينة ....إلخ
إنطلاقا من ذالك، التوسع الحضري مجاليا يشكل " خيارا " غير قابل للتعميم بالنسبة لجميع المدن، فالتوسع المجالي يستتبعه إنتاج للمجال الحضري يتسم بتفجير الحدود الحضرية و توغلها داخل النسيج القروي الذي يؤزم الوضع في أحواز المدن و من تم إنتشار السكن الغير قانوني. هذا الوضع الغير القانوني، هو وضع عام يرجع إلى أن مستقبل المدينة المغربية يتبع القرارات الظرفية للسلطة المحلية و ليس مضامين وثائق التعمير. المدينة إذن مرت من التخطيط الحضري إلى التدبير الظرفي. مرور لم يكن دون عواقب.
هذا الوجه الغير مهيكل، و الغالب على الظاهرة الحضرية يتمظهر بطريقة واضحة حين يتعلق الأمر بالاقتصاد الحضري، إذ في غياب شبه تام للصناعة ـ أو على الأقل انحصارها داخل المدن الكبيرة على طول الساحل ـ تصبح المدينة في حالة من التشنج حيث تبقى السيطرة للنشاط الثالث إلى جانب الأنشطة التجارية الغير مهيكلة. هذه الأخيرة التي تتعرض لهجوم تغليطي عبر خطاب يجعلها محصورة في خانة المهن الصغرى المعيشية في حين أنها تشكل أكثر من 39 بالمئة من الشغل غير الفلاحي بالمغرب. هذه الأنشطة أصبحت ملاذ حقيقي ليس فقط للساكنة النشيطة الغير مدمجة داخل النشاط الاقتصادي المنظم، بل أيضا بالنسبة لرؤوس الأموال الواردة من النشاط القانوني، حيث تساهم في تحويل الأموال من النسق العلوي إلى الآخر التحتي. بتعبير آخر، الأنشطة القانونية تحصن الأنشطة الغير مهيكلة بما أنها طريقة جيدة لتثمين الأرباح التجارية المكدسة لديها.
إذن التوسع الحضري للمدن أصبح عاملا أساسيا لإحتضان الإقتصاد الغير مهيكل و تغديته.فإنتشاره حول جميع مدن المغرب و حتى الصغيرة منها دليل على قوة هذا الإقتصاد، الذي يوفر 2 مليون منصب شغل و 280 مليار درهم كرقم تداولات، على إمتصاص الطلب الإجتماعي و إستيعاب نزيف الفوارق الاجتماعية فنموه يفوق نمو القطاع المهيكل. الخلاصة، نحن أمام ظاهرة مندمجة جيدا داخل المدينة المغربية و ربما أكثر من القطاع المهيكل مما يجبرنا على تغيير المقاربة في التعامل معها و دفعها لأخد أشكال جديدة.
الإدماج ؟
سؤال الإدماج أو الدمج الحضري حاضر بقوة في كتاب الأستاذ مصطفى الشويكي. هذا المفهوم الذي طاله إستعمال مفرط من طرف الجميع، يرى فيه الكاتب مدخلا حقيقيا لإقلاع حضري متناسق. إدماج رهين بتوازن هش بين التقاليد و الحداثة حيث تبقى المدينة المغربية تتقدم بسرعات مختلفة. تقليدية في علاقاتها الإجتماعية و حديثة إذا ما نظرنا إلى تنظيمها الرسمي، " ترقيع إجتماعي " يتماهى و تعددية ثقافية خلافا للأحادية الثقافية المثمثلة في المدينة القديمة. بناءا عليه فالإدماج الحضري يعوقه طلب إجتماعي متمثل أساسا في أسئلة العطالة، السكن و الفقر الحضري لما لهم من تأثير قوي على المنظومة الحضرية. و هنا السؤال الكبير : كيف للمدينة أن تقوم بإدماج الساكنة ـ الحضرية رغما عنها ـ التي أجبرت على ترك الأرياف بسبب الشغل و التي وجدت نفسها مهمشة أولا من طرف سوق الشغل و السكن ؟ التعامل مع هذا السؤال الذي يعود لأكثر من قرن من الزمان كان و لا يزال، عبارة عن عملية ضخمة من " التطهير الحضري " من خلال ترحيل" هؤلاء " إلى الأحواز و الهوامش الحضرية في منظر شبيه بعمليات التنقية تحث الحماية.
الثورات ؟
قام الكاتب هنا بلفت الإنتباه إلى تسلسل زمني لأحداث متعاقبة جمعها داخل نسق سماه الثورة الحضرية. انطلق مع بداية القرن الماضي بتنزيل للنمط الحضري الإستعماري على حساب " المدن العتيقة " إلى حين وصوله لتسعينيات القرن 20 حيث الثورة الحضرية الثانية بمرور المغرب للأغلبية الحضرية.
خلال الأولى أو الثورة المسلوبة، على حد تعبير الكاتب، تم نسيان أو تناسي المغاربة في مدنهم. المدن الجديدة قامت على أساس خدمة حاجيات الأوروبيين و من تم تخصيص " الغير الائق " لهم، من شغل و سكن للمغاربة. أما الثانية فعرفت إستمرارا و إن كان مغلفا ببعض التغيير. فالتوجه نحو " الكل سكني " لم يحصل دون إنعكاسات، فقد تحولت الدولة ـ بمساعدة مجموعة من الفاعلين الآخرين التي قامت بإقحامهم ـ إلى أكبر مضاربة عقارية و مقاولة سكنية ضخمة. بتعبير آخر، إستثمار كبير في إنتاج " حلم " الوصول للملكية السكنية أكثر من وسائل الإنتاج. النتيجة : مشروع مجتمعي أساسه الإنتهازية حيث ملكية السكن تعتبر الوسيلة الأساس للترقي الإجتماعي.
في هذا الإطار، مشروع سياسة المدينة داخل إستمرارية الإختلالات الحضرية بشتى أنواعها و خطاب سياسي متحول يضم منذ عقود محاولات و تجارب قطاعية إصلاحية طالت، محاربة مدن الصفيح، السكن الإجتماعي، محاربة الفوارق الإجتماعية/المجالية، الإستراتيجية الوطنية للتنمية الحضرية، المخطط الوطني للتهيئة المجالية، يعتبر تداركا فعليا لسياسات الترقيع الحضري الفاشلة بإعتراف رسمي من طرف الدولة ـ كما جاء بذالك نص المشروع ليونيو 2012 ـ و أيضا وعي عميق بدقة مرحلة موسومة بالتجديد السياسي لما عرفته المنطقة من تحولات سياسية إنتهت في المغرب بإقرار دستور جديد.
ما بعد الثورات
أمام كل تساؤل لابد من إجابة. الإجابة الآنية لما بعد " الثورات " و التي خدمت ربما الجميع فيما يخص الإختلالات الحضرية كانت زواجا بين المشاكل الحضرية و القطاع الغير مهيكل. زواج غير شرعي حسب الكاتب، قد يكون، آنيا، يفي بالغرض بإبقائه الحال على ما هو عليه بمساعدة " مقاولين الفقر". لكن في الأفق ماذا؟
الإجابة قد تكون موقفا صريحا أمام المد المعولم. و هنا دور السياسة.
على عادته، يعود الأستاذ مصطفى الشويكي و يقوم " بمغربة " المفهوم الجديد لسياسة المدينة لسبب وحيد، هو أنه في مواجهة المشاكل الحضرية سوف تصطدم سياسة المدينة حتما بمشاكل أخرى متعلقة بالبنيات و الهياكل التدبيرية و التسييرية النابعة من واقعنا الإجتماعي، الإقتصادي و السياسي. إنطلاقا من هنا، سياسة المدينة كجواب، ملزمة بإيجاد طريقة لمقاربة الإختلالات الحضرية التسييرية أولا. فمشروع سياسة المدينة ـ سياسة المدينة لا تزال مشروعا، موضع نقاش ـ يجب أن يستعين بدروس و عبر قرن كامل من التعمير و دينامية تاريخية لا محيد عنها وأيضا الإجابة عن سؤال منهجي يروم بالأساس الحاجة لمثل هذه المباشرة أو التدخل.
سياسة المدينة أم السياسة الحضرية؟
ترتيب و تنقيح المفاهيم يعتبر من أولويات أي باحث. الكاتب هنا لا يحيد عن هذا التقليد الأكاديمي الصرف. فبين السياسة الحضرية و سياسة المدينة فارق يستعصي رصده في غياب جهاز مفاهيمي قادر على إستيعاب التفصيل و الشرح.
من خلال تجربة تعميرية و تسييرية للمدينة عن ما يزيد عن نصف قرن، أثبتت محدوديتها و عدم نجاعتها في هيكلة مدينة قادرة على مواجهة التحدي و إرساء مشروع مجتمعي واضح المعالم يصبح فيه " الكائن الحضري " أساس التقدم، فلابد من مراجعة جدرية لطرق مقاربتنا للمدينة. بتعبير آخر فإن نقد فشل السياسة الحضرية المتبعة ـ على خلاف مجموعة من الباحثين، الأستاذ مصطفى الشويكي يؤكد على وجود سياسة حضرية منذ الإستعمار و إن كانت لا تنصب في خانة السياسات العمومية ـ يجب أن يكون مدخلا لبناء مفهوم سياسة المدينة الجديد.
البداية تبدو متعثرة. الرؤية الموجهة لمشروع المرجعية الوطنية لسياسة المدينة، التي أكدت على إحترام مهام كل طرف متدخل في تنفيذ و إقرار مضامين المشروع، تصطدم بمركزية قوية لآليات التسيير من خلال الوصاية. و من تم يظهر أن تقاطع المهام و الوظائف سوف يكون من " مميزات " المشروع و الطابع الغالب على طرق تسييره.
لا يمكن تخيل نجاح التجربة بنفس الفاعلين الذين ترأسوا تفعيل و تطبيق السياسات السابقة إذ الهياكل المسيرة تعتبر عاملا أساسا في الفشل. إنطلاقا مما سبق، يظهر نقص في تعريف المفاهيم المؤسسة لمثل هذا المشروع الضخم. الشمولية التي تقتضيها سياسة المدينة في تحديدها للإختلالات الحضرية العامة، لا يجب أن تحجب الخلط المفاهيمي بينها و بين السياسة الحضرية داخل تفاصيل المشروع. فالتشابه الإصطلاحي المستعمل من قبيل " النسق الحضري " ، " مدينة العدالة الإجتماعية " ... ينم عن تواجد غير مرحب به لتصورات ماضية تنتمي لما قبل سياسة المدينة، تساهم في التقليل من خصوصية التجربة. فإذا كانت الإستمرارية تقليدا مغربيا بإمتياز، فإن القطيعة بخصوص المشروع الجديد لسياسة المدينة ضرورية لإنتاج مشروع مجتمعي جديد طموح لا يعتبر المدينة كثلة إسمنتية صماء.ساسيا في الفشلا