المقدمة
إن النص القانوني باعتباره وعاءا يتضمن مجموعة من الأحكام و الضوابط التي تنظم سلوك الأفراد داخل المجتمع، يدفع المهتم بالثقافة القانونية سواء كان باحث أكاديمي أو شخص مهني محامي كان أو قاضي وغيرهم من المهنيين. إلى ضرورة احترام مجموعة من الآليات و التقنيات التي تمكن القارئ بصفة عامة و الباحث بصفة خاصة من فهم هذه النصوص عبر زمرة من الضوابط و القواعد اللغوية و الدلالية.
و القراءة عبارة عن عملية لغوية تكسب خبرة فنية و توظف الحواس في خلق التواصل مع الرموز اللغوية مشاهدة و نطقا و فهما، و التدرب على وصل الرموز بالمعاني دونما إغفال للسياق و خصوصياته، ومن تم نخلص إلى استيعاب قرائي. فالقراءة إذن عملية عقلية و فكرية معقدة، تصل جملة من الأطراف، و ترمي في النهاية إلى الفهم و تحصيل العلم.
ومن تم فالهدف من قراءة النص القانوني هو الوصول للكشف عن الأسرار اللغوية للصياغة و الوعي بقيمة المعاني النحوية.
و قراءة النص القانوني تختلف عن القراءة العامية المعروفة لدى العموم، ذلك لأن قراءة النص القانوني مسألة تتعلق بمخاض عسير و تخضع لعدة عوامل موضوعية ، أضف إلى ذلك أنها تشمل عدة تراكمات و حقائق تتبين من مفردات النص و مضمونه .
كما أن علماء أصول الفقه الإسلامي بدورهم اهتموا بتنظيم و صياغة قواعد لغوية و استمدوا منها. و مما قرره علماء الفقه الإسلامي في هذا الصدد قواعد و ضوابط يتوصل بها إلى فهم النص القانوني فهما صحيحا ، و ذلك عبر قراءتها بشكل واضح وغير مخل يتوصل بها إلى فهم النصوص، و إيضاح ما فيها من خفاء، ورفع ما قد يظهر من تعارض بينها و تأويل على تأويله ،وغير هذا ما يتعلق بالاستفادة من أحكام هذه النصوص .
أضف إلى ذلك أنه ليس من السائغ أن يسن المشرع نصا قانونيا ويطلب من الأمة فهم ألفاظ مواده و عبارته على مقتضى و تصورات أخرى، ومن هنا تظهر أهمية الموضوع وذاك في معرفة الطرق الأمثل لقراءة صحيحة للنصوص القانونية حتى يكون بالإمكان فهمها على نحو جيد.
و الإشكالية الأساسية التي يطرحها هذا الموضوع تتمثل في كيفية قراءة النص القانوني؟
و تتفرع عنها مجموعة من الأسئلة من قبيل ماهي عناصر النص القانوني؟ و ماهي القواعد الكفيلة بتحقيق قراءة صحيحة له؟
للإجابة عن هذه الإشكالية سنحاول مقاربة هذا الموضوع معتمدين على منهج تحليلي وصفي وفق التصميم الأتي:
المطلب الأول: عناصر النص القانوني و منهجية القراءة
المطلب الثاني: القواعد اللغوية لقراءة النص القانوني
المطلب الأول : عناصر النص القانوني و منهجية القراءة
الفقرة الأولى: عناصر النص القانوني
أولا : هوية النص القانوني
1) مصدر النص القانوني
و يطرح السؤال لماذا نقوم بالبحث عن مصدر النص و الجهة التي صدر عنها؟
الجواب عن هذا التساؤل قد يتضح لنا بشكل جلي في أن بعض المقترحات تكون مجرد وسيلة لتسوية حسابات سياسية، أو ربما وجود تجاذبان بين الفصائل الحزبية داخل البرلمان المعارضة من جهة والأغلبية من جهة أخرى.و لفهم هذه المسألة بشكل أدق لابد من البحث عن الغاية من سن هذا النص حتى نعلم أية مرجعية تتحكم فيه.
ويمكننا أن نستخلص هذه الغاية من الوثائق و المستندات الرسمية و المذكرات الإيضاحية و مناقشات المجلس التشريعي و ما تقدمه اللجان من توصيات.
في خضم هذه المعطيات يمكن أن نعثر على غرض المشرع و مقصده الحقيقي وراء سن النص القانوني.
2 ) صدور النص القانوني
كما أن بعض القوانين تنسخ، و كمثال على ذلك المادة 132 من قانون 32.09 المتعلق بتنظيم مهنة التوثيق العصري المغربي، و التي نسخت مقتضيات الظهير الشريف الصادر في 1925 المتعلق بتنظيم مهنة التوثيق باستثناء الفصل 39 المتعلق بتنظيم صندوق تأمين الموثقين و تمويله.
فالقارئ يجب أن تكون له معرفة مسبقة بحيثيات النص و ظروف نشأته و الإرهاصات التي تتعرض لها،والغاية من ذلك توضيح جو و ظروف تقنينه و معرفة مدى انعكاسه على أوضاع المجتمع سواء الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية .
3) طبيعة النص القانوني
فنصوص القانون العام تعنى بالمؤسسات الكبرى في الدولة و تتفاعل مع المنظمات الحكومية و غير الحكومية، و بالتالي فقواعده و نصوصه تتسم بمعيار المصلحة العامة و الرضوخ السياسي.
على خلاف نصوص و قواعد القانون الخاص التي تهتم بالمجال الفردي و التي تنحصر في نطاق العلاقات الفردية لأناس من العامة ،رغم أن الدولة في بعض الأحيان تصبح بدورها طرفا إلا أنها تتنازل عن امتيازات السلطة العامة.
لذا فالقارئ الذي يستبعد هذه الأمور أثناء عملية القراءة، يجعل من ذلك النص القانوني أداة تستحوذ عليه فيشرد ذهنه و تتوه أفكاره بعيدا عن فهم الموضوع.
ثانيا : بنية النص القانوني
1) البنية اللغوية
و أيضا طبيعة العبارات المستعملة و التي تفيد إما الأمر أو الاختيار(مثلا يمنع أو يمكن)مما يحدد لنا طبيعة النص القانوني بين كونه إما قاعدة آمرة أو مكملة.
و يمكن تلخيص سمات الجملة القانونية لغويا في الأغلب الأعم بما يلي:
أ) طول الجملة القانونية بشكل مبالغ فيه و اعتمادها دائما على التراكيب المعقدة.
ب) التباعد بين أجزاء الجملة التي تكون في الجمل العادية عادة بجوار بعضها البعض، كالتباعد بين الفاعل و الفعل أو الصفة و الموصوف.
ج) استخدام العبارات المقيدة للمعنى بشكل مفرط، لتقييد أجزاء معينة من الجملة القانونية أو لتقييد الجملة كلها مما يصعب معه تأويلها لغرض غير الغرض المرجو منها.[4]
و أحيانا قد تكون إرادة المشرع صريحة في وجوب إعمال مقتضيات نص ما.كأن يقول يجب إعمال هذا المقتضى على الرغم من كل نص مخالف و يكون الهدف من وراء ذلك حماية فئة معينة في المجتمع. كالأجراء أو المستهلكين في قوانين حماية المستهلك أو مخاطبة النص لجميع المواطنين.[5]
و القراءة الجيدة للنص تستدعي من القارئ أن يقف متأملا في هيكلة النص، ذلك .أن اهتداءه للموضوع إنما يتم بفضل هذه المرحلة.
و غالبا ما لا يتوفق الطالب في قراءة النص القانوني،و السبب في ذلك يرجع إلى ما تتسم به هذا الأخيرة من صعوبة و دقة ناجمة عن طبيعة المصطلحات التي ينطوي عليها و التقنية المعتمدة في بنائه و تحريره.[6]
2) البنية الطبوغرافية
و من أمثلة ذلك المادة الرابعة من مدونة الحقوق العينية التي تنص على ما يلي"يجب أن تحرر –تحت طائلة البطلان– جميع التصرفات المتعلقة بنقل الملكية أو بإنشاء الحقوق العينية الأخرى أو نقلها أو تعديلها أو إسقاطها بموجب محرر رسمي أو محرر ثابت التاريخ يتم تحريره من طرف محامي مقبول للترافع أما محكمة النقض ما لم ينص قانون خاص على خلاف ذلك...".
أيضا تسن الفقرة الأولى المبدأ أو الأصل أما الفقرة أو الفقرات الموالية فتقنن شروط هذا المبدأ أو حالاته.
أضف إلى ذلك أن النص ينبني على أسس نظام منطقي،حيث نجد التعريف و المبادئ العامة ثم الاستثناءات.
وهو قد يكون مقتضبا يسهل ضبطه، أو مركبا و طويلا عندئذ يجب تجزئته إلى فقرات مع احترام التقسيمات الأصلية و كافة العلامات التي تتخلله كالفواصل، و النقاط و العوارض و غيرها.
من شأن هذا الأمر أن ييسر على القارئ و الباحث من مهمة التمعن في كل حرف من حروف النص مثلا (و، أو)، و التي تعطي للجملة مدلول مختلف و في كل لفظ من ألفاظه و عباراته .
كما يجب في هذا المضمار مراعاة:
أ) الترقيم الذي يحدد مثلا المشرع في نص المادة 209 من مدونة الأسرة سن الرشد في 18 أو سن الانتخاب.
ب) المذكر يشمل أحيانا المؤنث فكلمة الطفل تشمل الولد و البنت.
ج) المفرد يشمل أحيانا الجمع مثل كلمة القاصر فتشمل جميع القصر الذين يوجدون في نفس الوضعية التي يحكمها النص القانوني.[7]
و ما يمكن ملاحظته في هذا الأمر، أن القراءة لاتعني فقط فهم النص و توجيهه بل لابد من الوقوف عند عباراته و ألفاظه و كذا تراكيب الجمل.
و تساهم كل من البنية اللغوية و الطبوغرافية في تحديد مضمون النص و استنباط المفاهيم التي تتطلب الدراسة.
ثالثا: مضمون النص القانوني
بعد أن تم تحديد كل من هوية النص و بنيته نقف عند العنصر الثالث و المتمثل في مضمون النص القانوني و تبيان محتواه حيث يتم:
1) إبراز القاعدة أو القواعد القانونية من ثنايا النص، و التي تستخرج من الفقرة أو الفقرات المكونة للنص.
2) التوصل إلى معرفة روح النص أي الهدف التشريعي من تقنينه.
3) تحديد الحالات الواقعية التي تندرج في إطار النص.[8]
و لابد أيضا من معرفة موقف الفقه من النص و تبيان الجدل الذي آثاره النص في مضمونه بين الفقهاء و اتجاهاتهم بشأنه(اتجاه مؤيد و اتجاه معارض) [9]
و الواضح من خلال معاينة الواقع التطبيقي للنصوص القانونية، أن المشرع عادة ما يعمد إلى وضعها بطريقة تستجيب للتطورات التي يعرفها المجتمع .
و نوضح هذا الأمر بتعديل مقتضيات الفصل[10]475 من مجموعة القانون الجنائي الذي يجرم الاغتصاب ، حيث توجه نحو مقتضى جديد يمنع على الجاني التملص من العقاب بالتزوج بالضحية المغتصبة، بعد أن كان فيما قبل يتيح له هذه الإمكانية لأن من شأن هذا الأمر أن يسهم في استفحال هذه الظاهرة كما يفتح المجال أمام المجرمين للتملص من العقاب.
فقراءتنا مثلا لهذا النص في مضمونه تحيل بشكل مباشر لفهم إرادة المشرع و تحديد المغزى الذي يطمح إليه.
إذن هذه هي مختلف العناصر المستنبطة من النص القانوني.
لنتساءل عن الطريقة و المنهجية المثلى نحو قراءة واعية للنصوص القانونية، و هذا ما سوف نحاول مقاربته في الفقرة الموالية.
الفقرة الثانية: منهجية قراءة النص القانوني
أولا: مراحل قراءة النص القانوني
1) قراءة النص أكثر من مرة
و قراءة النص لأكثر من مرة يمكن القارئ من أن يحقق مواصفات القراءة الجيدة و يحقق الفهم الأمثل والعميق للنص، و بالتالي يمتلك القدرة على الحكم عليه و نقده بناءا على استنتاجات و استدلالات يتوصل إليها من التكرار التي يتبعه .
أما القراءة العشوائية و المتسرعة فتفضي بالقارئ إلى مجموعة من الهفوات بحيث لا يعطي لنفسه الفرصة للاستئناس بالنص، و التعرف عليه شيئا فشيئا حتى ينجذب إليه.
بمعنى أن العلاقة ما بين النص و القارئ ينبغي أن تتوفر فيها عنصر التريث و الفطنة و اليقظة، ليصل إلى إحاطة شاملة بالنص و حصر المادة المدروسة فيه و تعيين نطاقها ضمن سياج محدود. [12]
2) طرح الأسئلة
و من ضمن المصطلحات التي يجب استعمالها ، لماذا؟أين؟من؟كيف؟لمن؟فكل هذه الكلمات إذا استعملت في محلها، فإنها تؤدي إلى استيعاب الكثير من المعرفة و العلم و الفهم.[13]
3) التسطير على الكلمات و المصطلحات و العبارات الواردة في النص
يجب التسطير على الكلمات و المصطلحات أو العبارات المتضمنة في النص ،سيما تلك التي تكون غامضة و تحتاج إلى معرفة دلالتها.ذلك أننا نصادف مفاهيم أساسية أو كلمات تحتمل عدة معان،أو التي لا مضمون ثابت لها.كأن تكون متغيرة في الزمان و المكان مثل مصطلح النظام العام و الآداب العامة و التي تختلف من مجتمع لآخر، فكلمة السنديك مثلا من بين العبارات المتداولة واقعيا عند العامة في نظام الملكية المشتركة للبنيات كما نجدها أيضا في إطار صعوبات المقاولة. [14]
و تؤدي هذه المرحلة التي أوضحناها إلى:
1) تحديد كلمات المفاتيح و هي الكلمات الأساسية التي يرتكز عليها النص.[15]
2) تحديد طبيعة الكلمات القانونية كالكلمات التي تفيد الأمر(يجب...) أو النهي(لا يمكن.لا يجوز...) ، أو الاختيار( يسوغ،يمكن...) ،و ذلك نظرا لأهميتها في تحديد طبيعة القواعد القانونية المستنبطة من النص (قواعد آمرة أم مكملة).
3) تحديد الكلمات الغامضة لتفادي الفهم السيئ أو المخالف لروح النص القانوني.[16]
ثانيا : توظيف قواعد اللغة العربية في قراءة النص القانوني
قراءة سطور النص و فهم المعلومات و تفاصيله،بمعنى استيعاب ظاهر النص. ثم قراءة مابين سطوره و الذي يمكننا من إدراك العلاقة بين ألفاظ النص و تركيبتها. وأخيرا قراءة ما وراء السطور بحيث يمكن للقارئ أن ينتقد المقروء و يقومه.
و لابد من احترام هذه المستويات في حدود القواعد اللغوية للنص سواء تلك المتحكمة في صياغته،كما يتعين ضبط العلامات الإعرابية المحددة لمعانيه.
و لعل العامل الذي يساعد على القراءة الجيدة للنص القانوني،هو إدراك خاصية صياغته أي ضبط قواعد اللغة العربية النحوية ،لأن معاني النحو هي التي تحكم السياقات المختلفة و تترجم علامات الإعراب في أواخر الكلام.
ومن النصوص القانونية التي تبزر مدى توظيف اللغة العربية و أهميته.ا ما يتعلق بتصدير ديباجة الدستور المغربي نظرا لموقعه و دلالته الرمزية في السياق القانوني، فهو نموذج حي نتواصل عبره مع اللغة و قواعدها.
ففي الفقرة الأولى منه تم توظيف الأسماء فحسب لأنها تخدم هدف التعريف بالدولة فجاءت في صيغ جمل اسمية (مبتدأ خبر) فضلا عن نعوت لتحديد الصفة (مغربية ،إسلامية ،كاملة رسمية ،عربية) ،أضف إلى ذلك مجموعة من قواعد اللغة العربية التي يطول المقام لشرحها و لأن مثل هذه الأمور تكون محلا لدراسات أكثر تعمقا.
و من هذا المنبر ندعو مشرعنا ليصب اهتمامه على مناهج اللغة العربية ،و تخصيص مواد تدرس في هذا الشأن بكليات الحقوق، و التي تكون لها علاقة بمجال الاختصاص القانوني .
كما يجب على الطالب و الباحث أن لا يقف فقط عند النصوص القانونية، بل يجب أن يكون ملما بقواعد و مناهج اللغة العربية و أساليب القراءة القانونية فيه.
المطلب الثاني : القواعد اللغوية لقراءة النص القانوني
الفقرة الأولى: عبارة النص ومقتضاه وإشارته
أولا : عبارة النص:
فالنصوص القانونية الصادرة عن المشرع يكون لها مدلول معين من خلال العبارات التي يستعملها ، حيث يستهدي الباحث بها حتى يتمكن من الوقوف على قصد المشرع من النص ،ومن ذلك مثلا نجد الفصل 485 من ق. ل. ع الذي ينص:
" بيع ملك الغير يقع صحيحا إذا أقره المالك "
دل النص بعبارته على أن صحة بيع ملك الغير يتوقف على إقرار المالك للبيع[18] . وبذلك فان كل نص قانوني يستهدف تنظيم مسألة معينة ، لا يتم الوقوف عليها إلا بقراءة العبارات التي صاغ بها المشرع النص ، وعليه ينبغي على الباحث أن يتمعن في قراءة العبارات التي جاء بها النص حتى يتأتى له الوقوف على المعنى الحقيقي وقصد المشرع منه .
ثانيا: إشارة النص
وعلى سبيل المثال فالفصل 485 السالف الذكر ، إن كان يدل بعبارته على أن صحة بيع ملك الغير يتوقف على إقرار المالك لهذا البيع ،فانه دل بإشارته على أن بيع الفضولي ليس باطلا وإنما هو قابل للإبطال مادام أنه قابل للتصحيح ، ولو كان باطلا لما أمكن تصحيحه .
لابد لقراءة نص قانوني كيف ما كانت المسألة التي ينظمها ، أن لا يتم الاكتفاء بما يدل عليه النص بعبارته ، بل لابد أن يتم استحضار كل ما يمكن أن يشير إليه النص ولو بطريقة ضمنية ، لأنه إن كان في بعض الحالات ينظم بعض المسائل بكيفية صريحة، فانه في بعض الأحيان الأخرى ،لابد من البحث في خبايا النص للوقوف على ما يشير إليه ، حتى يستقيم معناه ، وتكون قراءته قراءة صحيحة وتامة.
ثالثا: مقتضى النص
جاء في المادة 98 من مدونة الأسرة
" للزوجة طلب التطليق بناء على أحد الأسباب الآتية :
- إخلال الزوج بشرط من شروط عقد الزواج.
- الضرر"
- " للزوجة طلب التطليق بناء إلحاق الضرر بها من قبل الزوج" [21]
واقتضاء النص غالبا ما تكون كلمة أو حرف يجب تقديره والوقوف عليه، حتى تكون قراءة النص صحيحة ، لأنه ووفقا للمثال أعلاه ، فان عدم استحضار كلمة " إلحاق " يؤدي إلى غموض في معنى النص ، فيثار التساؤل ، متى يحق للزوجة أن تطالب بالتطليق وفقا لأحكام المادة 98 ؟ فكلمة الضرر جاءت في هذه المادة عامة وغير منسوبة .فاستحضار كلمة" إلحاق " أثناء قراءة النص تؤدي إلى الوقوف على قصد المشرع هنا .
الفقرة الثانية:قواعد العام و الخاص و المشترك
أولا : قاعدة العام
وعرفه الفقيه عبد الوهاب خلاف بقوله : " هو اللفظ الذي يدل بحسب وضعه اللغوي على شموله و استغراقه لجميع الأفراد التي يصدق عليها معناه من غير حصر في كمية معينة منها ."[22]
ومن أمثلة استعمال المشرع المغربي لألفاظ العموم في النص القانوني نجد ما جاءت به المادة 210 من مدونة الأسرة التي نصت :" كل شخص بلغ سن الرشد و لم يثبت سبب من أسباب نقصان أهليته أو انعدامها يكون كامل الأهلية لمباشرة حقوقه و تحمل التزاماته ".
من خلال هذه المادة يمكن القول على أن المشرع يتيح لعموم الأفراد إمكانية مباشرة حقوقهم و تحمل التزاماتهم شرط بلوغ سن الرشد دون أن يلحقهم عارض من عوارض الأهلية.
ومن هذا يؤخذ أن العموم من صفات الألفاظ لأنه دلالة اللفظ على استغراقه لجميع أفراده[23].
والأصل في اللفظ العام أنه يؤخذ على إطلاقه حتى يثبت ما يقيده أو يخصصه، أي حصره على بعض أفراده فقط.
و بالتالي فقواعد العام باعتبارها قواعد لغوية يمكن استحضارها من طرف الباحث أثناء قراءة النص القانوني حتى يستطيع الوقوف على المخاطبين بأحكامه ومن ثم فهمه وفقا لإرادة المشرع.
ثانيا: قاعدة الخاص
و إذا ورد في النص لفظ خاص ثبت الحكم لمدلوله قطعا ، ما لم يقم دليل على تأويله و إرادة معنى آخر منه. [24]
و نسوق مثالا لذلك من خلال ما جاءت به المادة 209 من مدونة الأسرة التي نصت على ما يلي :
" سن الرشد القانوني 18سنة شمسية كاملة "
فهذه المادة حددت سن الرشد القانوني في 18 سنة كاملة لا تحتمل زيادة ولا نقصان .[25]
و نشير هنا إلى أنه قد يرد لفظ الخاص مطلقا من أي قيد ، و قد يرد مقيدا بقيد ، كما قد يكون على صيغة طلب الفعل أو نهي.
و عليه يتوجب مراعاة هذه الأمور أثناء قراءة النص القانوني لفهم محتوى النص ومن ثم قصد المشرع من وضع النص.
فقواعد الخاص تمكن القارئ من تحديد نطاق الوقائع والأحداث التي يسري عليها منطوق النص دون غيرها. وهو ما يسهل حصر مجال النص و البحث في خباياه دون التوسع في مضمونه.
ثالثا: قاعدة المشترك
" على القضاة، عند تقدير الغلط أو الجهل، سواء تعلق بالقانون أم بالواقع، أن يراعوا ظروف الحال، وسن الأشخاص وحالتهم وكونهم ذكورا أو إناثا"
فلفظ القضاة جاء هنا مشتركا ليشمل قضاة المحاكم الابتدائية و التجارية و الإدارية بجميع درجاتها ، بل يمتد ليشمل حتى قضاة محكمة النقض.
وبالتالي فاللفظ إذا كان مشتركا بين معنيين أو أكثر من المعاني اللغوية وجب حمله على معنى واحد منها بدليل يعينه.[26]
فالفظ المشترك بين عدة معاني لغوية وجب الاجتهاد لتعيين المراد منها عند الاستعمال، و على القارئ أن يستعين في تعيين المراد باللفظ سواء بالقرائن و الأمارات و الأدلة و السياقات .[27]
لقد حاولنا من خلال هذا المطلب تناول بعض القواعد الأصولية على أن نبين أهميتها في مجال الدراسات القانونية ، وكيف يمكن استثمارها في مجال قراءة النص القانوني حتى يتأتى للباحث قراءة النص قراءة صحيحة تتماشى مع إرادة المشرع من تشريعه للنص، الشيء الذي يؤدي إلى الفهم الصحيح للنص و من ثم تطبيقه و تحليله تحليلا منطقيا يستحضر إرادة المشرع من جهة و السياق العام الذي جاء فيه النص من جميع جوانبه، سواء تعلق الأمر بمرحلة إعداده مرورا بدراسته من طرف اللجان المختصة و انتهاء بنشره ووصولا إلى تطبيقه ، لأن كل هذه المراحل التي تسبق صدور النص تؤثر في مضمونه و صياغته ومن ثم يكون من الواجب استحضارها أثناء قراءته . و القواعد الأصولية السالفة الذكر تشكل ثروة فقهية مهمة يكون من الأحسن توظيفها في هذا المجال .
ولكن لإعمال هذه القواعد بكيفية سليمة، حتى يتأتى الوصول إلى المراد منها يجب كمرحلة أولى أن يكون رجل القانون ملما بهذه القواعد لدرجة تمكنه من استعمالها بكيفية صحيحة .وهو ما يقودونا إلى التساؤل على مستوى الباحث القانوني في مجال الفقه الإسلامي بصفة عامة و القواعد الأصولية بصفة خاصة ؟
كما هو معلوم فإن نطاق الدراسات الشرعية في ظل كليات القانون جد ضيق حيث يقتصر على دراسة بعض الجزئيات البسيطة التي لا يمكنها أن ترقى بمستوى الطالب لدرجة تمكنه من سبر أغوار هذا العلم ، ومن ثم توظيف هذه القواعد بكيفية سليمة . وهو ما يعاب على الجامعة المغربية نظرا لتزمتها و انغلاقها عن بعض العلوم الأخرى ، هذه الأخيرة من شأنها أن تمد الباحث بآليات جديدة تشكل إضافة له في مجال تطوير قدراته البحثية.
وإن كان ضعف التكوين في مجال الدراسات الإسلامية يشكل عائق أمام الباحث في استثمار هذه القواعد ، فإن هذا الأمر يطرح بشكل أكثر أمام فئة المهنيين على اعتبار أن هذه الفئات هي من تعنى بتطبيق القانون ، وخاصة أن بعض التصرفات القانونية تخضع لأحكام الفقه الإسلامي . حيث نجد كل من مدونة الأسرة و مدونة الحقوق العينية تحيلان على أحكام الفقه الملكي ،وهو ما يشكل عائق أمام الباحث القانوني و بعض الفئات من المهنيين وخاصة تلك التي تلقت تكوينها في ظل النظام الجديد الذي قلص بشكل كبير حضور العلوم الشرعية في مجال الدراسات القانونية . حيث أصبح الباحث يقتصر في دراسته للعلوم الشرعية على دراسة بعض المداخل لهذه العلوم، لا تسعفه في تلقي تكوين كافي يخوله قراءة النص القانوني بطريقة سليمة .
فالقراءة تشكل حلقة رئيسية في مجال استيعاب النص و تطبيقه لأن القراءة الصحيحة والسليمة تؤدي إلى الفهم الصحيح، الذي يقود إلى تحليل منطقي و متكامل يهتدي به الباحث والمهني إلى تكييف النص تكييفا دقيقا بتصنيفه ضمن أحد الفئات القانونية ، الشيء الذي يخول له تفسيره تفسيرا سليما ، و أخيرا تطبيق النص التطبيق الصحيح و السليم .
ومن هنا تظهر أهمية القراءة في المجال القانوني على اعتبار أنه تشكل اللبنة الأساسية في مسلسل التعاطي مع النص ، وهو ما يستوجب من الباحث و المهني إعادة النظر في الكيفية التي يتم بها قراءة النص القانوني .
خاتمة
انطلاقا من تحديد عناصر قراءة النص القانوني و منهجية قراءته، بدءا بهوية النص القانوني ثم بنيته و أخيرا مضمونه. لنحدد في أخر المطاف خطوات قراءة النص القانوني يعتمدها الباحث في سبيل فهم النص عبر مراحل تسعفه في توضيح الغموض الذي قد يطاله و استيعابه بشكل واضح و مفهوم.
كما استثمرنا بعض القواعد اللغوية الأصولية التي تسعف الباحث القانوني في فهم النصوص القانونية، دون توسع في هذا المجال.
و كما اشرنا سابقا كون القراءة عملية فنية و لغوية، الشيء الذي يؤكد على أهمية عبارات الألفاظ القانونية التي يضمنها النص القانوني و التي ينجم من عدم فهمها فهما صحيحا عدم مسايرة ما أراد المشرع تحقيقه بسن التشريع.
لدى ندعو جميع المهتمين بالمجال القانوني و كذا الفئات التي توظفه في مجال معين إلى احترام ضوابط القراءة الجيدة للنص القانوني مع احترام المنهجية التي بينا بعض ملامحها ضمن هذا العرض.
المراجع
الكتب
1) ) سعدون المؤمن مبادئ الصياغة القانونية دائرة الشؤون القانونية قسم اقتراح التشريعات 2) محمد البوشواري ، المدخل لدراسة الشريعة ، الطبعة الخامسة ، أكادير ، سنة 2013
3) عبد الوهاب خلاف ، علم أصول الفقه ، الطبعة الثامنة ، مكتبة الدعوة الإسلامية شباب الأزهر ، القاهرة
4) نورة غزلان الشنيوي"مرشد الطالب إلى تقنيات منهجية البحث العلمي"الطبعة الأولى مطبعة الورود انزكان 2008
5) محمد العروصي"المختصر في المنهجية القانونية"الطبعة الثانية مطبعة مرجان مكناس 2011.
المقالات
1) حليمة المغاري دراسة النصوص القانونية كلية الحقوق أكادير غير منشور.
الفهرس
المقدمة. 2
المطلب الأول : عناصر النص القانوني و منهجية القراءة. 4
الفقرة الأولى: عناصر النص القانوني.. 4
أولا : هوية النص القانوني.. 4
ثانيا : بنية النص القانوني.. 5
ثالثا: مضمون النص القانوني.. 7
الفقرة الثانية: منهجية قراءة النص القانوني.. 8
أولا: مراحل قراءة النص القانوني.. 8
ثانيا : توظيف قواعد اللغة العربية في قراءة النص القانوني.. 10
المطلب الثاني : القواعد اللغوية لقراءة النص القانوني.. 12
الفقرة الأولى: عبارة النص ومقتضاه وإشارته. 12
أولا : عبارة النص:. 12
ثانيا: إشارة النص... 12
ثالثا: مقتضى النص... 13
الفقرة الثانية:قواعد العام و الخاص و المشترك. 14
أولا : قاعدة العام. 14
ثانيا: قاعدة الخاص... 14
ثالثا: قاعدة المشترك. 15
خاتمة. 18
لائحة المراجع. 19
الهوامش
)د.نورة غزلان الشنيوي"مرشد الطالب إلى تقنيات منهجية البحث العلمي"الطبعة الأولى مطبعة الورود انزكان 2008 ص 18[1]
)د.حليمة المغاري"دراسة النصوص القانونية"كلية الحقوق جامعة ابن زهر أكادير.ص3 غير منشور[2]
)نفسه ص3 [3]
)سعدون المؤمن"مبادئ الصياغة القانونية"ص 3[4]
)د.محمد العروصي"المختصر في المنهجية القانونية"الطبعة الثانية مطبعة مرجان مكناس 2011 ص 83 .[5]
)د.نورة غزلان الشنيوي.م س ص 12[6]
)نفسه ص 16 و 17[7]
)د حليمة المغاري.م س ص4 [8]
)د.نورة غزلان الشنيوي.م س ص 18[9]
[10] حيث تم حذف الفقرة الثانية من الفصل 475 التي كانت تنص سابقا " ومع ذلك، فإن القاصرة التي اختطفت أو غرر بها، إذا كانت بالغة وتزوجت من اختطفها، أوغرر بها فإنه لا يمكن متابعته إلا بناء على شكوى من شخص له الحق في إبطال الزواج، لايجوز الحكم بمؤاخدته إلا بعد صدور حكم بهذا البطلان"
)د.حليمة المغاري م س ص 5[11]
)د.نورة غزلان الشنيوي م س ص 13 .[12]
)د.محمد العروصي م س ص 83 [13]
)نفسه ص 82[14]
)د.حليمة المغاري م س ص [15]
)نفسه ص 5[16]
[17] عبد الوهاب خلاف . علم أصول الفقه .مكتبة الدعوة الإسلامية . ص: 140
[18] أستاذنا محمد البشواري .المدخل لدراسة الشريعة .الطبعة الخامسة .أكادير .سنة. 2013 .ص: 86
[19] نفسه . ص: 87
[20] عبد الوهاب خلاف .م .س .ص:151
[21] أستذنا محمد البشواري . م. س. ص: 89 و90
[22] عبد الوهاب خلاف ، م س ص 171
[23] عبد الوهاب خلاف م س ص 172
[24] نفسه ص 191
[25]أستاذنا محمد البوشواري . م س ص 97
[26] عبدالوهاب خلاف م س ص 177
[27] نفسه ص 178