MarocDroit  -  موقع العلوم القانونية
plateforme des décideurs juridiques - Platform of Legal Decision-Makers




د/ الحسن بوقنطار يكتب: الأحزاب السياسية المغربية وتحديات الحكامة الجيدة

     



د/ الحسن بوقنطار يكتب: الأحزاب السياسية المغربية وتحديات الحكامة الجيدة
شكل القانون التنظيمي المتعلق بالأحزاب السياسية رقم 11 . 29، كما تم تغييره بموجب القانون التنظيمي رقم 21 .07 2021، لبنة مهمة في صرح توطيد مكانة الأحزاب وأدوارها في الحقل السياسي المغربي. وتوخت الإصلاحات التي أدخلت تحقيق هدفين أساسيين: يكمن الأول في ترسيخ إقرار آليات تمكن من إدماج التدبير الحزبي ضمن متطلبات الحكامة الجيدة والشفافية والمحاسبة، كما ينص عليها الدستور. ويكمن الهدف الثاني في تزويد الحزب بوسائل إضافية للقيام بالمهام المنوطة به دستوريا وسياسيا ومجتمعيا؛ ومن أبرزها السماح له بتأسيس شركات للتواصل والأنشطة الرقمية شريطة أن يكون رأسمالها مملوكا كليا له من أجل استثمارها في أنشطته والحصول على عائدات مالية من خدماتها، كما تقرر صرف “دعم سنوي إضافي يخصص لتغطية المصاريف المترتبة عن المهام والدراسات والأبحاث التي تنجز لفائدتها من طرف الكفاءات المؤهلة بهدف تطوير التفكير والتحليل والابتكار في المجالات المرتبطة بالعمل الحزبي والسياسي”، كل ذلك يأتي ضمن قناعة للدولة مضمنها أن المشروع التنموي والديمقراطي لا يمكن أن يتبلور بدون مساهمة الأحزاب السياسية.

لكن، إذا كان من الصعب رصد حصيلة متكاملة وموضوعية لما تم إنجازه، ولمدى درجة تفاعل الأحزاب مع هذه الإصلاحات؛ وذلك بفعل وجود حقل حزبي يتسم بوجود أكثر من ثلاثين هيئة سياسية تتراوح في إمكانياتها وتموقعها داخل الحقل السياسي، فإن بعض المؤشرات الأولية تنم عن استمرار وجود اختلالات ما زالت تعيق هذا الطموح؛ وهي التي رصدها التقرير الذي أصدره المجلس الأعلى للحسابات حول تدقيق حسابات الأحزاب السياسية برسم سنة 2022، والذي يندرج ضمن اختصاصه المخول له سواء بموجب الدستور الفصل 147، أو بموجب القانون التنظيمي المتعلق بالأحزاب السياسية، كما تم تغييره، أو مدونة المحاكم المالية.

وإذا كان هذا التقرير قد انصب بطبيعته على رصد معطيات محاسباتية ومالية مرتبطة بتدقيق نفقات الأحزاب ومواردها، كشفت عن تفاوت في تعامل الأحزاب المغربية مع التدبير المالي، فإن قراءة متمعنة تسمح لنا بتلمس استمرار مواجهة الأحزاب السياسية المغربية لتحديات عديدة، آثرنا التركيز على اثنين؛ وهما إشكالية التخليق، وكيفية الاستفادة من الدعم الإضافي المتعلق بالدراسات والأبحاث.

أولا: في مواجهة التخليق

قد يكون من نافل القول التذكير بأن الدستور المغربي الحالي أولى عناية خاصة لإشكالية التخليق، كما تنص على ذلك بعض الفصول؛ من بينها الفصل الأول الذي يعتبر في فقرته الثانية أن النظام الدستوري للمملكة يقوم على “أساس فصل السلط، وتوازنها وتعاونها، والديمقراطية المواطنة والتشاركية، وعلى مبادئ الحكامة الجيدة، وربط المسؤولية بالمحاسبة”. كما أن الفصل 7 المتعلق بالأحزاب السياسية يوجب أن يكون تنظيم الأحزاب السياسية وتسييرها مطابقا للمبادئ الديمقراطية.

من الواضح أن هذا الورش تساهم فيه بدرجات مختلفة كافة مؤسسات الدولة، لا سيما القضاء الذي أناط به الدستور حماية حقوق الأشخاص والجماعات وحرياتهم وأمنهم القضائي، وتطبيق القانون (الفصل 117)؛ وهو يمثل أبرز الرهانات التي تواجهها التنمية والديمقراطية، عبر العالم بدرجات واستجابات مختلفة من طرف الدول.

الأحزاب السياسية معنية بهذا الورش من خلال تدبيرها الداخلي الذي ينبغي أن يتسم بالديمقراطية والشفافية وبإيجاد آليات موضوعية ومجردة لردع الفساد داخلها، لا سيما بالنسبة للنخب المنبثقة عنها، والتي تساهم في تسيير الشأن العام، اعتبارا لكون الوظيفة الأساس للأحزاب السياسية تكمن دستوريا في ”تأطير المواطنات والمواطنين وتكوينهم السياسي، وتعزيز انخراطهم في الحياة الوطنية وفي تدبير الشأن العام”.

لكن ما يلاحظ هو تناسل عدد من الممارسات التي تكشف عن تراجع هذا المتطلب عند هذه الهيئات السياسية. ويتمثل ذلك بشكل واضح في تورط مجموعة من النواب البرلمانيين، خاصة منهم الممارسين لمسؤوليات انتدابية، تقريبا من كافة الطيف الحزبي، في مخالفات منافية للقانون ولحسن السلوك والأخلاقيات، ولمركز النائب، كما هو ملاحظ من خلال المتابعات والمحاكمات التي أفضت إلى تجريد عدد منهم. إن تزايد مثل هذه الأفعال تنم من جهة عن وجود إرادة سياسية لإنفاذ القانون، ومن جهة أخرى تطرح المسؤولية المعنوية للحزب الذي ينتمي إليه هؤلاء المفسدون وضرورة التصدي لها من طرف الأجهزة الحزبية بكل جرأة وشجاعة؛ لأن التغاضي عنها لا يمكن إلا أن يزيد من هشاشة الأحزاب، ومن تراجع منسوب الثقة بين المواطن وهذه المؤسسات الوسيطة. أكثر من ذلك يعمق أزمة الثقة في السياسة برمتها.

ومن ثم، فإن مسؤولية الأحزاب تكمن اليوم في الخروج من ثقافة التواطؤ والبحث عن المبررات الواهية إلى ثقافة ترتكز على مبدإ ربط السلوكات الحزبية بالمحاسبة. ولن يتم ذلك دون تفعيل أجهزة تخليق الحياة الحزبية، كما تنص على ذلك أغلب الانظمة الأساسية الحزبية. هذه الأجهزة التي ينبغي أن تكون مكونة من أعضاء يتسمون بمستوى من الاستقلالية والتجرد والموضوعية في معالجة الحالات المحالة عليها. فبهذه الممارسة تصبح الأحزاب فعلا فضاءات لاستقطاب المناضلين، والقيام بالأدوار المنوطة بها دستوريا؛ ومن أبرزها المساهمة في النقاش العمومي عبر مشاريع فكرية، ومقترحات قابلة للتطبيق فما يتعلق بالمشكلات التي يواجهها المجتمع؛ الشيء الذي تنبهت إليه الدولة من خلال تمكين الأحزاب من موارد إضافية لهذا المشروع.

ثانيا: في ضرورة إطلاق سراح التفكير والتحليل والابتكار

مهما كان مركز الحزب في الحقل السياسي، فهو دائما يمثل مشروعا للمساهمة في ممارسة السلطة. ويفترض هذا الأمر توفره على مشروع سياسي يتضمن مقترحات وأجوبة معقولة وواقعية للأسئلة التي يطرحها المجتمع؛ بيد أن تحقق هذا الأمر لا يمكن أن يتم دون وجود دينامية ثقافية داخل أجهزة الحزب، وهو أمر يبدو ضعيفا عند القيادات السياسية الحزبية التي تبدو مهووسة بالمواقع أكثر من تفعيل أدوات التفكير والإبداع.

لمحاولة مساعدة الأحزاب على تجاوز النقص في هذا المجال، أجاز القانون التنظيمي للأحزاب السياسية “لكل حزب سياسي أن يؤسس شركة للتواصل والأنشطة الرقمية شريطة أن يكون رأسمالها مملوكا كليا له من أجل استثمارها في أنشطته والحصول على عائدات مالية من خدماتها”. كما أقر “دعما سنويا إضافيا لفائدة الأحزاب السياسية يخصص لتغطية المصاريف المترتبة عن المهام والدراسات والأبحاث التي تنجز لفائدتها من طرف الكفاءات المؤهلة بهدف تطوير التفكير والتحليل والابتكار في المجالات المرتبطة بالعمل الحزبي والسياسي”.

بيد أنه يلاحظ، من خلال استقراء تقرير المجلس الأعلى للحسابات آنف الذكر، من جهة، أن خمسة أحزاب فقط صرحت بامتلاكها ثمان شركات تعمل أساسا في مجال الصحافة والنشر والطباعة. ويعني ذلك أن هذه الآلية ما زالت غير مستثمرة بالشكل الكافي، وقد يعود ذلك إلى اسباب عديدة؛ من بينها تواضع التدبير المالي والإداري، وكذلك ضعف الموارد البشرية، باستثناء القلة من تلك الأحزاب.

من جهة أخرى، فيما يتعلق باستعمال الدعم الإضافي، يشير التقرير المذكور إلى أن 7 أحزاب استفادت من دعم وصل إلى 20,10 ملايين درهم التزمت 5 منها بإنجاز 44 مهمة أو دراسة أو بحثا بمبلغ إجمالي قدره 15,64 دراسة؛ لكن يلاحظ تواضع نسبة الاستعمال الإجمالي، حيث لم تتجاوز 38 في المائة. وهناك حزبان، وهما التقدم والاشتراكية والعدالة والتنمية، أرجعا ذلك الدعم لعدم استعماله؛ في حين أن باقي الأحزاب التي استفادت، وهي التجمع الوطني للأحرار والأصالة والمعاصرة والاستقلال والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، شابت استعمالها، حسب التقرير المذكور، شوائب عديدة؛ من بينها:

ـ أداء تسبيقات لفائدة مقدمي الخدمات في غياب إثبات العمل المنجز، وعدم الإدلاء بالوثائق التي تثبت اللجوء إلى المنافسة لانتقاء مكاتب الدراسات، لا سيما إعلان الترشيح المحدد للشروط المطلوبة في المتنافسين؛

ـ غياب عقود تفصل الشروط الخاصة والثمن الأحادي لكل دراسة؛

ـ عدم الإدلاء بتقارير ومخرجات الدراسات المنجزة، والاكتفاء بالنسبة لأحد الأحزاب بالإدلاء بوثائق عبارة عن عموميات لا تعبر عن التزام بالمنهجية العلمية المتعارف عليها فيما يتعلق بإنجاز الدراسات والأبحاث.

في الواقع، تكمن أهمية تقرير المجلس الأعلى للحسابات في كونه وضع الأصبع على الاختلالات التي شابت بدرجات مختلفة استعمال الأحزاب المستفيدة لهذا الدعم الإضافي، وفي الوقت نفسه اقتراح توصيات لتحسين وتجويد عمل الأحزاب في هذا المجال هو أمر إيجابي، من المؤمل أن يدفع الأحزاب إلى تصحيح ما يمكن تصحيحه إذا كانت فعلا تتوفر على الإرادة اللازمة للانخراط في ورش الحكامة الجيدة.

بيد أنه في الوقت نفسه فإن تقييم هذا المقتضى لا يمكن أن يقتصر على بعد محاسباتي وإجرائي؛ فالإنتاج الفكري ليس سلعة كباقي السلع، وليس منتوجا يمكن أن يخضع لنفس معايير تقييم باقي المنتوجات. ينبغي أكثر من ذلك التعمق في الغاية العميقة المنتظرة من هذا المنتوج من طرف المشرع والمجتمع، والتي يمكن مقاربتها على مستوى شروط إنتاج الدراسات والأبحاث، وعلى الجدوى منها.

فيما يتعلق بشروط الإنتاج، ما هو مهم سياسيا هو الحرص على ضمان شرط الشفافية والابتعاد عن تضارب المصالح، بمعنى أن مكتب الدراسات المكلف من طرف الحزب ينبغي ألا يكون مطية لإثراء بعض المقربين أو المسؤولين الحزبيين، كما ينبغي ألا يكون واجهة لتحويل المصاريف المعتمدة لاستعمالها في غير محلها، أي لغايات أخرى. ويتطلب هذا الأمر، علاوة على أجهزة الرقابة اللاحقة، أي المجلس الأعلى للحسابات، أن تكون هناك رقابة داخلية؛ من خلال تمكين الأجهزة التقريرية واللجان التابعة لها من اختيار المواضيع المطروحة، والمساهمة في انتقاء المكتب المكلف بإنجازها. وليس هناك ضير في أن يتم انتقاء مكتب أقرب إلى توجهات الحزب، وليس إلى توجهات المسؤولين الحزبيين طالما أن انتاج الأفكار بطبعه لا يخلو من شحنة إيديولوجية تميز مقاربة عن أخرى.

أما الغاية الثانية، وهي تطرح الجدوى من هذا الإنتاج، وهي متنوعة؛ فقد يكون الهدف منها تطعيم الفريق البرلماني بالمعطيات اللازمة للقيام بأدواره سواء كان في المعارضة أو الأغلبية، والتي تتمثل في التشريع والرقابة وتقييم السياسات العمومية. وقد تكون واسعة أكثر تهم منظور الحزب وتصوراته وإجاباته على القضايا المجتمعية. في هذه الحالة، من الضروري أن تكون محل نقاش داخل الأجهزة التقريرية، سواء منها الوطنية أو المحلية. فالجدوى الأساسية منها هو تمكين أعضاء الحزب من الأدوات والمعارف الضرورية المتعلقة بفهم الرهانات والتحديات، سواء منها الداخلية أو الخارجية التي تواجهها البلاد، وتصور حزبهم لكيفية التعامل معها.. وفي السياق نفسه، فهي أداة، من بين أدوات أخرى تساعد على تأهيل الحزب ورفع قدراته، من خلال نخبه على تدبير الشأن العام والمشاركة في ممارسة السلطة، فضلا عن إغناء النقاش العمومي.. كل ذلك لتعزيز انخراط المواطن والمواطنة في الحياة الوطنية، وتمكينهما من التمييز بين الأحزاب، ليس فقط على أساس معايير شخصية، وإنما ارتكازا على معايير فكرية وبرنامجية. بصيغة أخرى، فإن الدراسات والأبحاث المعنية ينبغي أن تشكل أرضية للنقاش والحوار بين مختلف المكونات الحزبية لإذكاء الدينامية اللازمة لموقعة الحزب في قلب الهواجس المجتمعية.

صفوة القول إن الاختلالات التي تلمسها تقرير المجلس الأعلى للحسابات لا يمكن إدراكها إلا كتفعيل للمهمة المنوطة بهذه المؤسسة الدستورية، والمتمثلة بالنسبة للأحزاب في تدقيق حساباتها؛ ولكن في الوقت نفسه فإنها حافز لهذه الأحزاب التي يتم تمويلها بنسبة كبيرة من موارد الدولة أن يتسم أداؤها بمبادئ وقيم الحكامة الجيدة والشفافية والمحاسبة، حتى تنخرط في الإصلاحات التي تتوخى الدولة القيام بها في كل المجالات، لمواجهة تحديات التنمية والديمقراطية .



السبت 30 مارس 2024
MarocDroit منصة مغرب القانون "الأصلية"

تعليق جديد
Twitter