
مقدمة:
يشهد العالم عملية رقمنة سريعة تعيد تعريف الاقتصاد والسياسة وسياسات السيادة. فلم تعد القوة مرتبطة بالقدرة على الهيمنة على الموارد المادية أو التوازنات العسكرية، بل أصبحت مرتبطة بالقدرة على توليد البيانات ومعالجتها وتأمينها. في هذا السياق، تبرز ”الحوسبة الكمية“ كواحدة من أكثر الابتكارات التكنولوجية روعةً وإثارةً للحيرة، مع ما تنطوي عليه من إمكانات مذهلة لفك التشفير والمعالجة والتحليل المتسارع.
وعلى الرغم من أنها لا تزال في مراحلها الأولى، إلا أن التقديرات الدولية تُجمع على أن تطورها خلال العقد القادم يمكن أن يهدد أمن البنى الحرجة للدول، وخاصة أنظمة المعلومات التي تدير المعاملات المالية العامة، والتي تمثل في المجتمعات الحديثة جوهر السياسة الاقتصادية ومظهر السيادة المالية للدولة.
لقد انخرط المغرب منذ مطلع الألفية الثالثة في إصلاح شامل لماليته العامة على أساس مبادئ الشفافية والكفاءة والتوازن، ويعتمد على الرقمنة والحوكمة الإلكترونية كرافعة أساسية لتحسين أداء المالية العامة، لكن هذه المكاسب قد تكون مهددة إذا لم يتم دمج التغيرات التكنولوجية الحديثة، وخاصة الحوسبة الكمومية، في استراتيجية الدولة لحماية أمنها المالي والسيبراني على حد سواء.
لا تتعلق القضية السياقية الرئيسية هنا بفعالية الحوسبة الكمية بقدر ما تتعلق بجاهزية الدولة المغربية لمواجهة التحول الجذري في قواعد اللعبة التكنولوجية وتحصين نظامها المالي ضد الاختراقات والأضرار التي لا يمكن إصلاحها التي يمكن أن تسببها الحوسبة الكمية.
أولا. الحوسبة الكمية: ثورة في تصور الطاقة الرقمية
الحوسبة الكمية: تعتمد الحوسبة الكمية على مبادئ فيزيائية معقدة مثل التباعد الكمي والتشابك الكمي، وتسمح الحوسبة الكمية لوحدات المعالجة الكمية (الكيوبتات) بإجراء ملايين العمليات في نفس الوقت - على عكس الحواسيب التقليدية التي تعالج البيانات بالتتابع. وتكمن الخطورة الكبرى لهذه التقنية في قدرتها على كسر التشفير المستخدم في الأنظمة المالية والإدارية في وقت قياسي، مما يهدد بتحطيم أنظمة الأمن السيبراني القائمة على الخوارزميات التقليدية مثل RSA و EC، وذلك وفقاً لدراسات المعهد الوطني الأمريكي للمعايير والتكنولوجيا (NIST).
يمكن لحاسوب كمي بقوة معالج تبلغ حوالي 4,000 كيوبت أن يخترق نظرياً خوارزمية RSA-2048 - التي تستخدم على نطاق واسع في المؤسسات المالية - في أقل من عشر دقائق، وفقاً لأبحاث المعهد الوطني للمعايير والتكنولوجيا الأمريكي (NIST). وهذا يعني أن البنى التحتية المالية العامة التي تعتمد على نظام التشفير هذا قد تكون غير قادرة تماماً على حماية بياناتها من قوة كمومية خارقة.
المعاملات المالية العمومية بالمغرب في مرمى التهديد الكمومي
تعتبر المالية العامة في المغرب نظاما معقدا ومترابطا يشمل الضرائب والإنفاق العام والمحاسبة العمومية والتحويلات الحكومية والمشتريات العمومية، وقد شهد تحولاً كبيراً بفضل التحديث الرقمي واعتماد المنصات الإلكترونية. ومن الأمثلة على ذلك نظام إدارة المعلومات الحكومية لإدارة النفقات العامة المعروف بـ "نظام التدبير المندمج للنفقات" (GID)، ومنصة SIMPL للإعلان عن الضرائب وفرضها، والأنظمة الرقمية المرتبطة بالخزينة العامة للمملكة.
وفي ظل هذا التحول الرقمي، أصبحت المعاملات المالية العامة تعتمد اعتمادا كليا على أمن المعلومات وتشفير البيانات. إلا أن الخطر الحقيقي يكمن في أن معظم الأنظمة المغربية تعتمد على تقنيات التشفير التقليدية التي لا تقاوم الحوسبة الكمية، مما يجعلها عرضة للاختراق في المستقبل. حتى أن بعض الهجمات تُعرف باسم ”الحصاد الآن وفك التشفير لاحقا“، حيث يقوم الخصوم بجمع البيانات المشفرة حالياً بنية فك تشفيرها في المستقبل، وهو تهديد متأخر ولكن حتمي إذا لم يتم اعتماد آليات تشفير بديلة.
وإذا علمنا أن الميزانية العامة للمغرب في سنة 2024 بلغت أكثر من 607 مليار درهم، فإننا ندرك أن مجرد زعزعة الثقة في قدرة الدولة على حماية هذه الموارد أو التحكم في تدفقاتها قد تكون له آثار كارثية على الاستقرار الاقتصادي والسياسي. فالمخاطر لم تعد مقصورة على اختلال التوازنات الماكرو-اقتصادية، بل أصبحت مرتبطة أيضا بـ"الهشاشة التكنولوجية" و"الهجمات السيبرانية ذات الطابع الكمومي"، وهي مفاهيم جديدة تفرض إعادة النظر في أولويات التدبير العمومي.
أفق المواجهة: من التشفير ما بعد الكم إلى السيادة الرقمية
تتبنى العديد من الدول المتقدمة تشفير ما بعد الكم لمواجهة التهديدات الكمومية، مع خوارزميات جديدة كمعايير، مثل خوارزميات كريستال-كيبر وكريستال-ديليثيوم. يحتاج المغرب إلى الانتقال من التخطيط التفاعلي إلى نهج استباقي من خلال تأمين أنظمته المالية العامة ضد التهديدات الكمية. ويشمل ذلك دمج خوارزميات ما بعد الكوانتوم، وإنشاء وحدة متخصصة في اليقظة الإلكترونية، ومراجعة القوانين المالية لحماية البيانات ودعم البحث العلمي. تُعد حماية الخوارزميات الآن أمرًا بالغ الأهمية للأمن المالي في العصر الرقمي، مما يؤكد أهمية السيادة الرقمية وفقًا لمفكرين مثل يورغن هابرماس وميشيل فوكو، اللذين أكدا على أهمية الشفافية وحماية المعلومات في الثقة الموضوعة في المؤسسات.
بالنسبة للمغرب، يقتضي الأمر الانتقال من وضعية رد الفعل إلى مرحلة التخطيط الاستباقي، من خلال اعتماد خارطة طريق وطنية لتأمين الأنظمة المالية العمومية ضد التهديد الكمومي، تشمل ما يلي:
خاتمة
يشير ميشيل فوكو إلى أن السلطة في المستقبل ستستند إلى السيطرة على المعلومات، لا سيما من خلال الحوسبة الكمية، وهو ما يربط حماية البيانات المالية بسلطة الدولة. ويؤكد هابرماس على الحاجة إلى الشفافية من جانب الدولة من أجل إرساء الثقة، وهو ما يفترض مسبقًا مزيدًا من أمن المعلومات. لا ينبغي أن يُنظر إلى ظهور الحوسبة الكمية في الممارسة العملية على أنه تقدم علمي فحسب، بل يجب أن يُنظر إليه أيضًا على أنه ثورة في السلطة السيبرانية. ومن الأهمية بمكان استباق التهديدات التي تواجه المعاملات المالية في المغرب من خلال دمج التكنولوجيا والأمن السيبراني. وكما أشار فرانسيس بيكون، فإن المعلومات تساوي القوة، وأصبحت ضرورية في الحماية الوطنية في العصر الكمي، مما يؤكد أهمية تأمين الميزانية المغربية ليس فقط كخيار تقني، بل كواجب استراتيجي لحماية الدولة في الحاضر والمستقبل.
يشهد العالم عملية رقمنة سريعة تعيد تعريف الاقتصاد والسياسة وسياسات السيادة. فلم تعد القوة مرتبطة بالقدرة على الهيمنة على الموارد المادية أو التوازنات العسكرية، بل أصبحت مرتبطة بالقدرة على توليد البيانات ومعالجتها وتأمينها. في هذا السياق، تبرز ”الحوسبة الكمية“ كواحدة من أكثر الابتكارات التكنولوجية روعةً وإثارةً للحيرة، مع ما تنطوي عليه من إمكانات مذهلة لفك التشفير والمعالجة والتحليل المتسارع.
وعلى الرغم من أنها لا تزال في مراحلها الأولى، إلا أن التقديرات الدولية تُجمع على أن تطورها خلال العقد القادم يمكن أن يهدد أمن البنى الحرجة للدول، وخاصة أنظمة المعلومات التي تدير المعاملات المالية العامة، والتي تمثل في المجتمعات الحديثة جوهر السياسة الاقتصادية ومظهر السيادة المالية للدولة.
لقد انخرط المغرب منذ مطلع الألفية الثالثة في إصلاح شامل لماليته العامة على أساس مبادئ الشفافية والكفاءة والتوازن، ويعتمد على الرقمنة والحوكمة الإلكترونية كرافعة أساسية لتحسين أداء المالية العامة، لكن هذه المكاسب قد تكون مهددة إذا لم يتم دمج التغيرات التكنولوجية الحديثة، وخاصة الحوسبة الكمومية، في استراتيجية الدولة لحماية أمنها المالي والسيبراني على حد سواء.
لا تتعلق القضية السياقية الرئيسية هنا بفعالية الحوسبة الكمية بقدر ما تتعلق بجاهزية الدولة المغربية لمواجهة التحول الجذري في قواعد اللعبة التكنولوجية وتحصين نظامها المالي ضد الاختراقات والأضرار التي لا يمكن إصلاحها التي يمكن أن تسببها الحوسبة الكمية.
أولا. الحوسبة الكمية: ثورة في تصور الطاقة الرقمية
الحوسبة الكمية: تعتمد الحوسبة الكمية على مبادئ فيزيائية معقدة مثل التباعد الكمي والتشابك الكمي، وتسمح الحوسبة الكمية لوحدات المعالجة الكمية (الكيوبتات) بإجراء ملايين العمليات في نفس الوقت - على عكس الحواسيب التقليدية التي تعالج البيانات بالتتابع. وتكمن الخطورة الكبرى لهذه التقنية في قدرتها على كسر التشفير المستخدم في الأنظمة المالية والإدارية في وقت قياسي، مما يهدد بتحطيم أنظمة الأمن السيبراني القائمة على الخوارزميات التقليدية مثل RSA و EC، وذلك وفقاً لدراسات المعهد الوطني الأمريكي للمعايير والتكنولوجيا (NIST).
يمكن لحاسوب كمي بقوة معالج تبلغ حوالي 4,000 كيوبت أن يخترق نظرياً خوارزمية RSA-2048 - التي تستخدم على نطاق واسع في المؤسسات المالية - في أقل من عشر دقائق، وفقاً لأبحاث المعهد الوطني للمعايير والتكنولوجيا الأمريكي (NIST). وهذا يعني أن البنى التحتية المالية العامة التي تعتمد على نظام التشفير هذا قد تكون غير قادرة تماماً على حماية بياناتها من قوة كمومية خارقة.
المعاملات المالية العمومية بالمغرب في مرمى التهديد الكمومي
تعتبر المالية العامة في المغرب نظاما معقدا ومترابطا يشمل الضرائب والإنفاق العام والمحاسبة العمومية والتحويلات الحكومية والمشتريات العمومية، وقد شهد تحولاً كبيراً بفضل التحديث الرقمي واعتماد المنصات الإلكترونية. ومن الأمثلة على ذلك نظام إدارة المعلومات الحكومية لإدارة النفقات العامة المعروف بـ "نظام التدبير المندمج للنفقات" (GID)، ومنصة SIMPL للإعلان عن الضرائب وفرضها، والأنظمة الرقمية المرتبطة بالخزينة العامة للمملكة.
وفي ظل هذا التحول الرقمي، أصبحت المعاملات المالية العامة تعتمد اعتمادا كليا على أمن المعلومات وتشفير البيانات. إلا أن الخطر الحقيقي يكمن في أن معظم الأنظمة المغربية تعتمد على تقنيات التشفير التقليدية التي لا تقاوم الحوسبة الكمية، مما يجعلها عرضة للاختراق في المستقبل. حتى أن بعض الهجمات تُعرف باسم ”الحصاد الآن وفك التشفير لاحقا“، حيث يقوم الخصوم بجمع البيانات المشفرة حالياً بنية فك تشفيرها في المستقبل، وهو تهديد متأخر ولكن حتمي إذا لم يتم اعتماد آليات تشفير بديلة.
وإذا علمنا أن الميزانية العامة للمغرب في سنة 2024 بلغت أكثر من 607 مليار درهم، فإننا ندرك أن مجرد زعزعة الثقة في قدرة الدولة على حماية هذه الموارد أو التحكم في تدفقاتها قد تكون له آثار كارثية على الاستقرار الاقتصادي والسياسي. فالمخاطر لم تعد مقصورة على اختلال التوازنات الماكرو-اقتصادية، بل أصبحت مرتبطة أيضا بـ"الهشاشة التكنولوجية" و"الهجمات السيبرانية ذات الطابع الكمومي"، وهي مفاهيم جديدة تفرض إعادة النظر في أولويات التدبير العمومي.
أفق المواجهة: من التشفير ما بعد الكم إلى السيادة الرقمية
تتبنى العديد من الدول المتقدمة تشفير ما بعد الكم لمواجهة التهديدات الكمومية، مع خوارزميات جديدة كمعايير، مثل خوارزميات كريستال-كيبر وكريستال-ديليثيوم. يحتاج المغرب إلى الانتقال من التخطيط التفاعلي إلى نهج استباقي من خلال تأمين أنظمته المالية العامة ضد التهديدات الكمية. ويشمل ذلك دمج خوارزميات ما بعد الكوانتوم، وإنشاء وحدة متخصصة في اليقظة الإلكترونية، ومراجعة القوانين المالية لحماية البيانات ودعم البحث العلمي. تُعد حماية الخوارزميات الآن أمرًا بالغ الأهمية للأمن المالي في العصر الرقمي، مما يؤكد أهمية السيادة الرقمية وفقًا لمفكرين مثل يورغن هابرماس وميشيل فوكو، اللذين أكدا على أهمية الشفافية وحماية المعلومات في الثقة الموضوعة في المؤسسات.
بالنسبة للمغرب، يقتضي الأمر الانتقال من وضعية رد الفعل إلى مرحلة التخطيط الاستباقي، من خلال اعتماد خارطة طريق وطنية لتأمين الأنظمة المالية العمومية ضد التهديد الكمومي، تشمل ما يلي:
- دمج خوارزميات ما بعد الكم في جميع الأنظمة الرقمية للمالية العمومية؛
- إحداث وحدة يقظة سيبرانية متخصصة في الأمن المالي الكمومي داخل وزارة الاقتصاد والمالية؛
- مراجعة القوانين التنظيمية للمالية لتتضمن مقتضيات تُلزم بحماية البيانات ضد التهديدات الكمومية؛
- تحفيز البحث العلمي الوطني على الاستثمار في الذكاء الكمومي والأمن المعلوماتي، عبر دعم طلبة الدكتوراه والمهندسين في هذا المجال.
خاتمة
يشير ميشيل فوكو إلى أن السلطة في المستقبل ستستند إلى السيطرة على المعلومات، لا سيما من خلال الحوسبة الكمية، وهو ما يربط حماية البيانات المالية بسلطة الدولة. ويؤكد هابرماس على الحاجة إلى الشفافية من جانب الدولة من أجل إرساء الثقة، وهو ما يفترض مسبقًا مزيدًا من أمن المعلومات. لا ينبغي أن يُنظر إلى ظهور الحوسبة الكمية في الممارسة العملية على أنه تقدم علمي فحسب، بل يجب أن يُنظر إليه أيضًا على أنه ثورة في السلطة السيبرانية. ومن الأهمية بمكان استباق التهديدات التي تواجه المعاملات المالية في المغرب من خلال دمج التكنولوجيا والأمن السيبراني. وكما أشار فرانسيس بيكون، فإن المعلومات تساوي القوة، وأصبحت ضرورية في الحماية الوطنية في العصر الكمي، مما يؤكد أهمية تأمين الميزانية المغربية ليس فقط كخيار تقني، بل كواجب استراتيجي لحماية الدولة في الحاضر والمستقبل.