MarocDroit  -  موقع العلوم القانونية
plateforme des décideurs juridiques - Platform of Legal Decision-Makers




الملك ومشروع التحول الوطني: قراءة في خطاب العرش 2025

     




د. يونس مليح
أستاذ باحث بجامعة مولاي إسماعيل بمكناس



الملك ومشروع التحول الوطني: قراءة في خطاب العرش 2025
تعد الخطب الملكية في المغرب، وخاصة خطاب عيد العرش، لحظة دستورية وسياسية متميزة، تجمع بين رمزية التجديد للبيعة والوفاء، وبين البعد التوجيهي الاستراتيجي للسياسات العمومية. وهي خطب تتجاوز الإطار الاحتفالي لتتحول إلى نصوص مرجعية تؤطر مسار الدولة وتوجّه مؤسساتها، وتمنح الرأي العام رؤية واضحة حول اختيارات البلاد، وتحدياتها، ومواقع التقدّم والقصور فيها.

وفي هذا السياق، شكل خطاب جلالة الملك محمد السادس نصره الله، بمناسبة الذكرى السادسة والعشرين لتربّعه على عرش أسلافه المنعمين (29 يوليوز 2025)، لحظة فارقة في تاريخ الخطابات الملكية. فقد اتسم الخطاب بمزاوجته بين لغة الإنجاز وصدق المكاشفة، وبين الدفاع عن السيادة الوطنية وتعزيز العدالة المجالية، مع التزام صارم برؤية تنموية شاملة تجعل من الإنسان محور السياسات، ومن الكرامة أساسًا للشرعية التنموية.

وبلغة تستبطن الحزم، وتسائل الحكامة، وتنتصر للمواطن، أعاد الخطاب ترتيب الأولويات الوطنية: من النمو إلى الأثر، ومن التوازنات الماكرو-اقتصادية إلى توازنات العيش المجالي، ومن خطاب التنمية إلى فعل العدالة.


إن تحليل خطاب العرش لسنة 2025، في ظل التحولات الوطنية والدولية المتسارعة، يفرض طرح إشكالية مركزية مفادها:
إلى أي حد يمكن اعتبار الخطاب الملكي بمناسبة الذكرى 26 لعيد العرش، خارطة طريق جديدة لتكريس السيادة الوطنية بمفهومها الشامل، وتأسيس نموذج تنموي منصف يدمج البعد المجالي والاجتماعي ضمن مشروع الدولة الصاعدة؟

أولا: مغرب قوي بمنجزاته

أكد الملك محمد السادس نصره الله أن ما تحقق لم يكن صدفة، بل ثمرة "رؤية بعيدة المدى، وصواب الاختيارات التنموية الكبرى"، وهو تصريح لا يخفي مفخرة الدولة المغربية بنموذجها، بل يعلنها للعالم:
نحن لسنا تابعين... نحن صانعو نموذج.
ولعل ما يعضد هذا الطرح، ما كشفه الخطاب من أرقام صلبة:
  • ارتفاع صادرات المغرب الصناعية بأكثر من الضعف منذ 2014؛
  • اندماج اقتصادي مع أزيد من 3 مليارات مستهلك عالمي؛
  • مكانة متقدمة في صناعات السيارات والطيران والطاقات المتجددة؛
  • مشاريع ضخمة في السكك والماء والسيادة الغذائية.
إنها مؤشرات لا تليق إلا بدول ذات مشروع، وذات ملك... يحمل الوطن في ضمير الحكم.
ثانيا: الملك المواطن... وسيادة الإنسان على الأرقام

قالها الملك بوضوح لا لبس فيه:
"لن أكون راضيا مهما بلغ مستوى التنمية، إذا لم تساهم في تحسين ظروف عيش المواطنين".
بهذه العبارة، ينتصر جلالته للإنسان المغربي ضد كل منطق تقني جاف، ويعلن أن الشرعية الملكية تتغذى من عدالة المعيش، لا من صدى الإحصائيات. ومع تسجيل تراجع الفقر من 11.9% سنة 2014 إلى 6.8% سنة 2024، وتجاوز المغرب عتبة "التنمية البشرية العالية"، فإن الخطاب يرفض الركون للاكتفاء، ويُطالب بمزيد من الإنصاف للمناطق النائية:
  • لا مغرب بسرعتين
  • لا مغرب بلا مدارس تليق
  • لا مغرب بلا ماء ولا مستشفى
فالكرامة ليست ترفًا، بل التزام ملكي ودستوري وسيادي.
ثالثًا: التحول المجالي... من الشعارات إلى السياسات

يؤسس الخطاب لتحول نوعي في فلسفة الدولة من خلال الدعوة إلى مقاربة "التنمية المجالية المندمجة"، ترتكز على:
  • تثمين خصوصيات الجهات
  • تعزيز التضامن بين المجالات
  • مواءمة السياسات القطاعية مع العدالة الترابية
  • خلق فرص حقيقية للشغل داخل التراب الوطني
إنها دعوة إلى مغرب يعيد الاعتبار للمكان والإنسان معًا، حيث لا يصبح الريف المغربي فضاءً للشكوى، بل ركيزة للبناء.
 

رابعا: خطاب الحزم... في احترام السيادة الشعبية

وفي لحظة بالغة الأهمية، يوجه الملك محمد السادس رسالة حازمة لجميع الأطراف السياسية:
"نؤكد على ضرورة توفير المنظومة العامة المؤطرة لانتخابات مجلس النواب، قبل نهاية السنة الحالية".
بهذا التأكيد، يرسم جلالته حدود الملكية الحكيمة: لا تُنظّم الأحزاب، لكنها تضمن احترام المواعيد؛ لا تفرض المرشحين، لكنها تحرس الاختيار الحر. هي ملكية دستورية... تزن الزمن وتهيئ السياق.
 
خامسا: الصحراء المغربية... وحكمة القيادة في زمن التحول الدولي

ما يزيد الخطاب أهمية هو توظيفه الذكي للسياق الدولي في ملف وحدتنا الترابية.
ففي ظل تزايد التأييد لمبادرة الحكم الذاتي كحل واقعي وحصري، أبرز جلالة الملك الموقف البناء لكل من المملكة المتحدة والبرتغال، وهو ما يعكس:
  • اتساع رقعة الدول الداعمة؛
  • تراجع خطاب الانفصال؛
  • نجاح المغرب في فرض شرعيته لا عبر القتال، بل عبر الاقتناع.
وبنبرة الحزم والحكمة معًا، أكد الملك:
"نتمسك بإيجاد حل توافقي لا غالب فيه ولا مغلوب".
إنها عبقرية السيادة المغربية: الثبات بلا عناد، واللين بلا ضعف.

سادسا: اليد الممدودة... سياسة دولة لا موقف ظرفي

في لحظة إنسانية بليغة، يعيد جلالة الملك التأكيد على انفتاحه على الأشقاء في الجزائر، مؤكدًا أن اليد لا تزال ممدودة، لأن الأواصر "ليست سياسية فقط، بل تاريخية وإنسانية وعقدية".
وفي هذا الطرح، لا يتنازل المغرب عن كرامته، لكنه لا يغلق الباب أمام أمل الشعوب.
إن خطاب جلالة الملك محمد السادس بمناسبة الذكرى 26 لعيد العرش لا يمكن قراءته باعتباره مجرد لحظة احتفالية أو مناسبة سنوية لتجديد الروابط الرمزية بين العرش والشعب، بل هو وثيقة سياسية ودستورية ذات بعد استراتيجي عميق، ترسم معالم مغرب جديد يقوم على ثلاثية واضحة: الإنجاز التنموي، العدالة الاجتماعية، والسيادة الوطنية الشاملة.
لقد عبر الخطاب عن وعي ملكي عميق بتحولات الواقع الاجتماعي، حيث لم يتردد جلالة الملك في التعبير عن عدم رضاه أمام استمرار الفوارق، رغم المكاسب المحققة، وهو ما يُجسد تَبنِّي القيادة العليا لمبدأ التنمية المنصفة ورفض كل مظاهر "المغرب بسرعتين". وفي الآن ذاته، عزز الخطاب من مكانة المغرب كفاعل سيادي مسؤول، سواء من خلال الدفاع الذكي عن القضية الوطنية، أو عبر الانفتاح المتزن على الجوار المغاربي والدولي.
وعليه، فإن هذا الخطاب يعد بمثابة إعادة تأسيس لمسار الدولة المغربية، على قاعدة متقدمة من التكامل بين الشرعية التاريخية، والالتزام الاجتماعي، والرؤية السيادية في العلاقات الدولية، مما يجعله مرجعا أساسيا في فهم توجهات الدولة المغربية الحديثة، وتحديد أولوياتها في العقد القادم.
 



الخميس 7 أغسطس 2025
MarocDroit منصة مغرب القانون "الأصلية"

تعليق جديد
Twitter