بقيت الحرب نزعة تعاني منها البشرية مند بدء الخليقة، لذلك سعـت الحضارات والأديان السماوية جميعـها، فضلا عن وجهات نظر الفلاسفة و المنظرين المختلفة منذ أقدم العصور، إلى إفراد القواعد وتقنـين الشرائع و اللـوائح و إصدار القـوانين و الأنظمة، لتخفف مـن آثارها و تحد من غوغائيتها. ولا شك أنه مع إطلاق أول رصاصة حرب ، يتم فتح النقاش حول هذه القواعد وعن مدى فاعليتها، وتتفنن وسائل الإعلام، بمختلف أشكالها، برصد أحكام القانون الدولي الإنساني، وتصاغ من جديد إشكالية الثابت من مقتضياته القانونية والقائم من ممارسات ميدانية من قبل أطراف النزاعات المسلحة؟
إننا إزاء منطقين، الأول يعطي الانطباع أنه ليست ثمة حـاجة إلى عقد المزيد من القمم على مختلف مستوياتها أو الدعوات المحتشمة المتكررة إلى تكثيف الجهود، مادام أن هناك تباعد كبير بين النص و الواقع في عالم لازالت فيه علاقة الجندي بالسياسي ملتبسة،والثاني لازال يؤمن بالعمل الدبلوماسي لحل النزاعات السياسية في أفق المزاوجة بين ثنائية الحق و الواجب في الحياة الدولية المثقلة بتعدد روافدها و مكوناتها و طريقة تعاطيها مع إشكالية السيادة. لن نخوض في البحث عن حيثيات المنطقين أو محاولة التخندق مع أحدهما، بقدر ما نجد أنفسنا مضطرين مبدئيا إلى التعريف بالقانون الدولي الإنساني، ثم السعي إلى الانتقال إلى مستوى ثان يسمح لنا باستقراء قواعده ومحاكمة آليات اشتغاله وتنفيذه في ظل الثابت منها و المتحرك من الأحداث.
نشير أوليا أننا لسنا من دعاة المثالية بدون قيد أو شرط، ففي ظل الظروف السياسية والأمنية والاقتصادية التي تحكم الحياة الدولية المعاصرة يصعب التقيد الحرفي بضوابط القانون الدولي الإنساني ،لكن ليس معنى هذا الارتكان إلى الفكر الواقعي الذي ينـزع عن الـعلاقات البشـرية و معها الدولية طابعها الإنساني.
والواضح أنه على الرغم من الضبابية التي تلف طبيعة العلاقات بين الأمم في الوقت الراهن،إلا أن هذا لم يمنع من الالتفاف حول قواعد قانونية لحماية الإنسان -من ويـلات النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية منها -سـواء أكان مدنيا أو مقاتلا،إلى جانب صيانة ماله علاقة مباشرة بحياته.
ولعل هذا الالتفاف هو ما جسدته قواعد القانون الدولي الإنساني التي شكلت حكما تختصم إليه الأطراف المتنازعة، والشاهد على ذلك أنه في وقت الحرب، تتعالى الأصوات الداعية إلى الاحتكام إلى قواعد القانون الدولي الإنساني.
إن المبادئ التي جاء بها القانون الدولي الإنساني، ليست بالفكرة الحديثة التي لم تعرفها العصور المختلفة، و إنما هي فكرة وجدت و تطورت على مر العصور المختلفة ، خاصة أن الإنسان منذ وجوده على اليابس، و تداخل معاملاته مع الآخرين، قد ينشأ على إثـرها تعارض بين هذه المـصالح، و من ثمة قد تنشأ الحروب بسبب ذلك، و حماية ذلك الإنسان من شر هذه الحروب تتواكب فكرتها منذ الأزل و تستمر، و قد تنشط في عهد ما، ثم تبعد في عهد آخر و لكنها في النهاية تتواصل مسيرتها حتى وصلت في هذا العهد لذروة تفوقها و شموليتها. وبالموازاة مع ذلك، فطن المجتمع الدولي إلى ضرورة تهذيبها وتخليقها عن طريق سن قواعد قانونية إنسانية للتخفيف من آثارها المدمرة.و سوف نعرض في المبحثين أسفله لنـشأة القانون الـدولي الإنساني و تطوره عبر مختلف العصور، و كذلك جهود المجتمع الدولي في سبيل تدوين هذا الفرع من فروع القانون الدولي العام.
المبحث الأول: نشأة القانون الدولي الإنساني
في هذا المبحث سنحاول دراسة مفهوم القانون الدولي الإنساني ثم الوقوف على أهم تطوراته التاريخية.
المطلب الأول: ماهية القانون الدولي الإنساني
القانون الإنساني فرع من فروع القانون الدولي العام و هو مجموعة من القواعد الرامية إلى الحد من آثار النزاعات المسلحة لدوافع إنسانية . بعبارة أخرى فالقانون الدولي الإنساني هو مجموع قواعد عرفية و اتفاقية تهدف إلى حماية الأشخاص المتضررين من النزاعات المسلحة و ما سببته من آلام لهم، و حماية المدنيين الذين ليس لهم علاقة مباشرة بتلك النزاعات ، أي أنه يحمي الأشخاص الذين لا يشاركون في القتال، أو كفوا عن المشاركة فيه كما يقيد حق اختيار الوسائل و الأساليب المستعملة في الحرب.
فهو يدين حسب الأستاذ جان بكتيه بوجوده للإحساس بالإنسانية ،إذ يركز على حماية الفرد ويستهدف التخفيف من معاناة الضحايا بسب الصراعات المسلحة ممن هم تحت رحمة أعدائهم، سواء كانوا جرحى أم مرضى أم غرقى أم أسرى أم مدنيين. هذا و يعرف عامر الزمالي هو أيضا القانون الدولي الإنساني بأنه" فرع من فروع القانون الدولي، تهدف قواعده العرفية و الاتفاقية إلى حماية الأشخاص المتضررين في حالة نزاع مسلح بما نتج عن ذلك النزاع من آلام كما تهدف إلى حماية الأموال التي ليست لها علاقة مباشرة بالعمليات العسكرية .
ومع بداية السبعينات تأثر هذا القانون بحركة حقوق الإنسان على الصعيد الدولي خاصة في أعقاب مؤتمر طهران لسنة 1968، فشاع استخدام مصطلح القانون الدولي الإنساني ، الذي أصبح يدل على ذلك الجزء من القانون الدولي العام الذي يهتم بحماية من لا يشارك في الحـرب أو من توقـف عن المـشاركة فيها، كما يقيد اختيار وسائل القتال و خاصة الأسلحة ووسائل القتال، و انطلاقا من هذه الاهتمامات فإن كثيرا من الباحثين من يقسم القانون الدولي الإنساني إلى قسمين :قانون جنيف وقانون لاهاي .
فالمقصود بقانون جنيف، تلك القواعد القانونية التي تسعى إلى حماية العسكريين الذين عجزوا عن مباشرة القتال، وحماية الأشخاص الآخرين الذين لا يشاركون في العمليات الحربية ويتمثل قانون جنيف في اتفاقيات جنيف الأربعة لحماية ضحايا النزعات المسلحة لعام 1949، و برتوكوليهما الإضافيين لعام 1977، وقد وضعت هذه الاتفاقيات لغرض واحد وهو صالح الفرد، فهي لا تعطي للدولة حقوقا ضد مصالح الأفراد.
أما الفرع الثاني فهو قانون لاهاي أو قانون الحرب، وهو مجموع القواعد القانونية التي أقرتها اتفاقيات لاهاي لعامي 1899 و1907، التي تنظم حقوق وواجبات المحاربين في إدارة العمليات العسكرية، وتهدف إلى الحد من آثار العـنف و الخداع حتى لا تتجاوز ما تتطلبه الضرورات العسكرية .
و قد يشمل قانون لاهاي أيضا اتفاقيات لا تحمل اسم العاصمة الهولندية مثل إعلان سان بترسبوغ لعام 1868 الذي يحظر استعمال الرصاص المتفجر، وبرتوكول جنيف لعام 1965 الذي يشجب استعمال الغازات الخانقة و السامة و غيـرها، والأسلحة الجـرثومية و أمثالها. ويعتبر البعض أن هذه التفرقة زالت منذ ظهور بروتوكولي 1977 إذ تضمن البرتوكول الإضافي الأول بصفة خاصة العديد من الأحكام الخاصة بوسائل و أساليب القتال و لم يعد لهذا التمييز إلا قيمة تاريخية فقط.
ويثار النقاش أيضا حول علاقة القانون الدولي الإنساني ببعض المجالات التي تتجه غايتها في نفس المنحى مثل حقوق الإنسان . فبعض فقهاء القانون الدولي الإنساني يميزون بين التعريف الموسع للقانون الدولي الإنساني و التعريف الضيق. فالمقصود باصطلاح القانون الـدولي الإنساني بالمعنى الواسع، مجموع الأحكام القانونية، سواء في التشريعات أو القوانين العامة التي تكفل احترام الفرد وتعزز ازدهاره. و حسب هذا الرأي فالقانون الدولي الإنساني يتكون من فرعين قانون الحرب وحقوق الإنسان، ويضيف البعض الآخر "الأستاذ فيلان بارتوس" فرعا ثالثا هو قانون السلام والذي يقصد به المجموعة المعنية بحفظ السلام و الحيلولة دون اللجوء إلى الحرب كوسيلة لحل الخلافات بين المجتمعات البشرية .
بل هناك من الكتاب من اعتبر قانون المنازعات المسلحة ليس إلا جزءا من النطاق الكامل لحقوق الإنسان، وبالتالي فالقانون الدولي الإنساني لا يستطيع أن يؤكد وجوده وأن يتطور إلا من خلال حقوق الإنسان.
لكن من المهم إدراك أن المجالين متداخلين ، و نلمس هذا من خلال سعيهما المشترك إلى حماية الفرد و احترام آدميته و كرامته ، و السعي قدر الإمكان للتخفيف من آلامه ومحاولة حمايته من جبروت الحكام وصراعهم.
غير أن هذين المجالين متمايزين. فمن حيث نشأتهما التاريخية لا شك أنهما نبعا من مصدر واحد و هو الرغبة في حماية الفرد ممن يريدون سحقه، ومع ذلك فهما يبقيان مستقلين، بين مجال يسعى إلى الحد من شرور الحرب، و آخر يدافع عن حق الإنسان ضد العنف و التعسف.
و بما أن الحرب ظهرت منذ أن خلق الله البشرية فلاشك أن المبادئ الإنسانية كانت حاضرة هي كذلك و لو بصورة مختلفة وبدرجات متفاوتة، وهذا ما يدفعنا إلى البحث عن الجذور التاريخية للقانون الدولي الإنساني و التنقيب عن بعض مبادئه في العصور القديمة و العصور الوسطى و تجلياتها في العصر الحديث.
المطلب الثاني: الجذور التاريخية للقانون الدولي الإنساني
خـلافا لما يقول المثاليون، فالأصـل في العلاقات الدولية علـى ما يبدو هـو الحرب و الاختصام و ليس الوئام و السلام. وهذا ما يستنتج من دراسة أجرتها مؤسسة كارنجر للسلام سنة 1930، و التي تفيد أن هناك 13 سنة من الحرب مقابل سنة من السلام يعيشها الإنسان .
و من المفارقات العجيبة أن الإنسان هو الذي ابتدع أسباب الحرب و انخرط فيها، وهو ذاته الذي اكتوى و يكتوي بنارها، و الإنسان هو الذي يشـن الحـرب في لحظات التهور و الطيش وهو ذاته يسعى في لحظات التعقل إلى الحد منها أو ضبطها؛ فهو في الأخير أصل الداء وهو مبتدع الدواء. تقول مقدمة اليونسكو " لما كانت الحروب تبدأ في عقول الناس، ففي عقول الناس يجب أن تبنى حصون السلام". و الحق أن محاولات بناء حصون الدفاع عن السلام في عقل الإنسان قديمة جدا، فقد ابتدعتها الحضارات القديمة و تبنتها الأديان السماوية و جهر بها الفلاسفة و المفكرون منذ أقدم العصور، فيما سعى الكثيرون فيما بعد إلى ترشيد الحرب و تحديد أسبابها، وإقرار ما أسموه بالحروب العادلة فقط منها . وبالتالي فإنه لا يمكن إنكار حقيقة تاريخية تؤكد وجود قواعد إنسانية تطورت على مر العصور، طبعا فهذه القواعد تختلف عن القواعد المعمول بما في عصرنا الراهن، لكنها لا تقل أهمية في جوهرها عن أحدث ما توصلت إليه الأعراف و القوانين المعاصرة .
وقد كان بودنا، في هذه الدراسة، أن نتتبع كيف تطورت فكرة الإنسانية على مر العصور، بدءا بالعصور القديمة للوقوف عند بعض من القواعد و المفاهيم القديمة الرموزة للأبعاد الإنسانية، مرورا بالعصر الوسيط الذي عرف من خلاله القانون الدولي الإنساني تطورا ملحوظا ساهم فيه ظهور الأديان السماوية بشكل واضح، ووصولا إلى العصر الحديث حيث بدأت قواعد القانون الدولي في البروز مع كتابات بعض الفقهاء و الفلاسفة إذ كان لهم دور كبير في تقنين بعض الأعراف و إصدارها في شكل محاضرات أو الكتب.
طبعا، و لأسباب تقنية، سأكتفي بتسليط الضوء على المرحلة التاريخية الأخيرة بالنظر لأهميتها والتطور المهم الذي عرفه القانون الدولي الإنساني ضمنها، و رغم المؤاخذات التي قد تلاحظ في مضمونها فإنها تبقى قفزة نوعية في فترة كان يبرز فيها بشكل واضح القمع و الاستبداد.
فعلى ضوء حرب الثلاثين في أوربا ألف غروتيوس - يعتبر من مؤسسي القانون الدولي التقليدي- كتابه " قانون الحرب و السلم " سنة 1623 .أورد فيه بعض القواعد لضبط سلوك المتحاربين منها : أنه لا يصح قتل المهزوم ، و لا يجوز تدمير الملكية إلا لأسباب عسكرية ضرورية . كما دعا إلى ضبط سلوك المتحاربين و التي يجب مراعاتها لاعتبارات إنسانية ودية و لاعتبارات الأمن و السلامة أيضا .
و يعتبر جاك جان روسو من المساهمين في تدعيم قواعد القانون الدولي الإنساني في أواسط العصر الحديث إذ حمل كتابه "العقد الاجتماعي" عدة أفكار إنسانية تدعو إلى الرحمة و عدم إيذاء المدنيين. يرى روسو أن حالة الطبيعة هي حالة أمن وسلام، وأن الإنسان خير بطبعه. غير أنه يلتقي مع طوماس هوبز في رجوعه إلى حالة الطبيعة من أجل البحث عن مرجعية ومرتكز لتأسيس الحق. وعليه، فمبادئ التعاقد الاجتماعي عند روسو تجد مرجعيتها الأولى في الحقوق الطبيعية للإنسان . لكنه يعترض على فكرة كون إثبات الحق متوقف على القوة، بحكم أن امتلاك الحق لا يؤدي ضرورة إلى امتلاك القوة، مادام أن حصول ذلك رهين بتحويل القوة إلى حــــــق والطاعة إلى التزام وواجب .يقــــــول روسو في هذا الصدد : » إن أقوى الناس لا يكون قويا بالشكل الذي يمكنه من أن يكون دائما السيد، ما لم يحول قوته إلى حق والطاعة إلى واجب... « . لقد كانت فكرة الواجب ثمرة مجهود قام خلاله الإنسان بالانتقال من حالة الطبيعة المفترضة إلى الحالة المدنية، رغبة في تأمين وضعه وإعطاء أفعاله الصفة الأخلاقية الملزمة . وبالتالي، فقد روسو جاء بأبرز قاعدة حاليا في القانون الدولي الإنسـاني و هي ضـرورة التمـييز بين المقاتليـن و غيـر المقاتلين أي المـدنين والمستسلمين. وهذا ما نلاحظه من خلال قوله: "لما كان الهدف من الحرب تحطيم دولة العدو فإن قتل المدافعين فيها يعتبر أمرا مشروعا إذا كانوا يحملون معهم السلاح و لكنهم بمجرد إلقاء الأسلحة و الاستسلام يتحولون تلقائيا إلى بشر عاديين ليس لأحد سلطة أو حق على أرواحهم . وبما أن لا حق على أرواحهم فإنه لا يجب تحويلهم إلى العبودية مقابل الإبقاء على حياتهم."
فروسـو يعتبر من خلال هذا القـول أن الحرب ليست علاقة بين إنسـان و إنسان، و إنما هي علاقة بين دولة و دولة أخرى، و بالتالي فالأفراد فيها أعداء بشكل عرضي فقط، وعداءهم لا يقوم على أساس أنهم بشر أو مواطنين ، بل على أساس أنهم جنود، وبإلقائهم أسلحتهم و استسلامهم فإنهم يعودون من جديد ليصبحوا بشرا لا يحق لأي إنسان الاعتداء عليهم.
لقد كان لكتابات الفقهاء الكبار كغروتيوس وأقرانه، وظهور الدولة بمفهومها الحديث و اعتمادها قوات نظامية تخضع لأوامر تسنها الدولة إضافة - بالطبع- لما قدمنا من عوامل أثر مباشر في تدوين أحكام القوانين التي من شأنها جعل الحرب أكثر إنسانية .
وتعتبر اتفاقية باريس المبرمة في 67 نسيان 1856 و التي تضمنت قواعد معاملة المحاربين في الحروب البحرية من أسبق النصوص القانونية المكتوبة في هذا المجال. غير أن معظم مؤرخي القانون الدولي الإنساني يقفون عند البلاغ الصادر عن وزارة الدفاع الأمريكية عام 1836 باعتباره نقطة البداية في التطور الحديث لهذا القانون. و عن باقي مراحل تدوين القانون الدولي الإنساني، فذلك ما سنعالجه في المطلب الموالي.
المبحث الثـاني: مراحل تدوين القانون الدولي الإنساني
يتفق أغلب الباحثين أن بداية تدوين القانون الدولي الإنساني كانت في أواسط القرن 19، الذي شهد عقد مجموعة من الاتفاقيات شكلت نصوصها الدعائم الأولى لهذا القانون، غير أن التطورات المتسارعة التي شهدها العالم بعد الحرب العالمية الأولى، وعجز القانون التقليدي عن تفسير الممارسات التي تمت في الحرب العالمية الثانية، جعلت المجتمع الدولي يرضخ للأمر الواقع، وذلك بتطوير القانون الدولي الإنساني حتى يواكب باقي التطورات التي يشهدها العالم في باقي المجالات، فكانت اتفاقيات جنيف لعام 1949 بمثابة التدوين الموسع للقانون الدولي الإنساني.
و على هذا الأساس سوف نقسم هذا المطلب إلى فرعين، نتحدث في الأول عن الدعائم الأولى للقانون الدولي الإنساني، و في الثاني عن التدوين الموسع للقانون الدولي الإنساني.
المطلب الأول: الدعائم الأولى للقانون الدولي الإنساني
يشكل القانون الدولي الإنساني جزءا من حركة فكرية عالمية تمس من جملة أمور، مسائل تاريخية ، و سياسية و اجتماعية و اقتصادية، غير أن تساؤلات عدة تطرح بشأن نشأة فكرته، و على الاتفاقيات و المواثيق التي تعكس بداية الجهد الجماعي في عملية تدوينه و تطور هذه العملية بعد ذلك .
فالبعض يعتبر أن المشروع الذي تقدم به البروفسور فرنسيس ليبر خلال الحرب الأهلية الأمريكية سنة 1863، و الذي تبنته وزارة الدفاع الأمريكية، أول الأسس الرسمية للقانون الدولي الإنساني . إلا أن البعض الآخر من فقهاء القانون الدولي يعتبر أن هذا المشروع شكل دعامة أساسية فقط لظهور أول اتفاقية جماعية في تاريخ القانون الدولي الإنساني، و هي اتفاقية جنيف الأولى لسنة 1864، إذ سماها البعض بالاتفاقية الأم نظرا لمكانتها في ميلاد هذا الفرع الجديد في القانون الدولي العام .
اتفاقية جنيف الأولى 1864 :
أبرمت هذه الاتفاقية في 22 أبريل 1864 تحت اسم اتفاقية جنيف لتحسين حال جرحى و مرضى الجيوش في الميدان. وقد حظيت بأهمية كبيرة في نظام القانون الدولي الإنساني. لأنها تعتبر بحق أول اتفاقية تضمنت قواعد عملية في مـجال حماية الجرحى و المرضى، وتخفيف حدة معاناة الإنسان أثناء الحروب.
وقد كانت هذه الاتفاقية من نتائج المؤتمر الدبلوماسي الذي نظم بمدينة جنيف بسويسرا ما بين 8 و 22 غشت 1864. و كانت حكومة الاتحاد السويسري وراء الدعوة إلى عقد هذا المؤتمر الذي حضره 16 مندوب دولة ، ومجموعة من أطباء الجيوش.
ورغـم أن موضـع النقاش طـوال ذاك المؤتمر قد تركز على تحسين حال جرحى و مرضى الجيوش في الميدان ،فإن النقاش امتـد أيضا إلى حـرمة الشخـص الإنساني و حقوقه أثناء سير العمليات العدائية بين أطراف النزاع . وقد حظيت هذه الاتفاقية بتوقيع اثنا عشر دولة في 22 غشت 1864،وبعد ثلاث سنوات صادقت عليها جل الدول الكبرى سوى الولايات المتحدة الأمريكية التي لم تصادق عليها إلا سنة 1882. وقد حظيت هذه الاتفاقية بإجماع الحاضرين إذ لم تبدي أي دولة تحفظها أو أسفها عن وجود أو تخلف بعض الأحكام الخاصة في مجال حماية حقوق الضحايا، وهذا ما جعلها ذات أهمية كبيرة باعتبارها شكلت أول محاولة للمجتمع الدولي في اتجاه تدوين قواعد قانون الحرب. إذ تعهـدت الدول المتعاقـدة لأول مرة من خلال هذه الاتفاقية، بتقديم الرعاية بدون تحـيز أو تمييز بين الجرحى من رعايا العدو، فقواعد هذه الاتفاقية لا تسهم في حماية ضحايا القوات المسلحة ضد آثار الأعمال العدوانية فحسب ، بل تقوم بإلزام الدول الأطراف في النزعات المسلحة بمواصلة السير في الطريق الذي لا يؤدي إلى انتهاك حقوق الإنسان الأساسية.
وتمثل قواعد هذه الاتفاقية أول نظام تفصيلي يعرفه القانون الوضعي، في مجال حماية العسكريين أثناء النزعات المسلحة. فهذه القواعد تقنن لأول مرة تحييد الخدمات الصحية في الجيوش ، وتقر بإنشاء جمعية مدنية من المتطوعين في كل بلد تكون على استعداد لنجدة الضحايا . و حول أهمية هذه الاتفاقية يقول الأستاذ جـون بكتيه: " للمرة الأولى في التاريخ قبلت الدول عن طريق الاعتراف بحرمة مجال لا يسـتطيع لا الحديد و لا النار اختراقه، وأن تحـد على الصـعيد الدولي من نفوذها الخاص لمصلحة الفرد ....و للمرة الأولى تفسح الحرب مجالا للقانون".
و تستمد هذه الاتفاقية أصولها من عدة وثائق ساهمت بقدر ما في تخفيف الأعمال العدائية على الأشخاص و الأعيان عن طريق فرض عدد من القيود ذات النزعة الإنسانية كاتفاقيات التسليم، التي ظهرت منذ القرن السادس عشر؛ وهي عبارة عن وثائق تتضمن بالإضافة إلى أشياء أخرى، أحكاما متسامحة تتعلق بالمرضى و الجرحى و الأطباء الذين يعتنون بهم. وقد تطورت هذه الاتفاقيات، إذ أصبحت تحظر على أطراف الصراع مسألة أسر المرضى من الجانبين، وتسمح لهؤلاء بالبقاء في المستشفيات بأمان. كما تعتبر قرارات مؤتمر جنيف الدولي لعام 1963 أحد مراجع هذه الاتفاقية، و الذي يتناول تحسين حال الجـرحى العسكريين من الجيوش في ميدان القتال، و تحييد المستشفيات بصفة دائمة و كذلك حماية الموظفين الطبيين أثناء المنازعات المسلحة .
فهذه الوثائق شكلت الأساس الذي بنت عليه اتفاقية جنيف 1864 قواعدها العشر، والتي رغم اقتصارها على حماية الجرحى العسكريين في ميدان المعركة البرية، وحماية المستشفيات و الوحدات الطبية التي تعنى بهم ، فإنها تجسد المبادئ الأساسية للقانون الدولي الإنساني . إذ نجد ذلك واضحا في المواد 1-2-6-7 التي تعطي اهتماما خاصا لما يحدث للجرحى و المرضى من العسكريين في حرب تدور على البر.فهي تجسد في هذا المضمار المبدأ الذي يقضي بحماية هؤلاء و رعايتهم كما يعتنى بالأصدقاء، و إجلائهم لتوفير الأمن لهم، و مبدأ الرحمة تجاه العدو الجريح كما تضمنت مبدأ الحياة.و للإشارة فإن مجموعة من المبادئ وردت بصورة ضمنية أكثر منه صراحة. وقد تناولت الاتفاقية في باقي المواد قـواعد عامة تتعلق بالخصـوص بتسيير الأعمال الحربية، و حماية المحاربين الجـرحى و المنشآت الطبية و الموظفين الطبيين و رجال الدين الملحقين بالقوات العسكرية . كما نصت من خلال المادة 7 لأول مرة في التاريخ على ضرورة حمل شارة مميزة من أجل توفير الحماية أثناء النزاعات المسلحة لأفراد الخدمات الطبية والمنشآت التابعة لها.
اتفاقية لاهاي الأولى 1899 :
تمخض عن المؤتمر الدولي للسلام الذي عقد في مدينة لاهاي مابين 18 مايو و29 يوليوز 1899 اعتماد جملة من الاتفاقيات وصل عددها إلى ثلاث بالإضافة إلى ثلاثة تصريحات وبيان ختامي . و قد جاء المؤتمر في سياق جهود المجتمع الدولي لتقييد وسائل استخدام القوة وقصرها فقط على المقاتلين دون غيرهم و العمل على حماية ضحايا النزاعات المسلحة. فأمام فشل مشروع بروكسيل لعام1874 في أن يحظى بتصديق الدول جاءت الدعوة من الحكومة الروسية آنذاك لعقد مؤتمر دولي يتولى تنقيح مشروع بروكسيل. وأثناء عقد المؤتمر ظهر تيار جديد يدعو إلى عقد اتفاقيات جديدة في مجال إدارة الأعمال العدائية قصد إخضاعها لقيود محددة وتكون الدول ملزمة قانونيا بها .
وقد حظـي هذا الرأي بتأييد أغلبية الحاضرين ، فتم التوصل إلـى اتفاقيات لاهاي ، و التي تجـد أصولها في إعـلان سانبترسبورغ لعام 1868 و الذي جاء في مقدمتـه أن" للحرب حدودا يجب أن لا تتعداها الدول حتى لا تخرج عن المبادئ الإنسانية".
وقد حظر هذا الإعلان استخدام القذائف الصغيرة التي يقل وزنها عن 400 غرام إذا كانت من النوع الذي ينفجر، أو كانت قابلة للإشعال. وقد طلب هذا الإعلان ألا تتجاوز الآلام ما يكفي لإعجاز المحارب عن القتال، وأنه يتعين الامتناع عن استخدام الأسلحة التي تزيد من آلام الأشخاص ولا تقتضيها الضرورة العسكرية .كما دعا إلى عدم استخدام الأسلحة التي يتضح أنها ستصيب بطريقة عشوائية المقاتلين و غير المقاتلين. وفي دعوة أثبت الزمن عدم تقادمها دعا الإعلان إلى التخفيف من ويلات الحروب إذ جاء فيه "إن تقدم الحضارة ينبغي أن يكون له أثر في التخفيف من ويلات الحرب" . لكن هذا النداء ظل مجرد آمال كشفت السنين التي أتت بعدها عن عكسها؛ فتطور الأسلحة زاد من معاناة الأفراد على مختلف فئاتهم.
كما نجد ضمن الوثائق التي أسست لاتفاقيات لاهاي مشروع مؤتمر بروكسيل لعام 1874 و الذي اشترك فيه ممثلي 16 دولة وانتهى بإعداد اتفاقية غاية في الأهمية تضمنت 56 مادة عالجت مجموعها تنظيم الحرب، كما تضمن قواعد قانونية تتعلق بضمان الحد من آلام الحرب وحماية الشخص الإنساني وضحايا النزاعات المسلحة، إذ نص على :
- ضرورة توحيد العمليات الحربية ضد القوات المسلحـة للعدو وليس ضد السكان المدنين و أولئك الدين ألقوا سلاحهم .
- وجوب احترام الأطراف المتحاربة للمعتقدات الدينية وشرف وحياة كل السكان المدنيين.
- الالتزام بضرورة احترام الموظفين والسكان المدنيين الموجودين على الأراضي المحتلة وعدم التعرض لهم أو الاعتداء على ملكيتهم الخاصة .
- حظر مهاجمة وقصف المدن المفتوحة .
- التزام الأطراف المتحاربة خلال القصف بأن تتخذ كافة التدابير و الإجراءات الممكنة لعدم التعرض للمعابد و المنشآت العلمية و الثقافية و الفنية .
- الحد من اللجوء إلى أعمال الثأر ضد السكان المدنيين وضحايا الحرب .
ورغم عدم اعتماد هذا المشروع فإن أثره كان ملحوظا في محتوى اتفاقيات لاهاي 1899 و 1907 . و تتكون اتفاقيات لاهاي 1988 كما سبقت الإشارة من ثلاث اتفاقيات وثلاثة تصريحات و بيان ختامي.
اتفاقية جنيف بشأن تحسين الجرحى و المرضى من أفراد القوات المسلحة في الميدان 1906 :
جاءت بمثابة مراجعة للاتفاقية 1864 إذ عقد مؤتمر دبلوماسي بجنيف بمبادرة من الاتحاد السويسري .وقد بدأ أول اجتماعاته في يوليوز 1906؛ فأمام النواقص التي ظهرت في اتفاقية جنيف 1864 ، تحركت اللجنة الدولية للصليب الأحمر من خلال عرضها لمشروع اتفاقية على المؤتمر .و قد حظي هذا المشروع بقبول الحاضرين، وتضمنت هذه الاتفاقية 33 مادة حاولت من خلال قواعدها مجابهة الصعوبات وتقديم الحل المناسب لها، إذ اهتمت بالحروب البحرية و اعتنت بضحاياها، وأوجبت احترام العسكريين و المـرضى و الجرحى و معالجتهم بغض النظر عن جنسيتهم من طرف السلطات التي وقعوا في قبضتها . إلا أن نطاق تطبيقها تم حصره في النزاعات الدولية والأشخاص التابعين رسميا للقوات المسلحة ويتبين هذا من خلال المادة الأولى.
كـما حاولت هذه الاتفاقية وضع أسس لحالة الضرورة العسكرية من خلال المادة 12 ،و هي الفكرة التي تعطي لأحد طرفي النزاع حججا قانونية يدافع بها عن شرعية الخروج عن القواعد الخاصة بالحماية التي يخضع لها الجرحى و المرضى ومن دون شك فإن إقرار هذه الحالة في القانون الدولي الإنساني يمثل إحدى الثغرات التي تتسم بها هذه الاتفاقية،لأن تحقيق الحماية بالنسبة للفرد الإنساني يشكل التزاما عاما أثناء الحرب وتطبيق حالة الضرورة يزيل كل التزام بهذا الشأن . ورغم هذا فاتفاقية جنيف 1906 تعتبر نصا قانونيا متطورا عن اتفاقية 1864، و هذا ما جعل هذه المحاولة تكتسي أهمية لا بأس بها في سلسلة تطور تدوين القانون الدولي الإنساني.
اتفاقية لاهاي الثانية 1907 :
بعد مرور 8 سنوات عن انعقاد مؤتمر لاهاي سنة 1970 للسلام عقد مؤتمر لاهاي الثاني بين 15 يوليوز و18 أكتوبر 1907 و ذلك بمبادرة من الرئيس الأمريكي .وقد هدف هذا المؤتمر إلى إدخال تحسينات على العمل الذي قد أنجز في لاهاي 1899 بشأن القواعد الخاصة بأساليب ووسائل القتال، و التي ظلت تشكو من النقص لعدم تحقيقها للتوازن بين الاعتبارات الإنسانية و المقتضيات العسكرية، فكانت المهمة الأساسية للمؤتمر هي استكمال عملية تدوين قانون الحرب بعد القلق الذي انتاب المجتمع الدولي آنذاك من زيادة التسلح وجسامة الانتهاكات المتكررة للقواعد الخاصة بأساليب ووسائل القتال.
و هذا ما يفسر تضاعف عدد الدول المشاركة في المؤتمر بحيث وصل إلى 44 دولة ونجاحها في وضع 13 اتفاقية، و هي:
* اتفاقية التسوية السلمية للنزاعات الدولية .
* اتفاقية تقييد استخدام القوة لتحصيل الديون التعاقدية .
* اتفاقية بدء حالة الحرب.
* اتفاقية حقوق وواجبات المحايدين في الحروب البرية.
*اتفاقية وضع السفن التجارية للعدو عند بدء العمليات العدائية .
* اتفاقية تحويل السفن التجارية إلى سفن حربية .
* اتفاقية وضع الألغام تحت سطح الماء.
* اتفاقية القصف بالقنابل بواسطة القوات البحرية ومن الحرب .
* اتفاقية تطبيق مبادئ اتفاقية جنيف على حالة الحرب في البحار .
* اتفاقية إنشاء محكمة للغنائم.
* اتفاقية حقوق وواجبات الدول المحايدة في الحروب البحرية.
بروتوكول جنيف 1925 :
تم إصداره في 17 يونيو 1925، و يتعلق بحظر الاستعمال الحربي للغازات الخانقة و السامة أو ما يشابهها وللوسائل الجرثومية في الحرب. فبعد الحرب العالمية الأولى لوحظ أن مجال التسلح عرف تطورا كبيرا إذ أصبح خارج حكم القواعد القانونية ، فجاء هذا البرتوكول كاستجابة لتطوير القانون الدولي الإنساني حتى يوازي التطور الذي عرفته الصناعات العسكرية. إلا أن هذا البروتوكول صحيح أنه يعتبر من أولى الصكوك التي تحظر أو تقيد استعمال الأسلحة إلا أنه يعاني من عدة نواقص قانونية بحيث هناك غموض في صياغته مما يفسح المجال لعدة تأويلات كما أنه خال من التزامات تحظر أو تقيد صنع وتخزين و بيع و تطوير الأسلحة البكتروبولوجية، إذ اكتفى فقط بالنص على حظر استعمالها في الحروب .
اتفاقيات جنيف لسنة 1929 :
كان للحرب العالمية الأولى أثر مباشر في البحث عن تطوير اتفاقية 1906 وتوسيع الحماية التي يوفرها القانون الدولي لضحايا النزاع المسلح. فمنذ عام 1918 بادرت اللجنة الدولية للصليب الأحمر إلى القيام بمساع تهدف إلى تحقيق المزيد من التقدم في الحقل القانوني و الإنساني، وتواصلت هذه الجهود حتى انعقاد مؤتمر جنيف الدبلوماسي بدعوة من الحكومة السويسرية في سنة 1929 و الذي انتهى بإبرام اتفاقيتين:
اتفاقية جنيف المتعلقة بتحسين حال الجرحى و المرضى العسكريين في الميدان :
أتت هذه الاتفاقية لتكميل و مراجعة اتفاقية جنيف لسنة 1864 و اتفاقية 1906 المتعـلقتان بتحسـين حال الجرحى و المرضى من أفراد القـوات المسلحة في الميـدان و تكيفيهما مع متطلبات الحرب الحديثة ، بحيث تضمنت الاتفاقية في موادها 39 حماية للطيران الصحي و الإسعاف الذي يساهم فيه، وقد كان هذا موضع جدل في المؤتمر حيث طالب البعض بتغييرات في المشروع تكون أكثر جدية لتتوافق مع تطور الطيران خصوصا و أن هذا المجال لا توجد فيه أي اتفاقية تنظمه .
وقد قررت الاتفاقية أيضا استخدام شارتين أخريين إلى جانب الصليب الأحمـر و هما الهلال الأحمر و الأسد والشمس الأحمرين ، كما ألغت شرط المشاركة الجماعية أي أن الاتفاقية تبقى سارية المفعول حتى وإن كان بعض المتحاربين غير أطراف فيها.
اتفاقية جنيف المتعلقة بمعاملة أسرى الحرب:
تعتبر هذه الاتفاقية حسب الدكتور عمر سعد الله فتحا جديدا في مجال القيم الأخلاقية و الحقوق الإنسانية . فنظرا للتعقيدات التي كانت تلف مسألة الأسرى، كانت القواعد العرفية و بعض الاتفاقيات الثنائية فقط هي من تنظم معاملة هذه الفئة. إلا أن تجربة الحرب بين بروسيا وفرنسا عام 1971، و كذلك ما تمخض عن الحرب العالمية الأولى من معاناة للأسرى أثبت أن القانون الدولي الإنساني لا يمثل مدونة متكاملة التمحيص، إذ لا يغفل فقط تنظيم بعض الأمور، بل يشكل عدم تنفيذها أكبر تحد. وأمام هذا النقص سارعت منظمة الصليب الأحمر و المنظمات الإنسانية بشكل عام إلى وضع تقنين جديد لمسألة حماية الأسرى ،و هو ما تحقق في 27 يوليوز 1929.
و قد تناولـت الاتفاقية في مـوادها السبعة و السبعين أهم ما يتصـل بحـياة الأسـير و كفلت له التمتع بخدمات الدولة الحامية بواسطة أعوانها المتخصصين و كذلك بخدمات اللجنة الدولية للصليب الأحمر. بحيث أقرت ديباجة هذه الاتفاقية مبدأ عاما يقضي بوجوب معاملة الأسرى معاملة إنسانية و التخفيف عنهم، كما تضمنت قواعد تلزم الأطراف الحاجزة بحماية الأسرى من الاعتداء و الإهانة و تطفل الجمهور. وكذا احترام شخصيتهم و شرفهم، بالإضافة إلى عدم التمييز بين الأسرى. كما أكدت الاتفاقية التزام الأطراف المرتبطة بها و إن لم تصادق عليها .
لقد اعتبرت هذه الاتفاقية بوابة عصر جديد في مجال حماية المبادئ الإنسانية وحماية الأسرى بشكل خاص. غير أن التجربة أثبتت أن النظام الخاص الذي أرسته هذه الاتفاقية للأسرى لم يحقق حماية عملية لهم، فقد كانت ويلات الحرب العالمية الثانية أكثر مما تصوره واضعو اتفاقيتي جنيف 1929 ليبدأ الاهتمام بوضع تدوين موسع للقانون الدولي الإنساني من أجل تلبية الحاجات التي أفرزتها تلك الحرب المدمرة وهذا ما تجلى في اتفاقيات جنيف 1949 .
المطلب الثاني: التدوين الموسع للقانون الدولي الإنساني
لقد شكلت اتفاقيات جنيف الأربع و البروتوكولين الإضافيين، أهم مرحلة في تاريخ تقنين القانون الدولي الإنساني، إذ وضعت و بشكل موسع مجموعة من القواعد الدولية المتعلقة بحل المشكلات الإنسانية الناشئة عن النزاعات المسلحة الدولية و غير الدولية وحرصهما على احترام المبادئ الإنسانية، مع إعطائها حق الأطراف في استخدام طـرق و أساليب الحرب التي تتماشى و هدف الحرب مع حماية الأعيان والأشخاص الذين تضرروا أو قد يتضررون من المنازعات. و يرجع الفضل في إعداد هذه الاتفاقيات إلى اللجنة الدولية للصليب الأحمر التي حاولت سد أوجه النقص التي كشفت عنها الحرب العالمية الثانية، فكان هدفها وضع قواعد جديدة عن طريق مراجعة و تعديل النصوص السابقة من خلال:
* تمديد الحماية التي تمنحها اتفاقيات جنيف لكي تشمل المدنيين الذين يقعون تحت سلطة العدو.
* حماية ضحايا الحروب الأهلية.
* تزويد الاتفاقيات بآليات للرقابة تشارك فيها الدول بنفسها.
و من أجل هذا الغرض عقدت مؤتمرا تمهيديا للجمعيات الوطنية للصليب الأحمر في 1946 تمت فيه دراسة المشاريع الأولى للاتفاقيات. وقد كان لمؤتمر ستوكهولم المنعقد ما بين 2 و 31 أغسطس 1948 دورا حاسما في إثراء مشاريع الاتفاقيات إذ حضره ممثلي خمسين دولة و سبعين جمعية وطنية وناقش بتوسع المشاريع المعروضة عليه قبل أن يعتمدها في نهاية المطاف. فبعد تلقي اللجنة ردود الحكومات و الجمعيات الوطنية للصليب الأحمر و الهلال الأحمر بشأن المشاريع، تم عقد مؤتمر جنيف الدبلوماسي بدعوة من الاتحاد السويسري، والذي حضره ممثلي 63 دولة إذ توصلوا بعد أربعة أشهر من الانعقاد و المناقشات إلى إقرار 4 اتفاقيات تم اعتمادها في 12 أغسطس 1949 ودخلت حيز التنفيذ رسميا في21 أكتوبر 1950 .وقد بلغ عدد الدول التي تلتزم بها إلى غاية 1994 185 دولة مما يوحي بالطابع العالمي الذي أصبحت تتميز به . و تهتم الاتفاقيات بما يلي:
الاتفاقية الأولى: حماية الجرحى و المرضى من أفراد القوات المسلحة في الميدان.
و تعتبر امتدادا لاتفاقية جنيف 1864 واتفاقية جنيف 1929 و المتعلقة بتحسين حال الجرحى و المرضى بالجيوش في الميدان، و تضم الاتفاقية 64 مادة موزعة على تسعة فصـول وأحكام ختامية نـصت فيهما على أحكـام عامة تتعلق بـرعاية و معالجة الجرحى و المرضى الذين يوجدون تحـت أي سـلطة من أطراف النزاع، و ألزمتهم أيضا باتخاذ جميع التدابير الممكنة للبحث عنهم .
الاتفاقية الثانية: تحسين حال الجرحى و المرضى و الغرقى بالقوات المسلحة في البحار.
لقد اعتبرت هذه الاتفاقية ذات موضوع و غرض متميز عن مختلف اتفاقيات جنيف السابقة، لأنها وضعت كهدف لها تثبيت و تقنين وضع كان حتى تاريخ إعدادها ظاهرة عشوائية. وقد اعتمدت في ذلك، على تطوير و تجديد بعض القواعد المنصوص عليها في الاتفاقيات السابقة إذ أدخلوا عليها تعديلات و إضافات مما أوجد في نهاية المطاف اتفاقية منفصلة تعنى بتحسين حال الجرحى و المرضى و الغرقى من أفراد قوات المسلحة في البحار .
وتتضمن هذه الاتفاقية ثمانية فصول و أحكام ختامية و ملحق واحد .تناولت فيهم تحديد مفهوم فئات الأشخاص الذين تكفلهم الاتفاقية وأوجبت معاملتهم بإنسانية. كما حددت وضع المستشفيات العسكرية و سائر زوارق الإنقاذ. وقد خصصت كذلك فصلا لموضوع الموظفين الذين توجب حمايتهم و قد حملت في الأخير مسؤولية تنفيذ الاتفاقية للدول إذ نصت الاتفاقية على فرض عقوبات جزائية علـى مـن يقـترفون أو يأمرون بارتكاب مخالفات جسيمة.
الاتفاقية الثالثة: حماية أسرى الحرب.
تم اعتمادها هي كذلك في 12 أغسطس 1949 و تعنى بأسرى الحرب، و تستمد أصولها من بعض الاتفاقيات الثنائية، كتلك المبرمة بين بروسيا و الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1785، و التي تدعو إلى معاملة أسرى الحرب معاملة لائقة، كما تعتبر كل من اتفاقية لاهاي الثانية لعام 1899 و اتفاقية جنيف لعام 1929 المتعلقة بمعاملة أسرى الحرب من الأسس التي ارتكزت عليها القواعد المضمنة في اتفاقية جنيف الثالثة .
و تتضمن هذه الاتفاقية 143 مادة موزعة على ستة أبواب، بينت في الباب الأول الأحكام العامة الواجب على أطراف النزاع احترامها مهما كان نوع النزاع؛ ذا طابع داخلي أو دولي. فيما جاء الباب الثاني بعدة مبادئ أخرى كمسؤولية الدولة الحاجزة على الأسرى المحتجزين كما بينت المبادئ العامة التي يتوجب عليها احترامها، والتي هي من حق الأسير. أما الباب الثالث فقـد خصص لتوضيح الإجراءات الواجـب اتباعها عند الأسـر و كذلك ظروف اعتقال الأسير، و ما يجب أن يوفـر له من احتياجات كالملبس والإيـواء و الطعام، والرعاية الصحية. وقد حمل الباب الرابع التزام الأطراف بإعادة الأسرى إلى الوطن مباشرة فور انتهاء العمليات العسكرية. أما الباب الخامس فقد نص على إنشاء جهازين لضمان احترام التعهدات التي قد تقع على عاتق كل طرف في أي نزاع بشأن أسرى الحرب و هما:
• مكتب الاستعلامات وهو عبارة عن جهاز متخصص ينشأ عند كل طرف في حالة نشوب نزاع و كذلك في الأراضي المحتلة، مهمته تتبع حالة الأسرى من الأسر والنقل إلى الإفراج و إعادتهم إلى أوطانهم، ونقل هذه المعلومات إلى الدول المعنية.
• أما الجهاز الثانـي فهي الوكالـة المركـزية للاستعلامات تنشأ في بلد مـحايد و تكلـف بجمـع المعلومات عن الأسـرى بمختلف الطرق الرسمية و الخاصة و نقلها إلى الطرف المعني. و قد نص الباب السادس على بعض المسائل، كالرقابة في أماكن تواجد الأسرى و كذلك مبدأ العقوبات الجزائية في حالة اقتراف إحدى هذه المخالفات .
اتفاقية جنيف الرابعة: تهتم بحماية المدنيين وقت الحرب.
وقد شكلت تطورا هاما في القانون الدولي الإنساني، نظرا لحداثة موضوع حماية المدنيين، فمختلف الاتفاقيات السابقة لها كانت تهتم فقط بحماية الجرحى والمرضى التابعين للقوات المسلحة في الميدان، فيما لم تكن هناك قواعد تطبق على المدنيين لحمايتهم أثناء النزاع، و عند وقوعهم في يد العدو. فحماية المدنيين لم تحظ باهتمام المشاركين في المؤتمر الدبلوماسي المنعقد عام 1929، إذ اكتفوا فقط بالإعراب عن أملهم في إجراء دراسات معمقة من أجل وضع اتفاقية تحمي هذه الفئة. كما لم يجد مشروع طوكيو وهي وثيقة قدمت لتطبيق أحكام أسرى الحرب على المدنين أيضا في حالة وقوعهم في قبضة العدو ، أذانا صاغية فبقيت مجرد محاولة إلى أن تم تخصيص الاتفاقية الرابعة من اتفاقيات جنيف لحماية هذه الفئة حيث كفلت لها مجموعة من الحقوق.
فالباب الثاني من الاتفاقية ينص على حماية وسائل النقل بمختلفها و كذلك المنشآت الصحية. أما الباب الثالث فينص على وضع الأشخاص المحميين وكيفية معاملتهم واضعا في عين الاعتبار المعاملة الخاصة لبعض الفئات كالأطفال و النساء، كما نص أيضا وعلى غرار الاتفاقية الثالثة على إنشاء مكتب استعلامات، ووكالة مركزية للاستعلام. و ينص الباب الرابع و الأخير على مبدأين مهمين وهما مبدأ مراقبة التنفيذ و مبدأ قمع مخالفات الاتفاقية .
لقد شكلت اتفاقيات جنيف 1949 إنجازا تاريخيا مهما في مجال حقوق الإنسان بصفة عامة، إذ اعتبرت انتصارا للمبادئ الإنسانية التي حاولت منذ العهد القديم تقييد الحرب وجعلها تتماشى مع الضرورات العسكرية، إلا أن هذا لا يلغي وجود ثغرات عدة في هذه الاتفاقيات الشيء الذي جعل المجتمع الدولي يسارع إلى إصدار بروتوكولين إضافيين مكملين لهذه الاتفاقيات.
البرتوكول الإضافي الأول 1977 :
يتعلق هذا البروتوكول بضحايا النزاعات المسلحة الدولية، وقد جاء مكملا لاتفاقيات جنيف الأربع، فمع اتساع حركات التحرر و الانقلابات العسكرية بعد الحرب العالمية الثانية تبين أن اتفاقيات جنيف الأربعة لا تكفل الحماية للمدنيين في كافة الظروف، فسارعت لجنة الصليب الأحمر خلال مؤتمرها 21 باسطنبول عام 1969 إلى دعوة الأطراف المتحاربة بأن تمتنع عن استعمال الأسلحة التي تسبب أضرارا مفرطة ،و التي تضر بالسكان المدنيين و المقاتلين بصورة عشوائية نظرا لعدم دقتها. و دعت المجتمع الدولي إلى عقد مؤتمر دبلوماسي يحضره خبراء حكوميين ويضطلع بإعادة تأكيد القانون الدولي الساري على المنازعات المسلحة. وبناء على ذلك قامت حكومة سويسرا بتوجيه دعوات رسمية للحكومات قصد المشاركة في المؤتمر، وفعلا تم عقده بجنيف بداية من 20 فبراير 1974 و استمر أربع سنوات ،بحيث انتهى في10 يونيو 1977،وتم خلاله مناقشة مشروعي بروتوكولين وضعتهما اللجنة الدولية للصليب الأحمر ، فلم تذهب الجهود سدى إذ تم التوصل إلى صياغة صكين جديدين في المسيرة التطورية للقانون الدولي الإنساني .
ومن أهم ما نص عليه البروتوكول الأول، قاعدة طالما انتظرتها شعوب العالم الثالث و بالخصوص مناضلي حركات التحرر وهي رفع التحرير إلى درجة النزاع المسلح الدولي، وقد تم تضمين هذه القاعدة نظـرا لانتشار هذا النـوع من النزاعات و كذلك لخطورة آثاره، وتزايد تمثيلية دول العالم الثالث في المجتمع الدولي على مستوى العدد على الأقل.
كما وسع الباب الثاني من هذا الاتفاق مجال تطبيق الاتفاقيتين الأولى والثانية من اتفاقيات جنيف لتشمل بالإضافة إلى المرضى و الجرحى و الغرقى العسكريين المدنيين أيضا. أما الباب الثالث فقد اعترف لمقاتلي حرب العصابات بصفة المقاتل ومن ثمة بصفة أسير الحرب عند الوقوع في قبضة العدو. فيما حدد الباب الرابع الفئات والأموال ذات الطابع المدني والأعيان الثقافية وأماكن العبادة،والمناطق المحمية بصفة خاصة و الحماية المدنية و المـساعدة المقدمة للمدنيين و اللاجئين و عديمي الجنسية و النساء و الأطـفال و وضع الصحافة .
البروتوكول الإضافي الثاني 1977 :
يختص هذا البروتوكول بضحايا النزاعات المسلحة غير الدولية و نقصد بالنزاعات المسلحة غير الدولية حسب الدكتور سعـد الله: "الاشتباكات الإيـديولوجية و العرقية التي تجري بوحشية و بانتهاك للقيم الإنسانية بين طرفين وطنيين". ومن تم فهذا الوصف ينطبق على كل نزاع بين الحكومة و القوات أو بين الإخوة الأعداء في وطنهم . و يعتبر هذا النوع من النــزاعات كثـير الانتــشار في عصـرنا الحالي: "الصومال ،زمبابوي ،أوغندا،السودان...". ومع ذلك لم يكن هناك نص في القانون الدولي الإنساني يتعلق به، سوى المادة الثالثة المشتركة بين اتفاقيات جنيف، والتي رغم أهمية المبادئ التي تحتويها، فإنها تبقى موضوعا لتأويلات مختلفة قد تنتهي في نهاية المطاف إلى تضييقها إلى أبعد نطاق. فكان لابد من إعداد مشروع يحكم وينظم هذا الصنف من النزاعات، و هذا ما تكلفت به اللجنة الدولية للصليب الأحمر كما سبقت الإشارة بتقديمها لمشروع بروتوكول ضحايا النزاعات المسلحة غير الدولية، و الذي تم تبنيه في المؤتمر الدبلوماسي بجنيف سنة 1977 .
ويضيف هذا البروتوكول إلى المادة الثالثة المشتركة، تعريفه للنزاعات المسلحة غير الدولية، و بالتالي تحديد نطاق تطبيقه. كما نص على عدة مبادئ مهمة كمبدأ عدم التدخل حتى لا يكون القانون الدولي الإنساني المطبق في النزاعات المسلحة غير الدولية مبررا للتدخل في شؤون الدولة التي يدور النزاع على أراضيها.
كما أعطـى ضمانات لغير المقاتلين وألزم تقديم الخدمـات اللازمة لمساعدة المعتقلين و نص على مزيد من الحقوق القضائية أثناء تتبع و زجر مرتكبي الجرائم ذات العلاقة بالنزاع ، ورغم الصفة الحقوقية التي أنجزها هذا البروتوكول فإنه يبقى مثار انتقاد كثير من الكتاب باعتباره يغفل مجموعة من الحالات التي لا تلقى جوابا داخل هذا القانون، كحالة مشاركة الأشخاص العاديين في النزاعات المسلحة الداخلية و أي القوانين الواجبة التطبيق :القانون الإنساني أم القانون الداخلي .كما أن قواعده تبقى أقل وضوحا و أقل تطورا بالمقارنة مع ما يطبق على النزاعات المسلحة الدولية .
بشكل عام فقد حققت اتفاقيات جنيف الأربعة و البروتوكولين الإضافيين قفزة نوعية في المسار التطوري للقانون الدولي الإنساني، إذ شملت من خلال قواعدها حماية مختلف الفئات و تغطية كل النزاعات المسلحة، فاستطاعت بفعل شمولها أن تجمع بين ما كان يسمـى بقانـون لاهاي أي قانون المنازعات المسلحة وقانون جنيف تحت عنوان واحـد، و هو "القانون الدولي الإنساني"؛هذا الأخير لم تتوقف مسيرته التطورية عند هذا الحد ،فمع تطور مجال الأسلحة واتساع الفئات المستهدفة، أخذت عملية التدوين اتجاها جديدا، وهو حماية الأعيان و تحديد الأسلحة من خلال تقييد بعضها، و حظر البعض الآخر. إذ أن الاتفاقيات السابقة لم تكن تهتم بهذا الموضوع بشكل واضح و مباشر . اللهم بعض القواعد القليلة التي تتعلق بحـظر أسلحة معينة و من بين الاتفاقات التي اتخذت هذا التوجه نذكر:
اتفاقية لاهاي لسنة 1954 :
أبرمت هذه الاتفاقية تحت رعاية اليونسكو في 10 مايو 1954، و تهدف إلى حماية الممتلكات الثقافية في حالة نشوب نزاع مسلح ، لما تحتله الممتلكات الثقافية في نفـس الإنسان، فأعماق إنسانية الإنسـان ليست سوى محصلة لتاريخه الوطني و لغته و تقاليده فهو لا يستطيع أن يصبح أكثر اكتمالا في كل أبعاده و في كل ما تتميز به إنسانيته بدون ممتلكاته الثقافية، و هذه العلاقة اليوم أصبحت تجسدها قواعد القانون الدولي الإنساني التي استمدتها بطبيعة الحال من التراكم الذي خلفته الأعراف و التصرفات في الحضارات القديمة والأديان السماوية و كذلك كتابة المفكرين؛ فالإسلام مثلا حمى هذه الممتلكات منذ أمد بعيد إذ قال الله تعالى " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صـوامع و بيـع و صلوات و مساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا و لينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز" .
و قد تضمنت هذه الاتفاقية أحكاما عامة تم من خلالها التعريف بالممتلكات الثقافية. فضلا عن تحديد المبادئ الأساسية للحماية في مختلف النزاعات المسلحة، كما نصت كذلك على الحماية الخاصة و الحصانة للملكية الثقافية التي تقتضي الامتناع عن أي أعمال عدائية ضدها وإلى واجب حملها لشعار الحماية.كما أقرت الإجراءات التنفيذية التي تمنح حق المراقبة عبر المنظمات الدولية كاليونسكو .
وبالتالي فإن ما توحي به هذه الضمانات التي نصت عليها الاتفاقية، وهو أن الممتلكات الثقافية هي تراث مشترك للإنسانية نظرا لقيمتها المادية و الروحية لدى الشعوب و بالتالي فالحماية لها واجبة.
اتفاقية حظر الأسلحة الجرثومية لسنة 1972 :
جاءت هذه الاتفاقية كنتيجة للمساعي التي قامت بها لجنة نزع السلاح ،والتي عملت بعد تقرير للأمين العام للأمم المتحدة سنة 1969 إلى الجمعية العامة،و الذي أشار فيه إلى الضرر المفرط و الآثار العشوائية التي تنجم عن استخدام الأسلحة الكيماوية والجرثومية- على إعداد مشروع اتفاقية بحظر صنع و استخدام هذا النوع من الأسلحة. ورغم تعارض المواقف بين الاتحاد السوفيتي و الولايات المتحدة الأمريكية حول نوعية الأسلحة وكذلك مدى شمول الاتفاقية لها فإن اللجنة نجحت في إعداد المشروع الذي عرضته على هيئة الأمم المتحدة عام 1971،إذ لقي تأييد أغلب المتدخلين، فتم اعتماده في الدورة السادسة و العشرين بقرار رقم 2826 عام 1971 تحت اسم حظر اختراع و صنع و تخزين الأسلحة الجرثومية و الأسلحة السامة و تدميرها .وقد تضمنت هذه الاتفاقية مسألتين هامتين :
* الأولى تتعلق باستخدام الأسلحة الجرثومية، إذ أقرت حظرا باتا على أي سلاح من هذا النوع؛
*والثانية تتعلق بفرض قيود على تصنيع الأسلحة الجرثومية وتخزينها و بيعها. بالإضافة إلى هذا فرضت تدمير جميع العوامل الجـرثومية و الثكـنات و الأسلحة والمعدات ووسائل الاتصال المعينة التي تكون في حـوزة الـدول الأطراف أو خاضعة لولايتـها أو رقابتها و بتحويل استعمالها لأغراض سلمية.
كما دعت في الأخير إلى مواصلة المفاوضات للوصول إلى اتفاق قريب حـول حـظر استخدام الأسلحـة الكيماوية ووضـع التدابير الفعالة اللازمة لـمنع استحداثها و إنتاجها و تخزينها و تدميرها .
اتفاقية حظر أو تقييد استعمال بعض الأسلحة تقليدية معينة لسنة 1980 :
تعـرف هذه الاتفاقية أيضا باسـم اتفاقية الأسلحة غير الإنسانية. وقد دخـلت هـي و بروتوكولاتها الثلاثة حيز التنفيذ في دجنبر 1983 .و قد جاءت كنتيجة لمساعي كل من اللجنة الدولية للصليب الأحمر من خلال مختلف الاقتراحات التي تقدمت بها في هذا المجال و كذلك مساعي الجمعية العامة للأمم المتحدة من خلال بعض التوصيات التي تدعو إلى بحث مسألة استعمال بعض الأسلحة و كذلك المؤتمرات الدولية، إذ كان للمؤتمر الدبلوماسي حول تأكيد وتطوير القانون الدولي الإنساني المطبق في النزاعات المسلحة (1974 -1977) دور مهم من خلال التوصية التي بعثها إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة التي تبنتها، إذ دعا إلى عقد مؤتمر تحضيري في جنيف في سبتمبر 1978، و الذي تناول فيه المشاركون بحث مختلف أنواع الأسلحة المستهدفة بالتقييد أو الحظر، إلا أنه لم يسفر على أي اتفاق. غير أن المؤتمر الثاني و الذي عقد هو كذلك تحت إشراف الأمم المتحدة بجنيف نجح في التوصل إلى اتفاق بشأن حظر و تقييد استعمال أسلحة تقليدية معينة. بالإضافة إلى ثلاثة بروتوكولات، يتعلق الأول بالشظايا التي لا يمكن الكشف عنها، و الثاني يتعلق بحظر أو تقييد الأسلحة المحرقة. بالإضافة إلى قرار بشأن الأسلحة ذات العيار الصغير.
و قد كان للاختلاف الذي ساد أطوار المؤتمر أثر بالغ على مضامين هذه الاتفاقية ، إذ لم يجعلها تحقق التقدم المأمول منها بشأن هذه الأسلحة، إذ لم تتوصل إلى نص صريح يحظر بشكل شامل أنواع الأسلحة التي تناولتها البروتوكولات الملحقة، وتم الاقتصار على تقييد استعمال البعض منها، مما جعل تأثيرها ضعيفا نسبيا في توفير الحماية للأفراد و المناطق الآهلة بالسكان المدنيين .
اتفاقية حظر الأسلحة الكيماوية لسنة 1993 :
لقد ساهمت عدة مبادرات في وضع هذه الاتفاقية من بينها الدعوة التي وجهها المشاركون في المفاوضات التي أسفرت عن وضع اتفاق خاص بحظر الأسلحة الجرثومية و تدميرها ، و التي دعا فيها المجتمع الدولي إلى البحث من خلال المفاوضات عن توافق بشأن اتفاقية لحظر الأسلحة الكيماوية .إلا أن الخطوة البارزة في اتجاه التقنين تمثلت في إنشاء لجنة مختصة لهذا الأمر في إطار مؤتمر نزع السلاح الذي عقد سنة 1980، بحيث قامت هذه اللجنة بوضع مشروع اتفاقية دولية تم اعتمادها لاحقا في مؤتمر نزع السلاح عام 1992 .
و حتى الآن لا تزال المطالبات مستمرة لوضع اتفاقيات جديدة مواكبة للتطور الذي عرفه مجال الأسلحة، إذ ظهرت أسلحة جديدة لا تشملها اتفاقيات القانون الدولي الإنساني كقنابل الدايم، التي استعملتها إسرائيل في حربها الأخيرة على غرة كما سنرى لاحقا.
فأهـم المبادئ التي يقـوم عليهـا القانون بشكل عام هي الاستمرارية و التـطور، و هذا ما يحتاجه القانون الدولي الإنساني حتى يحقق الهدف الذي أنشئ من أجله، وهو حماية إنسانية الفرد من ويلات الحروب أو على الأقل التخفيف من آثارها، حتى تصبح أكثر إنسانية ، غير أن هذا لن يتحقق دون وجود أجهزة تعمل على كفالة احترام القانون الدولي الإنساني، و فرض العقاب على المخالفين، ورغبة منا في توسيع النقاش وتعميق البحث، ينبغي التساؤل عن الفئات التي يشملها القانون الدولي الإنساني بحمايته القانونية، ثم عن الأجهزة و الآليات التي وضعها لمراقبة و تطبيق
هذه القواعد.
إننا إزاء منطقين، الأول يعطي الانطباع أنه ليست ثمة حـاجة إلى عقد المزيد من القمم على مختلف مستوياتها أو الدعوات المحتشمة المتكررة إلى تكثيف الجهود، مادام أن هناك تباعد كبير بين النص و الواقع في عالم لازالت فيه علاقة الجندي بالسياسي ملتبسة،والثاني لازال يؤمن بالعمل الدبلوماسي لحل النزاعات السياسية في أفق المزاوجة بين ثنائية الحق و الواجب في الحياة الدولية المثقلة بتعدد روافدها و مكوناتها و طريقة تعاطيها مع إشكالية السيادة. لن نخوض في البحث عن حيثيات المنطقين أو محاولة التخندق مع أحدهما، بقدر ما نجد أنفسنا مضطرين مبدئيا إلى التعريف بالقانون الدولي الإنساني، ثم السعي إلى الانتقال إلى مستوى ثان يسمح لنا باستقراء قواعده ومحاكمة آليات اشتغاله وتنفيذه في ظل الثابت منها و المتحرك من الأحداث.
نشير أوليا أننا لسنا من دعاة المثالية بدون قيد أو شرط، ففي ظل الظروف السياسية والأمنية والاقتصادية التي تحكم الحياة الدولية المعاصرة يصعب التقيد الحرفي بضوابط القانون الدولي الإنساني ،لكن ليس معنى هذا الارتكان إلى الفكر الواقعي الذي ينـزع عن الـعلاقات البشـرية و معها الدولية طابعها الإنساني.
والواضح أنه على الرغم من الضبابية التي تلف طبيعة العلاقات بين الأمم في الوقت الراهن،إلا أن هذا لم يمنع من الالتفاف حول قواعد قانونية لحماية الإنسان -من ويـلات النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية منها -سـواء أكان مدنيا أو مقاتلا،إلى جانب صيانة ماله علاقة مباشرة بحياته.
ولعل هذا الالتفاف هو ما جسدته قواعد القانون الدولي الإنساني التي شكلت حكما تختصم إليه الأطراف المتنازعة، والشاهد على ذلك أنه في وقت الحرب، تتعالى الأصوات الداعية إلى الاحتكام إلى قواعد القانون الدولي الإنساني.
إن المبادئ التي جاء بها القانون الدولي الإنساني، ليست بالفكرة الحديثة التي لم تعرفها العصور المختلفة، و إنما هي فكرة وجدت و تطورت على مر العصور المختلفة ، خاصة أن الإنسان منذ وجوده على اليابس، و تداخل معاملاته مع الآخرين، قد ينشأ على إثـرها تعارض بين هذه المـصالح، و من ثمة قد تنشأ الحروب بسبب ذلك، و حماية ذلك الإنسان من شر هذه الحروب تتواكب فكرتها منذ الأزل و تستمر، و قد تنشط في عهد ما، ثم تبعد في عهد آخر و لكنها في النهاية تتواصل مسيرتها حتى وصلت في هذا العهد لذروة تفوقها و شموليتها. وبالموازاة مع ذلك، فطن المجتمع الدولي إلى ضرورة تهذيبها وتخليقها عن طريق سن قواعد قانونية إنسانية للتخفيف من آثارها المدمرة.و سوف نعرض في المبحثين أسفله لنـشأة القانون الـدولي الإنساني و تطوره عبر مختلف العصور، و كذلك جهود المجتمع الدولي في سبيل تدوين هذا الفرع من فروع القانون الدولي العام.
المبحث الأول: نشأة القانون الدولي الإنساني
في هذا المبحث سنحاول دراسة مفهوم القانون الدولي الإنساني ثم الوقوف على أهم تطوراته التاريخية.
المطلب الأول: ماهية القانون الدولي الإنساني
القانون الإنساني فرع من فروع القانون الدولي العام و هو مجموعة من القواعد الرامية إلى الحد من آثار النزاعات المسلحة لدوافع إنسانية . بعبارة أخرى فالقانون الدولي الإنساني هو مجموع قواعد عرفية و اتفاقية تهدف إلى حماية الأشخاص المتضررين من النزاعات المسلحة و ما سببته من آلام لهم، و حماية المدنيين الذين ليس لهم علاقة مباشرة بتلك النزاعات ، أي أنه يحمي الأشخاص الذين لا يشاركون في القتال، أو كفوا عن المشاركة فيه كما يقيد حق اختيار الوسائل و الأساليب المستعملة في الحرب.
فهو يدين حسب الأستاذ جان بكتيه بوجوده للإحساس بالإنسانية ،إذ يركز على حماية الفرد ويستهدف التخفيف من معاناة الضحايا بسب الصراعات المسلحة ممن هم تحت رحمة أعدائهم، سواء كانوا جرحى أم مرضى أم غرقى أم أسرى أم مدنيين. هذا و يعرف عامر الزمالي هو أيضا القانون الدولي الإنساني بأنه" فرع من فروع القانون الدولي، تهدف قواعده العرفية و الاتفاقية إلى حماية الأشخاص المتضررين في حالة نزاع مسلح بما نتج عن ذلك النزاع من آلام كما تهدف إلى حماية الأموال التي ليست لها علاقة مباشرة بالعمليات العسكرية .
ومع بداية السبعينات تأثر هذا القانون بحركة حقوق الإنسان على الصعيد الدولي خاصة في أعقاب مؤتمر طهران لسنة 1968، فشاع استخدام مصطلح القانون الدولي الإنساني ، الذي أصبح يدل على ذلك الجزء من القانون الدولي العام الذي يهتم بحماية من لا يشارك في الحـرب أو من توقـف عن المـشاركة فيها، كما يقيد اختيار وسائل القتال و خاصة الأسلحة ووسائل القتال، و انطلاقا من هذه الاهتمامات فإن كثيرا من الباحثين من يقسم القانون الدولي الإنساني إلى قسمين :قانون جنيف وقانون لاهاي .
فالمقصود بقانون جنيف، تلك القواعد القانونية التي تسعى إلى حماية العسكريين الذين عجزوا عن مباشرة القتال، وحماية الأشخاص الآخرين الذين لا يشاركون في العمليات الحربية ويتمثل قانون جنيف في اتفاقيات جنيف الأربعة لحماية ضحايا النزعات المسلحة لعام 1949، و برتوكوليهما الإضافيين لعام 1977، وقد وضعت هذه الاتفاقيات لغرض واحد وهو صالح الفرد، فهي لا تعطي للدولة حقوقا ضد مصالح الأفراد.
أما الفرع الثاني فهو قانون لاهاي أو قانون الحرب، وهو مجموع القواعد القانونية التي أقرتها اتفاقيات لاهاي لعامي 1899 و1907، التي تنظم حقوق وواجبات المحاربين في إدارة العمليات العسكرية، وتهدف إلى الحد من آثار العـنف و الخداع حتى لا تتجاوز ما تتطلبه الضرورات العسكرية .
و قد يشمل قانون لاهاي أيضا اتفاقيات لا تحمل اسم العاصمة الهولندية مثل إعلان سان بترسبوغ لعام 1868 الذي يحظر استعمال الرصاص المتفجر، وبرتوكول جنيف لعام 1965 الذي يشجب استعمال الغازات الخانقة و السامة و غيـرها، والأسلحة الجـرثومية و أمثالها. ويعتبر البعض أن هذه التفرقة زالت منذ ظهور بروتوكولي 1977 إذ تضمن البرتوكول الإضافي الأول بصفة خاصة العديد من الأحكام الخاصة بوسائل و أساليب القتال و لم يعد لهذا التمييز إلا قيمة تاريخية فقط.
ويثار النقاش أيضا حول علاقة القانون الدولي الإنساني ببعض المجالات التي تتجه غايتها في نفس المنحى مثل حقوق الإنسان . فبعض فقهاء القانون الدولي الإنساني يميزون بين التعريف الموسع للقانون الدولي الإنساني و التعريف الضيق. فالمقصود باصطلاح القانون الـدولي الإنساني بالمعنى الواسع، مجموع الأحكام القانونية، سواء في التشريعات أو القوانين العامة التي تكفل احترام الفرد وتعزز ازدهاره. و حسب هذا الرأي فالقانون الدولي الإنساني يتكون من فرعين قانون الحرب وحقوق الإنسان، ويضيف البعض الآخر "الأستاذ فيلان بارتوس" فرعا ثالثا هو قانون السلام والذي يقصد به المجموعة المعنية بحفظ السلام و الحيلولة دون اللجوء إلى الحرب كوسيلة لحل الخلافات بين المجتمعات البشرية .
بل هناك من الكتاب من اعتبر قانون المنازعات المسلحة ليس إلا جزءا من النطاق الكامل لحقوق الإنسان، وبالتالي فالقانون الدولي الإنساني لا يستطيع أن يؤكد وجوده وأن يتطور إلا من خلال حقوق الإنسان.
لكن من المهم إدراك أن المجالين متداخلين ، و نلمس هذا من خلال سعيهما المشترك إلى حماية الفرد و احترام آدميته و كرامته ، و السعي قدر الإمكان للتخفيف من آلامه ومحاولة حمايته من جبروت الحكام وصراعهم.
غير أن هذين المجالين متمايزين. فمن حيث نشأتهما التاريخية لا شك أنهما نبعا من مصدر واحد و هو الرغبة في حماية الفرد ممن يريدون سحقه، ومع ذلك فهما يبقيان مستقلين، بين مجال يسعى إلى الحد من شرور الحرب، و آخر يدافع عن حق الإنسان ضد العنف و التعسف.
و بما أن الحرب ظهرت منذ أن خلق الله البشرية فلاشك أن المبادئ الإنسانية كانت حاضرة هي كذلك و لو بصورة مختلفة وبدرجات متفاوتة، وهذا ما يدفعنا إلى البحث عن الجذور التاريخية للقانون الدولي الإنساني و التنقيب عن بعض مبادئه في العصور القديمة و العصور الوسطى و تجلياتها في العصر الحديث.
المطلب الثاني: الجذور التاريخية للقانون الدولي الإنساني
خـلافا لما يقول المثاليون، فالأصـل في العلاقات الدولية علـى ما يبدو هـو الحرب و الاختصام و ليس الوئام و السلام. وهذا ما يستنتج من دراسة أجرتها مؤسسة كارنجر للسلام سنة 1930، و التي تفيد أن هناك 13 سنة من الحرب مقابل سنة من السلام يعيشها الإنسان .
و من المفارقات العجيبة أن الإنسان هو الذي ابتدع أسباب الحرب و انخرط فيها، وهو ذاته الذي اكتوى و يكتوي بنارها، و الإنسان هو الذي يشـن الحـرب في لحظات التهور و الطيش وهو ذاته يسعى في لحظات التعقل إلى الحد منها أو ضبطها؛ فهو في الأخير أصل الداء وهو مبتدع الدواء. تقول مقدمة اليونسكو " لما كانت الحروب تبدأ في عقول الناس، ففي عقول الناس يجب أن تبنى حصون السلام". و الحق أن محاولات بناء حصون الدفاع عن السلام في عقل الإنسان قديمة جدا، فقد ابتدعتها الحضارات القديمة و تبنتها الأديان السماوية و جهر بها الفلاسفة و المفكرون منذ أقدم العصور، فيما سعى الكثيرون فيما بعد إلى ترشيد الحرب و تحديد أسبابها، وإقرار ما أسموه بالحروب العادلة فقط منها . وبالتالي فإنه لا يمكن إنكار حقيقة تاريخية تؤكد وجود قواعد إنسانية تطورت على مر العصور، طبعا فهذه القواعد تختلف عن القواعد المعمول بما في عصرنا الراهن، لكنها لا تقل أهمية في جوهرها عن أحدث ما توصلت إليه الأعراف و القوانين المعاصرة .
وقد كان بودنا، في هذه الدراسة، أن نتتبع كيف تطورت فكرة الإنسانية على مر العصور، بدءا بالعصور القديمة للوقوف عند بعض من القواعد و المفاهيم القديمة الرموزة للأبعاد الإنسانية، مرورا بالعصر الوسيط الذي عرف من خلاله القانون الدولي الإنساني تطورا ملحوظا ساهم فيه ظهور الأديان السماوية بشكل واضح، ووصولا إلى العصر الحديث حيث بدأت قواعد القانون الدولي في البروز مع كتابات بعض الفقهاء و الفلاسفة إذ كان لهم دور كبير في تقنين بعض الأعراف و إصدارها في شكل محاضرات أو الكتب.
طبعا، و لأسباب تقنية، سأكتفي بتسليط الضوء على المرحلة التاريخية الأخيرة بالنظر لأهميتها والتطور المهم الذي عرفه القانون الدولي الإنساني ضمنها، و رغم المؤاخذات التي قد تلاحظ في مضمونها فإنها تبقى قفزة نوعية في فترة كان يبرز فيها بشكل واضح القمع و الاستبداد.
فعلى ضوء حرب الثلاثين في أوربا ألف غروتيوس - يعتبر من مؤسسي القانون الدولي التقليدي- كتابه " قانون الحرب و السلم " سنة 1623 .أورد فيه بعض القواعد لضبط سلوك المتحاربين منها : أنه لا يصح قتل المهزوم ، و لا يجوز تدمير الملكية إلا لأسباب عسكرية ضرورية . كما دعا إلى ضبط سلوك المتحاربين و التي يجب مراعاتها لاعتبارات إنسانية ودية و لاعتبارات الأمن و السلامة أيضا .
و يعتبر جاك جان روسو من المساهمين في تدعيم قواعد القانون الدولي الإنساني في أواسط العصر الحديث إذ حمل كتابه "العقد الاجتماعي" عدة أفكار إنسانية تدعو إلى الرحمة و عدم إيذاء المدنيين. يرى روسو أن حالة الطبيعة هي حالة أمن وسلام، وأن الإنسان خير بطبعه. غير أنه يلتقي مع طوماس هوبز في رجوعه إلى حالة الطبيعة من أجل البحث عن مرجعية ومرتكز لتأسيس الحق. وعليه، فمبادئ التعاقد الاجتماعي عند روسو تجد مرجعيتها الأولى في الحقوق الطبيعية للإنسان . لكنه يعترض على فكرة كون إثبات الحق متوقف على القوة، بحكم أن امتلاك الحق لا يؤدي ضرورة إلى امتلاك القوة، مادام أن حصول ذلك رهين بتحويل القوة إلى حــــــق والطاعة إلى التزام وواجب .يقــــــول روسو في هذا الصدد : » إن أقوى الناس لا يكون قويا بالشكل الذي يمكنه من أن يكون دائما السيد، ما لم يحول قوته إلى حق والطاعة إلى واجب... « . لقد كانت فكرة الواجب ثمرة مجهود قام خلاله الإنسان بالانتقال من حالة الطبيعة المفترضة إلى الحالة المدنية، رغبة في تأمين وضعه وإعطاء أفعاله الصفة الأخلاقية الملزمة . وبالتالي، فقد روسو جاء بأبرز قاعدة حاليا في القانون الدولي الإنسـاني و هي ضـرورة التمـييز بين المقاتليـن و غيـر المقاتلين أي المـدنين والمستسلمين. وهذا ما نلاحظه من خلال قوله: "لما كان الهدف من الحرب تحطيم دولة العدو فإن قتل المدافعين فيها يعتبر أمرا مشروعا إذا كانوا يحملون معهم السلاح و لكنهم بمجرد إلقاء الأسلحة و الاستسلام يتحولون تلقائيا إلى بشر عاديين ليس لأحد سلطة أو حق على أرواحهم . وبما أن لا حق على أرواحهم فإنه لا يجب تحويلهم إلى العبودية مقابل الإبقاء على حياتهم."
فروسـو يعتبر من خلال هذا القـول أن الحرب ليست علاقة بين إنسـان و إنسان، و إنما هي علاقة بين دولة و دولة أخرى، و بالتالي فالأفراد فيها أعداء بشكل عرضي فقط، وعداءهم لا يقوم على أساس أنهم بشر أو مواطنين ، بل على أساس أنهم جنود، وبإلقائهم أسلحتهم و استسلامهم فإنهم يعودون من جديد ليصبحوا بشرا لا يحق لأي إنسان الاعتداء عليهم.
لقد كان لكتابات الفقهاء الكبار كغروتيوس وأقرانه، وظهور الدولة بمفهومها الحديث و اعتمادها قوات نظامية تخضع لأوامر تسنها الدولة إضافة - بالطبع- لما قدمنا من عوامل أثر مباشر في تدوين أحكام القوانين التي من شأنها جعل الحرب أكثر إنسانية .
وتعتبر اتفاقية باريس المبرمة في 67 نسيان 1856 و التي تضمنت قواعد معاملة المحاربين في الحروب البحرية من أسبق النصوص القانونية المكتوبة في هذا المجال. غير أن معظم مؤرخي القانون الدولي الإنساني يقفون عند البلاغ الصادر عن وزارة الدفاع الأمريكية عام 1836 باعتباره نقطة البداية في التطور الحديث لهذا القانون. و عن باقي مراحل تدوين القانون الدولي الإنساني، فذلك ما سنعالجه في المطلب الموالي.
المبحث الثـاني: مراحل تدوين القانون الدولي الإنساني
يتفق أغلب الباحثين أن بداية تدوين القانون الدولي الإنساني كانت في أواسط القرن 19، الذي شهد عقد مجموعة من الاتفاقيات شكلت نصوصها الدعائم الأولى لهذا القانون، غير أن التطورات المتسارعة التي شهدها العالم بعد الحرب العالمية الأولى، وعجز القانون التقليدي عن تفسير الممارسات التي تمت في الحرب العالمية الثانية، جعلت المجتمع الدولي يرضخ للأمر الواقع، وذلك بتطوير القانون الدولي الإنساني حتى يواكب باقي التطورات التي يشهدها العالم في باقي المجالات، فكانت اتفاقيات جنيف لعام 1949 بمثابة التدوين الموسع للقانون الدولي الإنساني.
و على هذا الأساس سوف نقسم هذا المطلب إلى فرعين، نتحدث في الأول عن الدعائم الأولى للقانون الدولي الإنساني، و في الثاني عن التدوين الموسع للقانون الدولي الإنساني.
المطلب الأول: الدعائم الأولى للقانون الدولي الإنساني
يشكل القانون الدولي الإنساني جزءا من حركة فكرية عالمية تمس من جملة أمور، مسائل تاريخية ، و سياسية و اجتماعية و اقتصادية، غير أن تساؤلات عدة تطرح بشأن نشأة فكرته، و على الاتفاقيات و المواثيق التي تعكس بداية الجهد الجماعي في عملية تدوينه و تطور هذه العملية بعد ذلك .
فالبعض يعتبر أن المشروع الذي تقدم به البروفسور فرنسيس ليبر خلال الحرب الأهلية الأمريكية سنة 1863، و الذي تبنته وزارة الدفاع الأمريكية، أول الأسس الرسمية للقانون الدولي الإنساني . إلا أن البعض الآخر من فقهاء القانون الدولي يعتبر أن هذا المشروع شكل دعامة أساسية فقط لظهور أول اتفاقية جماعية في تاريخ القانون الدولي الإنساني، و هي اتفاقية جنيف الأولى لسنة 1864، إذ سماها البعض بالاتفاقية الأم نظرا لمكانتها في ميلاد هذا الفرع الجديد في القانون الدولي العام .
اتفاقية جنيف الأولى 1864 :
أبرمت هذه الاتفاقية في 22 أبريل 1864 تحت اسم اتفاقية جنيف لتحسين حال جرحى و مرضى الجيوش في الميدان. وقد حظيت بأهمية كبيرة في نظام القانون الدولي الإنساني. لأنها تعتبر بحق أول اتفاقية تضمنت قواعد عملية في مـجال حماية الجرحى و المرضى، وتخفيف حدة معاناة الإنسان أثناء الحروب.
وقد كانت هذه الاتفاقية من نتائج المؤتمر الدبلوماسي الذي نظم بمدينة جنيف بسويسرا ما بين 8 و 22 غشت 1864. و كانت حكومة الاتحاد السويسري وراء الدعوة إلى عقد هذا المؤتمر الذي حضره 16 مندوب دولة ، ومجموعة من أطباء الجيوش.
ورغـم أن موضـع النقاش طـوال ذاك المؤتمر قد تركز على تحسين حال جرحى و مرضى الجيوش في الميدان ،فإن النقاش امتـد أيضا إلى حـرمة الشخـص الإنساني و حقوقه أثناء سير العمليات العدائية بين أطراف النزاع . وقد حظيت هذه الاتفاقية بتوقيع اثنا عشر دولة في 22 غشت 1864،وبعد ثلاث سنوات صادقت عليها جل الدول الكبرى سوى الولايات المتحدة الأمريكية التي لم تصادق عليها إلا سنة 1882. وقد حظيت هذه الاتفاقية بإجماع الحاضرين إذ لم تبدي أي دولة تحفظها أو أسفها عن وجود أو تخلف بعض الأحكام الخاصة في مجال حماية حقوق الضحايا، وهذا ما جعلها ذات أهمية كبيرة باعتبارها شكلت أول محاولة للمجتمع الدولي في اتجاه تدوين قواعد قانون الحرب. إذ تعهـدت الدول المتعاقـدة لأول مرة من خلال هذه الاتفاقية، بتقديم الرعاية بدون تحـيز أو تمييز بين الجرحى من رعايا العدو، فقواعد هذه الاتفاقية لا تسهم في حماية ضحايا القوات المسلحة ضد آثار الأعمال العدوانية فحسب ، بل تقوم بإلزام الدول الأطراف في النزعات المسلحة بمواصلة السير في الطريق الذي لا يؤدي إلى انتهاك حقوق الإنسان الأساسية.
وتمثل قواعد هذه الاتفاقية أول نظام تفصيلي يعرفه القانون الوضعي، في مجال حماية العسكريين أثناء النزعات المسلحة. فهذه القواعد تقنن لأول مرة تحييد الخدمات الصحية في الجيوش ، وتقر بإنشاء جمعية مدنية من المتطوعين في كل بلد تكون على استعداد لنجدة الضحايا . و حول أهمية هذه الاتفاقية يقول الأستاذ جـون بكتيه: " للمرة الأولى في التاريخ قبلت الدول عن طريق الاعتراف بحرمة مجال لا يسـتطيع لا الحديد و لا النار اختراقه، وأن تحـد على الصـعيد الدولي من نفوذها الخاص لمصلحة الفرد ....و للمرة الأولى تفسح الحرب مجالا للقانون".
و تستمد هذه الاتفاقية أصولها من عدة وثائق ساهمت بقدر ما في تخفيف الأعمال العدائية على الأشخاص و الأعيان عن طريق فرض عدد من القيود ذات النزعة الإنسانية كاتفاقيات التسليم، التي ظهرت منذ القرن السادس عشر؛ وهي عبارة عن وثائق تتضمن بالإضافة إلى أشياء أخرى، أحكاما متسامحة تتعلق بالمرضى و الجرحى و الأطباء الذين يعتنون بهم. وقد تطورت هذه الاتفاقيات، إذ أصبحت تحظر على أطراف الصراع مسألة أسر المرضى من الجانبين، وتسمح لهؤلاء بالبقاء في المستشفيات بأمان. كما تعتبر قرارات مؤتمر جنيف الدولي لعام 1963 أحد مراجع هذه الاتفاقية، و الذي يتناول تحسين حال الجـرحى العسكريين من الجيوش في ميدان القتال، و تحييد المستشفيات بصفة دائمة و كذلك حماية الموظفين الطبيين أثناء المنازعات المسلحة .
فهذه الوثائق شكلت الأساس الذي بنت عليه اتفاقية جنيف 1864 قواعدها العشر، والتي رغم اقتصارها على حماية الجرحى العسكريين في ميدان المعركة البرية، وحماية المستشفيات و الوحدات الطبية التي تعنى بهم ، فإنها تجسد المبادئ الأساسية للقانون الدولي الإنساني . إذ نجد ذلك واضحا في المواد 1-2-6-7 التي تعطي اهتماما خاصا لما يحدث للجرحى و المرضى من العسكريين في حرب تدور على البر.فهي تجسد في هذا المضمار المبدأ الذي يقضي بحماية هؤلاء و رعايتهم كما يعتنى بالأصدقاء، و إجلائهم لتوفير الأمن لهم، و مبدأ الرحمة تجاه العدو الجريح كما تضمنت مبدأ الحياة.و للإشارة فإن مجموعة من المبادئ وردت بصورة ضمنية أكثر منه صراحة. وقد تناولت الاتفاقية في باقي المواد قـواعد عامة تتعلق بالخصـوص بتسيير الأعمال الحربية، و حماية المحاربين الجـرحى و المنشآت الطبية و الموظفين الطبيين و رجال الدين الملحقين بالقوات العسكرية . كما نصت من خلال المادة 7 لأول مرة في التاريخ على ضرورة حمل شارة مميزة من أجل توفير الحماية أثناء النزاعات المسلحة لأفراد الخدمات الطبية والمنشآت التابعة لها.
اتفاقية لاهاي الأولى 1899 :
تمخض عن المؤتمر الدولي للسلام الذي عقد في مدينة لاهاي مابين 18 مايو و29 يوليوز 1899 اعتماد جملة من الاتفاقيات وصل عددها إلى ثلاث بالإضافة إلى ثلاثة تصريحات وبيان ختامي . و قد جاء المؤتمر في سياق جهود المجتمع الدولي لتقييد وسائل استخدام القوة وقصرها فقط على المقاتلين دون غيرهم و العمل على حماية ضحايا النزاعات المسلحة. فأمام فشل مشروع بروكسيل لعام1874 في أن يحظى بتصديق الدول جاءت الدعوة من الحكومة الروسية آنذاك لعقد مؤتمر دولي يتولى تنقيح مشروع بروكسيل. وأثناء عقد المؤتمر ظهر تيار جديد يدعو إلى عقد اتفاقيات جديدة في مجال إدارة الأعمال العدائية قصد إخضاعها لقيود محددة وتكون الدول ملزمة قانونيا بها .
وقد حظـي هذا الرأي بتأييد أغلبية الحاضرين ، فتم التوصل إلـى اتفاقيات لاهاي ، و التي تجـد أصولها في إعـلان سانبترسبورغ لعام 1868 و الذي جاء في مقدمتـه أن" للحرب حدودا يجب أن لا تتعداها الدول حتى لا تخرج عن المبادئ الإنسانية".
وقد حظر هذا الإعلان استخدام القذائف الصغيرة التي يقل وزنها عن 400 غرام إذا كانت من النوع الذي ينفجر، أو كانت قابلة للإشعال. وقد طلب هذا الإعلان ألا تتجاوز الآلام ما يكفي لإعجاز المحارب عن القتال، وأنه يتعين الامتناع عن استخدام الأسلحة التي تزيد من آلام الأشخاص ولا تقتضيها الضرورة العسكرية .كما دعا إلى عدم استخدام الأسلحة التي يتضح أنها ستصيب بطريقة عشوائية المقاتلين و غير المقاتلين. وفي دعوة أثبت الزمن عدم تقادمها دعا الإعلان إلى التخفيف من ويلات الحروب إذ جاء فيه "إن تقدم الحضارة ينبغي أن يكون له أثر في التخفيف من ويلات الحرب" . لكن هذا النداء ظل مجرد آمال كشفت السنين التي أتت بعدها عن عكسها؛ فتطور الأسلحة زاد من معاناة الأفراد على مختلف فئاتهم.
كما نجد ضمن الوثائق التي أسست لاتفاقيات لاهاي مشروع مؤتمر بروكسيل لعام 1874 و الذي اشترك فيه ممثلي 16 دولة وانتهى بإعداد اتفاقية غاية في الأهمية تضمنت 56 مادة عالجت مجموعها تنظيم الحرب، كما تضمن قواعد قانونية تتعلق بضمان الحد من آلام الحرب وحماية الشخص الإنساني وضحايا النزاعات المسلحة، إذ نص على :
- ضرورة توحيد العمليات الحربية ضد القوات المسلحـة للعدو وليس ضد السكان المدنين و أولئك الدين ألقوا سلاحهم .
- وجوب احترام الأطراف المتحاربة للمعتقدات الدينية وشرف وحياة كل السكان المدنيين.
- الالتزام بضرورة احترام الموظفين والسكان المدنيين الموجودين على الأراضي المحتلة وعدم التعرض لهم أو الاعتداء على ملكيتهم الخاصة .
- حظر مهاجمة وقصف المدن المفتوحة .
- التزام الأطراف المتحاربة خلال القصف بأن تتخذ كافة التدابير و الإجراءات الممكنة لعدم التعرض للمعابد و المنشآت العلمية و الثقافية و الفنية .
- الحد من اللجوء إلى أعمال الثأر ضد السكان المدنيين وضحايا الحرب .
ورغم عدم اعتماد هذا المشروع فإن أثره كان ملحوظا في محتوى اتفاقيات لاهاي 1899 و 1907 . و تتكون اتفاقيات لاهاي 1988 كما سبقت الإشارة من ثلاث اتفاقيات وثلاثة تصريحات و بيان ختامي.
اتفاقية جنيف بشأن تحسين الجرحى و المرضى من أفراد القوات المسلحة في الميدان 1906 :
جاءت بمثابة مراجعة للاتفاقية 1864 إذ عقد مؤتمر دبلوماسي بجنيف بمبادرة من الاتحاد السويسري .وقد بدأ أول اجتماعاته في يوليوز 1906؛ فأمام النواقص التي ظهرت في اتفاقية جنيف 1864 ، تحركت اللجنة الدولية للصليب الأحمر من خلال عرضها لمشروع اتفاقية على المؤتمر .و قد حظي هذا المشروع بقبول الحاضرين، وتضمنت هذه الاتفاقية 33 مادة حاولت من خلال قواعدها مجابهة الصعوبات وتقديم الحل المناسب لها، إذ اهتمت بالحروب البحرية و اعتنت بضحاياها، وأوجبت احترام العسكريين و المـرضى و الجرحى و معالجتهم بغض النظر عن جنسيتهم من طرف السلطات التي وقعوا في قبضتها . إلا أن نطاق تطبيقها تم حصره في النزاعات الدولية والأشخاص التابعين رسميا للقوات المسلحة ويتبين هذا من خلال المادة الأولى.
كـما حاولت هذه الاتفاقية وضع أسس لحالة الضرورة العسكرية من خلال المادة 12 ،و هي الفكرة التي تعطي لأحد طرفي النزاع حججا قانونية يدافع بها عن شرعية الخروج عن القواعد الخاصة بالحماية التي يخضع لها الجرحى و المرضى ومن دون شك فإن إقرار هذه الحالة في القانون الدولي الإنساني يمثل إحدى الثغرات التي تتسم بها هذه الاتفاقية،لأن تحقيق الحماية بالنسبة للفرد الإنساني يشكل التزاما عاما أثناء الحرب وتطبيق حالة الضرورة يزيل كل التزام بهذا الشأن . ورغم هذا فاتفاقية جنيف 1906 تعتبر نصا قانونيا متطورا عن اتفاقية 1864، و هذا ما جعل هذه المحاولة تكتسي أهمية لا بأس بها في سلسلة تطور تدوين القانون الدولي الإنساني.
اتفاقية لاهاي الثانية 1907 :
بعد مرور 8 سنوات عن انعقاد مؤتمر لاهاي سنة 1970 للسلام عقد مؤتمر لاهاي الثاني بين 15 يوليوز و18 أكتوبر 1907 و ذلك بمبادرة من الرئيس الأمريكي .وقد هدف هذا المؤتمر إلى إدخال تحسينات على العمل الذي قد أنجز في لاهاي 1899 بشأن القواعد الخاصة بأساليب ووسائل القتال، و التي ظلت تشكو من النقص لعدم تحقيقها للتوازن بين الاعتبارات الإنسانية و المقتضيات العسكرية، فكانت المهمة الأساسية للمؤتمر هي استكمال عملية تدوين قانون الحرب بعد القلق الذي انتاب المجتمع الدولي آنذاك من زيادة التسلح وجسامة الانتهاكات المتكررة للقواعد الخاصة بأساليب ووسائل القتال.
و هذا ما يفسر تضاعف عدد الدول المشاركة في المؤتمر بحيث وصل إلى 44 دولة ونجاحها في وضع 13 اتفاقية، و هي:
* اتفاقية التسوية السلمية للنزاعات الدولية .
* اتفاقية تقييد استخدام القوة لتحصيل الديون التعاقدية .
* اتفاقية بدء حالة الحرب.
* اتفاقية حقوق وواجبات المحايدين في الحروب البرية.
*اتفاقية وضع السفن التجارية للعدو عند بدء العمليات العدائية .
* اتفاقية تحويل السفن التجارية إلى سفن حربية .
* اتفاقية وضع الألغام تحت سطح الماء.
* اتفاقية القصف بالقنابل بواسطة القوات البحرية ومن الحرب .
* اتفاقية تطبيق مبادئ اتفاقية جنيف على حالة الحرب في البحار .
* اتفاقية إنشاء محكمة للغنائم.
* اتفاقية حقوق وواجبات الدول المحايدة في الحروب البحرية.
بروتوكول جنيف 1925 :
تم إصداره في 17 يونيو 1925، و يتعلق بحظر الاستعمال الحربي للغازات الخانقة و السامة أو ما يشابهها وللوسائل الجرثومية في الحرب. فبعد الحرب العالمية الأولى لوحظ أن مجال التسلح عرف تطورا كبيرا إذ أصبح خارج حكم القواعد القانونية ، فجاء هذا البرتوكول كاستجابة لتطوير القانون الدولي الإنساني حتى يوازي التطور الذي عرفته الصناعات العسكرية. إلا أن هذا البروتوكول صحيح أنه يعتبر من أولى الصكوك التي تحظر أو تقيد استعمال الأسلحة إلا أنه يعاني من عدة نواقص قانونية بحيث هناك غموض في صياغته مما يفسح المجال لعدة تأويلات كما أنه خال من التزامات تحظر أو تقيد صنع وتخزين و بيع و تطوير الأسلحة البكتروبولوجية، إذ اكتفى فقط بالنص على حظر استعمالها في الحروب .
اتفاقيات جنيف لسنة 1929 :
كان للحرب العالمية الأولى أثر مباشر في البحث عن تطوير اتفاقية 1906 وتوسيع الحماية التي يوفرها القانون الدولي لضحايا النزاع المسلح. فمنذ عام 1918 بادرت اللجنة الدولية للصليب الأحمر إلى القيام بمساع تهدف إلى تحقيق المزيد من التقدم في الحقل القانوني و الإنساني، وتواصلت هذه الجهود حتى انعقاد مؤتمر جنيف الدبلوماسي بدعوة من الحكومة السويسرية في سنة 1929 و الذي انتهى بإبرام اتفاقيتين:
اتفاقية جنيف المتعلقة بتحسين حال الجرحى و المرضى العسكريين في الميدان :
أتت هذه الاتفاقية لتكميل و مراجعة اتفاقية جنيف لسنة 1864 و اتفاقية 1906 المتعـلقتان بتحسـين حال الجرحى و المرضى من أفراد القـوات المسلحة في الميـدان و تكيفيهما مع متطلبات الحرب الحديثة ، بحيث تضمنت الاتفاقية في موادها 39 حماية للطيران الصحي و الإسعاف الذي يساهم فيه، وقد كان هذا موضع جدل في المؤتمر حيث طالب البعض بتغييرات في المشروع تكون أكثر جدية لتتوافق مع تطور الطيران خصوصا و أن هذا المجال لا توجد فيه أي اتفاقية تنظمه .
وقد قررت الاتفاقية أيضا استخدام شارتين أخريين إلى جانب الصليب الأحمـر و هما الهلال الأحمر و الأسد والشمس الأحمرين ، كما ألغت شرط المشاركة الجماعية أي أن الاتفاقية تبقى سارية المفعول حتى وإن كان بعض المتحاربين غير أطراف فيها.
اتفاقية جنيف المتعلقة بمعاملة أسرى الحرب:
تعتبر هذه الاتفاقية حسب الدكتور عمر سعد الله فتحا جديدا في مجال القيم الأخلاقية و الحقوق الإنسانية . فنظرا للتعقيدات التي كانت تلف مسألة الأسرى، كانت القواعد العرفية و بعض الاتفاقيات الثنائية فقط هي من تنظم معاملة هذه الفئة. إلا أن تجربة الحرب بين بروسيا وفرنسا عام 1971، و كذلك ما تمخض عن الحرب العالمية الأولى من معاناة للأسرى أثبت أن القانون الدولي الإنساني لا يمثل مدونة متكاملة التمحيص، إذ لا يغفل فقط تنظيم بعض الأمور، بل يشكل عدم تنفيذها أكبر تحد. وأمام هذا النقص سارعت منظمة الصليب الأحمر و المنظمات الإنسانية بشكل عام إلى وضع تقنين جديد لمسألة حماية الأسرى ،و هو ما تحقق في 27 يوليوز 1929.
و قد تناولـت الاتفاقية في مـوادها السبعة و السبعين أهم ما يتصـل بحـياة الأسـير و كفلت له التمتع بخدمات الدولة الحامية بواسطة أعوانها المتخصصين و كذلك بخدمات اللجنة الدولية للصليب الأحمر. بحيث أقرت ديباجة هذه الاتفاقية مبدأ عاما يقضي بوجوب معاملة الأسرى معاملة إنسانية و التخفيف عنهم، كما تضمنت قواعد تلزم الأطراف الحاجزة بحماية الأسرى من الاعتداء و الإهانة و تطفل الجمهور. وكذا احترام شخصيتهم و شرفهم، بالإضافة إلى عدم التمييز بين الأسرى. كما أكدت الاتفاقية التزام الأطراف المرتبطة بها و إن لم تصادق عليها .
لقد اعتبرت هذه الاتفاقية بوابة عصر جديد في مجال حماية المبادئ الإنسانية وحماية الأسرى بشكل خاص. غير أن التجربة أثبتت أن النظام الخاص الذي أرسته هذه الاتفاقية للأسرى لم يحقق حماية عملية لهم، فقد كانت ويلات الحرب العالمية الثانية أكثر مما تصوره واضعو اتفاقيتي جنيف 1929 ليبدأ الاهتمام بوضع تدوين موسع للقانون الدولي الإنساني من أجل تلبية الحاجات التي أفرزتها تلك الحرب المدمرة وهذا ما تجلى في اتفاقيات جنيف 1949 .
المطلب الثاني: التدوين الموسع للقانون الدولي الإنساني
لقد شكلت اتفاقيات جنيف الأربع و البروتوكولين الإضافيين، أهم مرحلة في تاريخ تقنين القانون الدولي الإنساني، إذ وضعت و بشكل موسع مجموعة من القواعد الدولية المتعلقة بحل المشكلات الإنسانية الناشئة عن النزاعات المسلحة الدولية و غير الدولية وحرصهما على احترام المبادئ الإنسانية، مع إعطائها حق الأطراف في استخدام طـرق و أساليب الحرب التي تتماشى و هدف الحرب مع حماية الأعيان والأشخاص الذين تضرروا أو قد يتضررون من المنازعات. و يرجع الفضل في إعداد هذه الاتفاقيات إلى اللجنة الدولية للصليب الأحمر التي حاولت سد أوجه النقص التي كشفت عنها الحرب العالمية الثانية، فكان هدفها وضع قواعد جديدة عن طريق مراجعة و تعديل النصوص السابقة من خلال:
* تمديد الحماية التي تمنحها اتفاقيات جنيف لكي تشمل المدنيين الذين يقعون تحت سلطة العدو.
* حماية ضحايا الحروب الأهلية.
* تزويد الاتفاقيات بآليات للرقابة تشارك فيها الدول بنفسها.
و من أجل هذا الغرض عقدت مؤتمرا تمهيديا للجمعيات الوطنية للصليب الأحمر في 1946 تمت فيه دراسة المشاريع الأولى للاتفاقيات. وقد كان لمؤتمر ستوكهولم المنعقد ما بين 2 و 31 أغسطس 1948 دورا حاسما في إثراء مشاريع الاتفاقيات إذ حضره ممثلي خمسين دولة و سبعين جمعية وطنية وناقش بتوسع المشاريع المعروضة عليه قبل أن يعتمدها في نهاية المطاف. فبعد تلقي اللجنة ردود الحكومات و الجمعيات الوطنية للصليب الأحمر و الهلال الأحمر بشأن المشاريع، تم عقد مؤتمر جنيف الدبلوماسي بدعوة من الاتحاد السويسري، والذي حضره ممثلي 63 دولة إذ توصلوا بعد أربعة أشهر من الانعقاد و المناقشات إلى إقرار 4 اتفاقيات تم اعتمادها في 12 أغسطس 1949 ودخلت حيز التنفيذ رسميا في21 أكتوبر 1950 .وقد بلغ عدد الدول التي تلتزم بها إلى غاية 1994 185 دولة مما يوحي بالطابع العالمي الذي أصبحت تتميز به . و تهتم الاتفاقيات بما يلي:
الاتفاقية الأولى: حماية الجرحى و المرضى من أفراد القوات المسلحة في الميدان.
و تعتبر امتدادا لاتفاقية جنيف 1864 واتفاقية جنيف 1929 و المتعلقة بتحسين حال الجرحى و المرضى بالجيوش في الميدان، و تضم الاتفاقية 64 مادة موزعة على تسعة فصـول وأحكام ختامية نـصت فيهما على أحكـام عامة تتعلق بـرعاية و معالجة الجرحى و المرضى الذين يوجدون تحـت أي سـلطة من أطراف النزاع، و ألزمتهم أيضا باتخاذ جميع التدابير الممكنة للبحث عنهم .
الاتفاقية الثانية: تحسين حال الجرحى و المرضى و الغرقى بالقوات المسلحة في البحار.
لقد اعتبرت هذه الاتفاقية ذات موضوع و غرض متميز عن مختلف اتفاقيات جنيف السابقة، لأنها وضعت كهدف لها تثبيت و تقنين وضع كان حتى تاريخ إعدادها ظاهرة عشوائية. وقد اعتمدت في ذلك، على تطوير و تجديد بعض القواعد المنصوص عليها في الاتفاقيات السابقة إذ أدخلوا عليها تعديلات و إضافات مما أوجد في نهاية المطاف اتفاقية منفصلة تعنى بتحسين حال الجرحى و المرضى و الغرقى من أفراد قوات المسلحة في البحار .
وتتضمن هذه الاتفاقية ثمانية فصول و أحكام ختامية و ملحق واحد .تناولت فيهم تحديد مفهوم فئات الأشخاص الذين تكفلهم الاتفاقية وأوجبت معاملتهم بإنسانية. كما حددت وضع المستشفيات العسكرية و سائر زوارق الإنقاذ. وقد خصصت كذلك فصلا لموضوع الموظفين الذين توجب حمايتهم و قد حملت في الأخير مسؤولية تنفيذ الاتفاقية للدول إذ نصت الاتفاقية على فرض عقوبات جزائية علـى مـن يقـترفون أو يأمرون بارتكاب مخالفات جسيمة.
الاتفاقية الثالثة: حماية أسرى الحرب.
تم اعتمادها هي كذلك في 12 أغسطس 1949 و تعنى بأسرى الحرب، و تستمد أصولها من بعض الاتفاقيات الثنائية، كتلك المبرمة بين بروسيا و الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1785، و التي تدعو إلى معاملة أسرى الحرب معاملة لائقة، كما تعتبر كل من اتفاقية لاهاي الثانية لعام 1899 و اتفاقية جنيف لعام 1929 المتعلقة بمعاملة أسرى الحرب من الأسس التي ارتكزت عليها القواعد المضمنة في اتفاقية جنيف الثالثة .
و تتضمن هذه الاتفاقية 143 مادة موزعة على ستة أبواب، بينت في الباب الأول الأحكام العامة الواجب على أطراف النزاع احترامها مهما كان نوع النزاع؛ ذا طابع داخلي أو دولي. فيما جاء الباب الثاني بعدة مبادئ أخرى كمسؤولية الدولة الحاجزة على الأسرى المحتجزين كما بينت المبادئ العامة التي يتوجب عليها احترامها، والتي هي من حق الأسير. أما الباب الثالث فقـد خصص لتوضيح الإجراءات الواجـب اتباعها عند الأسـر و كذلك ظروف اعتقال الأسير، و ما يجب أن يوفـر له من احتياجات كالملبس والإيـواء و الطعام، والرعاية الصحية. وقد حمل الباب الرابع التزام الأطراف بإعادة الأسرى إلى الوطن مباشرة فور انتهاء العمليات العسكرية. أما الباب الخامس فقد نص على إنشاء جهازين لضمان احترام التعهدات التي قد تقع على عاتق كل طرف في أي نزاع بشأن أسرى الحرب و هما:
• مكتب الاستعلامات وهو عبارة عن جهاز متخصص ينشأ عند كل طرف في حالة نشوب نزاع و كذلك في الأراضي المحتلة، مهمته تتبع حالة الأسرى من الأسر والنقل إلى الإفراج و إعادتهم إلى أوطانهم، ونقل هذه المعلومات إلى الدول المعنية.
• أما الجهاز الثانـي فهي الوكالـة المركـزية للاستعلامات تنشأ في بلد مـحايد و تكلـف بجمـع المعلومات عن الأسـرى بمختلف الطرق الرسمية و الخاصة و نقلها إلى الطرف المعني. و قد نص الباب السادس على بعض المسائل، كالرقابة في أماكن تواجد الأسرى و كذلك مبدأ العقوبات الجزائية في حالة اقتراف إحدى هذه المخالفات .
اتفاقية جنيف الرابعة: تهتم بحماية المدنيين وقت الحرب.
وقد شكلت تطورا هاما في القانون الدولي الإنساني، نظرا لحداثة موضوع حماية المدنيين، فمختلف الاتفاقيات السابقة لها كانت تهتم فقط بحماية الجرحى والمرضى التابعين للقوات المسلحة في الميدان، فيما لم تكن هناك قواعد تطبق على المدنيين لحمايتهم أثناء النزاع، و عند وقوعهم في يد العدو. فحماية المدنيين لم تحظ باهتمام المشاركين في المؤتمر الدبلوماسي المنعقد عام 1929، إذ اكتفوا فقط بالإعراب عن أملهم في إجراء دراسات معمقة من أجل وضع اتفاقية تحمي هذه الفئة. كما لم يجد مشروع طوكيو وهي وثيقة قدمت لتطبيق أحكام أسرى الحرب على المدنين أيضا في حالة وقوعهم في قبضة العدو ، أذانا صاغية فبقيت مجرد محاولة إلى أن تم تخصيص الاتفاقية الرابعة من اتفاقيات جنيف لحماية هذه الفئة حيث كفلت لها مجموعة من الحقوق.
فالباب الثاني من الاتفاقية ينص على حماية وسائل النقل بمختلفها و كذلك المنشآت الصحية. أما الباب الثالث فينص على وضع الأشخاص المحميين وكيفية معاملتهم واضعا في عين الاعتبار المعاملة الخاصة لبعض الفئات كالأطفال و النساء، كما نص أيضا وعلى غرار الاتفاقية الثالثة على إنشاء مكتب استعلامات، ووكالة مركزية للاستعلام. و ينص الباب الرابع و الأخير على مبدأين مهمين وهما مبدأ مراقبة التنفيذ و مبدأ قمع مخالفات الاتفاقية .
لقد شكلت اتفاقيات جنيف 1949 إنجازا تاريخيا مهما في مجال حقوق الإنسان بصفة عامة، إذ اعتبرت انتصارا للمبادئ الإنسانية التي حاولت منذ العهد القديم تقييد الحرب وجعلها تتماشى مع الضرورات العسكرية، إلا أن هذا لا يلغي وجود ثغرات عدة في هذه الاتفاقيات الشيء الذي جعل المجتمع الدولي يسارع إلى إصدار بروتوكولين إضافيين مكملين لهذه الاتفاقيات.
البرتوكول الإضافي الأول 1977 :
يتعلق هذا البروتوكول بضحايا النزاعات المسلحة الدولية، وقد جاء مكملا لاتفاقيات جنيف الأربع، فمع اتساع حركات التحرر و الانقلابات العسكرية بعد الحرب العالمية الثانية تبين أن اتفاقيات جنيف الأربعة لا تكفل الحماية للمدنيين في كافة الظروف، فسارعت لجنة الصليب الأحمر خلال مؤتمرها 21 باسطنبول عام 1969 إلى دعوة الأطراف المتحاربة بأن تمتنع عن استعمال الأسلحة التي تسبب أضرارا مفرطة ،و التي تضر بالسكان المدنيين و المقاتلين بصورة عشوائية نظرا لعدم دقتها. و دعت المجتمع الدولي إلى عقد مؤتمر دبلوماسي يحضره خبراء حكوميين ويضطلع بإعادة تأكيد القانون الدولي الساري على المنازعات المسلحة. وبناء على ذلك قامت حكومة سويسرا بتوجيه دعوات رسمية للحكومات قصد المشاركة في المؤتمر، وفعلا تم عقده بجنيف بداية من 20 فبراير 1974 و استمر أربع سنوات ،بحيث انتهى في10 يونيو 1977،وتم خلاله مناقشة مشروعي بروتوكولين وضعتهما اللجنة الدولية للصليب الأحمر ، فلم تذهب الجهود سدى إذ تم التوصل إلى صياغة صكين جديدين في المسيرة التطورية للقانون الدولي الإنساني .
ومن أهم ما نص عليه البروتوكول الأول، قاعدة طالما انتظرتها شعوب العالم الثالث و بالخصوص مناضلي حركات التحرر وهي رفع التحرير إلى درجة النزاع المسلح الدولي، وقد تم تضمين هذه القاعدة نظـرا لانتشار هذا النـوع من النزاعات و كذلك لخطورة آثاره، وتزايد تمثيلية دول العالم الثالث في المجتمع الدولي على مستوى العدد على الأقل.
كما وسع الباب الثاني من هذا الاتفاق مجال تطبيق الاتفاقيتين الأولى والثانية من اتفاقيات جنيف لتشمل بالإضافة إلى المرضى و الجرحى و الغرقى العسكريين المدنيين أيضا. أما الباب الثالث فقد اعترف لمقاتلي حرب العصابات بصفة المقاتل ومن ثمة بصفة أسير الحرب عند الوقوع في قبضة العدو. فيما حدد الباب الرابع الفئات والأموال ذات الطابع المدني والأعيان الثقافية وأماكن العبادة،والمناطق المحمية بصفة خاصة و الحماية المدنية و المـساعدة المقدمة للمدنيين و اللاجئين و عديمي الجنسية و النساء و الأطـفال و وضع الصحافة .
البروتوكول الإضافي الثاني 1977 :
يختص هذا البروتوكول بضحايا النزاعات المسلحة غير الدولية و نقصد بالنزاعات المسلحة غير الدولية حسب الدكتور سعـد الله: "الاشتباكات الإيـديولوجية و العرقية التي تجري بوحشية و بانتهاك للقيم الإنسانية بين طرفين وطنيين". ومن تم فهذا الوصف ينطبق على كل نزاع بين الحكومة و القوات أو بين الإخوة الأعداء في وطنهم . و يعتبر هذا النوع من النــزاعات كثـير الانتــشار في عصـرنا الحالي: "الصومال ،زمبابوي ،أوغندا،السودان...". ومع ذلك لم يكن هناك نص في القانون الدولي الإنساني يتعلق به، سوى المادة الثالثة المشتركة بين اتفاقيات جنيف، والتي رغم أهمية المبادئ التي تحتويها، فإنها تبقى موضوعا لتأويلات مختلفة قد تنتهي في نهاية المطاف إلى تضييقها إلى أبعد نطاق. فكان لابد من إعداد مشروع يحكم وينظم هذا الصنف من النزاعات، و هذا ما تكلفت به اللجنة الدولية للصليب الأحمر كما سبقت الإشارة بتقديمها لمشروع بروتوكول ضحايا النزاعات المسلحة غير الدولية، و الذي تم تبنيه في المؤتمر الدبلوماسي بجنيف سنة 1977 .
ويضيف هذا البروتوكول إلى المادة الثالثة المشتركة، تعريفه للنزاعات المسلحة غير الدولية، و بالتالي تحديد نطاق تطبيقه. كما نص على عدة مبادئ مهمة كمبدأ عدم التدخل حتى لا يكون القانون الدولي الإنساني المطبق في النزاعات المسلحة غير الدولية مبررا للتدخل في شؤون الدولة التي يدور النزاع على أراضيها.
كما أعطـى ضمانات لغير المقاتلين وألزم تقديم الخدمـات اللازمة لمساعدة المعتقلين و نص على مزيد من الحقوق القضائية أثناء تتبع و زجر مرتكبي الجرائم ذات العلاقة بالنزاع ، ورغم الصفة الحقوقية التي أنجزها هذا البروتوكول فإنه يبقى مثار انتقاد كثير من الكتاب باعتباره يغفل مجموعة من الحالات التي لا تلقى جوابا داخل هذا القانون، كحالة مشاركة الأشخاص العاديين في النزاعات المسلحة الداخلية و أي القوانين الواجبة التطبيق :القانون الإنساني أم القانون الداخلي .كما أن قواعده تبقى أقل وضوحا و أقل تطورا بالمقارنة مع ما يطبق على النزاعات المسلحة الدولية .
بشكل عام فقد حققت اتفاقيات جنيف الأربعة و البروتوكولين الإضافيين قفزة نوعية في المسار التطوري للقانون الدولي الإنساني، إذ شملت من خلال قواعدها حماية مختلف الفئات و تغطية كل النزاعات المسلحة، فاستطاعت بفعل شمولها أن تجمع بين ما كان يسمـى بقانـون لاهاي أي قانون المنازعات المسلحة وقانون جنيف تحت عنوان واحـد، و هو "القانون الدولي الإنساني"؛هذا الأخير لم تتوقف مسيرته التطورية عند هذا الحد ،فمع تطور مجال الأسلحة واتساع الفئات المستهدفة، أخذت عملية التدوين اتجاها جديدا، وهو حماية الأعيان و تحديد الأسلحة من خلال تقييد بعضها، و حظر البعض الآخر. إذ أن الاتفاقيات السابقة لم تكن تهتم بهذا الموضوع بشكل واضح و مباشر . اللهم بعض القواعد القليلة التي تتعلق بحـظر أسلحة معينة و من بين الاتفاقات التي اتخذت هذا التوجه نذكر:
اتفاقية لاهاي لسنة 1954 :
أبرمت هذه الاتفاقية تحت رعاية اليونسكو في 10 مايو 1954، و تهدف إلى حماية الممتلكات الثقافية في حالة نشوب نزاع مسلح ، لما تحتله الممتلكات الثقافية في نفـس الإنسان، فأعماق إنسانية الإنسـان ليست سوى محصلة لتاريخه الوطني و لغته و تقاليده فهو لا يستطيع أن يصبح أكثر اكتمالا في كل أبعاده و في كل ما تتميز به إنسانيته بدون ممتلكاته الثقافية، و هذه العلاقة اليوم أصبحت تجسدها قواعد القانون الدولي الإنساني التي استمدتها بطبيعة الحال من التراكم الذي خلفته الأعراف و التصرفات في الحضارات القديمة والأديان السماوية و كذلك كتابة المفكرين؛ فالإسلام مثلا حمى هذه الممتلكات منذ أمد بعيد إذ قال الله تعالى " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صـوامع و بيـع و صلوات و مساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا و لينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز" .
و قد تضمنت هذه الاتفاقية أحكاما عامة تم من خلالها التعريف بالممتلكات الثقافية. فضلا عن تحديد المبادئ الأساسية للحماية في مختلف النزاعات المسلحة، كما نصت كذلك على الحماية الخاصة و الحصانة للملكية الثقافية التي تقتضي الامتناع عن أي أعمال عدائية ضدها وإلى واجب حملها لشعار الحماية.كما أقرت الإجراءات التنفيذية التي تمنح حق المراقبة عبر المنظمات الدولية كاليونسكو .
وبالتالي فإن ما توحي به هذه الضمانات التي نصت عليها الاتفاقية، وهو أن الممتلكات الثقافية هي تراث مشترك للإنسانية نظرا لقيمتها المادية و الروحية لدى الشعوب و بالتالي فالحماية لها واجبة.
اتفاقية حظر الأسلحة الجرثومية لسنة 1972 :
جاءت هذه الاتفاقية كنتيجة للمساعي التي قامت بها لجنة نزع السلاح ،والتي عملت بعد تقرير للأمين العام للأمم المتحدة سنة 1969 إلى الجمعية العامة،و الذي أشار فيه إلى الضرر المفرط و الآثار العشوائية التي تنجم عن استخدام الأسلحة الكيماوية والجرثومية- على إعداد مشروع اتفاقية بحظر صنع و استخدام هذا النوع من الأسلحة. ورغم تعارض المواقف بين الاتحاد السوفيتي و الولايات المتحدة الأمريكية حول نوعية الأسلحة وكذلك مدى شمول الاتفاقية لها فإن اللجنة نجحت في إعداد المشروع الذي عرضته على هيئة الأمم المتحدة عام 1971،إذ لقي تأييد أغلب المتدخلين، فتم اعتماده في الدورة السادسة و العشرين بقرار رقم 2826 عام 1971 تحت اسم حظر اختراع و صنع و تخزين الأسلحة الجرثومية و الأسلحة السامة و تدميرها .وقد تضمنت هذه الاتفاقية مسألتين هامتين :
* الأولى تتعلق باستخدام الأسلحة الجرثومية، إذ أقرت حظرا باتا على أي سلاح من هذا النوع؛
*والثانية تتعلق بفرض قيود على تصنيع الأسلحة الجرثومية وتخزينها و بيعها. بالإضافة إلى هذا فرضت تدمير جميع العوامل الجـرثومية و الثكـنات و الأسلحة والمعدات ووسائل الاتصال المعينة التي تكون في حـوزة الـدول الأطراف أو خاضعة لولايتـها أو رقابتها و بتحويل استعمالها لأغراض سلمية.
كما دعت في الأخير إلى مواصلة المفاوضات للوصول إلى اتفاق قريب حـول حـظر استخدام الأسلحـة الكيماوية ووضـع التدابير الفعالة اللازمة لـمنع استحداثها و إنتاجها و تخزينها و تدميرها .
اتفاقية حظر أو تقييد استعمال بعض الأسلحة تقليدية معينة لسنة 1980 :
تعـرف هذه الاتفاقية أيضا باسـم اتفاقية الأسلحة غير الإنسانية. وقد دخـلت هـي و بروتوكولاتها الثلاثة حيز التنفيذ في دجنبر 1983 .و قد جاءت كنتيجة لمساعي كل من اللجنة الدولية للصليب الأحمر من خلال مختلف الاقتراحات التي تقدمت بها في هذا المجال و كذلك مساعي الجمعية العامة للأمم المتحدة من خلال بعض التوصيات التي تدعو إلى بحث مسألة استعمال بعض الأسلحة و كذلك المؤتمرات الدولية، إذ كان للمؤتمر الدبلوماسي حول تأكيد وتطوير القانون الدولي الإنساني المطبق في النزاعات المسلحة (1974 -1977) دور مهم من خلال التوصية التي بعثها إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة التي تبنتها، إذ دعا إلى عقد مؤتمر تحضيري في جنيف في سبتمبر 1978، و الذي تناول فيه المشاركون بحث مختلف أنواع الأسلحة المستهدفة بالتقييد أو الحظر، إلا أنه لم يسفر على أي اتفاق. غير أن المؤتمر الثاني و الذي عقد هو كذلك تحت إشراف الأمم المتحدة بجنيف نجح في التوصل إلى اتفاق بشأن حظر و تقييد استعمال أسلحة تقليدية معينة. بالإضافة إلى ثلاثة بروتوكولات، يتعلق الأول بالشظايا التي لا يمكن الكشف عنها، و الثاني يتعلق بحظر أو تقييد الأسلحة المحرقة. بالإضافة إلى قرار بشأن الأسلحة ذات العيار الصغير.
و قد كان للاختلاف الذي ساد أطوار المؤتمر أثر بالغ على مضامين هذه الاتفاقية ، إذ لم يجعلها تحقق التقدم المأمول منها بشأن هذه الأسلحة، إذ لم تتوصل إلى نص صريح يحظر بشكل شامل أنواع الأسلحة التي تناولتها البروتوكولات الملحقة، وتم الاقتصار على تقييد استعمال البعض منها، مما جعل تأثيرها ضعيفا نسبيا في توفير الحماية للأفراد و المناطق الآهلة بالسكان المدنيين .
اتفاقية حظر الأسلحة الكيماوية لسنة 1993 :
لقد ساهمت عدة مبادرات في وضع هذه الاتفاقية من بينها الدعوة التي وجهها المشاركون في المفاوضات التي أسفرت عن وضع اتفاق خاص بحظر الأسلحة الجرثومية و تدميرها ، و التي دعا فيها المجتمع الدولي إلى البحث من خلال المفاوضات عن توافق بشأن اتفاقية لحظر الأسلحة الكيماوية .إلا أن الخطوة البارزة في اتجاه التقنين تمثلت في إنشاء لجنة مختصة لهذا الأمر في إطار مؤتمر نزع السلاح الذي عقد سنة 1980، بحيث قامت هذه اللجنة بوضع مشروع اتفاقية دولية تم اعتمادها لاحقا في مؤتمر نزع السلاح عام 1992 .
و حتى الآن لا تزال المطالبات مستمرة لوضع اتفاقيات جديدة مواكبة للتطور الذي عرفه مجال الأسلحة، إذ ظهرت أسلحة جديدة لا تشملها اتفاقيات القانون الدولي الإنساني كقنابل الدايم، التي استعملتها إسرائيل في حربها الأخيرة على غرة كما سنرى لاحقا.
فأهـم المبادئ التي يقـوم عليهـا القانون بشكل عام هي الاستمرارية و التـطور، و هذا ما يحتاجه القانون الدولي الإنساني حتى يحقق الهدف الذي أنشئ من أجله، وهو حماية إنسانية الفرد من ويلات الحروب أو على الأقل التخفيف من آثارها، حتى تصبح أكثر إنسانية ، غير أن هذا لن يتحقق دون وجود أجهزة تعمل على كفالة احترام القانون الدولي الإنساني، و فرض العقاب على المخالفين، ورغبة منا في توسيع النقاش وتعميق البحث، ينبغي التساؤل عن الفئات التي يشملها القانون الدولي الإنساني بحمايته القانونية، ثم عن الأجهزة و الآليات التي وضعها لمراقبة و تطبيق
هذه القواعد.