د / العربي محمد مياد
تتبعث ككل مهتم بالشأن الوطني المشاحنات الجارية بين الفينة والأخرى كلما نتج عن الاحتكاك اليومي بين السلطة العمومية وبعض المواطنين مشادات كلامية أو عنف جسدي بمناسبة تطبيق القانون او التعسف في تطبيقه .
ورغم أن هذا السجال أو الحراك نسبيا متحكم فيه ، إلا أنه مع ذلك لا يجب الاستهانة به ، خاصة إذا كان منبعه الإحساس "بالحكرة" أو عدم الاحترام الواجب للسلطة.
والمحلل لما يجري من مناوشات بين رجال السلطة العمومية والمواطنين الذين في غالبهم بسطاء، يستخلص أن المحرك الأساسي لما يجري هو الرغبة في تنظيم واستغلال الفضاء العمومي أو التجارة المعيشية.
فتارة تبرر السلطة موقفها بالرغبة في الحد من الاستغلال غير المشروع للملك العمومي ، وتارة أخرى تتبنى الرغبة في الحد من البناء العشوائي أو غير اللائق ، أو القضاء على التجارة غير المشروعة.
والحاصل، أنه قد يكون هناك تجاوز من هذا الطرف أو ذاك ، وقد نسمع أن أحد رجال السلطة العمومية قد نكل بمواطن بسبب عدم الاستجابة لأوامره التي قد تكون مقترنة بالتعسف في بعض الأحيان ، كما أنه في المقابل قد يشتكي رجال السلطة من الإيذاء العمدي الذي قد يكونوا ضحيته والمتهم فيه أحد المواطنين أو ثلة منهم.
واعتبارا ، أن المغرب دولة القانون والمؤسسات ، وأن القانون هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة ، فمن المفروض أن الجميع سواسية أمامه ، تحت طائلة المساءلة القانونية .
لكن ، الواقع العملي ، يؤكد بأن هناك تجادبا للقوة ، فبعض المواطنين يرغبون في تحقيق مآربهم حتى لو على حساب المصلحة العامة ، كما لو تعلق بشغل أملاك عمومية بدون ترخيص أو البناء بدون رخصة أو تجاوز العلو المسموح به ، أو عدم احترام إشارات المرور ، أو العمل في الاقتصاد غير المهيكل .
وفي المقابل بعض رجال السلطات العمومية ، قد يرغبون في تحقيق مصالحهم الخاصة تحت يافطة المصلحة العامة ، حتى لو كانت هذه المصلحة وليدة أمراض نفسية من قبيل المس بالعرض و الشرف أو البدن.
والغالب أن تكون كفة ممثل السلطة العمومية راجحة ، لأن المبدأ العام أن السلطة العمومية تكون دائما على حق، مادام أن سيف المقتضيات الجنائية في صفهم .
وقد نصت المادة 9 من الظهير الشريف رقم 67-08-1 صادر في 31 يوليو 2008 في شأن هيئة رجال السلطة بأنه يتمتع رجال السلطة بحماية الدولة وفقا لمقتضيات القانون الجنائي والقوانين الخاصة الجاري بها العمل، مما قد يتعرضون إليه من تهديدات أو تهجمات أو إهانات أو سب أو قذف. وتضمن لهم الدولة التعويض عن الأضرار الجسدية التي يمكن أن يتعرضوا لها خلال أو بمناسبة مزاولة مهامهم والتي لا تشملها التشريعات المتعلقة بمعاشات الزمانة ورصيد الوفاة. وفي هذه الحالة، تحل الدولة محل الضحية في الحقوق والدعاوى ضد مرتكب الضرر.
كما أن الفصل 263 من القانون الجنائي نص على أنه يعاقب بالحبس من شهر إلى سنة وغرامة من مائتين وخمسين إلى خمسة آلاف درهم، من أهان أحدا من رجال القضاء أو من الموظفين العموميين أو من رؤساء أو رجال القوة العامة أثناء قيامهم بوظائفهم أو بسبب قيامهم بها، بأقوال أو إشارات أو تهديدات أو إرسال أشياء أو وضعها، أو بكتابة أو رسوم غير علنية وذلك بقصد المساس بشرفهم أو بشعورهم أو الاحترام الواجب لسلطتهم.
وإذا وقعت الإهانة على واحد أو أكثر من رجال القضاء أو الأعضاء المحلفين في محكمة، أثناء الجلسة، فإن الحبس يكون من سنة إلى سنتين.
وبناء على ما ذكر يكون المواطن العادي في وضعية أدنى من الموظف العمومي مهما كان نظامه الأساسي، ولا ضير في ذلك مادام أن هذا الموظف يقوم بقضايا الشأن العام وداخل اختصاصه المشروع، لأن الحماية القانونية للموظف من التزامات الدولة استنادا إلى قانون الوظيفة العمومية ، ولاسيما الفصل 19 الذي ينص على أنه " يتعين على الإدارة أن تحمي الموظفين من التهديدات والتهجمات والاهانات والتشنيع والسباب. التي يستهدفون لها بمناسبة القيام بمهامهم ..."
غير أن الإشكال يقع عند الشطط في استعمال السلطة أو تجاوز السلطة بحيث يكون التعسف جليا، ولاسيما إذا ما اقترن بالإهانة أو الاستفزاز.
وفي هذا الإطار ننوه بخطاب العرش لسنة 2005 حيث اعتبر جلالته "استغلال النفوذ والسلطة إجراما في حق الوطن لا يقل شناعة عن المس بحرماته "
بل إن جلالته اعتبر في خطابه السامي ل20غشت 2008 بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب بأن " المواطن قد يتفهم أن غلاء المعيشة رهين بارتفاع الأسعار في السوق العالمية ، لكنه لا يقبل أن يكون فريسة لجشع المضاربين ، وشبكة الوسطاء ، أو ضحية لعدم قيام السلطات المسؤولة بواجبها كاملا في الضبط والمراقبة والزجر.
فحرية السوق لا يعني الفوضى والنهب ، لذا يتعين على الجميع التحلي باليقظة والحزم للضرب بقوة القانون ، وسلطة القضاء المستقل ، وآليات المراقبة والمحاسبة على أيدي المتلاعبين والمفسدين ،لاسيما عندما يتعلق الأمر بقوت الشعب والمضاربات في الأسعار واستغلال اقتصاد الريع والامتيازات والزبونية أو نهب المال العام بالاختلاس والارتشاء واستغلال النفوذ والغش الضريبي "
غير أنه في المقابل يجب على المواطن مهما كانت صفته أو نفوذه المادي أو المعنوي أن ينصاع للقانون وألا يألف ترجيح مصلحته الخاصة على المصلحة العامة عن طريق اعلان العصيان أو اللجوء إلى العدالة الخاصة والاقتصاص ، لأن المغرب دولة القانون . والقانون باعتباره أسمى تعبير عن إرادة الأمة فهو الذي يحدد الحقوق والواجبات وكيفية الدفاع عنها امام الجهات المختصة سواء كانت قضائية أو ادارية. والسلطة القضائية في جميع الأحوال هي المؤهلة بمفردها وبقوة الدستور بإرجاع الحقوق إلى أصحابها والضرب على ايدي العصاة والمجرمين . وهذا ما أكد عليه الفصل 117 من الدستور الذي ينص على أنه " يتولى القاضي حماية حقوق الأشخاص والجماعات وحرياتهم وامنهم القضائي ، وتطبيق القانون ."
وهو ما أكد عليه جلالة الملك في خطابه السامي الذي ألقاه بالدار البيضاء يوم 12 أكتوبر 1999 عندما قال "إن مسؤولية السلطة في مختلف مجالاتها هي أن تقوم على حفظ الحريات وصيانة الحقوق وأداء الواجبات وإتاحة الظروف اللازمة لذلك على النحو الذي تقتضيه دولة الحق والقانون في ضوء الاختيارات التي نسير على هديها من ملكية دستورية و تعددية حزبية و ليبرالية اقتصادية وواجبات اجتماعية بما كرسه الدستور وبلورته الممارسة."
والحاصل إذن فإن السلطات العمومية في شخص الدولة كما قال صاحب الجلالة في خطاب 4 ماي 2000 ، "تتحمل وظائف التوجيه والتنظيم والتنسيق بين مختلف الفاعلين والتحفيز على الاستثمار والتشغيل . فهي بهذا الاعتبار مطالبة بتوفير المناخ القانوني والإداري لتضمن حسن تدبير الشأن العام وترشيد السياسة المالية وتوفير الادخار وعقلنة تسيير المرافق العمومية إضافة إلى سهرها على إعادة توزيع الثروات الوطنية انطلاقا من توفير التجهيزات والخدمات الاجتماعية وغيرها ولا سيما للفئات المحرومة والمهمشة ".
ولنا أن نتساءل إلى أي حد استطاعت الحكومات المتعاقبة وخاصة الوزارات تلك التي لها ارتباط يومي بالمواطنين تنزيل التعليمات الملكية على أرض الواقع ؟ ما هي نسبة النمو ، والقضاء على الفقر والهشاشة ، والفروق الطبقية ، وماذا عن التعليم والصحة والأمن العمومي؟
إننا لا نبغي من طرح هذه الأسئلة محاكمة السلطة التنفيذية ، وإنما نقول بأنه شتان ما بين طموحات ومتمنيات جلالة الملك وبين السرعة البطيئة التي تسير بها السلطات العمومية المختصة بتنفيذ رؤيته ، غير عابئة بقيمة الوقت العام ، بل إن البعض يسعى إلى الإثراء بلا سبب حتى ولو كان ذلك على حساب قوت الطبقة المسحوقة في البلاد .
و في هذا الصدد قال جلالته في خطاب العرش لسنة 2001 " فلن نقبل استغلال أي مركز سياسي أو موقع اداري من أجل الحصول على مصلحة شخصية أو فئوية منتظرين من السلطات العمومية أن تكون صارمة في هذا المجال ، وأن تلجأ علاوة على ما تتوفر عليه من وسائل للمراقبة الإدارية والقضائية إلى اعتماد أدوات وأجهزة جديدة لتقويم السياسات العمومية فضلا عن اشراك القطاع الخاص والمجتمع المدني والمنتخبين في اعداد المشاريع وتنفيذها ."
يستخلص مما سلف أن جلالة الملك وضع خريطة الطريق للسلطات العمومية جمعاء، وهي خطة واضحة المعالم لا تتطلب إلا سياسة واضحة المعالم للحكومة مقوماتها كما لخصها جلالته في خطاب 12 أكتوبر 1999 عندما قال " ونريد أن نعرض لمفهوم جديد للسلطة وما يرتبط بها مبني على رعاية المصالح العمومية والشؤون المحلية وتدبير الشأن المحلي والمحافظة على السلم الاجتماعي ، وهي مسؤولية لا يمكن النهوض بها داخل المكاتب الإدارية التي يجب أن تكون مفتوحة في وجه المواطنين ، ولكن تتطلب احتكاكا مباشرا بهم وملامسة ميدانية لمشاكلهم في عين المكان واشراكهم في إيجاد الحلول المناسبة والملائمة .
لكن وعلى مقربة من 20 سنة على هذا الخطاب السامي ذكر جلالته سنة 2016 بمناسبة افتتاح دورة أكتوبر للبرلمان بأن الهدف الذي يجب أن تسعى إليه كل المؤسسات ، هو خدمة المواطن. وبدون قيامها بهذه المهمة، فإنها تبقى عديمة الجدوى، بل لا مبرر لوجودها أصلا.
...... كما أن المواطنين يشتكون أيضا من الشطط في استعمال السلطة والنفوذ ، على مستوى مختلف الإدارات ، ومن تعقيد المساطر ، وطول آجال منح بعض الوثائق الإدارية.
إن المشاكل التي تواجه المواطن في الإدارة تتجسد بشكل واضح في العراقيل التي تعيق الاستثمار ، رغم إحداث المراكز الجهوية واستعمال الشباك الوحيد لتبسيط المساطر و تسريع عملية اتخاذ القرار.
إذن ما هي الاقتراحات لتجاوز التناقض بين تجاوز السلطة ونجاعة القانون ؟
يرى جلالة الملك ضرورة :
1 ـ إن إصلاح الإدارة يتطلب تغيير السلوك والعقليات ؛
2ـ جودة النصوص التشريعية؛
3 ـ تعميم الإدارة الإلكترونية بطريقة مندمجة ، تتيح الولوج المشترك للمعلومات بين مختلف القطاعات والمرافق،
4 ـ تفعيل الجهوية الموسعة من أجل تقريب المواطن من الخدمات والمرافق، ومن مركز القرار.
5ـ إخراج ميثاق متقدم للاتمركز الإداري ، يستجيب لمتطلبات المرحلة .
ويضاف إلى كل ما سبق تفعيل التعليمات السامية السالفة الذكر ولا سيما :
1 ـ إنشاء مجلس الدولة ؛
2ـ إخراج قانون هياة قضايا الدولة للوجود الذي لم يبارح مكانه في مجلس النواب ؛
3 ـ إلحاق مؤسسة المفتشية العامة للمالية برئاسة الحكومة؛
4ـ إلحاق هيأة رجال السلطة بكل أصنافهم ورتبهم برئاسة الحكومة عوضا عن ابقائها تابعة عمليا وواقعيا لوزير الداخلية مما يصعب تناغمها مع السياسة الحكومية على المستوى الجهوي والاقليمي
5ـ إعادة النظر في كيفية تعيين قضاة المحكمة الدستورية مع التركيز على الشهادة العلمية والتجربة والكفاءة والنزاهة والحياد؛
6ـ الحاق المراكز الجهوية للاستثمار برئاسة الحكومة عوضا عن جهاز الولاة؛
7ـ تفعيل غرف جرائم الأموال على مستوى محاكم الاستئناف، وجعل قضاتها مختصين في مجال زجر جرائم الأموال ، مما يتطلب تكوينا خاصا في المال العام.
لأن الملاحظ أن محكمة النقض لم تعط تفسيرا وتعريفا دقيقا للمال العام، وإنما هناك خلط بين المال العام والملك العام؛
8 ـ اعتبار نهب الوقت العام جريمة عقوبته كعقوبة نهب المال العام، مما يساعد على القضاء على الأشباح في الوظيفة العمومية والمجالس الدستورية من برلمان وغيره .....
ونحن نعتقد كذلك بأن تأهيل الموظفين وتحفيزهم، يتم عبر العدالة في الأجور استنادا إلى الشهادات العلمية والكفاءة المهنية. وربط المسؤولية بالكفاءة وليس المحسوبية والزبونية والمصاهرة والقبلية وكخلاصة عامة فإن المغرب كما قال جلالة الملك في خطاب ذكرى المسيرة الخضراء أن المغرب في حاجة إلى حكومة ذات برنامج واضح وأولويات محددة .
ولا غرو أن من بين نقط هذا البرنامج انصاف الموظفين عن طريق صياغة تشريع ينظم العلاقة بين الموظفين والادارة العمومية والترابية كفيل بضمان استقرار الموظفين نفسيا وماديا ، ومحاربة كل أشكال التمييز في التعيين في المناصب العليا سواء كان هذا التمييز جنسي أو عرقي أو بسبب اللون