على إثر انتشار فيروس كورونا المستجد – كوفيد 19- عبر أنحاء العالم، اتخذت جل الدول إجراءات احترازية للحد من انتشار هذا الفيروس، ولم تكن الحكومة المغربية بمنأى عن ذلك، حيث منذ ظهور الحالات الأولى للإصابة بالتراب الوطني، اتخذت إجراءات استباقية عبر السلطات الحكومية المكلفة بالداخلية والصحة والخارجية والتعليم وإصلاح الإدارة، تلاها صدور مرسوم بقانون يتعلق بسن أحكام خاصة بحالة الطوارئ الصحية والإجراءات المتبعة من أجل الإعلان عنها وتمديدها [1]، وتوالت بعد ذلك المراسيم والقرارات التي اتخذتها الحكومة ولا تزال.
وفي خضم هذه المعطيات أثيرت عدة إشكاليات قانونية تعددت النقاشات فيها بين الفقه والباحثين والممارسين في الحقل القانوني، وارتبطت هذه الإشكاليات أساسا بطبيعة أعمال السلطة التنفيذية المتخذة في إطار حالة الطوارئ الصحية ودور القضاء الإداري في الرقابة عليها، وبتاريخ سريان أمد حالة الطوارئ الصحة، وبطبيعة المرسوم بقانون المذكور.
واختلفت الآراء بشأن ذلك، فحول الطبيعة القانونية للقرارات التي اتخذتها الحكومة قبل صدور المرسوم المعلن عن حالة الطوارئ، ومنها - على سبيل المثال - قرار غلق الحدود البحرية جزئيا، وقرار تعليق الرحلات الجوية المتوجهة والقادمة من وإلى عدد من الدول الصادر عن وزارة الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج بتاريخ 13 مارس 2020، الذي اعتبره بعض الفقه قرارا يصنف ضمن أعمال السيادة التي تخرج بطبيعتها عن رقابة القضاء، بينما اعتبره آخرون قرارا إداريا قابلا للطعن فيه بدعوى الإلغاء ولا يندرج ضمن أعمال السيادة مستندا في ذلك إلى أنه غير متصل بقرار سيادي واتخذ قبل تاريخ اتخاذ القرار المعلن عن حالة الطوارئ الصحية بمرسوم.
أما في شأن تاريخ بداية سريان حالة الطوارئ الصحية، فقد اختلفت الرؤى في ذلك أيضا، ومرد ذلك إلى كون المرسوم المعلن عن حالة الطوارئ الصحية إثر تفشي وباء كورونا[2] لم يحدد تاريخ بداية هذه الحالة واقتصر على تحديد تاريخ نهايتها في 20 أبريل 2020 قبل أن يمددها[3] إلى غاية 20 ماي 2020، مما تضاربت معه الآراء ليس فقط بين الفقه، ولكن أيضا بين مجموعة من المؤسسات والهيئات.
أما عن طبيعة المرسوم بقانون المتعلق بسن أحكام خاصة بحالة الطوارئ الصحية وإجراءات الإعلان عنها، فقد اختلفت الآراء الفقهية بخصوصها بين من يعتبره قرارا إداريا، تطبيقا للمعيار العضوي، باعتباره صادر عن الحكومة بصفتها سلطة إدارية، وبين من يعتبره يدخل ضمن أعمال السلطة التشريعية، اعتمادا على المعيار المادي، لكونه يدخل في إطار ممارسة السلطة التشريعية من طرف الحكومة بمقتضى الدستور خلال الفترة الفاصلة بين الدورات.
ومن جانبا نود، في إطار المناقشة العلمية، المساهمة برأينا في الموضوع، من خلال إبداء وجهة نظرنا من هذه الإشكاليات، غايتنا في ذلك إثراء النقاش الدائر بهذا الخصوص، مسترشدين في ذلك بالقانون والفقه والعمل القضائي بالمغرب والقوانين المقارنة، لنستنتج من ذلك جواب على التساؤل المطروح: أي دور للقضاء الإداري في حل الإشكاليات القانونية المثارة في إطار حالة الطوارئ الصحية؟، وذلك وفق المنهجية التالية:
أولا: في شأن الطبيعة القانونية لقرار تعليق الرحلات الجوية
باعتبار أن النقاش الدائر بهذا الخصوص تمحور حول ما إذا كان قرار تعليق الرحلات الجوية قرارا إداريا يقبل الطعن بالإلغاء أم قرارا سياديا مستثنى من مجال الرقابة القضائية، فإننا نرى إبراز الإطار العام لأعمال السيادة الخارجة عن نطاق الرقابة القضائية (1)، قبل مناقشة موقف الفقه و القضاء بهذا الشأن (2).
ومهما تعددت الآراء الفقهية التي نادت باستبعاد نظرية أعمال السيادة ، فإن الفقه والقضاء مستقر على الأخذ بها لعدة اعتبارات منها إمكانية خضوعها لرقابة مؤسسات دستورية أخرى ولتمكين السلطة التنفيذية من الوسائل التي تساعدها على مباشرة مهامها وتقويتها في مواجهة باقي السلطات. وفي هذا يقول الدكتور محمد سليمان الطماوي[4] " أيا كانت اعتبارات الشرعية القانونية فإن من المسلم به أن سلامة الدول فوق القانون وأن السلطة التنفيذية قد تحجم عن اتخاذ إجراءات معينة تستلزمها سلامة البلاد خوفا من المسؤولية فيما لو تقررت رقابة القضاء".
والقضاء الإداري الفرنسي الذي أسس دعائم هذه النظرية منذ سنة 1822 في قضية [5]laffite لم يحد عن إعمالها في الوقت المعاصر، ففي حكم صادر عن محكمة التنازع بتاريخ 6 يوليوز 2015 صرحت بأن "المحكمة الإدارية غير مختصة بالنظر في مثل هذه النزاعات، وأيضا المحاكم العادية ليس لها اختصاص في هذا المجال، وإنما من الضروري رفع هذا النزاع إلى محكمة العدل الأوربية للنظر في قانونية قرار الوزير الأول الفرنسي برفض مشروع مقدم من طرف الاتحاد الأوربي ...".
ونفس الشيء نجده في القانون المصري، حيث لا يتوانى القضاء الإداري في إعمال نظرية أعمال السيادة كلما توفرت حالاتها، ومن ذلك ما جاء في حكم المحكمة الإدارية العليا بمجلس الدولة المصري الصادر بتاريخ 02/02/2009 في قضية ما يعرف بصفقة الغاز حيث اعتبر أن " قرار الحكومة المصرية بتصدير الغاز الطبيعي لدول شرق البحر الأبيض المتوسط ومنها إسرائيل لا يخضع لرقابة القضاء على أساس أن هذا القرار أصدرته الحكومة بصفتها سلطة حكم في نطاق وظيفتها السياسية، مما يدخل في نطاق أعمال السيادة التي استقر القضاء الدستوري والإداري على استبعادها من رقابته وإخراجها من نطاق اختصاصه الولائي ، الأمر الذي يرجح معه إلغاء الحكم المطعون فيه ".
ونفس الشيء سارت فيه المحكمة الدستورية العليا بمناسبة بتها في تنازع الاختصاص في قضية ترسيم الحدود بين الدولة المصرية والمملكة العربية السعودية، حيث أكدت بأن: " الأعمال السياسية تعد المجال الحيوي والطبيعي لنظرية أعمال السيادة التي تتميز عن الأعمال الإدارية بصبغتها السياسية البارزة فيها، ... وأن إبرام المعاهدات والتوقيع عليها، يعد من أبرز أمثلة هذه الأعمال، وذلك من وجهين، الأول: تعلقها بعلاقة بين السلطة التنفيذية، ممثلة للدولة، وبين سائر أشخاص القانون الدولي العام، من دول ومنظمات دولية؛ وذلك في مراحل التفاوض والتوقيع والتنفيذ، الثاني: وقوعها في مجال الاختصاص المشترك، والرقابة المتبادلة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، وانتهت إلى أن القول بأن: " توقيع ممثل الدولة المصرية على اتفاقية تعيين الحدود البحرية بين حكومتي جمهورية مصر العربية والمملكة العربية السعودية يعد، لا ريب، من الأعمال السياسية ..."[6].
وقد اختلف الفقه والقضاء في تحديد أعمال السيادة وتمييزها عن أعمال الإدارة، وتعددت معايير التفرقة التي قيل بها، فنادى البعض بالأخذ بنظرية الباعث السياسي، وتطبيقا لهذا المعيار تندرج ضمن أعمال السيادة كل ما يصدر عن الحكومة بدافع سياسي، وتماشيا مع ذلك قضى مجلس الدولة الفرنسي بأن قرار وزير الداخلية بمصادرة كتاب تحت يد الناشر لطعنه في الحكومة يعتبر عملا سياسيا، ومن تم لا يختص المجلس بنظر الدعوى المرفوعة أمامه ضد هذا القرار.
لكن سرعان ما تم نقد هذا المعيار، وتمت الاستعاضة عنه بمعيار طبيعة العمل، للتمييز بين أعمال الوظيفة الحكومية وأعمال الوظيفة الإدارية، ومقتضى هذا المعيار أن يفرق بين الأعمال التي تصدرها السلطة التنفيذية بحسب طبيعتها، فما يصدر عنها بصفتها سلطة عامة في الدولة وعلاقة الدولة بغيرها من الدول والمحافظة على الأمن الداخلي، فكل أعمالها من هذا القبيل تدخل في أعمال السيادة، أما ما صدر عنها بوصفها سلطة إدارية، أي ما يكون متعلق بالتطبيق اليومي للقوانين والسهر على حسن علاقة الفرد بالإدارة فتعتبر من الأعمال الإدارية التي تخضع لرقابة القضاء.
وتطبيقا لهذا المعيار يعد من قبيل أعمال السيادة: الأعمال التي تنظم علاقة السلطة التنفيذية بالسلطة التشريعية والأعمال المتعلقة بعلاقة الدولة بغيرها من الحكومات والهيئات الأجنبية، والأعمال المتعلقة بسير مرفق التمثيل الدبلوماسي، والأعمال المتعلقة بأمن الدولة الداخلي والخارجي .
ومع ذلك فقد نادى جانب آخر من الفقه باعتماد معيار العمل المختلط يجمع بين المعيارين السالفي الذكر.
وقد عبرت المحكمة الإدارية العليا بمصر عن هذه المعايير من خلال الحكم الصادر عنها بتاريخ 04/02/1990 جاء فيه: " إن نظرية أعمال السيادة – كمعظم نظريات القانون الإداري- هي من وضع مجلس الدولة الفرنسي، الذي اتخذ لها -في بادئ الأمر- معيار الباعث السياسي، وبمقتضاه أضفى صفة السيادة على كل عمل للسلطة التنفيذية يكون باعثه حماية الجماعة في ذاتها، أو مجسدة في الحكومة ضد أعدائها في الداخل أو الخارج، ومن شأن هذا المعيار أن يكمل تحديد أعمال السيادة إلى السلطة التنفيذية ذاتها ، إذا تذرعت بأن باعثه سياسي ومن تم انتقده الفقه وهجره القضاء، ونادى الفقهاء بمعيار طبيعة العمل ذاته، فهو إما إداري أو حكومي وفق ما يستبين من طبيعته، فيعتبر عملا إداريا ما تصدره السلطة التنفيذية من أعمال في مباشرة وظيفتها الإدارية، وعملا حكوميا ما تصدره من أعمال لأداء وظيفتها الحكومية ، وهو معيار لا جدوى منه إلا بالتمييز بين الوظيفتين الإدارية والحكومية للسلطة التنفيذية.
وفي هذا الصدد لم تثمر محاولات الفقهاء في وضع معيار دقيق ، وكل ما كشف عنه ، هو أن بعض وظائف السلطة التنفيذية أكثر أهمية من بعضها الآخر ، ولكنها لا تنفصل عن الوظيفة الإدارية ، ومن ثم لم يتوصل الفقه إلى وضع معيار جامع مانع لأعمال السيادة ، يكشف عن طبيعة ذاتية لها تميزها عن الأعمال الإدارية العادية ، وانتهى الأمر باتجاه فقهي إلى القول بأن العمل الحكومي، هو كل عمل يقرر له القضاء هذه الصفة ... "[7].
ولذلك، فإن تطبيقات القضاء الإداري تؤكد محاولته ضبط مفهوم أعمال السيادة من خلال حصرها في طائفة الأعمال الحكومية التالية:
وبالنسبة لموقف القضاء في المغرب، فإنه لم يستبعد الأخذ بنظرية أعمال السيادة، فقد سبق وأن أخذت محكمة الاستئناف بالرباط بها في قضية ما يعرف "مدفع الأوداية" سنة 1928 حيث كانت السلطة تعلن عن منتصف النهار وقد تسببت في أضرار للسكان المجاورين، وقد جاء في حيثيات القرار أن الأمر "يتعلق بقرار للسلطة العامة لا يمكن إخضاعه لرقابة المحاكم". وفي قرار للمجلس الأعلى ( محكمة النقض) [10] صادر في قضية veta اعتبر أن أعمال السيادة تتعلق بالعلاقات بين السلط.
لكن، في المقابل نفت محكمة النقض صبغة القرار السيادي عن جملة من الأعمال الصادرة عن السلطات الحكومية، ففي طعن قدم ضد وزير النقل مرفوع من طرف فيدرالية نقابة الناقلين، وكان القرار يتعلق بتسوية نزاع بين الجامعة الوطنية لنقابة الناقلين عبر الطرق وبين الفيدرالية الوطنية لمستخدمي النقل عبر الطرق نتج عنه إضراب سائقي الحافلات ومساعديهم، وقد أجاب الوزير عن الطعن المذكور بعدم قبوله لكون قراره من قبيل أعمال السيادة وأن له طابعا سياسيا واجتماعيا، غير أن محكمة النقض (المجلس الأعلى سابقا)[11] ذهبتإلى " أن هذا القرار لا يدخل في عداد قرارات السلطة العامة التي لا تخـــــضع لأي مسطرة قضائية بالنــــــظر إلى السلـــــــــطات المتـــــــــصلة بها ....." ، وفي قرار آخر[12] يتعلق بطعن بالإلغاء ضد قرار مشترك لوزراء الداخلية والفلاحة والمالية كان قد اتخذ تطبيقا لظهير 26/9/1963 بشأن استرجاع أراضي الاستعمار تم بمقتضاه تعيين قطعتين أرضيتين مملوكتين لشركة الميجيكا لم تقبل الغرفة الإدارية بمحكمة النقض الدفع المتعلق بكون القرار من أعمال السيادة، وجاء في حيثيات قرارها " فيما يتعلق بالدفع الرابع المتعلق بكون قرار استرجاع الأراضي لفائدة الدولة يعد عملا من أعمال السيادة، فإن المقرر المطلوب إلغاؤه الذي عين الوزراء الثلاثة بمقتضاه أرض الطاعنة من جملة الأملاك المسترجعة من طرف الدولة طبقا لظهير 26 شتنبر 1963 يعتبر عملا إداريا عاديا لا يدخل ضمن طائفة أعمال السيادة ..."[13].
وسارت المحاكم الإدارية، بعد إحداثها، في نفس الاتجاه حيث صرحت المحكمة الإدارية في حكمها الصادر في قضية بلواد بتاريخ 8 مارس 2001 بأنه " ... بعد فحص الطلب المقدم إلى المحكمة، بغرض الطعن في القرار الصادر عن الدولة المغربية بإحداث مكتب الاتصال الإسرائيلي بالرباط، يتبين أن مثل هذه الأعمال تعتبر من أعمال الحكومة التي لا تخضع للرقابة القضائية، مما يعني عدم اختصاص المحكمة الإدارية للحكم في الطلب".
ويلاحظ أن القضاء المغربي، من خلال القضايا القليلة التي عرضت عليه، بالنظر لندرتها، أنه في الوقت الذي لم يستبعد الأخذ بنظرية أعمال السيادة، فإنه تعامل مع كل نازلة على حدة، أي أنه هو الذي يقرر صفة العمل السيادي في شأن القرار المطعون أمامه ولم يأخذ بمعيار واحد.
2) في شأن الطبيعة القانونية لقرار تعليق الرحلات الجوية- تعليق على قرار محكمة الاستئناف الإدارية بالرباط-
في إطار حالة الطوارئ الصحية المعلن عنها على إثر انتشار فيروس كورونا- كوفيد 19-، وكإجراء استباقي اتخذت السلطات الحكومية المختصة، كل فيما يخصها، عدة تدابير احترازية في شكل بلاغات رسمية، حيث أعلن بداية عن اتخاذ السلطة الحكومية المكلفة بالخارجية قرارا تعليق الرحلات الجوية المتوجهة والقادمة من وإلى عدد من الدول للحد من انتشار فيروس كورونا- كوفيد 19- اعتبارا لكون تفشي الوباء مرتبط بحالات قادمة من الخارج، وغلق المجال الجوي ، كما تم تعليق الدراسة بالمؤسسات التعليمية بمختلف أصنافها والاكتفاء بالدراسة عن بعد، وقرارا إغلاق مجموعة من المحالات التجارية وإيقاف عقد الجلسات بالمحاكم مع بعض الاستثناءات وإعلان حالة الطوارئ الصحية وإعادة تنظيم العمل داخل الإدارات العمومية وإصدار رئيس الحكومة لمجموعة من المناشير المرتبطة بتدبير المرافق العمومية ( تأجيل الترقيات وإيقاف مجموعة من النفقات ...)، وتمديد حالة الطوارئ إلى غاية 20 ماي 2020 و غير ذلك من المراسيم والقرارات .
وفي ظل هذه الحزمة من القرارات المتخذة، هل يعد قرار تعليق الرحلات الجوية عملا حكوميا يدخل ضمن أعمال السيادة، أم أنه يعد قرارا إداريا يبقى خاضع للرقابة القضائية؟.
لقد كانت الفرصة سانحة لمحكمة الاستئناف الإدارية بالرباط أن تقدم جواب عن هذا التساؤل من خلال قرار لها صدر في نازلة تتلخص وقائعها في أن مواطنا ليبيا كان قادما من دولة ليبيريا في اتجاه تونس عبر مطار محمد الخامس بالدار البيضاء، غير أنه عند نزوله بهذا المطار تعذر عليه مواصلة رحلته إلى الديار التونسية بسبب قرار الحظر الجوي الذي أصدرته السلطات المغربية للحد من انتشار ما يعرف بفيروس كورونا ( كوفيذ 19) الذي انتشر عبر دول المعمور، وهو ما حذا به إلى تقديم طلب أمام قاضي المستعجلات بالمحكمة الإدارية بالدار البيضاء التمس فيه الإذن له بالدخول إلى التراب المغربي نظرا لتعذر مواصلة رحلته بسبب قرار فرض الحظر الجوي المذكور، وهو ما استجاب له رئيس المحكمة المذكورة، غير أنه عند الطعن بالاستئناف ضد هذا الحكم من قبل السيد الوكيل القضائي للمملكة أصدرت محكمة الاستئناف الإدارية بالرباط قرارها بتاريخ 26 مارس 2020 قضى بإلغاء الأمر المستأنف وتصديا برفض الطلب، ومما جاء في حيثيات هذا القرار ما يلي: "... حيث من جهة أخرى فإن البادي من أوراق الملف أن استمرار تواجد المستأنف عليه في منطقة العبور بمطار محمد الخامس بعدما كان قادما من دولة ليبيريا في اتجاه دولة تونس إنما مرده إلى قرار السلطات المغربية بفرض حظر جوي في إطار التدابير الاحترازية المتخذة لمحاربة انتشار وباء كرونا المستجد ( كوفيد 19) ، وهو قرار سيادي بامتياز لا يمكن تعطيل آثاره القانونية أو الخروج على مقتضياته إلا في الحالات التي يقررها قرار الحظر نفسه أو قرارات لاحقة متخذة من نفس السلطات،..." [14].
ونرى بأن هذا القرار الاستئنافي كان صائبا في وصفه قرار الحظر الجوي بالسيادي بامتياز، وقد يقول قائلا- كما ذهب إلى ذلك بعض الفقه- أن هذا القرار الاستئنافي استبعد من الاعتبار أن قرار الحظر الجوي يعد قرارا إداريا لكونه صادر عن سلطة إدارية وفي مجال الضبط الإداري وصدر قبل صدور مرسوم بقانون المتعلق بالطوارئ الصحية وقبل إعلانها وغير متصل به.
لكن، يبدو أن هذه المبررات تتعارض مع الضوابط المؤطرة لهذا النوع من القرارات، ذلك أن إصداره تم في إطار الأعمال المتعلقة بالشؤون الخارجية التي صنفها الاجتهاد القضائي ضمن أعمال السيادة غير الخاضعة للرقابة القضائية كما أسلفنا ذكر ذلك أعلاه، ولا أدل على ذلك من صدوره عن السلطة الحكومية المكلفة بالخارجية، وهو يدخل ضمن أعمال الحكومة التي مارستها الجهة المذكورة بناء على المرسوم المنظم لها رقم 2.11.428 بتاريخ 6 سبتمبر 2011 الذي عهد إليهما مهمة وتنسيق جميع العلاقات الخارجية والحرص على التوفيق بينها وبين سياسة المغرب الخارجية. وكذا المرسوم المتعلق بتحديد اختصاصات وزير الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج عدد 2.17.192 بتاريخ 18 أبريل 2017 الموقع من طرف رئيس الحكومة.
بالإضافة إلى ذلك، فإن اتخاذه تم بتشاور وتنسيق مع الدول المعنية كما جاء في بلاغ وزارة الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج.
كما أنه لئن كان القرار المذكور قد صدر قبل الإعلان عن حالة الطوارئ الصحية ابتداء من 20 مارس 2020 أو تاريخ آخر كما ستأتي مناقشته، فإن ذلك لا ينزع عنه وصف القرار الحكومي ( السيادي)، على اعتبار أن اتخاذه كان كإجراء استباقي في إطار الصلاحيات المخولة للحكومة لمباشرة مهامها وتقويتها لتنظيم علاقتها بالسلطات الأجنبية، وقد دل على ذلك التنسيق والتشاور المجرى مع الدول المعنية قبل اتخاذه، كما أن اتخاذه كان أيضا ضرورة للمحافظة على كيان الدولة في الداخل على اعتبار أن تفشي الوباء مرتبط بحالات قادمة من الخارج كما جاء في البلاغ، ومن ثم يغلب فيها أن تكون تدابير تتخذ في النطاق الداخلي والنطاق الخارجي.
ثم إن المرسوم عدد 2.20.293 المعلن عن حالة الطوارئ الصحية لم يجرد القرارات المتخذة قبل صدوره من أي أثر، بل أبقى عليها، زد على ذلك أن طبيعة أعمال الحكومة السيادية تقتضي اتخاذها على الفور كلما دعت الضرورة الملحة لذلك، لأنها تستمد كينونتها من الصلاحيات المخولة للحكومة بمقتضى الدستور بوصفها سلطة حكم ولا ترتبط بالتطبيق اليومي للقوانين والسهر على حسن علاقة الأفراد والجماعات بالإدارة وممارسة سلطات الضبط الإداري في الحالات العادية، فهذه هي التي تعتبر من الأعمال الإدارية التي تخضع لرقابة القضاء والتي تحتاج إلى ما يعضدها من القانون قبل اتخاذها.
ومن جانب آخر، فإن نظرية القرارات الإدارية المنفصلة التي أخذ بها مجلس الدولة الفرنسي في بعض الحالات للتقليص من أعمال السيادة من خلال إخراج بعض القرارات والأعمال التي تنفصل عن مجالات أعمال السيادة وإخضاعها لرقابة القضاء الإداري، يمكن أن تنطبق بشأن بعض القرارات التي اتخذتها الحكومة، بينما تبقى مستبعدة بخصوص قرار تعليق الرحلات الجوية على اعتبار أننا أمام عمل حكومي مستقل بذاته أملته اعتبارات داخلية مرتبطة بإجراءات الإعلان عن حالة الطوارئ الصحية وأخرى خارجية جسدتها تحذيرات منظمة الصحة العالمية بسبب تفشي الوباء بعدد من الدول الأجنبية، وهاته العوامل التي بني عليها قرار تعليق الرحلات الجوية لا يمكن فصلها. بما يعني ذلك أننا أمام عمل سيادي اتخذته الحكومة المغربية، إلى جانب أعمال سيادية أخرى اتخذتها في نفس الإطار والسياق.
لنخلص من كل ما سبق، أن قرار السلطة الحكومية بتعليق الرحلات الجوية القادمة والمتوجهة من وإلى المغرب يعد قرارا سياديا بامتياز كما انتهت إلى ذلك- عن صواب- محكمة الاستئناف الإدارية بالرباط.
ثانيا: في شأن إشكالية سريان مفعول حالة الطوارئ الصحية
أثيرت هذه الإشكالية بمناسبة صدور المرسوم المعلن عن حالة الطوارئ الصحية الذي لم يحدد تاريخ بدء سريان هذه الحالة واكتفى بالتنصيص في مادته الأولى على أنه " يعلن عن حالة الطوارئ الصحية بسائر أرجاء التراب الوطني إلى غاية يوم 20 أبريل 2020 في الساعة السادسة مساء".
وتمكن أهمية تحديد تاريخ سريان حالة الطوارئ الصحية في ارتباطها بآثار قانونية أخرى سيما على مستوى الآجالات الواردة في النصوص القانونية والتنظيمية التي نص بشأنها المرسوم بقانون بسن أحكام خاصة لإعلان حالة الطوارئ الصحية على أنه: "يوقف سريان جميع الآجال المنصوص عليها في النصوص التشريعية والتنظيمية الجاري بها العمل خلال فترة حالة الطوارئ الصحية المعلن عنها ويستأنف احتسابها ابتداء من اليوم الموالي ليوم رفع حالة الطوارئ الصحية ...".
ولذلك، وعلى إثر صدور المرسوم المعلن لحالة الطوارئ، بادرت بعض مؤسسات الدولة، نظرا لارتباط مهامها بآجال قانونية، إلى إصدار دوريات ومناشير دعت العاملين بالمؤسسات التابعة لها إلى الأخذ بعين الاعتبار تاريخ إعلان بداية سريان فترة حالة الطوارئ لتطبيق المقتضيات الواردة في المرسوم بقانون وتباينت مواقفهم بهذا الخصوص، فعلى سبيل المثال نجد دورية لرئيس النيابة العامة[15] اعتبرت أن فترة حالة الطوارئ الصحية في الحالة الراهنة تتراوح ما بين 20 مارس 2020 إلى 20 أبريل 2020 فيما يتعلق بتوقيف الآجال التشريعية والتنظيمية، و فيما يخص التدابير الزجرية المنصوص عليها في المرسوم بقانون، فإن رئيس النيابة العامة دعا إلى بتطبيقها على جميع الأفعال المرتكبة ابتداء من يوم 24 مارس 2020 وهو تاريخ نشر المرسوم بقانون، وإلى غاية الساعة السادسة من يوم 20 أبريل 2020، مع مراعاة حالة التمديد.
من جهته اعتبر المحافظ العام[16] (الوكالة الوطنية للمحافظة العقارية والمسح العقاري والخرائطية) أن توقيف الآجال التشريعية والتنظيمية الجاري بها العمل خلال فترة حالة الطوارئ الصحية المعلن عنها سيتم ابتداء من تاريخ 20 مارس 2020، قبل أن يستدرك[17] ويحدد تاريخ النشر بالجريدة الرسمية أي 24 مارس 2020.
بينما نجد نقيب هيئة المحامين بالدار البيضاء وجه تنبيها للمحامين المنتمين لهيئته بتاريخ 25 مارس 2020 يعتبر فيه أن تاريخ بداية حالة الطوارئ الصحية هو اليوم الموالي لتاريخ نشر المرسوم أي 25 مارس 2020.
من الناحية القانونية الصرفة، فإن المرسوم المذكور يدخل حيز التنفيذ ابتداء نشره بالجريدة الرسمية أي 24 مارس 2020، غير أن الظرفية الاستثنائية اقتضت من الحكومة اتخاذ عدة تدابير، بحيث إنه قبل صدور المرسوم المعلن عن حالة الطوارئ أصدرت السلطات الحكومية المعنية عدة بلاغات قضت بإغلاق المجال الجوي جزئيا (بتاريخ 10 مارس 2020(، تعليق الرحلات الجوية كليا (بتاريخ 15/03/202)، دعوة المواطنات والمواطنات إلى الالتزام بالعزل الصحي (بتاريخ 18/03/2020)، منع استعمال وسائل النقل الخاص والعمومية (بتاريخ 21/03/2020 )، تعليق الجلسات بالمحاكم عبر بلاغ مشترك من قبل السلطات المختصة ... إلخ.
وإذا كانت كل هذه الإجراءات أثرت بشكل إيجابي على صحة الموطنين، كما لا يخفى، فإنه قد يكون لها وقع على ممارستهم لمختلف المساطر والإجراءات لدى الإدارات العمومية والمحاكم إذا ما اعتبرنا أن حالة الطوارئ لم تبتدئ في السريان إلا خلال يوم نشر المرسوم بقانون والمرسوم المعلن عن حالة الطوارئ الصحية أي 24/03/2020، إذ على سبيل المثال، كيف يعقل أن تعلق الحكومة جميع الرحلات الجوية وتدعو المواطنين إلى الحجر الصحي في الوقت الذي قد يواجه به المواطنون، الذين لهم التزامات قانونية واتفاقية، بأثر عدم قيامهم بالإجراءت داخل الأجل القانوني أو المتفق عليه.
لاشك أن هذه الإشكالية، ستجد حلا لها على مستوى الدور الذي يلعبه القضاء بمختلف أنواعه في الاجتهاد من خلال تأويل وتفسير النصوص القانونية أو حتى إيجاد حل لنازلة لا نص فيها، وفي الحالة الراهنة فإنه يتوقع أن ينصب الاجتهاد القضائي على إعطاء وصف قانوني للوضعية السابقة لصدور المرسوم المعلن لحالة الطوارئ الصحية سواء من خلال تحديد التاريخ المعتبر لبداية سريان حالة الطوارئ أخذا بعين الاعتبار الظروف الاستثنائية التي سادت خلال هذه الفترة والتكييف القانوني لطبيعة التدابير التي تم اتخاذها قبل صدور المرسوم المتحدث عنه والتي يكتسي أغلبها طابع الأعمال السيادية كما أسلفنا الذكر.
ثالثا: في شأن الطبيعة القانونية لمرسوم بقانون المحدد للأحكام الخاصة بحالة الطوارئ الصحية وإجراءات الإعلان عنها.
إن التساؤل الذي طرح بهذا الخصوص، يتعلق بما إذا كان المرسوم بقانون المذكور يعد قرارا إداريا خاضع لرقابة القضاء الإداري، أم أنه عملا حكوميا ( سياديا)، أم عملا تشريعيا وبالتالي يخرج عن نطاق هذه الرقابة؟.
من الناحية القانونية، إذا كانت أغلب دساتير الدول المعاصرة تعطي الصلاحية للسلطة التنفيذية في إصدار مراسيم بقوانين وفق شروط محددة، فإن الدستور المغربي سار في نفس الاتجاه حيث نصت مقتضيات الفصل 81 منه على أنه: " يمكن للحكومة أن تصدر خلال الفترة الفاصلة بين الدورات، وباتفاق مع اللجان التي يعنيها الأمر في كلا المجلسين، مراسيم قوانين يجب عرضها بقصد المصادقة عليها من طرف البرلمان، خلال دورته العادية الموالية. يودع مشروع المرسوم بقانون لدى مكتب مجلس النواب، وتناقشه بالتتابع اللجان المعنية في كلا المجلسين، بغية التوصل داخل أجل ستة أيام، إلى قرار مشترك بينهما في شأنه، وإذا لم يحصل هذا الاتفاق، فإن القرار يرجع إلى اللجنة المعنية في مجلس النواب".
ومن حيث المبدأ، فالمعيار المستقر عليه فقها وقضاء لتحديد طبيعة الأعمال الصادرة عن أشخاص القانون العام هو المعيار العضوي والذي يعتبر العمل إداريا ويكتسي طبيعة إدارية حينما يكون صادرا عن سلطة توصف بأنها إدارية، واستثناء يؤخذ الفقه والقضاء بالمعيار الموضوعي الذي ينظر إلى طبيعة العمل لا إلى الجهة الصادر عنها.
وعليه، فإنه طبقا للمعيار العضوي فإن المرسوم بقانون الصادر تطبيقا للفصل 81 من الدستور مما لا يجوز الخلاف حول طبيعته الإدارية، فصفة رئيس الحكومة الموقع لهذا المرسوم باعتباره سلطة إدارية هي المعيار المعتمد لتحديد طبيعة ما يصدر عنه من مراسيم بغض النظر عن موضوعها. وبالتالي، وتطبيقا للمعيار العضوي، فإن المرسوم بقانون، وإن كان يتمتع بقوة القانون، إلا أنه يبقى خاضعا للرقابة القضائية، وقد سار مجلس الدولة الفرنسي في هذا الاتجاه في قضة Fédération national des syndicats de police[18].
أما بتطبيق المعيار الموضوعي، فإن الإشكال يثار حول طبيعة مرسوم بقانون حول ما إذا كان عملا تشريعيا أم لا؟.
ذهب بعض الفقه أن المرسوم بقانون يعد عملا تشريعيا بالنظر إلى أنه يصدر في إطار اختصاص خوله الدستور للحكومة وفي مجال تشترك فيه مع البرلمان.
صحيح أن صدور المرسوم بقانون عن الحكومة لا ينفي عنه صبغة العمل التشريعي، إلا أن ذلك يقتضي أن يضفي عليه القانون الدستوري هذا الوصف، وبالرجوع إلى مقتضيات الفصل 81 من الدستور نجد أنها تنظم العلاقة بين الحكومة والسلطة التشريعية خلال الفترة الفاصلة بين دورات مجلسي البرلمان، حيث يوضح المسطرة غير العادية لتمكين الحكومة من إصدار مراسيم قوانين على أن يتم عرضها على البرلمان بقصد المصادقة عليها في دورته العادية الموالية لصدوره، مما لا يستفاد منه أن الدستور أسبغ وصف التشريع على المرسوم بقانون.
ومن جانب آخر، فإن العمل التشريعي المستثنى من الرقابة القضائية في إطار فحص المشروعية والشرعية هو ذلك الصادر عن السلطة التشريعية بصفتها هاته والذي يجسد في شكل قوانين، ومعلوم أن المرسوم بقانون ليس بقانون كما أكد ذلك المجلس الدستوري (المحكمة الدستورية) في قرار له[19] حيث اعتبر أن المرسوم بقانون لا يعد قانونا ولا يخضع بالتالي لرقابته لأن " مراسيم القوانين لا تكتسب صبغة قانون إلا بعد المصادقة عليها من قبل البرلمان بمجلسيه في الدورة العادية الموالية لصدوره".
ثم إن الغاية من استثناء الأعمال التشريعية من الرقابة القضائية هي إمكانية خضوعها لرقابة مؤسسات دستورية أخرى، وهو ما ينطبق بالنسبة للمراسيم بقوانين حيث إنها تبقى خاضعة لرقابة البرلمان ( الرقابة السياسية) من خلال إلزام الحكومة بالحصول على اتفاق اللجنتين المعنيتين بالبرلمان ثم المصادقة عليها في دورة البرلمان الموالية، وهذه المصادقة هي التي تضفي عليها الطابع التشريعي، وبالتالي تتيح إمكانية مراقبة دستوريتها إلى جانب القانون القاضي بالمصادقة عليها في حالة الطعن بعدم دستوريتها وفق المسطرة المحددة قانونا، على اعتبار أن المرسوم بقانون والقانون المتعلق بالمصادقة عليه هما كلا لا يتجزأ كما صرح بذلك المجلس الدستوري ( المحكمة الدستورية) في أحد قراراته[20] التي جاء فيها " حيث إن إحالة قانون يقضي بالمصادقة على مرسوم بقانون إلى المجلس الدستوري لفحص دستوريته يستوجب النظر في القانون والمرسوم بقانون لأنهما يكونان كلا لا يتجزأ ".
ثم إنه من ناحية أخرى، إذا فرضنا إمكانية الطعن بالإلغاء ضد مراسيم القوانين بالنظر لطابعها الإداري خلال الفترة السابقة للمصادقة عليها من طرف البرلمان، فما هو نطاق هذه الرقابة، هل ستقتصر على مراقبة العيوب الخارجية في المرسوم بقانون ( أي جانب الاختصاص والشكل والمسطرة)؟، أم أنها ستمتد لمراقبة العيوب الداخلية؟. وفي هذه الحالة الأخيرة، هل هذه الرقابة تخول لمحكمة النقض تقدير جدية مضمون المرسوم بقانون؟ أم أنها ستقتصر على مراقبة جدية الظرف الاستثنائي الذي حذا بالحكومة إلى إصدار مرسوم بقانون؟.
ومن جانب آخر، ألا يمكن تصنيف المرسوم بقانون المعلن لحالة الطوارئ الصحية، قرارا سياديا، بالنظر للظرفية الاستثنائية التي صدر فيها وبحكم ارتباطه بالأعمال الصادرة في إطار العلاقة بين السلط (التنفيذية و التشريعية) التي أسبغ الفقه والقضاء عليها طابع السيادة؟.
لا شك أن مثل هذه الإشكاليات وغيرها ستجد حلا لها على مستوى قضاء محكمة النقض التي عرضت عليها نازلة تتعلق بطعن بالإلغاء ضد مرسوم بقانون إلا أن البت فيه تزامن مع مصادقة البرلمان عليه وصدور الأمر بتنفيذه، مما قضت معه بعدم قبول الطلب" [21]، وهي بذلك فوتت فرصة لتحديد موقفها من الطبيعة القانونية لمرسوم بقانون خاصة وأن مثل هذه الطعون نادرة جدا.
لنخلص من كل ما سبق، أن المرسوم بقانون له خصوصية تبرز من خلال احتلاله مكانة وسطى بين القرار الإداري والعمل التشريعي، فهو صادر عن السلطة التنفيذية بوصفها حكومة، وليس كباقي المراسيم التي تصدر في المجال الإداري، ومرتبط بمسطرة تشريعية خاصة وموضوعه تنظيم مجال تشريعي، غير أنه لا يكتسب صفة العمل التشريعي إلا بعد المصادقة عليه من طرف البرلمان، وطبقا لأحكام الفصل 132 من الدستور فهو خاضع للرقابة الدستورية التي تخضع لها القوانين وذلك بمناسبة الطعن بعدم دستوريته إلى جانب القانون القاضي بالمصادقة عليه باعتبارهما كلا لا يتجزأ، وهذه الرقابة الدستورية هي خلاف رقابة المشروعية، بحيث إن الأولى تشمل جوانب الاختصاص والشكل والإجراءات المتبعة[22] والموضوع، ومنوطة حصرا للمحكمة الدستورية ولا تشاركها فيها جهة قضائية أخرى، بينما رقابة المشروعية موكولة، في هذه الحالة، للغرفة الإدارية بمحكمة النقض وتشمل عيوب الاختصاص والشكل ومخالفة القانون والسبب والانحراف في استعمال السلطة، والقول، في ظل هذه المعطيات، بإمكانية خضوع المرسوم بقانون لرقابة المشروعية قد يؤدي إلى ازدواجية في الرقابة سيما من حيث عيوب الاختصاص والشكل ومخالفة القانون لارتباطها بالدستور، مما يتعارض والمبادئ العامة التي تأبى أن يخضع عمل واحد لرقابتين قضائيتين أو أكثر.
ومن جهة أخرى، فإن رقابة السلطة التشريعية تبقى قائمة خلال الفترة الممهدة لصدور المرسوم بقانون، وأن مصادقة البرلمان عليه هي لإضفاء الطابع التشريعي عليه من الناحية العضوية لأنه كذلك من الناحية الموضوعية لسبقية حصول الاتفاق عليه مع اللجنتين المعنيتين بالبرلمان، وتقرير هذه الرقابة دستوريا إنما أملته اعتبارات ضمان تحقيق ما يتطلبه صون المصالح العليا للبلاد.
كل ذلك يعني أن الرقابة الدستورية المتبادلة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية و رقابة المحكمة الدستورية على المرسوم بقانون، يجعل من الصعب القول بخضوع المرسوم بقانون للرقابة القضائية ولعل هذا السبب هو ما حذا بالفقه والقضاء إلى استثناء أعمال السيادة والأعمال التشريعية والقضائية من مجال رقابة المشروعية التي يتولاها القضاء.
وفي الختام، وللنقاش العلمي، نطرح التساؤل حول ما إذا كانت رقابة المحكمة الدستورية على المرسوم بقانون، بمناسبة الرقابة على القانون القاضي بالمصادقة عليه، تستغرق رقابة المشروعية التي تستأثر بها السلطة القضائية عبر الغرفة الإدارية بمحكمة النقض؟.
خلاصة:
نخلص من كل ما سبق، أن دور القضاء الإداري في رقابته على أعمال السلطة التنفيذية المتخذة في إطار حالة الطوارئ الصحية تخرج بطبيعتها عن رقابة القضاء الإداري بحكم تصنيفها ضمن أعمال السيادة الداخلية والخارجية، وأن إثارة محكمة الاستئناف الإدارية بالرباط في أحد قراراتها لهذا الطابع السيادي للقرار المعلن عن تعليق الرحلات الجوية القادمة والمتوجهة من وإلى المغرب للحد من انتشار وباء كورونا – كوفيد 19- لا يعد سوى تطبيق لما استقر عليه الفقه والقضاء في المغرب والقوانين المقارنة من إقرار استثناءات على الرقابة القضائية.
غير أن هذا المبدأ لا يؤخذ على إطلاقه، بل إن دور القضاء الإداري يبقى قائما في مجال الرقابة على القرارات التي تتخذها السلطات الإدارية بمناسبة حالة الطوارئ الصحية المعلن عنها التي لا ينطبق عليها وصف العمل الحكومي ( السيادي) أو العمل التشريعي أو في إطار القضاء الشامل بشتى أصنافه، بما يعني ذلك أن مجرد وجود نازلة واحدة، صدرت في ظرف استثنائي بسبب تفشي وباء كورونا، أثار فيها القضاء الإداري - وعن صواب - نظرية أعمال السيادة ونفض الغبار عنها[23]، لا يعني التنكر للدور الفعال الذي يقوم به القضاء الإداري ببلادنا الذي عودنا بحمايته لحقوق وحريات الأفراد والجماعات، ليس فقط من خلال تطبيقه السليم للقانون، بل أيضا من خلال اجتهاداته المتتالية، ولا شك أن انتهاء حالة الطوارئ الصحية المعلن عنها، بحول الله وقوته، وما قد يترتب عنها من نزاعات بين المواطنات والمواطنين من جهة والإدارات العمومية بمختلف هياكلها من جهة ثانية وما تفرزه هذه النزاعات من إشكاليات قانونية، كتلك المتعلقة بتاريخ سريان حالة الطوارئ وطبيعة الوضعية السابقة لصدور المرسوم المعلن عن هذه الحالة بكافة التراب الوطني، سيؤكد فيها القضاء الإداري دوره المحوري في تكريسه للطابع الحمائي للحقوق في إطار مبدأ الموازنة بين المصلحة العامة والمصالح الخاصة للأفراد.
وفي خضم هذه المعطيات أثيرت عدة إشكاليات قانونية تعددت النقاشات فيها بين الفقه والباحثين والممارسين في الحقل القانوني، وارتبطت هذه الإشكاليات أساسا بطبيعة أعمال السلطة التنفيذية المتخذة في إطار حالة الطوارئ الصحية ودور القضاء الإداري في الرقابة عليها، وبتاريخ سريان أمد حالة الطوارئ الصحة، وبطبيعة المرسوم بقانون المذكور.
واختلفت الآراء بشأن ذلك، فحول الطبيعة القانونية للقرارات التي اتخذتها الحكومة قبل صدور المرسوم المعلن عن حالة الطوارئ، ومنها - على سبيل المثال - قرار غلق الحدود البحرية جزئيا، وقرار تعليق الرحلات الجوية المتوجهة والقادمة من وإلى عدد من الدول الصادر عن وزارة الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج بتاريخ 13 مارس 2020، الذي اعتبره بعض الفقه قرارا يصنف ضمن أعمال السيادة التي تخرج بطبيعتها عن رقابة القضاء، بينما اعتبره آخرون قرارا إداريا قابلا للطعن فيه بدعوى الإلغاء ولا يندرج ضمن أعمال السيادة مستندا في ذلك إلى أنه غير متصل بقرار سيادي واتخذ قبل تاريخ اتخاذ القرار المعلن عن حالة الطوارئ الصحية بمرسوم.
أما في شأن تاريخ بداية سريان حالة الطوارئ الصحية، فقد اختلفت الرؤى في ذلك أيضا، ومرد ذلك إلى كون المرسوم المعلن عن حالة الطوارئ الصحية إثر تفشي وباء كورونا[2] لم يحدد تاريخ بداية هذه الحالة واقتصر على تحديد تاريخ نهايتها في 20 أبريل 2020 قبل أن يمددها[3] إلى غاية 20 ماي 2020، مما تضاربت معه الآراء ليس فقط بين الفقه، ولكن أيضا بين مجموعة من المؤسسات والهيئات.
أما عن طبيعة المرسوم بقانون المتعلق بسن أحكام خاصة بحالة الطوارئ الصحية وإجراءات الإعلان عنها، فقد اختلفت الآراء الفقهية بخصوصها بين من يعتبره قرارا إداريا، تطبيقا للمعيار العضوي، باعتباره صادر عن الحكومة بصفتها سلطة إدارية، وبين من يعتبره يدخل ضمن أعمال السلطة التشريعية، اعتمادا على المعيار المادي، لكونه يدخل في إطار ممارسة السلطة التشريعية من طرف الحكومة بمقتضى الدستور خلال الفترة الفاصلة بين الدورات.
ومن جانبا نود، في إطار المناقشة العلمية، المساهمة برأينا في الموضوع، من خلال إبداء وجهة نظرنا من هذه الإشكاليات، غايتنا في ذلك إثراء النقاش الدائر بهذا الخصوص، مسترشدين في ذلك بالقانون والفقه والعمل القضائي بالمغرب والقوانين المقارنة، لنستنتج من ذلك جواب على التساؤل المطروح: أي دور للقضاء الإداري في حل الإشكاليات القانونية المثارة في إطار حالة الطوارئ الصحية؟، وذلك وفق المنهجية التالية:
أولا: في شأن الطبيعة القانونية لقرار تعليق الرحلات الجوية
باعتبار أن النقاش الدائر بهذا الخصوص تمحور حول ما إذا كان قرار تعليق الرحلات الجوية قرارا إداريا يقبل الطعن بالإلغاء أم قرارا سياديا مستثنى من مجال الرقابة القضائية، فإننا نرى إبراز الإطار العام لأعمال السيادة الخارجة عن نطاق الرقابة القضائية (1)، قبل مناقشة موقف الفقه و القضاء بهذا الشأن (2).
- الإطار العام لأعمال السيادة الخارجة عن نطاق الرقابة القضائية
ومهما تعددت الآراء الفقهية التي نادت باستبعاد نظرية أعمال السيادة ، فإن الفقه والقضاء مستقر على الأخذ بها لعدة اعتبارات منها إمكانية خضوعها لرقابة مؤسسات دستورية أخرى ولتمكين السلطة التنفيذية من الوسائل التي تساعدها على مباشرة مهامها وتقويتها في مواجهة باقي السلطات. وفي هذا يقول الدكتور محمد سليمان الطماوي[4] " أيا كانت اعتبارات الشرعية القانونية فإن من المسلم به أن سلامة الدول فوق القانون وأن السلطة التنفيذية قد تحجم عن اتخاذ إجراءات معينة تستلزمها سلامة البلاد خوفا من المسؤولية فيما لو تقررت رقابة القضاء".
والقضاء الإداري الفرنسي الذي أسس دعائم هذه النظرية منذ سنة 1822 في قضية [5]laffite لم يحد عن إعمالها في الوقت المعاصر، ففي حكم صادر عن محكمة التنازع بتاريخ 6 يوليوز 2015 صرحت بأن "المحكمة الإدارية غير مختصة بالنظر في مثل هذه النزاعات، وأيضا المحاكم العادية ليس لها اختصاص في هذا المجال، وإنما من الضروري رفع هذا النزاع إلى محكمة العدل الأوربية للنظر في قانونية قرار الوزير الأول الفرنسي برفض مشروع مقدم من طرف الاتحاد الأوربي ...".
ونفس الشيء نجده في القانون المصري، حيث لا يتوانى القضاء الإداري في إعمال نظرية أعمال السيادة كلما توفرت حالاتها، ومن ذلك ما جاء في حكم المحكمة الإدارية العليا بمجلس الدولة المصري الصادر بتاريخ 02/02/2009 في قضية ما يعرف بصفقة الغاز حيث اعتبر أن " قرار الحكومة المصرية بتصدير الغاز الطبيعي لدول شرق البحر الأبيض المتوسط ومنها إسرائيل لا يخضع لرقابة القضاء على أساس أن هذا القرار أصدرته الحكومة بصفتها سلطة حكم في نطاق وظيفتها السياسية، مما يدخل في نطاق أعمال السيادة التي استقر القضاء الدستوري والإداري على استبعادها من رقابته وإخراجها من نطاق اختصاصه الولائي ، الأمر الذي يرجح معه إلغاء الحكم المطعون فيه ".
ونفس الشيء سارت فيه المحكمة الدستورية العليا بمناسبة بتها في تنازع الاختصاص في قضية ترسيم الحدود بين الدولة المصرية والمملكة العربية السعودية، حيث أكدت بأن: " الأعمال السياسية تعد المجال الحيوي والطبيعي لنظرية أعمال السيادة التي تتميز عن الأعمال الإدارية بصبغتها السياسية البارزة فيها، ... وأن إبرام المعاهدات والتوقيع عليها، يعد من أبرز أمثلة هذه الأعمال، وذلك من وجهين، الأول: تعلقها بعلاقة بين السلطة التنفيذية، ممثلة للدولة، وبين سائر أشخاص القانون الدولي العام، من دول ومنظمات دولية؛ وذلك في مراحل التفاوض والتوقيع والتنفيذ، الثاني: وقوعها في مجال الاختصاص المشترك، والرقابة المتبادلة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، وانتهت إلى أن القول بأن: " توقيع ممثل الدولة المصرية على اتفاقية تعيين الحدود البحرية بين حكومتي جمهورية مصر العربية والمملكة العربية السعودية يعد، لا ريب، من الأعمال السياسية ..."[6].
وقد اختلف الفقه والقضاء في تحديد أعمال السيادة وتمييزها عن أعمال الإدارة، وتعددت معايير التفرقة التي قيل بها، فنادى البعض بالأخذ بنظرية الباعث السياسي، وتطبيقا لهذا المعيار تندرج ضمن أعمال السيادة كل ما يصدر عن الحكومة بدافع سياسي، وتماشيا مع ذلك قضى مجلس الدولة الفرنسي بأن قرار وزير الداخلية بمصادرة كتاب تحت يد الناشر لطعنه في الحكومة يعتبر عملا سياسيا، ومن تم لا يختص المجلس بنظر الدعوى المرفوعة أمامه ضد هذا القرار.
لكن سرعان ما تم نقد هذا المعيار، وتمت الاستعاضة عنه بمعيار طبيعة العمل، للتمييز بين أعمال الوظيفة الحكومية وأعمال الوظيفة الإدارية، ومقتضى هذا المعيار أن يفرق بين الأعمال التي تصدرها السلطة التنفيذية بحسب طبيعتها، فما يصدر عنها بصفتها سلطة عامة في الدولة وعلاقة الدولة بغيرها من الدول والمحافظة على الأمن الداخلي، فكل أعمالها من هذا القبيل تدخل في أعمال السيادة، أما ما صدر عنها بوصفها سلطة إدارية، أي ما يكون متعلق بالتطبيق اليومي للقوانين والسهر على حسن علاقة الفرد بالإدارة فتعتبر من الأعمال الإدارية التي تخضع لرقابة القضاء.
وتطبيقا لهذا المعيار يعد من قبيل أعمال السيادة: الأعمال التي تنظم علاقة السلطة التنفيذية بالسلطة التشريعية والأعمال المتعلقة بعلاقة الدولة بغيرها من الحكومات والهيئات الأجنبية، والأعمال المتعلقة بسير مرفق التمثيل الدبلوماسي، والأعمال المتعلقة بأمن الدولة الداخلي والخارجي .
ومع ذلك فقد نادى جانب آخر من الفقه باعتماد معيار العمل المختلط يجمع بين المعيارين السالفي الذكر.
وقد عبرت المحكمة الإدارية العليا بمصر عن هذه المعايير من خلال الحكم الصادر عنها بتاريخ 04/02/1990 جاء فيه: " إن نظرية أعمال السيادة – كمعظم نظريات القانون الإداري- هي من وضع مجلس الدولة الفرنسي، الذي اتخذ لها -في بادئ الأمر- معيار الباعث السياسي، وبمقتضاه أضفى صفة السيادة على كل عمل للسلطة التنفيذية يكون باعثه حماية الجماعة في ذاتها، أو مجسدة في الحكومة ضد أعدائها في الداخل أو الخارج، ومن شأن هذا المعيار أن يكمل تحديد أعمال السيادة إلى السلطة التنفيذية ذاتها ، إذا تذرعت بأن باعثه سياسي ومن تم انتقده الفقه وهجره القضاء، ونادى الفقهاء بمعيار طبيعة العمل ذاته، فهو إما إداري أو حكومي وفق ما يستبين من طبيعته، فيعتبر عملا إداريا ما تصدره السلطة التنفيذية من أعمال في مباشرة وظيفتها الإدارية، وعملا حكوميا ما تصدره من أعمال لأداء وظيفتها الحكومية ، وهو معيار لا جدوى منه إلا بالتمييز بين الوظيفتين الإدارية والحكومية للسلطة التنفيذية.
وفي هذا الصدد لم تثمر محاولات الفقهاء في وضع معيار دقيق ، وكل ما كشف عنه ، هو أن بعض وظائف السلطة التنفيذية أكثر أهمية من بعضها الآخر ، ولكنها لا تنفصل عن الوظيفة الإدارية ، ومن ثم لم يتوصل الفقه إلى وضع معيار جامع مانع لأعمال السيادة ، يكشف عن طبيعة ذاتية لها تميزها عن الأعمال الإدارية العادية ، وانتهى الأمر باتجاه فقهي إلى القول بأن العمل الحكومي، هو كل عمل يقرر له القضاء هذه الصفة ... "[7].
ولذلك، فإن تطبيقات القضاء الإداري تؤكد محاولته ضبط مفهوم أعمال السيادة من خلال حصرها في طائفة الأعمال الحكومية التالية:
- الأعمال المنظمة للعلاقات بين السلطات العامة بالبلاد.
- الأعمال المتعلقة بالشؤون الخارجية.
- الأعمال المتعلقة بالحرب.
وبالنسبة لموقف القضاء في المغرب، فإنه لم يستبعد الأخذ بنظرية أعمال السيادة، فقد سبق وأن أخذت محكمة الاستئناف بالرباط بها في قضية ما يعرف "مدفع الأوداية" سنة 1928 حيث كانت السلطة تعلن عن منتصف النهار وقد تسببت في أضرار للسكان المجاورين، وقد جاء في حيثيات القرار أن الأمر "يتعلق بقرار للسلطة العامة لا يمكن إخضاعه لرقابة المحاكم". وفي قرار للمجلس الأعلى ( محكمة النقض) [10] صادر في قضية veta اعتبر أن أعمال السيادة تتعلق بالعلاقات بين السلط.
لكن، في المقابل نفت محكمة النقض صبغة القرار السيادي عن جملة من الأعمال الصادرة عن السلطات الحكومية، ففي طعن قدم ضد وزير النقل مرفوع من طرف فيدرالية نقابة الناقلين، وكان القرار يتعلق بتسوية نزاع بين الجامعة الوطنية لنقابة الناقلين عبر الطرق وبين الفيدرالية الوطنية لمستخدمي النقل عبر الطرق نتج عنه إضراب سائقي الحافلات ومساعديهم، وقد أجاب الوزير عن الطعن المذكور بعدم قبوله لكون قراره من قبيل أعمال السيادة وأن له طابعا سياسيا واجتماعيا، غير أن محكمة النقض (المجلس الأعلى سابقا)[11] ذهبتإلى " أن هذا القرار لا يدخل في عداد قرارات السلطة العامة التي لا تخـــــضع لأي مسطرة قضائية بالنــــــظر إلى السلـــــــــطات المتـــــــــصلة بها ....." ، وفي قرار آخر[12] يتعلق بطعن بالإلغاء ضد قرار مشترك لوزراء الداخلية والفلاحة والمالية كان قد اتخذ تطبيقا لظهير 26/9/1963 بشأن استرجاع أراضي الاستعمار تم بمقتضاه تعيين قطعتين أرضيتين مملوكتين لشركة الميجيكا لم تقبل الغرفة الإدارية بمحكمة النقض الدفع المتعلق بكون القرار من أعمال السيادة، وجاء في حيثيات قرارها " فيما يتعلق بالدفع الرابع المتعلق بكون قرار استرجاع الأراضي لفائدة الدولة يعد عملا من أعمال السيادة، فإن المقرر المطلوب إلغاؤه الذي عين الوزراء الثلاثة بمقتضاه أرض الطاعنة من جملة الأملاك المسترجعة من طرف الدولة طبقا لظهير 26 شتنبر 1963 يعتبر عملا إداريا عاديا لا يدخل ضمن طائفة أعمال السيادة ..."[13].
وسارت المحاكم الإدارية، بعد إحداثها، في نفس الاتجاه حيث صرحت المحكمة الإدارية في حكمها الصادر في قضية بلواد بتاريخ 8 مارس 2001 بأنه " ... بعد فحص الطلب المقدم إلى المحكمة، بغرض الطعن في القرار الصادر عن الدولة المغربية بإحداث مكتب الاتصال الإسرائيلي بالرباط، يتبين أن مثل هذه الأعمال تعتبر من أعمال الحكومة التي لا تخضع للرقابة القضائية، مما يعني عدم اختصاص المحكمة الإدارية للحكم في الطلب".
ويلاحظ أن القضاء المغربي، من خلال القضايا القليلة التي عرضت عليه، بالنظر لندرتها، أنه في الوقت الذي لم يستبعد الأخذ بنظرية أعمال السيادة، فإنه تعامل مع كل نازلة على حدة، أي أنه هو الذي يقرر صفة العمل السيادي في شأن القرار المطعون أمامه ولم يأخذ بمعيار واحد.
2) في شأن الطبيعة القانونية لقرار تعليق الرحلات الجوية- تعليق على قرار محكمة الاستئناف الإدارية بالرباط-
في إطار حالة الطوارئ الصحية المعلن عنها على إثر انتشار فيروس كورونا- كوفيد 19-، وكإجراء استباقي اتخذت السلطات الحكومية المختصة، كل فيما يخصها، عدة تدابير احترازية في شكل بلاغات رسمية، حيث أعلن بداية عن اتخاذ السلطة الحكومية المكلفة بالخارجية قرارا تعليق الرحلات الجوية المتوجهة والقادمة من وإلى عدد من الدول للحد من انتشار فيروس كورونا- كوفيد 19- اعتبارا لكون تفشي الوباء مرتبط بحالات قادمة من الخارج، وغلق المجال الجوي ، كما تم تعليق الدراسة بالمؤسسات التعليمية بمختلف أصنافها والاكتفاء بالدراسة عن بعد، وقرارا إغلاق مجموعة من المحالات التجارية وإيقاف عقد الجلسات بالمحاكم مع بعض الاستثناءات وإعلان حالة الطوارئ الصحية وإعادة تنظيم العمل داخل الإدارات العمومية وإصدار رئيس الحكومة لمجموعة من المناشير المرتبطة بتدبير المرافق العمومية ( تأجيل الترقيات وإيقاف مجموعة من النفقات ...)، وتمديد حالة الطوارئ إلى غاية 20 ماي 2020 و غير ذلك من المراسيم والقرارات .
وفي ظل هذه الحزمة من القرارات المتخذة، هل يعد قرار تعليق الرحلات الجوية عملا حكوميا يدخل ضمن أعمال السيادة، أم أنه يعد قرارا إداريا يبقى خاضع للرقابة القضائية؟.
لقد كانت الفرصة سانحة لمحكمة الاستئناف الإدارية بالرباط أن تقدم جواب عن هذا التساؤل من خلال قرار لها صدر في نازلة تتلخص وقائعها في أن مواطنا ليبيا كان قادما من دولة ليبيريا في اتجاه تونس عبر مطار محمد الخامس بالدار البيضاء، غير أنه عند نزوله بهذا المطار تعذر عليه مواصلة رحلته إلى الديار التونسية بسبب قرار الحظر الجوي الذي أصدرته السلطات المغربية للحد من انتشار ما يعرف بفيروس كورونا ( كوفيذ 19) الذي انتشر عبر دول المعمور، وهو ما حذا به إلى تقديم طلب أمام قاضي المستعجلات بالمحكمة الإدارية بالدار البيضاء التمس فيه الإذن له بالدخول إلى التراب المغربي نظرا لتعذر مواصلة رحلته بسبب قرار فرض الحظر الجوي المذكور، وهو ما استجاب له رئيس المحكمة المذكورة، غير أنه عند الطعن بالاستئناف ضد هذا الحكم من قبل السيد الوكيل القضائي للمملكة أصدرت محكمة الاستئناف الإدارية بالرباط قرارها بتاريخ 26 مارس 2020 قضى بإلغاء الأمر المستأنف وتصديا برفض الطلب، ومما جاء في حيثيات هذا القرار ما يلي: "... حيث من جهة أخرى فإن البادي من أوراق الملف أن استمرار تواجد المستأنف عليه في منطقة العبور بمطار محمد الخامس بعدما كان قادما من دولة ليبيريا في اتجاه دولة تونس إنما مرده إلى قرار السلطات المغربية بفرض حظر جوي في إطار التدابير الاحترازية المتخذة لمحاربة انتشار وباء كرونا المستجد ( كوفيد 19) ، وهو قرار سيادي بامتياز لا يمكن تعطيل آثاره القانونية أو الخروج على مقتضياته إلا في الحالات التي يقررها قرار الحظر نفسه أو قرارات لاحقة متخذة من نفس السلطات،..." [14].
ونرى بأن هذا القرار الاستئنافي كان صائبا في وصفه قرار الحظر الجوي بالسيادي بامتياز، وقد يقول قائلا- كما ذهب إلى ذلك بعض الفقه- أن هذا القرار الاستئنافي استبعد من الاعتبار أن قرار الحظر الجوي يعد قرارا إداريا لكونه صادر عن سلطة إدارية وفي مجال الضبط الإداري وصدر قبل صدور مرسوم بقانون المتعلق بالطوارئ الصحية وقبل إعلانها وغير متصل به.
لكن، يبدو أن هذه المبررات تتعارض مع الضوابط المؤطرة لهذا النوع من القرارات، ذلك أن إصداره تم في إطار الأعمال المتعلقة بالشؤون الخارجية التي صنفها الاجتهاد القضائي ضمن أعمال السيادة غير الخاضعة للرقابة القضائية كما أسلفنا ذكر ذلك أعلاه، ولا أدل على ذلك من صدوره عن السلطة الحكومية المكلفة بالخارجية، وهو يدخل ضمن أعمال الحكومة التي مارستها الجهة المذكورة بناء على المرسوم المنظم لها رقم 2.11.428 بتاريخ 6 سبتمبر 2011 الذي عهد إليهما مهمة وتنسيق جميع العلاقات الخارجية والحرص على التوفيق بينها وبين سياسة المغرب الخارجية. وكذا المرسوم المتعلق بتحديد اختصاصات وزير الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج عدد 2.17.192 بتاريخ 18 أبريل 2017 الموقع من طرف رئيس الحكومة.
بالإضافة إلى ذلك، فإن اتخاذه تم بتشاور وتنسيق مع الدول المعنية كما جاء في بلاغ وزارة الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج.
كما أنه لئن كان القرار المذكور قد صدر قبل الإعلان عن حالة الطوارئ الصحية ابتداء من 20 مارس 2020 أو تاريخ آخر كما ستأتي مناقشته، فإن ذلك لا ينزع عنه وصف القرار الحكومي ( السيادي)، على اعتبار أن اتخاذه كان كإجراء استباقي في إطار الصلاحيات المخولة للحكومة لمباشرة مهامها وتقويتها لتنظيم علاقتها بالسلطات الأجنبية، وقد دل على ذلك التنسيق والتشاور المجرى مع الدول المعنية قبل اتخاذه، كما أن اتخاذه كان أيضا ضرورة للمحافظة على كيان الدولة في الداخل على اعتبار أن تفشي الوباء مرتبط بحالات قادمة من الخارج كما جاء في البلاغ، ومن ثم يغلب فيها أن تكون تدابير تتخذ في النطاق الداخلي والنطاق الخارجي.
ثم إن المرسوم عدد 2.20.293 المعلن عن حالة الطوارئ الصحية لم يجرد القرارات المتخذة قبل صدوره من أي أثر، بل أبقى عليها، زد على ذلك أن طبيعة أعمال الحكومة السيادية تقتضي اتخاذها على الفور كلما دعت الضرورة الملحة لذلك، لأنها تستمد كينونتها من الصلاحيات المخولة للحكومة بمقتضى الدستور بوصفها سلطة حكم ولا ترتبط بالتطبيق اليومي للقوانين والسهر على حسن علاقة الأفراد والجماعات بالإدارة وممارسة سلطات الضبط الإداري في الحالات العادية، فهذه هي التي تعتبر من الأعمال الإدارية التي تخضع لرقابة القضاء والتي تحتاج إلى ما يعضدها من القانون قبل اتخاذها.
ومن جانب آخر، فإن نظرية القرارات الإدارية المنفصلة التي أخذ بها مجلس الدولة الفرنسي في بعض الحالات للتقليص من أعمال السيادة من خلال إخراج بعض القرارات والأعمال التي تنفصل عن مجالات أعمال السيادة وإخضاعها لرقابة القضاء الإداري، يمكن أن تنطبق بشأن بعض القرارات التي اتخذتها الحكومة، بينما تبقى مستبعدة بخصوص قرار تعليق الرحلات الجوية على اعتبار أننا أمام عمل حكومي مستقل بذاته أملته اعتبارات داخلية مرتبطة بإجراءات الإعلان عن حالة الطوارئ الصحية وأخرى خارجية جسدتها تحذيرات منظمة الصحة العالمية بسبب تفشي الوباء بعدد من الدول الأجنبية، وهاته العوامل التي بني عليها قرار تعليق الرحلات الجوية لا يمكن فصلها. بما يعني ذلك أننا أمام عمل سيادي اتخذته الحكومة المغربية، إلى جانب أعمال سيادية أخرى اتخذتها في نفس الإطار والسياق.
لنخلص من كل ما سبق، أن قرار السلطة الحكومية بتعليق الرحلات الجوية القادمة والمتوجهة من وإلى المغرب يعد قرارا سياديا بامتياز كما انتهت إلى ذلك- عن صواب- محكمة الاستئناف الإدارية بالرباط.
ثانيا: في شأن إشكالية سريان مفعول حالة الطوارئ الصحية
أثيرت هذه الإشكالية بمناسبة صدور المرسوم المعلن عن حالة الطوارئ الصحية الذي لم يحدد تاريخ بدء سريان هذه الحالة واكتفى بالتنصيص في مادته الأولى على أنه " يعلن عن حالة الطوارئ الصحية بسائر أرجاء التراب الوطني إلى غاية يوم 20 أبريل 2020 في الساعة السادسة مساء".
وتمكن أهمية تحديد تاريخ سريان حالة الطوارئ الصحية في ارتباطها بآثار قانونية أخرى سيما على مستوى الآجالات الواردة في النصوص القانونية والتنظيمية التي نص بشأنها المرسوم بقانون بسن أحكام خاصة لإعلان حالة الطوارئ الصحية على أنه: "يوقف سريان جميع الآجال المنصوص عليها في النصوص التشريعية والتنظيمية الجاري بها العمل خلال فترة حالة الطوارئ الصحية المعلن عنها ويستأنف احتسابها ابتداء من اليوم الموالي ليوم رفع حالة الطوارئ الصحية ...".
ولذلك، وعلى إثر صدور المرسوم المعلن لحالة الطوارئ، بادرت بعض مؤسسات الدولة، نظرا لارتباط مهامها بآجال قانونية، إلى إصدار دوريات ومناشير دعت العاملين بالمؤسسات التابعة لها إلى الأخذ بعين الاعتبار تاريخ إعلان بداية سريان فترة حالة الطوارئ لتطبيق المقتضيات الواردة في المرسوم بقانون وتباينت مواقفهم بهذا الخصوص، فعلى سبيل المثال نجد دورية لرئيس النيابة العامة[15] اعتبرت أن فترة حالة الطوارئ الصحية في الحالة الراهنة تتراوح ما بين 20 مارس 2020 إلى 20 أبريل 2020 فيما يتعلق بتوقيف الآجال التشريعية والتنظيمية، و فيما يخص التدابير الزجرية المنصوص عليها في المرسوم بقانون، فإن رئيس النيابة العامة دعا إلى بتطبيقها على جميع الأفعال المرتكبة ابتداء من يوم 24 مارس 2020 وهو تاريخ نشر المرسوم بقانون، وإلى غاية الساعة السادسة من يوم 20 أبريل 2020، مع مراعاة حالة التمديد.
من جهته اعتبر المحافظ العام[16] (الوكالة الوطنية للمحافظة العقارية والمسح العقاري والخرائطية) أن توقيف الآجال التشريعية والتنظيمية الجاري بها العمل خلال فترة حالة الطوارئ الصحية المعلن عنها سيتم ابتداء من تاريخ 20 مارس 2020، قبل أن يستدرك[17] ويحدد تاريخ النشر بالجريدة الرسمية أي 24 مارس 2020.
بينما نجد نقيب هيئة المحامين بالدار البيضاء وجه تنبيها للمحامين المنتمين لهيئته بتاريخ 25 مارس 2020 يعتبر فيه أن تاريخ بداية حالة الطوارئ الصحية هو اليوم الموالي لتاريخ نشر المرسوم أي 25 مارس 2020.
من الناحية القانونية الصرفة، فإن المرسوم المذكور يدخل حيز التنفيذ ابتداء نشره بالجريدة الرسمية أي 24 مارس 2020، غير أن الظرفية الاستثنائية اقتضت من الحكومة اتخاذ عدة تدابير، بحيث إنه قبل صدور المرسوم المعلن عن حالة الطوارئ أصدرت السلطات الحكومية المعنية عدة بلاغات قضت بإغلاق المجال الجوي جزئيا (بتاريخ 10 مارس 2020(، تعليق الرحلات الجوية كليا (بتاريخ 15/03/202)، دعوة المواطنات والمواطنات إلى الالتزام بالعزل الصحي (بتاريخ 18/03/2020)، منع استعمال وسائل النقل الخاص والعمومية (بتاريخ 21/03/2020 )، تعليق الجلسات بالمحاكم عبر بلاغ مشترك من قبل السلطات المختصة ... إلخ.
وإذا كانت كل هذه الإجراءات أثرت بشكل إيجابي على صحة الموطنين، كما لا يخفى، فإنه قد يكون لها وقع على ممارستهم لمختلف المساطر والإجراءات لدى الإدارات العمومية والمحاكم إذا ما اعتبرنا أن حالة الطوارئ لم تبتدئ في السريان إلا خلال يوم نشر المرسوم بقانون والمرسوم المعلن عن حالة الطوارئ الصحية أي 24/03/2020، إذ على سبيل المثال، كيف يعقل أن تعلق الحكومة جميع الرحلات الجوية وتدعو المواطنين إلى الحجر الصحي في الوقت الذي قد يواجه به المواطنون، الذين لهم التزامات قانونية واتفاقية، بأثر عدم قيامهم بالإجراءت داخل الأجل القانوني أو المتفق عليه.
لاشك أن هذه الإشكالية، ستجد حلا لها على مستوى الدور الذي يلعبه القضاء بمختلف أنواعه في الاجتهاد من خلال تأويل وتفسير النصوص القانونية أو حتى إيجاد حل لنازلة لا نص فيها، وفي الحالة الراهنة فإنه يتوقع أن ينصب الاجتهاد القضائي على إعطاء وصف قانوني للوضعية السابقة لصدور المرسوم المعلن لحالة الطوارئ الصحية سواء من خلال تحديد التاريخ المعتبر لبداية سريان حالة الطوارئ أخذا بعين الاعتبار الظروف الاستثنائية التي سادت خلال هذه الفترة والتكييف القانوني لطبيعة التدابير التي تم اتخاذها قبل صدور المرسوم المتحدث عنه والتي يكتسي أغلبها طابع الأعمال السيادية كما أسلفنا الذكر.
ثالثا: في شأن الطبيعة القانونية لمرسوم بقانون المحدد للأحكام الخاصة بحالة الطوارئ الصحية وإجراءات الإعلان عنها.
إن التساؤل الذي طرح بهذا الخصوص، يتعلق بما إذا كان المرسوم بقانون المذكور يعد قرارا إداريا خاضع لرقابة القضاء الإداري، أم أنه عملا حكوميا ( سياديا)، أم عملا تشريعيا وبالتالي يخرج عن نطاق هذه الرقابة؟.
من الناحية القانونية، إذا كانت أغلب دساتير الدول المعاصرة تعطي الصلاحية للسلطة التنفيذية في إصدار مراسيم بقوانين وفق شروط محددة، فإن الدستور المغربي سار في نفس الاتجاه حيث نصت مقتضيات الفصل 81 منه على أنه: " يمكن للحكومة أن تصدر خلال الفترة الفاصلة بين الدورات، وباتفاق مع اللجان التي يعنيها الأمر في كلا المجلسين، مراسيم قوانين يجب عرضها بقصد المصادقة عليها من طرف البرلمان، خلال دورته العادية الموالية. يودع مشروع المرسوم بقانون لدى مكتب مجلس النواب، وتناقشه بالتتابع اللجان المعنية في كلا المجلسين، بغية التوصل داخل أجل ستة أيام، إلى قرار مشترك بينهما في شأنه، وإذا لم يحصل هذا الاتفاق، فإن القرار يرجع إلى اللجنة المعنية في مجلس النواب".
ومن حيث المبدأ، فالمعيار المستقر عليه فقها وقضاء لتحديد طبيعة الأعمال الصادرة عن أشخاص القانون العام هو المعيار العضوي والذي يعتبر العمل إداريا ويكتسي طبيعة إدارية حينما يكون صادرا عن سلطة توصف بأنها إدارية، واستثناء يؤخذ الفقه والقضاء بالمعيار الموضوعي الذي ينظر إلى طبيعة العمل لا إلى الجهة الصادر عنها.
وعليه، فإنه طبقا للمعيار العضوي فإن المرسوم بقانون الصادر تطبيقا للفصل 81 من الدستور مما لا يجوز الخلاف حول طبيعته الإدارية، فصفة رئيس الحكومة الموقع لهذا المرسوم باعتباره سلطة إدارية هي المعيار المعتمد لتحديد طبيعة ما يصدر عنه من مراسيم بغض النظر عن موضوعها. وبالتالي، وتطبيقا للمعيار العضوي، فإن المرسوم بقانون، وإن كان يتمتع بقوة القانون، إلا أنه يبقى خاضعا للرقابة القضائية، وقد سار مجلس الدولة الفرنسي في هذا الاتجاه في قضة Fédération national des syndicats de police[18].
أما بتطبيق المعيار الموضوعي، فإن الإشكال يثار حول طبيعة مرسوم بقانون حول ما إذا كان عملا تشريعيا أم لا؟.
ذهب بعض الفقه أن المرسوم بقانون يعد عملا تشريعيا بالنظر إلى أنه يصدر في إطار اختصاص خوله الدستور للحكومة وفي مجال تشترك فيه مع البرلمان.
صحيح أن صدور المرسوم بقانون عن الحكومة لا ينفي عنه صبغة العمل التشريعي، إلا أن ذلك يقتضي أن يضفي عليه القانون الدستوري هذا الوصف، وبالرجوع إلى مقتضيات الفصل 81 من الدستور نجد أنها تنظم العلاقة بين الحكومة والسلطة التشريعية خلال الفترة الفاصلة بين دورات مجلسي البرلمان، حيث يوضح المسطرة غير العادية لتمكين الحكومة من إصدار مراسيم قوانين على أن يتم عرضها على البرلمان بقصد المصادقة عليها في دورته العادية الموالية لصدوره، مما لا يستفاد منه أن الدستور أسبغ وصف التشريع على المرسوم بقانون.
ومن جانب آخر، فإن العمل التشريعي المستثنى من الرقابة القضائية في إطار فحص المشروعية والشرعية هو ذلك الصادر عن السلطة التشريعية بصفتها هاته والذي يجسد في شكل قوانين، ومعلوم أن المرسوم بقانون ليس بقانون كما أكد ذلك المجلس الدستوري (المحكمة الدستورية) في قرار له[19] حيث اعتبر أن المرسوم بقانون لا يعد قانونا ولا يخضع بالتالي لرقابته لأن " مراسيم القوانين لا تكتسب صبغة قانون إلا بعد المصادقة عليها من قبل البرلمان بمجلسيه في الدورة العادية الموالية لصدوره".
ثم إن الغاية من استثناء الأعمال التشريعية من الرقابة القضائية هي إمكانية خضوعها لرقابة مؤسسات دستورية أخرى، وهو ما ينطبق بالنسبة للمراسيم بقوانين حيث إنها تبقى خاضعة لرقابة البرلمان ( الرقابة السياسية) من خلال إلزام الحكومة بالحصول على اتفاق اللجنتين المعنيتين بالبرلمان ثم المصادقة عليها في دورة البرلمان الموالية، وهذه المصادقة هي التي تضفي عليها الطابع التشريعي، وبالتالي تتيح إمكانية مراقبة دستوريتها إلى جانب القانون القاضي بالمصادقة عليها في حالة الطعن بعدم دستوريتها وفق المسطرة المحددة قانونا، على اعتبار أن المرسوم بقانون والقانون المتعلق بالمصادقة عليه هما كلا لا يتجزأ كما صرح بذلك المجلس الدستوري ( المحكمة الدستورية) في أحد قراراته[20] التي جاء فيها " حيث إن إحالة قانون يقضي بالمصادقة على مرسوم بقانون إلى المجلس الدستوري لفحص دستوريته يستوجب النظر في القانون والمرسوم بقانون لأنهما يكونان كلا لا يتجزأ ".
ثم إنه من ناحية أخرى، إذا فرضنا إمكانية الطعن بالإلغاء ضد مراسيم القوانين بالنظر لطابعها الإداري خلال الفترة السابقة للمصادقة عليها من طرف البرلمان، فما هو نطاق هذه الرقابة، هل ستقتصر على مراقبة العيوب الخارجية في المرسوم بقانون ( أي جانب الاختصاص والشكل والمسطرة)؟، أم أنها ستمتد لمراقبة العيوب الداخلية؟. وفي هذه الحالة الأخيرة، هل هذه الرقابة تخول لمحكمة النقض تقدير جدية مضمون المرسوم بقانون؟ أم أنها ستقتصر على مراقبة جدية الظرف الاستثنائي الذي حذا بالحكومة إلى إصدار مرسوم بقانون؟.
ومن جانب آخر، ألا يمكن تصنيف المرسوم بقانون المعلن لحالة الطوارئ الصحية، قرارا سياديا، بالنظر للظرفية الاستثنائية التي صدر فيها وبحكم ارتباطه بالأعمال الصادرة في إطار العلاقة بين السلط (التنفيذية و التشريعية) التي أسبغ الفقه والقضاء عليها طابع السيادة؟.
لا شك أن مثل هذه الإشكاليات وغيرها ستجد حلا لها على مستوى قضاء محكمة النقض التي عرضت عليها نازلة تتعلق بطعن بالإلغاء ضد مرسوم بقانون إلا أن البت فيه تزامن مع مصادقة البرلمان عليه وصدور الأمر بتنفيذه، مما قضت معه بعدم قبول الطلب" [21]، وهي بذلك فوتت فرصة لتحديد موقفها من الطبيعة القانونية لمرسوم بقانون خاصة وأن مثل هذه الطعون نادرة جدا.
لنخلص من كل ما سبق، أن المرسوم بقانون له خصوصية تبرز من خلال احتلاله مكانة وسطى بين القرار الإداري والعمل التشريعي، فهو صادر عن السلطة التنفيذية بوصفها حكومة، وليس كباقي المراسيم التي تصدر في المجال الإداري، ومرتبط بمسطرة تشريعية خاصة وموضوعه تنظيم مجال تشريعي، غير أنه لا يكتسب صفة العمل التشريعي إلا بعد المصادقة عليه من طرف البرلمان، وطبقا لأحكام الفصل 132 من الدستور فهو خاضع للرقابة الدستورية التي تخضع لها القوانين وذلك بمناسبة الطعن بعدم دستوريته إلى جانب القانون القاضي بالمصادقة عليه باعتبارهما كلا لا يتجزأ، وهذه الرقابة الدستورية هي خلاف رقابة المشروعية، بحيث إن الأولى تشمل جوانب الاختصاص والشكل والإجراءات المتبعة[22] والموضوع، ومنوطة حصرا للمحكمة الدستورية ولا تشاركها فيها جهة قضائية أخرى، بينما رقابة المشروعية موكولة، في هذه الحالة، للغرفة الإدارية بمحكمة النقض وتشمل عيوب الاختصاص والشكل ومخالفة القانون والسبب والانحراف في استعمال السلطة، والقول، في ظل هذه المعطيات، بإمكانية خضوع المرسوم بقانون لرقابة المشروعية قد يؤدي إلى ازدواجية في الرقابة سيما من حيث عيوب الاختصاص والشكل ومخالفة القانون لارتباطها بالدستور، مما يتعارض والمبادئ العامة التي تأبى أن يخضع عمل واحد لرقابتين قضائيتين أو أكثر.
ومن جهة أخرى، فإن رقابة السلطة التشريعية تبقى قائمة خلال الفترة الممهدة لصدور المرسوم بقانون، وأن مصادقة البرلمان عليه هي لإضفاء الطابع التشريعي عليه من الناحية العضوية لأنه كذلك من الناحية الموضوعية لسبقية حصول الاتفاق عليه مع اللجنتين المعنيتين بالبرلمان، وتقرير هذه الرقابة دستوريا إنما أملته اعتبارات ضمان تحقيق ما يتطلبه صون المصالح العليا للبلاد.
كل ذلك يعني أن الرقابة الدستورية المتبادلة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية و رقابة المحكمة الدستورية على المرسوم بقانون، يجعل من الصعب القول بخضوع المرسوم بقانون للرقابة القضائية ولعل هذا السبب هو ما حذا بالفقه والقضاء إلى استثناء أعمال السيادة والأعمال التشريعية والقضائية من مجال رقابة المشروعية التي يتولاها القضاء.
وفي الختام، وللنقاش العلمي، نطرح التساؤل حول ما إذا كانت رقابة المحكمة الدستورية على المرسوم بقانون، بمناسبة الرقابة على القانون القاضي بالمصادقة عليه، تستغرق رقابة المشروعية التي تستأثر بها السلطة القضائية عبر الغرفة الإدارية بمحكمة النقض؟.
خلاصة:
نخلص من كل ما سبق، أن دور القضاء الإداري في رقابته على أعمال السلطة التنفيذية المتخذة في إطار حالة الطوارئ الصحية تخرج بطبيعتها عن رقابة القضاء الإداري بحكم تصنيفها ضمن أعمال السيادة الداخلية والخارجية، وأن إثارة محكمة الاستئناف الإدارية بالرباط في أحد قراراتها لهذا الطابع السيادي للقرار المعلن عن تعليق الرحلات الجوية القادمة والمتوجهة من وإلى المغرب للحد من انتشار وباء كورونا – كوفيد 19- لا يعد سوى تطبيق لما استقر عليه الفقه والقضاء في المغرب والقوانين المقارنة من إقرار استثناءات على الرقابة القضائية.
غير أن هذا المبدأ لا يؤخذ على إطلاقه، بل إن دور القضاء الإداري يبقى قائما في مجال الرقابة على القرارات التي تتخذها السلطات الإدارية بمناسبة حالة الطوارئ الصحية المعلن عنها التي لا ينطبق عليها وصف العمل الحكومي ( السيادي) أو العمل التشريعي أو في إطار القضاء الشامل بشتى أصنافه، بما يعني ذلك أن مجرد وجود نازلة واحدة، صدرت في ظرف استثنائي بسبب تفشي وباء كورونا، أثار فيها القضاء الإداري - وعن صواب - نظرية أعمال السيادة ونفض الغبار عنها[23]، لا يعني التنكر للدور الفعال الذي يقوم به القضاء الإداري ببلادنا الذي عودنا بحمايته لحقوق وحريات الأفراد والجماعات، ليس فقط من خلال تطبيقه السليم للقانون، بل أيضا من خلال اجتهاداته المتتالية، ولا شك أن انتهاء حالة الطوارئ الصحية المعلن عنها، بحول الله وقوته، وما قد يترتب عنها من نزاعات بين المواطنات والمواطنين من جهة والإدارات العمومية بمختلف هياكلها من جهة ثانية وما تفرزه هذه النزاعات من إشكاليات قانونية، كتلك المتعلقة بتاريخ سريان حالة الطوارئ وطبيعة الوضعية السابقة لصدور المرسوم المعلن عن هذه الحالة بكافة التراب الوطني، سيؤكد فيها القضاء الإداري دوره المحوري في تكريسه للطابع الحمائي للحقوق في إطار مبدأ الموازنة بين المصلحة العامة والمصالح الخاصة للأفراد.
[1][1] - مرسوم بقانون رقم 2.20.292 صادر بتاريخ 23 مارس 2020 يتعلق بسن أحكام خاصة بحالة الطوارئ الصحية وإجراءات الإعلان عنها، جريدة رسمية عدد 6867 مكرر بتاريخ 24 مارس 2020، ص. 1782.
[2] - مرسوم رقم 2.20.293 صادر بتاريخ 24 مارس 2020 بإعلان حالة الطوارئ الصحية بسائر أرجاء الترابي الوطني لمواجهة تفشي فيروس كورونا – كوفيد 19، جريدة رسمية عدد 6867 مكرر بتاريخ 24 مارس 2020، ص. 1783.
[3][3] - مرسوم رقم 2.20.330 صادر بتاريخ 18 أبريل 2020 بتمديد مدة سريان مفعول حالة الطوارئ الصحية بسائر أرجاء التراب الوطني لمواجهة تفشي فيروس “كورونا- كوفيد 19، جريدة رسمية عدد 6874 مكرر بتاريخ 19 أبريل 2020، ص. 2218.
[4] - محمد سليمان الطماوي: " القضاء الإداري"، الجزء الأول- قضاء الإلغاء، دار الفكر العربي، الطبعة الأولى، السنة 1976، ص. 367 وما يليها.
[5] - C.E . 01 Mai 1822. Affaire laffite. Seiry. 1823 – 2-P.63.
[6] - حكم المحكمة الدستورية العليا ( بمصر) رقم 12 لسنة 39 قضائية "تنازع".
[7] - حكم أورده ، حمدي علي عمر: " الاتجاهات الحديثة للقضاء في الرقابة على أعمال السيادة – دراسة مقارنة-"، منشأة المعارف بالإسكندرية، السنة 2016، ص. 9.
[8] - C.E . 30 Mai 1952. Affaire Kirk wood.
[9] - C.E . 28 Mai 1937. Affaire Decerf.
[10]- قرار صادر بتاريخ 22 يناير 1963 منشور بالمجلة المغربية لقانون سنة 1962 ص 625
[11]- قرار عدد 47 منشور بمجموعة قرارات المجلس الأعلى: 1957 ـ1960، صفحة 47.
[12]- قرار عدد 4 مؤرخ في 4 يناير 1969 منشور بمجموعة قرارات المجلس الأعلى 1966 ـ 1970 صفحة 208.
[13]- قرار محكمة النقض ( المجلس الأعلى سابقا) عدد 4 الصادر بتاريخ 21 أكتوبر 1969 في الملف عدد 29190، منشور في مجلة قرارات المجلس الأعلى، الغرفة الإدارية سنوات 1966-1970، الطبعة الأولى يناير 1983، ص. 208.
[14] - محكمة الاستئناف الإدارية بالرباط، قرار عدد 420 مؤرخ في 26 مارس 2020 صادر في الملف رقم 422/7202/2020 ( غ. م).
[15] - دورية رئيس النيابة العامة رقم 13 الصادرة بتاريخ 24 مارس 2020.
[16] - مذكرة المحافظ العام رقم: 06/2020 بتاريخ 25 مارس 2020.
[17] - مذكرة المحافظ العام رقم: 08/2020 بتاريخ 03 أبريل 2020.
[18] - C E , 24 nov. 1961.
[19] - أنظر قرار المجلس الدستوري عدد 14/944 م . د، صادر بتاريخ 18/09/2014 في الملف رقم 14/1403، منشور بالموقع الإلكتروني للمحكمة الدستورية، وبالجريدة الرسمية عدد 6294 بتاريخ 25 شتنبر 2014، ص. 7094.
[20] - قرار المجلس الدستوري ( المحكمة الدستورية) عدد 37/94 م. د صادر بتاريخ 16/08/1994 في الملف رقم 3/94.
[21] - قرار الغرفة الإدارية محكمة النقض عدد 1702/1 صادر بتاريخ 01/12/2016 في الملف رقم 2986/4/1/2014، وقد جاء في حيثيات هذا القرار ما يلي: " حيث إن المرسوم بقانون المطعون فيه قد تمت المصادقة عليه من قبل البرلمان بموجب القانون رقم 85.14 الصادر الأمر بتنفيذه بموجب الظهير الشريف رقم 01.15.31 وتاريخ 12 مارس 2015 ونشر بالجريدة الرسمية عدد 6348 وتاريخ 02 أبريل 2015، وبالتالي يكون هذا المرسوم قد استنفد مساطر التشريع المقررة في الدستور وأضحى مكتسبا لصفة القانون مما يجعل الطعن بالإلغاء فيه غير مندرج ضمن اختصاص محكمة النقض، ما دام الطعن في دستورية القوانين ينعقد للمحكمة الدستورية ويبقى الطلب غير مقبول ".
[22] - على سبيل المثال سبق للمجلس الدستوري أن قضى بعدم دستورية القانون القاضي بالمصادقة على مرسوم بقانون لعدم عرضه للمصادقة خلال الدولة الموالية لانعقاد البرلمان، أنظر قرار المجلس الدستوري ( المحكمة الدستورية) عدد 37/94 م. د صادر بتاريخ 16/08/1994 في الملف رقم 3/94.
[23]- اقتبسنا هذا المصطلح من أستاذنا محمد أمين بنعبد الله الذي استعمله للاستدلال على ندرة أحكام القضاء الإداري في مجال أعمال السيادة، وذلك بمناسبة تعليقه على حكم المحكمة الإدارية بالرباط الصادر بتاريخ 8 مارس 2001 في قضية بلواد.
أنظر:
- Mohammed Amine BENABDALLAH : « L’inutilité de la théorie de l’acte de gouvernement dans la jurisprudence marocaine ; note sous tribunal administrative de rabat , 8 mars 2001, aff. Belouad, REMALD , N° 41, 2001, P.133.
أنظر:
- Mohammed Amine BENABDALLAH : « L’inutilité de la théorie de l’acte de gouvernement dans la jurisprudence marocaine ; note sous tribunal administrative de rabat , 8 mars 2001, aff. Belouad, REMALD , N° 41, 2001, P.133.