لقد تناول المهتمون بالشأن القانوني والقضائي أثر جائحة كورونا على مجموعة من المجالات التي تشمل جميع مناحي الحياة كل حسب وجهة نظره ،المؤسسة بطبيعة الحال على الاسانيد القانونية ، فاذا كان ذوو الاختصاص في علم الفيروسات والطب في جميع دول العالم منكبين على اجراء الابحاث و التحاليل المخبرية من اجل إيجاد لقاح لهذا الوباء الذي حصد الالاف من المرضى في دول العالم ،فإن هذا الموضوع يعتبر موضوعا خصبا لتحليل طبيعة هدا الوباء من الناحية القانونية واثاره على المعاملات بشقيها المدني والتجاري واثر هذه الجائحة على المعاملات التجارية بصفة عامة والالتزامات التجارية بصفة خاصة ،سيما بعد القرارات المتخذة من طرف جلالة الملك محمد السادس ،والحكومة المغربية من خلال سنها لمرسوم بقانون رقم292-20-2 بتاريخ 24مارس 2020 المتعلق بسن احكام خاصة بحالة الطوارئ الصحية ، ومن ذلك فرض الحجر الصحي بمنع الخروج من المنازل الا للضرورة مع ما صاحب ذلك من اغلاق المقاهي والمتاجر وغيرها والاقتصار فقط على تلك التي تقدم نوعا من الخدمات المحددة طيلة فترة حالة الطوارئ الصحية وكذا القرار التي اتخده جلالة الملك محمد السادس باعتباره الناظر الأول للاوقاف باعفاء مكتري الأملاك الحبسية من أداء واجبات الكراء للمحلات السكنية اوالتجارية او الحرفية خلال فترة حالة الطوارئ الصحية ،وايضا من خلال مبادرة الفريق الاشتراكي بمجلس النواب والذي تقدم بمقترح قانون رام الى تعديل المادة الثامنة من القانون رقم 16-49 المتعلق بكراء العقارات او المحلات المخصصة للاستعمال التجاري او الصناعي او الحرفي والمادة 30 مكرر من القانون رقم 12-67 المتعلق بتنظيم العلاقات التعاقدية بين المكري والمكتري للمحلات المعدة للسكنى او للاستعمال المهني بالشكل الذي تعد معه المبالغ الكرائية المتعلقة بذمة المكتري عن الفترة المتعلقة بحالة الطوارئ الصحية دينا عاديا يستوفى بالمساطر القانونية المعمول بها دون اعتبار ذلك تماطلا موجبا للافراغ بدون تعويض وذلك بالنظر الى الظروف التي تعيشها بلادنا وفي اطار مبدأ التضامن وتحمل الأعباء الناتجة عن حالة الطوارئ الصحية وحماية لحقوق جميع المواطنات والمواطنين.
وقبل الخوض في اثار هاته التدابير القانونية التي تم اتخاذها ،وتلك المراد اتخاذها لابد من إعطاء تكييف ووصف قانوني لهاته الجائحة، وعما اذا كانت تعتبر من وجهة الفقه والقانون والقضاء قوة قاهرة أم ظرفا طارئا، ام انها لاتدخل في زمرة هاذين الوصفين المذكورين، علما انه بعد انحسار هذا الوباء ورفعه ان شاء الله ، ستظهر تداعيات هذا الوباء على الاقتصاد العالمي على وجه العموم ،والاقتصاد الوطني على وجه الخصوص ، و ستثار لامحالة منازعات امام القضاء نتيجة لذلك في شتى المجالات القانونية سواء على مستوى المنازعات الإدارية او المدنية او الاجتماعية او التجارية .
أولا: مفهوم وشروط القوة القاهرة مع تحديد اساسها القانوني:
بداية نشير الى ان قانون الالتزامات والعقود يعتبر الشريعة العامة لجميع القوانين بما فيها القانون التجاري مالم تكن هنالك مقتضيات خاصة ،وذلك ما يتضح من خلال مدونة التجارة التي نصت من خلال المادة الثانية على أنه: يفصل في المسائل التجارية بمقتضى قوانين واعراف وعادات التجارة او بمقتضى القانون المدني ما لم تتعارض قواعده مع المبادئ الأساسية للقانون التجاري .
مفهوم القوة القاهرة وأساسها القانوني
يعتبر مفهوم القوة القاهرة من مواضيع القانون المدني ، مما يتعين والحالة هاته الرجوع الى قانون الالتزامات والعقود للوقوف على مدلوله واساسه القانوني
وباستقراء فصول هذا القانون نجده قد تطرق اليهامن خلال الفصول 95، 268 و269 .
وفي هذا الاطار نصت الفقرة الأولى من الفصل 95 من ق ل ع على انه : لا محل للمسؤولية المدنية في حالة الدفاع الشرعي، او اذا كان الضرر قد نتج عن حادث فجائي او قوة قاهرة لم يسبقها او يصطحبها فعل يؤاخذ به المدعى عليه.)
ونص الفصل 269 من نفس القانون على ما يلي: القوة القاهرة هي كل امر لا يستطيع الانسان ان يتوقعه ، كالظواهر الطبيعية: الفيضانات و الجفاف، والعواصف والحرائق والجراد- وغارات العدو وفعل السلطة، ويكون من شأنه ان يجعل تنفيذ الالتزام مستحيلا.
ولايعتبر من قبيل القوة القاهرة الامر الذي كان من الممكن دفعه مالم يقم الدليل على أنه بذل كل العناية لدرئه عن نفسه .....
و نص الفصل 268 من نفس القانون على أنه: لا محل لاي تعويض، اذا أثبت المدين ان عدم الوفاء بالالتزام او التأخير فيه ناشئ عن سبب لايمكن أن يعزى اليه، كالقوة القاهرة، اوالحادث الفجائي او مطل الدائن.)
وبالرجوع الى القانون الفرنسي ، نجده لم يقم باعطاء أي تعريف للقوة القاهرة وانما تحدث فقط عن آثارها من خلال المادة 1147 من القانون المدني الذي نص على أنه :يكون المدين مسؤولا عن التعويض اذا كان له محل اما بسبب عدم تنفيذ الالتزام اوبسبب التأخير فيه، وذلك في جميع الأحوال، ما لم يثبت عدم التنفيذ قد نشأ عن سبب أجنبي لايد له فيه، ولم يكن ثمة سوء نية من طرف المدين)
كما نص من خلال المادة 1148 عن آثار القوة القاهرة على انه :لا محل للتعويض اذا منع المدين بفعل القوة القاهرة او الحادث الفجائي من إعطاء او عمل ما التزم بالقيام به .......).
وجدير بالذكر أيضا ان المشرع المصري لم يعرف بدوره القوة القاهرة وانما اكتفى بتبيان آثارها من خلال مقتضيات المادة 215 من القانون المدني والتي نصت على أنه: اذا استحال على المدين ان ينفذ الالتزام عينا حكم عليه بالتعويض لعدم الوفاء بالتزامه،مالم يثبت أن استحالة التنفيذ قد نشأت عن سبب أجنبي لايد له فيه.)
وللوقوف على طبيعة هذا الوباء أي كوفيد 19 والذي صنفته- منظمة الصحة العالمية حسب موقعها الالكتروني –بكونه وباء عالميا- جائحة عالمية- ، وانها تستعمل هذا المصطلح لسببين رئيسيين هما: سرعة تفشي العدوى واتساع نطاقها والقلق الشديد إزاء قصور النهج الذي تتبعه الدول على مستوى الإرادة السياسية اللازمة للسيطرة على هذا التفشي للفيروس.1
ويهدف هذا البحث أولا الى التساؤل عما اذا كانت هاته الجائحة العالمية تتوافر فيها شروط القوة القاهرة ام لا، ولابد في هذا الاطار من تحديد شروط هذا الظرف على مستوى التشريع والفقه والقضاء ،مع الحديث عن آثار هاته الجائحة مهما كان تكييفها على المعاملات التجارية بصفة عامة والالتزامات التجارية بصفة خاصة .
2-: شروط القوة القاهرة
كما سبقت الإشارة أعلاه، فانه يستفاد من الفصول المنظمة للقوة القاهرة ولاسيما الفصل 269، نجد ان المشرع اشترط في القوة القاهرة الشروط التالية:
الشرط الأول :عدم التوقع: أ-
ان الوقائع التي من شأنها ان تعتبر قوة قاهرة لا بد ان تكون غير متوقعة الحدوث من شخص المدين نفسه الذي يتمسك بها، فالحادث المتوقع ليس قوة قاهرة بل يجب ان يكون غير متوقع في تقدير الناس ،فاستخلاص عدم توقع الفعل او الواقعة المكونة للقوة القاهرة مسألة من مسائل الموضوع التي تدخل ضمن السلطة التقديرية لقاضي الموضوع ويجب ان يعلل ما استخلصه هذا الأخير بكيفية مقبولة من الناحية الواقعية والا عرض حكمه للنقض بسبب انعدام التعليل او قصوره.
ب- عدم القدرة على الدفع
يتحقق هذا الشرط من حيث وجوب ان تكون نتيجة القوة القاهرة واثرها مما يستحيل دفعها ،وبمعنى اخر فان لاستحالة الدفع مفهومين الأول يتمثل في عدم قدرة الشخص على منع نشوء الواقعة المكونة للقوة القاهرة والثاني يتمثل في عدم تمكنه من التصدي للاثار المترتبة عنها.
و استحالة الدفع كشرط من شروط القاهرة هي بدورها من مسائل الواقع التي يستقل بتقديرها قاضي الموضوع وحده ولا رقابة عليه من طرف محكمة النقض الا من حيث التعليل على ذلك التقدير الموضوعي،وقد أشار بعض شراح القانون المدني بان الأوبئة تعتبر من قبيل القوة القاهرة .
ج- الشرط الثالث :ان لا يكون للمدين دخل في اثارة القوة القاهرة:
اكد المشرع في الفقرة الثالثة من الفصل 269 من ق ل ع على هذا الشرط لما نص على أنه: وكذلك لايعتبر من قبيل القوة القاهرة السبب الذي ينتج عن خطأ سابق للمدين.
وبالتالي فاذا كانت الواقعة المانعة من تنفيد الالتزام ليست اجنبية عن المدين فلا تعتبر قوة قاهرة.
ويميز بعض الفقه بين القوة القاهرة وبين الحادث الفجائي من حيث ان القوة القاهرة حادث مصدره خارجي ولايتصل بنشاط المدين كعاصفة او زلزال او حرب اومرض فجائي او ثورة او غير ذلك ،في حين ان الحادث الفجائي هو حدث من الداخل فيكون متصلا بنشاط المدين بحيث ينجم عن الشيء الذي تتحقق به المسؤولية .
بعد تناول شروط القوة القاهرة المحددة في التشريع المغربي يحق لنا التساؤل عما اذا كان ظهور الجائحة - كورونا كوفيد 19- يشكل قوة قاهرة بالنظر الى طبيعة وخطورة هذا الوباء وآثاره على المعاملات المدنية والتجارية على حد سواء.
ثانيا: مدى انطباق شروط القوة القاهرة على جائحة كورونا
اعتبرت منظمة الصحة العالمية على لسان مديرها العام تيدروس ادهانوم غبريسوس فيروس كورونا الجديد وباءا عالميا ، وينطبق عليه وصف الجائحة، وتعني هاته الأخيرة حسب ذات المنظمة هي الانتشار العالمي لمرض جديد، اذ يطلق على الوباء الذي يشمل قطاعا كاملا من البلدان في الوقت نفسه او قارة كاملة او عدة قارات او الكوكب بأكمله .
وبعبارة ادق هل تنطبق مواصفات القوة القاهرة على جائحة كورونا ،وبالتالي هل كان من الممكن عدم توقعها ، وعما اذا كان يتعذر استحالة دفع هاته الجائحة.
قبل الجواب على هذا التساؤل لابد من الحديث عن التدابير الاحترازية المتخذة من طرف العديد من الدول ومن بينها المغرب تبعا لتوصيات منظمة الصحة العالمية ومن جملتها فرض الحجر الصحي و اغلاق المطارات والحدود و تعليق جميع الأنشطة الاقتصادية ، وأن هاته التدابير من شأن التأثير على الاقتصاد العالمي بصفة عامة والاقتصاد الوطني بصفة خاصة لخسارة وركود اقتصاديين نتيجة هذا الوباء ،وهو ما استدعى من المغرب اتخاذ إجراءات استباقية من اجل الحد من تفشي فيروس كورونا والحد من انتشاره .
وفي هذا الاطار وبتعليمات ملكية تم احداث صندوق مكافحة جائحة كورونا لتعويض المتضررين من ذلك ،وتم سن مرسوم بقانون المشار اليه أعلاه، والذي على اثره تم اعلان حالة الطوارئ الصحية، وما ترتب عن ذلك من اتخاذ إجراءات على المستوى الصحي والاقتصادي والاجتماعي والقانوني ،حيث تم فرض مجموعة من الإجراءات على المواطنين من قبيل عدم الخروج من المنازل الا للضرورة القصوى بعد الحصول على رخصة استثنائية من طرف السلطات المحلية ،ومن قبل المؤسسات المشغلة بالنسبة للعاملين في القطاع الخاص او العام ،وبالموازاة مع ذلك تم احداث صندوق كورونا لتعويض المتضررين من هاته الجائحة .
ثالثا: التدابير الموازية لمعالجة الوضع الاقتصادي والاجتماعي والقانوني
علاقة بموضوع البحث فان الدولة اتخذت إجراءات موازية لذلك من قبيل سن مجموعة من التدابير التي تتناسب مع هاته المرحلة.
-فعلى مستوى قانون الشغل ،فقد اتخدت الحكومة قرارا بمساعدة المقاولات التي توفر مناصب الشغل من حيث مساعدتها على استقرار مناصب الشغل وعدم تسريح الاجراء خلال فترة حالة الطوارئ الصحية.
على المستوى الاجتماعي فقد تم اتخاذ مجموعة من الإجراءات التي من شأنها دعم الفئات المتضررة من هاته الجائحة من خلال منحها مساعدات مالية تستفيد منها العائلات المتضررة وفق معايير محددة وكذا مساعدة الأشخاص الذين يشتغلون في القطاع غير المهيكل.
وعلى مستوى علاقات الكراء التي تربط بين مالكي -المحلات التجارية ومن يدخل في حكمها والمحلات السكنية والمهنية – وبين مكتري تلك المحلات فقد تقدم الفريق الاشتراكي بمجلس النواب بمقترح قانون من اجل التخفيف على الفئة المكترية من خلال عدم اعتبارهم في حالة تماطل خلال مرحلة الطوارئ الصحية واعتبرت ما قد يبقى بذمتهم من واجبات كرائية بمثابة دين عادي تستخلص فيما بعد زوال هاته الجائحة وهذا المقترح التشريعي يهدف الى تفادي فقدان مكتري المحلات المذكورة للافراغ وتعريضهم للتشرد والضياع
وعلى مستوى القطاع البنكي فقد اتخذت الحكومة بالتنسيق مع بنك المغرب تدابير من اجل تأجيل سداد القروض للابناك خلال فترة الطوارئ الصحية .
وفي نفس الاطار فقد تفضل الملك محمد السادس – باعتباره الناظر الأول للاوقاف-باعطاء تعليماته الى وزير الأوقاف والشؤون باعفاء مكتري المحلات الحبسية من أداء واجب كراء تلك المحلات خلال فترة الطوارئ الصحية تعبيرا من جلالته على تضامنه و عطفه على مختلف فئات المجمتع ,
ومن المعلوم ان الدورة الاقتصادية ستتأثر لا محالة بهاته الجائحة كما سبق القول ومنها القطاع التجاري ولاسيما فيما يخص الالتزامات التجارية بين التجار سواء كانوا اشخاص طبيعيين او ذاتيين ،وعليه يفرض الوضع معالجته وفق تدابير من شانها امهال المقاولات من أداء الضرائب و تمكينها من اجال للأداء ،ودعم المقاولات الصغيرة والمتوسطة من اجل مساعدتها على الاستمرارية في نشاطها وللحفاظ على مناصب الشغل .
وإذا كانت الديون التجارية لا تقبل التأجيل للاعتبارات أعلاه فانه يتعين اتخاذ تدابير تشريعية من اجل ضرورة منح التجار اجالا معقولة لاداء ديونهم تفاديا لدخول المقاولات الصغيرة والمتوسطة في مساطر التسوية او التصفية القضائية بسبب التوقف عن الدفع.
ويرمي اتخاد مثل هاته التدابير الى منح الفرصة للمقاولة والتجار في ان واحد من تجاوز الصعوبات التي قد تعترضهم خلال هاته الفترة ويتمكنا من وراء ذلك من مواجهة كافة الالتزامات المترتبة عليهما.
انه بالنظر لطبيعة هذا الوباء وبوصف منظمة الصحة العالميةله بالجائحة وعدم إيجاد لقاح الى حدود هاته الساعة و لتصنيف شراح بعض فقهاء القانون المدني للأوبئة من قبيل القوة القاهرة ، فانه يمكن ان تكيف الجائحة المذكورة كقوة قاهرة وبالتالي ترتيب الاثار القانونية على ذلك ووجب اتخاد تدابير تشريعية من اجل إعطائها هذا الوصف وإيجاد الحلول من اجل تجاوز هاته الفترة العصيبة التي يمر منها العالم عامة والمغرب بصفة خاصة .
واكيد ان اتخاذ مثل تلك التدابير الاحترازية المذكورة لمن شأنها تفادي نشوب المنازعات القضائية على جميع المستويات أو على الأقل التقليل من حدتها واثارها.
لائحة المراجع والمواقع الالكترونية المعتمدة:
باللغة العربية:
محمد الكشبور،نظام التعاقد ونظريتا القوة القاهرة والظروف الطارئة،الطبعة الأولى 1993، مطبعة النجاح الجديدة.
عبد الكريم شهبون، الشافي في شرح قانون الالتزامات والعقود المغربي ، الكتاب الأول، الالتزامات بوجه عام ، الجزء الأول مصادر الالتزامات،الطبعة الاولى1999، مطبعة النجاح الجديدة.
عبد الرحيم بحار، القضاء التجاري والمنازعات التجارية، الطبعة الأولى 2014 ، مطبعة النجاح الجديدة.
المنازعات الوقفية، زكرياء العماري، منشورات مجلة القضاء المدني، الطبعة 2011، مطبعة المعارف الجديدة الرباط.
باللغة الفرنسية
Code civile:litec 1996-1997-
-Droit civile-brigitte hess-fallon/anne-marie simon -edtion 2005-sirey
www.alaaraby.co.uk -
www.who .int/fr -