MarocDroit  -  موقع العلوم القانونية
plateforme des décideurs juridiques - Platform of Legal Decision-Makers



نظام السجون.. توفيق الحكيم رائدا للإصلاح التشريعي

     

د أحمد عبد الظاهر

أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة



نظام السجون.. توفيق الحكيم رائدا للإصلاح التشريعي
  ينقسم الأدباء إلى مدارس عدة، ولكل مدرسة فكر خاص، وتوجهات معينة تسير وفقها، ويلتزم أدباء كل مدرسة بمبادئها وتوجهاتها. وتعبيراً عن ذلك، يقول الأستاذ محمود تيمور: «كان المذهب الواقعي في الأدب ظاهرة اجتماعية، له أسبابه التي دعت إليه، وله مسوغاته التي حفزت عليه، وفيه من العناصر الصالحة ما جعل له قيمة كبيرة في تصوير البشرية وفي الاستجابة للحياة. بيد أن الظواهر الاجتماعية على وجه عام لا يطمئن لها جانب، ولا يقر لها قرار، فهي أبداً في دوامة من التحول والتبدل، تدور عليها أحكام الكون والفساد كما يقول الفلسفيون.

هذه الواقعية الأدبية ثارت عليها ثائرة الأخلاقيين حين انطلق الأدباء تحت رايتها في أساليب صريحة عارية، يعرضون شهوات النفس ونزوات الطبع وغوايات السلوك، وضاق بها المثاليون الذين يريدون الأدب تمثيلاً للإنسان في مستوى ملائكي رفيع، لا كما هو كائن، بل كما يجب أن يكون، ولم يرض عن الواقعية أصحاب الفكر المترف، ممن يسأمون التحليل والتعليل والتفصيل، ويقنعون باللمحات، والإشارات واللوامع.

وكذلك أبى رواد الإصلاح السياسي والاجتماعي أن يتقبلوا هذه الواقعية بقبول حسن؛ إذ هم يريدون الأدب على أن يكون ذا أغراض ومقاصد، ويبتغونه توجيها وتزكية، فيستعلون به على التفكير الفردي الطليق إلى التفكير الجماعي الهادف، حين يتناول قضايا الشعب، ويعالج مشكلات المجتمع» (الأستاذ محمود تيمور، مذهب الأدب الهادف ومكانه من الأدب الواقعي، مطبعة الأزهر، 18 من ذي القعدة سنة 1378هـ الموافق 26 مايو سنة 1959م).

ويمكن القول إن الأديب المصري الكبير توفيق الحكيم هو أحد رواد المدرسة الهادفة. وفي رأي الفيلسوف الأستاذ الدكتور زكي نجيب محمود، فإن أديبنا الحكيم – إذا نسبناه إلى إحدى مدارس الأخلاق – انتمى إلى مدرسة المنفعة، التي تقيس الفعل نفسه. وقد كان الأديب الكبير توفيق الحكيم يرى أن الأديب لابد له من رسالة يؤديها. ولذلك يؤكد أن روايته يوميات نائب في الأرياف ليست مجرد تصوير لحياة الفلاح. ويبدو أن الأديب الكبير كان يرى أن الإصلاح هو غايته، ولو كان ذلك بشكل غير مباشر.

ولعل ذلك يبدو جلياً في قوله: «لا أعتقد أن كتاباً مثل (يوميات نائب في الأرياف) كان له أثر مباشر في إصلاح بعض ما أبرزه من عيوب الحكم والقضاء والإدارة في الريف... وإن كنت أعلم أن كثيراً من رجال الدولة قد طالعوه... على أن رأيي دائماً في رجال الفكر والأدب والفن أنهم ليسوا مطالبين بالإصلاح المباشر... إن مهمتهم الحقيقية هي أن يعدوا ويهيئوا رجال العمل والدولة والحكم للقيام بالإصلاح... لقد قلتها يوماً في كتاب لي: إن الأديب أو الفنان ليس مصلحاً، ولكنه مصلح المصلح».

وباعتباره أحد رجال القانون والقضاء، حيث سبق له العمل وكيلاً للنائب العام في بداية حياته، يبدو من الطبيعي أن يمتد اهتمام الأديب الكبير توفيق الحكيم إلى إصلاح نظام السجون. ففي كتابه المعنون «التعادلية.. مع الإسلام والتعادلية»، يقول الكاتب الكبير: «إن المجتمع يجب أن يقف من مرتكب الشر – لا موقف المنتقم -، بل موقف المطالب بحالة التعادل، أي بفعل الخير... وعلى هذا الأساس يجب أن تتغير فكرة العقاب... فمعاقبة مرتكب الشر بحبسه: أي بحرمانه من حريته؛ فكرة خاطئة... فحرية الإنسان يجب أن تبقى له... وثمن الجريمة يجب أن يدفع – لا من حرية الإنسان -؛ بل من عمل إيجابي يوازن ويعادل العمل الذي ارتكبه... إن من يرتكب الشر: أي من يقوم بالعمل الإرادي الذي يؤدي إلى ضرر الغير.

يجب أن يدفع الثمن بعمل إرادي يؤدي إلى منفعة الغير... أما أن يؤدي المذنب الثمن بمجرد حرمانه من التدخين أو الطعام أو الاتصال بأهله وذويه، فهذا إجراء سلبي لا يعود على الغير بفائدة، ويعود على المذنب بشر العواقب، فهو يفقده آدميته، ويقلبه وحشاً بشرياً يتدرب في سجنه وقفصه على التنمر للمجتمع الذي وصمه بوصمة الإجرام.

وهذا ما يفسر لنا كيف نجحت السجون وتنجح في مختلف الأمم – مهما يبلغ رقيها – في تخريج طراز خطر ماهر مدرب من المجرمين المحترفين... ذلك أن فكرة العزل عن المجتمع، تحمل في نفسها خطرها على المجتمع... فالمجتمع الذي يدفع عن حظيرته شخصاً – ولو لمدة محدودة – يقلبه في الحال عدواً ناقماً... وإن في طرد مرتكبي الشر بعيداً عن المجتمع، وتجميعهم في مكان واحد، لمما يربطهم جميعاً برباط واحد، ويجعلهم يكونون فيما بينهم مجتمعاً آخر، تسوده تعاليم أخرى معادية لتعاليم المجتمع الذي طردهم... وهكذا تتم عملية الانشطار بين أهل المجتمع الواحد، وينقسم الناس إلى أخيار وأشرار؛ بحكم القانون والعرف، لا بحكم الواقع والحقيقة.

ذلك أن من بين أفراد المجتمع مذنبين ومرتكبي شر لم يقبض عليهم ولم يقعوا تحت طائلة القانون استمروا في حياتهم العادية بين أهلهم وذويهم، يتحركون في المجتمع بكامل حريتهم وحقوقهم، يصنعون الشر مرة والخير مرة، إلى أن تتغلب حالة على حالة، فيظهر خيرهم ونفعهم للناس؛ فيرضى عنهم المجتمع، او يظهر شرهم وضرهم للناس؛ فيطالبوا بتقديم الحساب... وهذا الحساب هو وحده الذي يجعل منهم المجرمين المحترفين ما دام يتخذ شكل الحبس الذي أشرنا إليه: أي القفص الذي تتدرب فيه الوحوش على صقل مخالب الإجرام... والرأي عندي هو إعادة النظر في طريقة الحساب والعقاب... فيما عدا عقوبة الإعدام للقتل العمد، فهي لا بد أن تبقى.. لا على أنها عقوبة؛ بل لأنها وضع طبيعي... فطبقاً لمذهب التعادل: لا شيء يعادل حياة الإنسان سوى حياة الإنسان... أما بقية الجرائم التي يعاقب عليها عادة بالحرمان من الحرية: أي بالحبس والسجن؛ فهي التي يجب أن تتغير وتوضع على أساس جديد... على أساس المعادلة – لا بين الحرية والشر -؛ بل المعادلة بين الخير والشر... أي أن من يرتكب فعلاً يضر الغير يجب أن يعادله بفعل ينفع الغير... وعلى هذا الوضع يجب أن تلغى السجون، ويقام بدلاً منها مصانع وأدوات إنتاج... فمن فعل شراً بالمجموع عليه أن ينتج خيراً يفيد المجموع، دون حاجة إلى أن يطرد من مجتمعه أو يقصى عن أهله وذويه، أو يحرم من حريته في ممارسة حياته العادية... كل ما يطلب منه هو أن يؤدي ثمن الشر الذي ارتكبه من إنتاجه... يجب أن ينتج لحساب المجتمع ما يعادل في الزمن والكم جسامة الشر الذي صدر منه... هذا الحساب الإيجابي المنتج أفيد وأنفع للمجتمع من السجن السلبي العقيم، وهو فضلاً عن ذلك مبق لكرامة المذنب... لأنه يبقيه بين مجتمعه وأهله: أي في البيئة الصالحة لتوبته وتحركه في اتجاه الخير...» (توفيق الحكيم، التعادلية.. مع الإسلام والتعادلية، مكتبة مصر، الفجالة – القاهرة، ص 70 وما بعدها).

ورغم أن الرأي سالف الذكر يتعلق بعقوبتي السجن والحبس، منظوراً إليهما باعتبارهما عقوبات تعزيرية، ولا ينصرف بالتالي إلى العقوبات الحدية، ومن ثم لا يوجد ثمة تعارض بينه وبين الشرع الإسلامي، فإن دار الإفتاء المصرية قد عبرت على لسان مفتي الديار الأسبق الشيخ حسن مأمون عن رفضها اقتراح الأديب الكبير توفيق الحكيم سالف الذكر. وقد حدث ذلك في الفتوى رقم (5340)، الصادرة بتاريخ الثالث عشر من شهر أكتوبر سنة 1955م، تحت عنوان «اقتراح تغيير نظام السجون إلى مصانع إنتاج». وقد جاءت هذه الفتوى رداً على سؤال أحد الأدباء الروائيين، حيث تساءل، قائلاً: إن الأستاذ توفيق الحكيم يطالب في كتابه «التعادلية» بإلغاء نظام السجون وتحويلها إلى مصانع وأدوات إنتاج؛ لأن عقاب مرتكب الشر بحبسه – أي بحرمانه من حريته – لا يتعادل مع الذنب الذي ارتكبه وأدى به إلى ضرر الغير، فثمن الجريمة أن يؤدي المذنب عملاً موازياً للشر الذي ارتكبه بفعل الخير الذي يؤدي إلى نفع الغير، أما السجون فلا نفع لها إلا في تخريج طراز خطر ماهر مدرب من المجرمين المحترفين، وذلك عدا ما تؤديه السجون من انشطار في المجتمع بين أشرار وأخيار، فتخلق طبقتين بين الناس تحقد إحداهما على الأخرى، بينما الشر والخير ليس أصيلًا في الإنسان، وإنما يتعاقب عليه تعاقب الصحة والمرض، وطلب السائل إبداء الرأي فيما ذكر، وهل يجوز إلغاء السجون وتحويلها إلى مصانع وأدوات إنتاج كما رأى الكاتب أو لا؟

وفي الجواب عن هذا السؤال، أكد مفتي الديار المصرية الراحل أن العقوبات في الشريعة الإسلامية نوعان: أحدهما مضبوط مقدر، وآخر غير مقدر.

والأول قسمان: أحدهما الحدود بأنواعها؛ وهي عقوبة مقدرة وجبت حقاً لله تعالى، وثانيهما القصاص بأنواعه؛ وهو عقوبة مقدرة وجبت حقًا للعباد وفيها حق الله. وهذا النوع بقسميه لا مجال للعقل ولا للاجتهاد فيهما، ولا يجوز للمحاكم تغيير أية عقوبة منه بأخرى، ولا تركها أو العفو عنها، وإنما يجوز فقط درؤها بالشبهة بالنسبة للحدود، وقبول العفو عنها من ولي المجني عليه بالنسبة للقصاص عدلاً ورحمة منه سبحانه وتعالى؛ وذلك لأن الله جلت قدرته وحكمته الذي خلق الخلق عالم بطبائعهم وغرائزهم وأهوائهم ودائهم وأدوائهم، وهو أرحم الراحمين بهم وأرأف بعباده من خلقه قدَّر هذه العقوبات فأحكم وجوهها، وفاوت بين درجاتها على أحسن مثال وأحكم إتقان، فرتب كل عقوبة على ما يناسبها من الجناية جنساً ووصفاً وقدراً؛ لعلمه بأن هذا أحسن علاج وأنسبه، فلم يشأ سبحانه أن يجعل لأحد من عباده مهما كان سلطانه وعقله وإدراكه وعلمه أن يغير شيئاً مما رآه علاجاً ناجعاً وبلسماً شافياً؛ لحكمة يعلمها ومصلحة للعباد يريدها.

النوع الثاني غير المقدر: وهو ما يسمى تعزيراً، ويكون في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة، ولم تأت الشريعة فيه بنوع معين ولا قدر محدود، وإنما تركت أمره إلى رأي الحاكم حسبما يرى المصلحة، والصحيح أنه يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، ويجوز أن يقدر فيه الحاكم عقوبة الحبس.

وجميع العقوبات في الشريعة الإسلامية دائرة على ستة أصول: قتل – ومنه الرجم -، وقطع، وجلد، وتعزير، ونفي، وتغريم مال، ومن هذا يتبين أن السجن والحبس ليسا من العقوبات المقدرة في الشريعة الإسلامية.

واستطرد مفتي الديار المصرية الراحل، قائلاً: «إذا نظرنا على ضوء ما تقدم إلى اقتراح السيد الكاتب، فإننا نرى أن العقوبات التي هو بصددها عقوبات وضعية منصوص عليها في قانون العقوبات لزجر المجرم وتقويمه، ولمنع غيره من ارتكاب الجرائم المنصوص عليها في هذا القانون، وما دام الحاكم هو الذي وضع هذه العقوبات فإنه يجوز له تغييرها إذا ظهر له أن المصلحة تقضي بذلك، وذلك فيما عدا عقوبة القصاص التي نص عليها القانون وأوجبتها الشريعة؛ فإنه لا يجوز تغييرها ولا يتعرض الكتاب لها.

هذا كله من الناحية التشريعية، أما من ناحية المنطق والعقل والعرف والعادة والتجربة: فإن اقتراح تغيير العقوبات على الوجه الوارد بالكتاب – مع احترامنا لرأي الكاتب وتقديرنا للروح الطيبة التي أملته عليه – لا نوافقه عليه؛ لأن هذا الاقتراح وإن سبقتنا إليه بعض الدول الأجنبية فيما نعلم، إلا أننا لا نعلم مقدار نجاحه، ولم يجرب بعد التجربة الكافية للأخذ به. وعلى فرض نجاحه فيها، فإن ذلك لا يبرر نجاحه عندنا؛ لاختلاف البيئة واختلاف درجة الثقافة، ونحن نتفق مع الكاتب في أنه يجب أن ترفع العقوبة من مستوى المجرم الأخلاقي، وأن يخرج بعد تنفيذ العقوبة عليه وقد تحولت نفسه إلى ناحية الخير، كما أننا نوافقه على أن نظام السجون لا يحقق هذه الغاية في كثير من الحالات، ولكننا لا نوافقه على النظام الذي اقترحه؛ لأنه يؤدي إلى تشجيع المجرمين على زيادة جرائمهم واستهانتهم بالعقوبة التي يعاقبون بها ما دامت لا تحد من حريتهم ولا تمنعهم من الحياة مع أزواجهم وأولادهم، كما أنها تؤدي إلى تشجيع من وقع عليه الضرر ليثأر لنفسه من غريمه ما دام لا يجد في العقوبة شفاء لغلته واقتصاصاً ممن اعتدى عليه.

ومن ثم، وتحقيقاً للغرض الذي يرمي إليه الكاتب، يرى مفتي الديار المصرية الأسبق أن «تحول السجون إلى مصانع تنتج للأمة ما تحتاجها، فيعوض المسجون على المجتمع الأضرار المادية التي ألحقها به من طريق الصناعة والإنتاج، وأن يبقى المسجون في سجنه محروماً من حريته، وأن يعامل المسجون المعاملة التي تتناسب مع حالته ودرجة إجرامه والتي توجهه الوجهة الصالحة، ونرى أيضاً تحويل بعضها إلى معاهد ومدارس ومستشفيات لتثقيف وتوجيه من يحتاج إلى التثقيف والتوجيه ومعالجة من يحتاج إلى العلاج الجسماني أو النفسي أو الروحي وغير ذلك مما هو معلوم. وهذا هو الذي يتفق مع المنطق السليم ومع ما جبلت عليه النفوس البشرية من شر وحقد وحسد وضغائن وحب الانتقام وسلطان القوي على الضعيف».

وجدير بالذكر في هذا الصدد أن حسن مأمون (1894م- 1973م) قد التحق في بداية حياته بالأزهر الشريف. وبعد أن أنهى دراسته في الأزهر الشريف، اتجه إلى مدرسة القضاء الشرعي، وتخرج فيها عام 1918م. وجمع بين الثقافة العربية والثقافة الفرنسية. وبعد تخرجه من مدرسة القضاء الشرعي، عُين موظفاً قضائياً بمحكمة الزقازيق الشرعية في 4 أكتوبر سنة 1919م. وفي أول يوليو سنة 1920م، نقل إلى محكمة القاهرة الشرعية، وظل يترقى في القضاء الشرعي حتى صدر مرسوم ملكي بتعيينه قاضياً لقضاة السودان في الثالث من شهر يناير سنة 1941م. وفي السادس عشر من شهر فبراير سنة 1955م، اقترح وزير العدل على مجلس الوزراء إسناد منصب المفتي إلى فضيلة الشيخ «حسن مأمون»، للانتفاع بعلمه الغزير وكفاءته الممتازة، فوافق مجلس الوزراء على تعيين فضيلته مفتياً للديار المصرية اعتباراً من أول مارس سنة 1955 حتى سنة 1964 م، وقد تولى فضيلته مشيخة الأزهر بالقرار الجمهوري رقم 2444 لسنة 1964م، وظل في هذا المنصب حتى وفاته في التاسع عشر من شهر مايو عام 1973م. وهكذا، فقد توافرت لديه الخبرة القضائية، بما جعله يدلي برأيه في مسألة التنفيذ العقابي.

ومع ذلك، نرى أن الاتجاه الحديث في النظم العقابية يتجه إلى تغليب هدف الإصلاح والتأهيل على ما عداه من أهداف العقوبة. كذلك، فإن العديد من علماء العقاب يدعون إلى الحد من العقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة، والاستعاضة عنها ببعض البدائل والتدابير العقابية الأخرى، ومنها عقوبة العمل للمصلحة العامة أو التشغيل المجتمعي للمحكوم عليهم. ولعل ذلك يؤكد على النظرة الثاقبة للأديب الكبير توفيق الحكيم وصواب وجهة نظره في هذا الشأن، وإن كان الأمر لا يصل إلى حد الإلغاء الكامل للعقوبة السالبة للحرية. وقد تبنى المشرع الدستوري المصري هذا الاتجاه، حيث تنص المادة السادسة والخمسون من الدستور الحالي على أن «السجن دار إصلاح وتأهيل. تخضع السجون وأماكن الاحتجاز للإشراف القضائي، ويحظر فيها كل ما ينافي كرامة الإنسان، أو يعرض صحته للخطر. وينظم القانون أحكام إصلاح وتأهيل المحكوم عليهم، وتيسير سبل الحياة الكريمة لهم بعد الإفراج عنهم». واتساقاً مع ذلك، وأخذاً بالتوجهات الحديثة في شأن السياسة العقابية، صدر القانون رقم 14 لسنة 2022 بتعديل بعض أحكام القانون رقم 396 لسنة 1956 في شأن تنظيم السجون. وبموجب هذا التعديل، قام المشرع بتعديل مسمى القانون ذاته، بحيث أصبح «في شأن تنظيم مراكز الإصلاح والتأهيل المجتمعي»، بدلاً من مسمى «في شأن تنظيم السجون». كذلك، استخدم المشرع عبارة «مركز إصلاح وتأهيل» بدلاً من لفظ «السجن»، وعبارة «مدير مركز الإصلاح والتأهيل» بدلاً من عبارة «مأمور السجن»، ولفظ «نزيل» بدلاً من «سجين» أو «مسجون». وعلى الصعيد العربي، كان المشرع الأردني سباقاً، حيث أصدر قانون مراكز الإصلاح والتأهيل لسنة 2004م. وكان المشرع الفلسطيني قد أصدر القانون رقم (6) لسنة 1998 بشأن مراكز الإصلاح والتأهيل «السجون».

وعلى هذا النحو، يبدو سائغاً القول إن الأديب والكاتب الكبير توفيق الحكيم كان رائداً للإصلاح القانوني والتشريعي، وذلك من خلال آرائه وأفكاره عن نظام السجون، والتي وجدت طريقها إلى حيز التطبيق مؤخراً، ولو كان ذلك بشكل جزئي. والله من وراء القصد.



الجمعة 10 نونبر 2023

تعليق جديد
Twitter