MarocDroit  -  موقع العلوم القانونية
plateforme des décideurs juridiques - Platform of Legal Decision-Makers





مذكرة نادي القضاة: مطلب استقلال السلطة القضائية في مواجهة تحديات الواقع السياسي

     


بقلم: فتح الله الحمداني

ملحق قضائي



مذكرة نادي القضاة: مطلب استقلال السلطة القضائية في مواجهة تحديات الواقع السياسي

يمثل الحراك القضائي الذي يعرفه المغرب منعطفا هاما في مسار النضال من أجل إرساء فكرة دولة الحقوق والحريات وتمتين البناء المؤسسي لدولة الحق والقانون، استنادا لما أقره الدستور الجديد من تأسيس متقدم لحق القضاة في التعبير والانتماء الجمعوي الحر. وفي هذا الصدد تأتي مذكرة نادي القضاة حول مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية متشبعة بهذه الروح الحقوقية المستمدة مما تقره المواثيق الدولية ذات الصلة، ومبنية على ما يؤسس له الدستور الجديد من مقتضيات ينبغي أن تظل مفتوحة على أقصى ما يقتضيه التأويل الديمقراطي لمضامينها.
 

وإذا كانت هذه المذكرة تعبر عن ترسخ الاقتناع العميق داخل الجسم القضائي بأولوية إقرار استقلال السلطة القضائية بأقصى ما يتيحه التأويل الديمقراطي للدستور، فإن السؤال يبقى مطروحا حول توفر هذا الاقتناع بنفس الدرجة لدى السلطة السياسية الماسكة بزمام التحكم، والتي ظل يؤخذ عليها، على مر العقود، أنها لا تعتبر القضاء إلا جهازا تابعا قابلا للتوظيف والتوجيه خِدمَةً لأهدافها. إن هذا الربط بما هو سياسي، يجد مبرره في أن استقلال السلطة القضائية إنما هو مطلب حقوقي يرتبط تحققه بشكل مباشر بدرجة التطور الديمقراطي للدولة وأساليب الحكم والحكامة، فهو لهذا السبب غير قابل للوجود إلا في ظل واقع سياسي واقتصادي وثقافي واجتماعي ومؤسساتي تتمثل فيه تجليات الاقتناع المتكامل بضرورة وجود سلطة قضائية لها وجودها الذاتي الذي يتيح لها تحقيق نفاذ القانون في مواجهة الكافة، دون أن تكون لأي جهة ما تستطيع به التدخل المباشر أو غير المباشر من أجل عرقلة هذا النفاذ. فهل الواقع المغربي – بمستوياته المذكورة قبله - قادر على استيعاب سلطة قضائية حقيقية بهذا الاستقلال الذي يتعارض حتما مع يحتويه هذا الواقع من نزعة للتحكم والتسلط ونزوع نحو التساهل مع الفساد؟
 

إن تأطير هذا النقاش خارج المجال الضيق للتحليل التقني النصي المنفصل عن السياق الذي أفرز مذكرة بهذه الروح، يجد دافعه في كون ما تضمنته هذه المذكرة ذاتها، إنما جاء مُعَبَّـآ بهاجس التأسيس المتين للآليات التي تغلق كل مدخل للتحكم في السلطة القضائية أو التأثير عليها، عبر إخضاع طرق إسناد المسؤوليات لإرادة واختيار القضاة أنفسهم، بما يجعل القضاء متفلتا من كل ضغط مؤثر في القيام بدوره في تطبيق القانون، وغير مؤطر بأي هاجس خارج ما يفرضه التدبير التقني المُسْنَـد لمؤسسات السلطة القضائية ذاتها، إذ أن توسيع نطاق آلية الانتخاب لتشمل اختيار كل أعضاء المجلس الأعلى للسلطة القضائية الحاملين للصفة القضائية ، كما أتت به مذكرة النادي، بما في ذلك الرئيس الأول لمحكمة النقض والوكيل العام للملك بها، مع تحديد مهامهم في أربع سنوات فقط غير قابلة للتمديد، من شأنه أن يجعل مسؤولي المجلس غير موجهين  في مهامهم إلا بواجب خدمة استقلال السلطة القضائية والقضاة في إطار احترام القانون، مسلحين بالاطمئنان المستمد من شرعية صناديق الانتخاب الذي يعزز حصانتهم في مواجهة محاولات التأثير والتحكم التي غالبا ما يكون لها وقعها على من كان كل أساس تواجده في موقعه هو التعيين، استحضارا لما يتحكم في هذا التعيين من اعتبارات قد تكون مرتبطة بتزكيات السياسيين التي تكون خارجة في مراميها عن توفير الإطار الذي يضمن خدمة مؤسسات السلطة القضائية لاستقلالها، ثم إن اعتماد أسلوب التعيين، المبني على تزكيات، لا أعتقد أن تقدير المعايير التي تتحكم فيه سيتم خارج إطار الواقع السياسي الذي يؤسس لكثير من تشعباته على هامش النص استنادا لما أفرزته الممارسة من "عوائد" متصلة بالنسق السياسي الذي كان يجعل القاضي مجرد "موظف مطيع" ليس محصنا من توجيهات أصحاب النفوذ و"الموظفين أو المسؤولين الكبار" الذين قد لا  تكون لهم علاقة لهم بالقضاء.
 

ولهذا ظل هذا الأخير على مر العقود جهازا تابعا في الأغلب وظلت فكرة التحكم هي السائدة، لدرجةٍ عَـمَّ معها الاعتقاد بعدم وجود الفصل بين السلطة السياسية والقضاء، وشاع في خطاب الرأي العام تحميل النقد للسلطة التنفيذية عن عدم استقلال القضاء وما يصدره من أحكام كان أحيانا يؤخذ عليها، عن خطأ أو عن صواب،  مجافاتها للعدالة ومخالفتها للقانون وانضباطها "للتوجيهات". وهذه النظرة المعبرة عن واقع مختل، إنما تعكس الاعتقاد السائد بكون القضاء جزءً من السلطة السياسية وتابعا لها ومنفِّذا لآوامرها وحاميا لمصالح اللوبيات المرتبطة بها. لهذا فإن مذكرة النادي جاءت من أجل وضع حد لهذا الواقع الذي يجعل القضاء حائطا قصيرا يسهل القفز عليه، وتغيير هذه النظرة التي تجرد القضاء من سلطته، في اتجاه تحقيق انتقاله من وضعية الخضوع إلى الموقع الذي يجعل الكل خاضعا لسلطته في تطبيق القانون، بما يعزز تموقع القضاء داخل إطار الدولة باعتباره أحد دعائم قيامها واستمرارها وخادما لاستقرارها.
 

وهكذا يكون مطلب الاستقلال كما طُـرِح بهذه الوثيقة مستبعد التنزيل وغير مقبول لدى أنصار التحكم، لأن السلطة السياسية غير مستعدة لدفع تكلفة هذا التطور وغير مطمئنة "للمغامرة" بجعل القضاء خارج إطار الضبط السياسي بعدم خضوعه لقواعد اللعب التي تضمن استمرار الأوضاع على ما هي عليه. أقول هذا الكلام في استحضار تام لما يُلَامَسُ من إرادة سياسية مُعُـبَّـر عنها في اتجاه إصلاح منظومة العدالة، والتطورات الحاصلة بشأن تنفيس بعضا من سالف الضغط عن القضاة الذين كانوا يقظين في الإسراع بتنزيل المقتضيات الدستورية المؤسسة لحقهم في التعبير والانتماء الجمعوي. لكن هذه الإشارات الإيجابية - التي تتسم أحيانا بطابع تجزيئي وأحيانا أخرى ببعد فضفاض- لا ينبغي أن تعدم الحق في العمل من أجل السير بهذه الإصلاحات إلى مستويات أرقى يتوطد من خلالها البناء المؤسساتي الذي يحصن من التراجعات ويزيح عن الهوامش المفتوحة طابع الموسمية والتأقيت.
 

إن اعتماد هذه المعادلة كأساس للحكم والتقييم، والتي تجعل تحقيق استقلال السلطة القضائية مرتبطا بمتغيرات خارج جسم القضاء، يجعل مذكرة النادي - بما حملته من مقترحاتٍ جريئةٍ - متقدمةً ومرتفعةً عن واقع المعطيات السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية الراهنة، لذلك فإن عدم التنزيل المتوقع لما يطالب به النادي على مستوى القوانين التنظيمية المتعلقة بالسلطة القضائية، لا ينبغي أن يكون مُحْبِطا أو دافعا للتسليم بواقع الأمور، لأن مذكرةَ بهذا العمق لا يمكن مَوْقَعَتُها إلا كأفق مطلبي نضالي لا يمكن تحقيقه إلا عبر مسارِ تطورٍ ديمقراطي طويلٍ مُـوَاكَـبٍ بنَـفَـسٍ مطلبي قضائي متجددٍ يجب أن يكون موازيا لما يعتمل داخل المجتمع من تغيرات غالبا ما تنعكس على مستوى النصوص القانونية، بما يساعد على تطوير أساليب العمل، في ضوء هذه النصوص ذاتها، من أجل انتزاع الاستقلال الفعلي للسلطة القضائية.

 



الثلاثاء 23 يوليوز 2013

تعليق جديد
Twitter