MarocDroit  -  موقع العلوم القانونية



قراءة قانونية في قضية الإستيلاء على الأراضي الفلسطينية: هل باع الفلسطينيون اراضيهم؟

     

ذ إبراهيم عودة
باحث فلسطيني في مرحلة الدكتوراة /جامعة محمد الخامس/ الرباط/ تخصص القانون الخاص



قراءة قانونية في قضية الإستيلاء على الأراضي الفلسطينية: هل باع الفلسطينيون اراضيهم؟

ظهرت الحركة الصهيونية في القرن التاسع عشر كحركة ترفض حل "المشكلة اليهودية" بإدماج اليهود في المجتمعات التي تعيش فيها في أوروبا ، وترى أن حل هذه المشكلة يكمن في إقامة دولة يهودية ،وذلك عن طريق إعطاء اليهود الصفة القومية والنظر لهم كشعب له تاريخ مشترك، ولغة موحدة، وسيادة
قومية يمارسها على إقليم معين هو فلسطين.

وكان المنطق الذي ينطلقون منه لتبرير القول السابق ، منطق إستعماري ينطلق من القياس على سلوك الدول الإستعمارية،فوفقا لما يرى هؤلاء(الصهيونيون) فإنه وكما إستطاعت أوروبا أن تتوغل في الأراضي الإفريقية واللآسيوية وتضم جزء هائلا من هذه الأراضي إلى ممتلكاتها الإمبراطورية،فإنه يحق "للأمة اليهودية"أن تفعل نفس الأمر وأن توفر القدرة على أن تفعله .

ورغم التمويل المالي الكبير الذي لقته الفكرة من بعض اليهود، إلا أنها لم تحقق نجاحات كبيرة، نظرا إلى أن الكثير من اليهود الأوربيون في تلك الفترة لم يكونوا يؤيدون مثل هذا الحل، ويرون في فرصة الهجرة الى امريكا والارجنتين حلا يحقق هدفهم الرامي إلى التخلص من حالة الإضطهاد التي كانوا
يعانون منها في بلدانهم الأصلية أكثر من حل إقامة دولة يهودية في فلسطين والإنعزال العنصري.

مؤتمر بال الصهيوني:

في عام 1897، ونظرا للاخفاقات والفشل الذي واجه فكرة إقامة الدولة الصهيونية منذ العام 1882-1897،عقد الصهيونيون مؤتمرهم الأول في بال بسويسرا سنة 1897، بزعامة الصهيوني ثيودور هرتزل والذي قال في كلمته الإفتتاحية: " لقد اجتمعنا اليوم لوضع الحجر التأسيسي لدولتنا اليهودية".

وفي هذا المؤتمر تم وضع برنامج لإقامة وطن قومي لليهود يستعاض به عن المحاولات الأولى الفاشلة التي قامت على المغامرة الخيرية-الاستعمارية ببرنامج يقوم على أسس واضحة ومدروسة تؤدي في النهاية إلى إقامة الوطن المنشود ، وكانت الخطوات التي يجب اتخادها لتحقيق هذه الغاية هي:

1- تأسيس المستعمرات في فلسطين بمساعدة العمال الصناعيين والزراعيين اليهود

2- توحيد اليهود والتقريب بينهم بإنشاء مؤسسات محلية وعالمية فيها حسب قوانين كل بلد

3- تقوية الشعور والوعي القومي اليهودي وتنميته

4- اتخاد إجراءات تمهيدية للحصول على رضى الحكومات على أهداف الصهيونية

وهكذا، يمكننا القول بأن برنامج الصهيونية قام على الأسس التالية: التنظيم، الإستعمار، الإعتراف.

فعلى مستوى التنظيم، شكلت الجمعية الصهيونية لتكون الحكومة الصهيونية في الوطن المرتقب وأسست لجنة إستعجالية لمعالجة الأمور التي تطرأ في حالات اللاإنعقاد للجنة.

أما على مستوى الإستعمار فقد أسست أدواته، فكان الصندوق القومي اليهودي عام 1897 الذي أنشئ كشركة إنجليزية ثم غير إسمه إلى " كيرن كايمت" عام 1922،وعندما أسس الصندوق الفلسطيني التأسيسي،)أنشأه المؤتمر الصهيوني المنعقد في لندن عام 1920 لكي يكون الإدارة الرئيسية في إستيعاب المهاجرين اليهود وإستعمارهم لفلسطين حسب خطة منظمة تهدف إلى زيادة أعداهم والمشاركة في تقديم الخدمات لهم في مجالات الصحة والتعليم ، وسجل بإسم الكيرن هايسود كشركة إنجليزية وظل مركزه في لندن. وبعد أن كان تابعا للمنظمة الصهيوينة العالمية إنتقل إلى الوكالة اليهودية عام 1929 ليكون أداتها المالية لبناء " الوطن القومي اليهودي" وإنتقل مقره إلى القدس، وكان الغرض من هذا الصندوق توفير وسائل الهجرة اليهودية إلى فلسطين والإستيطان فيها بواسطة توفير الرعاية لليهود وخلق الظروف الملائمة للعمل الصناعي والزراعي."، في لندن عام 1920 أعيد تحديد وظائف الصندوق القومي اليهودي ليكون الجهاز الذي بواسطته تحصل الصهيوينة على الأرض في فلسطين بحيث تكون ملكا دائما "للشعب اليهودي" ويقتصر العمل فيها على اليهود فقط، وقد مكن نشاط الصندوق القومي أعدادا كبيرة من المهاجرين اليهود من الإقامة في الأراضي الفلسطينية التي اشتراها في المدن والقرى تحت ظل الإنتداب البريطاني، وتمكن الصندوق منذ إنشائه حتى أواخر الإنتداب من شراء "758" ألف دونم قام بتوزيعها على الكيبوتزات "أي المستعمرات"، ولم يقتصر نشاطه الصندوق القومي على شراء الأراضي فقط وإنما تعداه إلى القيام بدور مهم في إستيعاب المهاجرين اليهود وتقديم الخدمات لهم. ومكتب فلسطين والبنك الزراعي اليهودي، ...،

أما على مستوى الإعتراف فقد تم التأكيد على ضرورة بدء المساعي الدبولوماسية للحصول على إعتراف ورضى دولي بالمشروع الصهيوني، فالصهيونيون كانوا يهدفون إلى تأسيس وطن قومي لهم في فلسطين يضمنه ويحميه القانون العام.

المساعي الصهيونية للإعتراف بمشروعهم الإستعماري:

كانت أولى مساعي الصهيونيون للحصول على تبني لمشروعهم لدى قيصر المانيا (ويلهم "غليوم")، فقدموا له مشروع بإقامة شركة مسجلة لإعمار الاراضي، يديرها الصهيونيون تحت الحماية الألمانية ،إلا أن القيصر رفض الأمر متذرعا بأن تتدخل المانيا بالأمور الداخلية للدولة العثمانية يثير حفيظة كل من فرنسا وبريطانيا وروسيا .

وكانت الخطوة التالية لهرتزل هي التقدم بهذا المشروع للسلطان عبد الحميد(1901_1902)، وبالرغم من الأموال التي عرضها هرتزل إلا أنه فشل في مساعيه.

وفي خطوة ثالثة توجهت أنظار هرتزل إلى بريطانيا فكتب قائلا: " منذ اللحظة الأولى التي دخلت فيها الحركة الصهيونية توجهت عيناي الى إنجلترة" وبالفعل وجد لدى السسياسيين البريطانيين من أصحاب الفكر الإستعماري أذان صاغية وعقول مفتوحة ومستعدة لتقبل الفكرة. وفكر هرتزل بقبرص وسيناء لإقامة مستوطنات يهودية مؤقته بها كخطوة أولى نحو الوصول إلى فلسطين في الوقت المناسب نظرا لعلاقتهما السياسية ببريطانيا.وبالفعل عرض أحد أعوان هرتزل مشروع إقامة مستوطنات تتمتع بالحكم الذاتي تحت الإشراف و الحماية البريطانية في سيناء، وقدم العرض لوزير المستعمرات البيريطاني" شمبرلن" آنذاك. وبالفعل، وبحساب المصالح، راق المشروع لبعض الإستعماريين البريطانيين، ذلك أنه يحقق مصالح بريطانيا في المنطقة ويضمن عزل مصر عن غرب آسيا وإضعاف السلطنة العثمانية ووضع شوكة في صلب الوطن العربي، كما ضمنت حماية الجانب الشرقي من قناة السويس وأدخلت بريطانيا دخولا في صميم الرقعة الآسيوية من الوطن العربي.

وفي زيارة له لإفريقيا الشرقية خطر ببال "شمبرلن وزير المستعمرات البريطانية" خلال تفقده بعض المستعمرات البريطانية هناك أن يسكن اليهود فيها، ومع أن المقيمين البريطانين رفضو الفكرة إلا أنه فاتح هرتز بها في يناير 1903 وعرض عليه"أوغندة" ،وبالرغم من أن هرتزل أيد قبول إقتراح "أوغندة" كإجراء مؤقتا ، إلا أن المؤتمر الصهيوني السادس لم يقترح أي إجراء قاطع بإستثناء إرسال لجنة للتحري إلى "أوغندة".

وبموت هرتزل سنة 1904 إنقسمت الحركة الصهيوينة إلى كتلتين ، تؤيد الأولى وجهة نظر هرتزل في كسسب التأييد الدولي وإيجاد حل سريع للقضية اليهودية سواء أكان ذلك في فلسطين أم في محل آخر وعرفت هذه الكتلة بإسم"السياسيين"، أما الكتلة الأخرى فقد كانت متأثرة بالبعث الثقافي لجمعيات " محبي صهيون"، وقد رفضوا النظر بأي إقتراح لتأسيس الوطن القومي اليهودي في أي محل غير فلسطين وقد اشير الى هؤلاء باسم" العمليون" ، وفي المؤتمر الصهيوني السابع عام 1905 اظهر " العمليون" انهم اكبر قوة ، وقد اتخذوا قرارا جاء فيه أن الصهيونية مهتمة بفلسطين فقط، فجاءت الخطة الجديدة التي دعاها وايزمان " الصهيونية التوفيقية" ،والتي تدعوا الى إستئناف التسلل البطيء وتنظيمه ورعايته حتى إذا قامت في فلسطين مستعمرات يهودية ناشطة مزدهرة وأصبحت نواة لمجتمع صهيوني جديد، إستطاعت الحركة أن تضغط على الحلفاء المعنيين بالأمر لإصدار البراءة المرموقة وأن يحصل من الأسرة الدولية على الضمانات اللازمة لإستعمار الصهيونيون لفلسطين .

وكما أن محاولات الصهيونية "السياسية" لم تثمر شيئا فكذلك حظ الصهيوينة "العملية" ، فحتى بداية الحرب العالمية الأولى لم تحقق برامج الصهيونية لإقامة المستعمرات، بعد أكثر من ثلاثين عاما من العمل، إلا نجاحا محدودا، فأولا: كان الصهاينة يشكلون أقلية ضئيلة جدا لم تتجاوز 1% من مجموع يهود العالم، وقد أثار نشاطهم خوف معارضة غيرهم من اليهود الذين كانوا يرون الحل للمشكلة اليهودية عن طريق " الاندماج" في أوروبا الغربية والولايات المتحدة الامريكية ، لا عن طريق" العزل الذاتي" في فلسطين.وثانيا: سارت برامج الإستعمار ببطء شديد ،فبعد نيف وثلاثين عاما من الهجرة إلى فلسطين، كان اليهود المواطنون الأصليون منهم والمهاجرين الجدد معا أقل من 8% من مجموع سكان فلسطين، وكانوا جميعا لا يملكون اكثر من 2.5% من أراضيها. وثالثا: فشلت الصهيونية في الحصول على الإعتراف السياسي سواء من العثمانيين المسيطرون على فلسطين أو من أية دولة أوروبية.

بريطانيا والصهيونية:

لعل من أهم الأسباب التي دعت بريطانيا لتبني الحلم الصهيوني بإقامة وطن قومي لهم في فلسطين والعمل على تحقيقه وحمايته ما يلي:

أ‌) الأهمية الإستراتيجية التي تمثلها فلسطين بالنسبة للمصالح البرطانية ،فهي مركز الإلتقاء لمعابر قارات العالم القديم الثلاث، ولأنها كذلك تشرف على مدخل قناة السويس كما أنها على رأس الطريق البري للخليج العربي والهند، وهي كذلك مركز إتصال مهم للمواصلات الجوية.

ب‌) كان من نتائج إتفاقية سايكس _ بيكو (نسبة الى المفاوضين الذين ابرماها وهما مارك سايكس البريطاني وجورج بيكو الفرنسي) ،التي تقطع أوصال البلاد العربية وتقسمها إلى مناطق نفوذ بريطانية وأخرى فرنسية كما يلي:

1) تمارس فرنسا نفوذها في داخلية سوريا وتمارس إنجلترا نفوذها في داخلية العراق، ولا تمانع الدولتان من الإعتراف بدولة عربية في هذه المنطقة مع إستمرار ممارستهما لنفوذهما.

2) تكون لفرنسا السلطة في جهة سوريا الساحلية وتكون لبريطانيا السلطة في جهة العراق الساحلية من بغداد إلى خليج فارس.

3) يتم إنشاء إدارة دولية في فلسطين بعد إستشارة روسيا والحلفاء والشريف حسن.

فهذه الإتفاقية سببت قلق لبريطانيا، ذلك أنه بموجبها إقتربت فرنسا إقترابا خطيرا من الحدود الشرقية لقناة السويس، مما جعل الشعور يسود لدى البريطانيين الإستعماريين بأنه على بريطانيا أن تحافظ ليس فقط على قناة السويس بل وعلى فلسطين كذلك ، ولذلك أرادت بريطانيا التحلل من" سايكس _ بيكو" وخاصة الشق المتعلق بتدويل فلسطين، وهذا ما يحققه لهم تبنيهم للمشروع الصهيوني،فمن جهة تستطيع بريطانيا عن طريق إستخدام النفوذ الصهيوني في أمريكا وفرنسا لن تلغي تدويل فلسطين بإعتبار أن تنفيذ برامج الإستعمار الصهيوني تحت الرعاية البريطانية يقتضي وجود حكم بريطاني في فلسطين ، و من جهة أخرى فإن مجتمع المستوطنين الصهيونيون سوف يظل أبدا معتمدا على الحماية البريطانية وسوف يظل محتاج دائما إلى الوجود البريطاني في فلسطين ويبرره، وفي المقابل ، ومن وجهة النظر الصهيونية، فإن أهداف هذه الأخيرة بإقامة وطن قومي لليهود معترف به دوليا، تتحق بهذه الشراكة البريطانية_ الصهيونية.

ج) كما كان من وراء الإهتمام البريطاني باليهود أن فرنسا الكاثوليكية كان لها في الشرق أتباع بينما لم يكن لبريطانيا البروتستانتية أحدا من الأنصار ،فكان الإنجليز يهدفون من بين ما يهدفون إليه من وراء تشجيع اليهود إلى جعلهم ينظرون إلى بريطانيا من أجل الحماية كما ينظر الكاثوليك إلى فرنسا والأرثوذوكس إلى الروس.

اذا هناك توافق مصالح بريطانية صهيونية بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين ، وهذه المصالح المتبادلة هي التي حكمت العلاقة بين الجانبين.

وعد بلفور ومدى قانونيته:

ليس هناك مجال لسرد تطور المحادثات البريطانية _الصهيونية التي أسفرت في النهاية عن إصدار وعد بلفور ذلك أن الإهتمام هنا موجه إلى بيان الدوافع الرئيسية التي حدت بالإنجليز إلى إصدار هذا الوعد .ونكتفي هنا بالإشارة إلى إنه وفي مرحلة متقدمة من المحادثات البريطانية الصهيونية، طلب البريطانيون من الصهيونيون أن يقوموا هم بأنفسهم بوضع مسودة التصريح، وكانت الصياغة النهائية لهذا التصريح عبارة عن رسالة بعث بها السير بلفور وزير خارجية بريطانيا آنذاك إلى كبير يهود بريطانيا البارون روتشليد والتي كان نصها كما يلي:

" يسرني جدا أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة جلالته التصريح التالي الذي ينطوي على العطف على أماني اليهود الصهيونيون وقد عرض على الوزارة وأقرته:
إن حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية ، على أن يفهم جليا ان لن يؤتى بعمل من شأنه أن يضير الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى.
أكون ممتنا لكم لو أبلغتم هذا التصريح الى الإتحاد الفيدرالي الصهيوني. "

لقد صدر هذا التصريح السياسي في اليوم الذي بدأ فيه الجنرال اللنبي البريطاني هجومه لإحتلال فلسطين، أي في الثاني من نوفمبر 1917 ، ووافق عليه الرئيس الأمريكي ويلسون آنذاك قبل نشره ، وصادقت عليه بصورة علنية ورسمية كل من الحكومتين الفرنسية والإيطالية في فبراير 1918.

وفي المقابل ، وكما يقول لويد جورج رئيس الوزراء البريطاني انذاك : " إن الزعماء الصهيونيون قطعوا لنا وعدا أكيدا مآله أنه إذا أخذ الحلفاء على عاتقهم تسهيل إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين فإنهم سيعملون كل ما في وسعهم لإيقاظ عاطفة اليهود في كافة أنحاءالعالم وتأليبهم لمعاضدة قضية الحلفاء، وقد بروا بوعدهم هذا."

أما الرئيس الأمريكي ويلسون فقد عبر عن عطف الدول الحليفة على القضية اليهودية وقال : " لدي إقتناع بأن الدول الحليفة متفقة ، بالتفاهم مع حكومتنا وشعبنا على وضع الأسس لكومنولوث يهودي في فلسطين".

وفي تفسير لتصريح بلفور جاء الكتاب الأبيض الذي أصدرته الحكومة البريطانية في عام 1922 أن : " حكومة صاحب الجلالة تثبت من جديد تصريحها الصادر في سنة 1917 الذي لا يقبل التغيير، ضمان إنشاء الوطن القومي اليهودي في فلسطين كحق وليس كمنه.".

ومن كل ما سبق يبرز لنا التساؤل التالي الذي يحتاج الى إجابة وهو: هل يصح إعتبار تصريح بلفور وثيقة قانوية تعطي الصهيونية حقا في فلسطين؟

من البديهي القول بأن التصريح الذي تولت بريطانيا تنفيذه بعد إحتلالها لفلسطين إنما هو مقدمة للغزو الصهيوني الذي إنتهى بإنشاء "دولة اسرائيل" ، وأن الغزو الصهيوني لفلسطين كان وليد السياسة الإستعمارية البريطانية المندمجة مع السياسة الصهيونية بهذا الخصوص، وأنها "أي بريطانيا" تصرفت في مستقبل فلسطين بدون سند قانوني وذلك للاسباب التالية:

1) كان التصريح يتعلق بأرض ليس لبريطانيا أي صلة قانونية بها كما أنه يعطي الأرض لمن ليس له أية صفة لإستلامها ، فعصبة الأمم أسندت إنتداب فلسطين إلى بريطانيا في 20 حزيران يونيو 1922 "هذا بإفتراض لا محل له أن الإنتداب نفسه قانوني " ،أي بعد صدور التصريح الذي صدر في 2 نوفمبر 1917 ، كما أن القوات البريطانية إحتلت فلسطين فعليا بعد إصدار هذا التصريح ، فقد إحتلت غزة في 7 نوفمبر 1917، ويافا في 6 نوفمبر،والقدس في 9 ديسمبر من نفس السنة ،وهذا يعني أن بريطانيا لم يكن لها أية صلة بفلسطين لحظة إصدار التصريح.

2) لا يمكن إعتبار التصريح إلا تصريحا سياسيا وليس قانونيا، لأنه صادر وموجه من حكومة إلى فرد ليس له أي إختصاص لتلقي مثل هذا الوعد أو التصريح وفقا للقانون الدولي، فالبارون روتشليد ،مهما تكن المراكز التي شغلها في المنظمات الصهيونية، فإنه لا يعدو أن يكون ممثلا لمنظمات خاصة ليس لها صفة او إختصاص أو صلاحية في إنشاء الإلتزمات والإرتباطات الدولية ، ومن ثم لا يدخل وعد بلفور في عداد العلاقات أو الإتلزامات التي ينظمها القانون الدولي.

3) أما القانون الدولي للحرب أو إتفاقية لاهاي لسنة 1907 فلا تسمح لبريطانيا بصفتها دولة احتلال أن تتصرف بالاراضي المحتلة، وبالتالي لم يكن مجرد إحتلال الجيش البريطاني لفلسطين كافيا لإحلال السيادة البريطانية محل السيادة العثمانية التي كانت تحكم فلسطين آنذاك.

4) إن تحليل وعد بلفور من الناحية القانونية يبين تعارض وتناقض كبيرين بين التعهدات التي إنطوى عليها ، فهو من جهة يعد اليهود بعين العطف على إنشاء وطن قومي لهم في فلسطين، وهو من ناحية أخرى لا يعتبر إنشاء هذا الوطن ضارا بالحقوق المدنية والدينية "للطوائف" الأخرى من سكان " الوطن القومي"، وفي المقابل لم يغفل إشتراط ألا يؤدي إنشاء الوطن القومي إلى الإضرار بالحقوق السياسية لليهود في البلاد الأخرى. وهذه الإلتزامات يتناقض بعضها بعضا ، فتأسيس وطن قومي لليهود بفلسطين وفتح أبوابها للهجرة اليهودية وتسهيل إنتقال الأراضي لليهود ، كل هذا أليس من شأنه ان يلحق الضرر باهل البلاد الأصليين. كما أن إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين أليس من شأنه أن يجعل اليهود في البلاد الأخرى غرباء عن قومية أخرى في نظر اهل هذه البلاد.

لعل أخطر ما انطوى عليه التصريح أن واضعيه عملوا على إخفاء حقيقة مهمة وهي أن العرب هم السكان الأصليين في فلسطين واعتبر اليهود الذين كانت نسبتهم في ذلك الوقت لاتزيد عن 9 في المائة من مجموع السكان، هم الأصل وتجاهلوا وجود شعب عربي يمثل" 91 " في المائة من السكان ، بل تجنبوا ذكر كلمة عرب في التصريح كما لوكانوا هم الأقلية واليهود هم الأكثرية ، فأشار إليهم التصريح بقوله :" الجماعات غير اليهودية والمقيمة في فلسطين..." كما لو كانوا جيوب منعزلة من الرهبان وأن اليهود هم الأكثرية الأصلية في البلاد.

5) كما شكل التصريح خرقا وإخلالا بالإلتزامات والوعود التي إلتزم بها البريطانيون للعرب( رسائل الحسين – مكماهون) بإقامة حكومات عربية وضمان إستقلال الشعوب العربية ، بل يمكن القول بأن بريطانيا بهذا التصريح لليهود إستخفت أيما إستخفاف بالعرب ، وإن كانت أبقته سريا لبعض الوقت عن العرب حتى تضمن الإستفادة من مجهوداتهم إلى اقصى درجة ممكنة في حربها ضد العثمانيين و يضعونهم في النهاية تحت الامر الواقع.
وهكذا فإن تصريح بلفور لم يشكل المخطط البريطاني لإقامة حصن امام قناة السويس وكسب تأييد يهود العالم لقضية الحلفاء وحسب بل إن الوصف الحقيقي لهذا التصريح أو الوعد هو أنه نتيجة لإستفادة الصهيونية من إتفاق المصالح البريطانية والصهيونية فيكسب التأييد البرطاني لمشروعهم الإستعماري الإحلالي.

والمهم هو أن تصريح بلفور كان خطوة رسمية نحو تأسيس " الدولة اليهودية" بنيت عليه خطوات أخرى.

الإنتداب البريطاني على فلسطين:

الإنتداب هو نظام أقيم في أعقاب الحرب العالمية الأولى وجاء النص عليه في ميثاق عصبة الأمم الموقع عليه في فرساي بتاريخ 18 يونيه 1919 في المادة 22، وهي المادة الوحيدة في الميثاق التي تضمنت أحكام الإنتداب، بحيث إعتبرت شعوب المستعمرات والأقطار التي بسبب نتيجة الحرب العالمية الأولى فقدت تبعيتها لسيادة الدول التي كانت تحكمها والتي هي غير قادرة على القيام لوحدها تحت صعوبة العالم الجديد، فإن حسن حال هذه الشعوب وتطورها هو أمانة حضارية مقدسة.وفي فقرتها الثانية إعتبرت هذه المادة أن أفضل طريقة لتحقيق الأمانة السابقة هو أن يوكل تدريب وتعليم هذه الشعوب إلى الأمم المتقدمة وذلك بصفة منتدبين عن العصبة .وفي الفقرة الثالثة من المادة المتحدث عنها فقد جاءت لتصنف الشعوب إلى أصناف على أساسها تتحدد طبيعة الإنتداب الذي سيتم عليها، فصفة الإنتداب تختلف حسب درجة الشعب من التطور والرقي حسب هذه الفقرة.وجاءت الفقرة الرابعة لتحدد درجة تطور الشعوب وبالتالي تحدد طبيعة الإنتداب الذي سيحكمها كما يلي:

1) الشعوب التي كانت تابعة للإمبراطورية العثمانية ، وهذه الشعوب حسب عصبة الأمم قد وصلت من الرقي درجة يستطاع معها الإعتراف وقتيا بقيامها بصفة أمم مستقلة تبعا لإسداء المشورة والمساعدة الإداريتين من قبل منتدب ، وهذا ريثما تستطيع هي القيام لوحدها. ومشيئة هذه المجتمعات يجب أن يكون لها الإعتبار الرئيسي في إختيار المنتدب.

2) شعوبا أخرى ، ولا سيما شعوب إفريقيا الوسطى ، هي_ حسب عصبة الأمم_ في دور يستدعي أن يكون المنتدب عليها ملزما بمسؤلية إدارة القطر بشروط تضمن حرية الضمير والدين، إدارة تابعة فقط لصياغة النظام العام والآداب العامة ومنع التجاوزات من قبل تجارة العبيد وتجارة الأسلحة وتجارة الخمور ومنع إنشاء وتدريب العسكريين لغير المقاصد البوليسية ومقاصد الدفاع عن القطر وعلى المنتدب أيضا ان يضمن تساوي الفرص لتجارة سائر أعضاء الجامعة.

3) هنالك أقطار كإفريقيا الجنوبية الغربية والبعض من جزر الباسفيكي الجنوبي هي لقلة سكانها أو لصغر حجمها أو لبعدها عن مراكز الحضارة ، أو لمجاورتها الجغرافية للقطر المنتدب أو لظروف أخرى يستطاع إدارتها أفضل إدراة بمقتضى قوانين الإنتداب كاجزاء من قطره هو إدارة تكون تابعة للتحفظات المتقدم إيرادها أعلاه رعاية لمصالح السكان الوطنيين.

وقد وافقت دول الحلفاء على إنتداب بريطانيا على فلسطين واتخذ نظام الإنتداب كوسيلة لتنفيذ السياسة التي إنطوى عليها تصريح بلفور فأعلن عن مشروعه من قبل عصبة الأمم بتاريخ 6 يوليوز 1921 وصودق عليه في 24 يوليوز 1922 ووضع موضع التنفيذ في 29 سبتمبر 1923.

وأول ما يمكن قوله عن صك إنتداب بريطانيا على فلسطين هو أنه جاء مخيبا لآمال الشعب الفلسطيني، فقد قام على أساس وعد بلفور وتعهد بتأمين ما يحتاجه اليهود ماديا ومعنويا لبناء" وطنهم القومي"، وتضمن الصك إلتزامات بغاية الأهمية وهي إلتزامات إيجابية فيما يتعلق بإنشاء وطن قومي لليهود وأخرى سلبية فيما يتعلق بحماية حقوق العرب.

قام بتحضير صك الإنتداب خبراء من الصهاينة الإنجليز والأمريكان مستعينين بلجان صهيونية متعددة وقدم للحكومة البريطانية.

صك الإنتداب على فلسطين مجحف بالحقوق العربية:

كان صك الإنتداب البريطاني على فلسطين ليس كسائر الإنتدابات البريطانية التي تقررت في منطقة الشرق العربي، فقد جاء منفردا بجوانب خطيرة ومعيبة من وجهة النظر القانونية ويظهر ذلك فيما يلي:

1) جاء الصك مخالفا للمادة 22 من ميثاق عصبة الأمم التي تعد دستور الإنتداب ص60 و398
فصك الإنتداب على فلسطين جاء خروجا عن المادة 22 من ميثاق عصبة الأمم وتعارض مع أحكامها ويظهر ذلك فيما يلي:

أ‌) المخالفة في موضوع إختيار الدولة المنتدبة، فبريطانيا أخذت لنفسها الإنتداب على فلسطين دون إختيار الشعب الفلسطيني لها كما ينص الميثاق على ذلك، وذلك تحقيقا لمصالحها ولتنفيذ وعدها للصهاينة.

ب‌) تم تضمين تصريح بلفور والنص عليه في صك الإنتداب على فلسطين وبالتالي أصبح جزءا منه، وهو أمر يصب بإتجاه ما أراده الصهيونيون من إقامة وطن قومي لهم في فلسطين يضمنه القانون الدولي ويسعى إلى تحقيه ويحميه.

ت‌) عدم إقامة حكومة وطنية فلسطينية كما ينص على ذلك الميثاق.

ث‌) تضمن الصك إعترافا بالوكالة اليهودية، وهي مؤسسة تعمل على تمزيق الأرض الفلسطينية.

ج‌) من المبادئ الأساسية لنظام الإنتداب الذي جاءت به المادة 22 من ميثاق العصبة أن تحافظ الدولة المنتدبة على أراضي الدولة المنتدب عليها وهو الأمر الذي لايستقيم مع تنصيص صك الإنتداب على تصريح وعد بلفور .

دستورالإنتداب والتشريعات الحكومية المتتالية تبيحان التصرف بالأراضي الفلسطينية لليهود:

تحدثنا فيما سبق عن صك الإنتداب البريطاني على فلسطين وكيف تحاملت بريطانيا في صياغته ومضمونه ومرماه وجعلته صكا صهيونيا يستهدف إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين إلا أن هناك تشريعا بريطانيا آخر اكثر اجحافا من صك الإنتداب وتصريح بلفور وهو "دستور فلسطين" لسنة 1922 وتعديلاته المتلاحقة فإذا كانت دساتير الأمم قد عرفت على الدوام الدستور بأنه: قانون القوانين ، يحتوي على المبادئ الأساسية التي تتضمن تحديد السلطات والعلاقات بينها وتنظيم شؤون الحكم وتبيان الحقوق العامة والواجبات وفقا لعاداتها الموروثة ومحافظة على كيان الأمة وحفظ حقوق الشعب كاملة، وفرض سيادته على أراضي الوطن كافة ،فإن "دستور فلسطين" ما هو إلا لائحة مستمدة من صك الإنتداب ووسيلة لإقامة وطن قومي لليهود عن طريق تمهيد السير بواسطة التشريع والإدارة لإغراق البلاد بالهجرة اليهودية وإستملاك الأراضي من أصحابها، وقد فرض هذا الدستور السيادة القومية وجمع كل السلطات بيد المندوب السامي لممارسة هذه السيادة بحماية دستور لا يلتزم بالعدالة في معناها المتوارث.

فالدستور كان وسيلة لتحقيق وعد بلفور، وضعته الحكومة البريطانية بصفتها الدولة المنتدبة، وصاغته دون الرجوع الى شعب فلسطين واخذ رايه فيه،
وضمنته نص وعد بلفور والضمانات الاساسية لتحويل فلسطين الى وطن قومي لليهود.

منصب المندوب السامي( السلطة التنفيذية):

نص "الدستور" في مادته الرابعة على أنه: "يجوز لجلالته (أي ملك بريطانيا) أن يعين شخصا من ذوي اللباقة لإدارة حكومة فلسطين يلقب بالمندوب السامي والقائد العام...."

وجاءت المادة الخامسة لتحدد سلطات المندوب السامي الذي عليه:

1) تنفيذ المراسيم والتعليمات التي يصدرها إليه ملك بريطانيا

2) تنفيذ التعليمات التي تصدر إليه من وزراء الملك وفقا للتشريعات المعمول بها أو التي سيعمل بها في فلسطين.
مسؤولية المندوب السامي طبقا لصك الإنتداب أو "دستور فلسطين":

1) تسهيل هجرة اليهود إلى فلسطين و ضمان إستقرارهم في الأرض الزراعية
2) تسهيل حصول اليهود الذين يقيمون في فلسطين على الجنسية الفلسطينية
3) تسهيل إستثمار اليهود للمنافع العمومية والمساهمة في ترقية مرافق البلاد الطبيعية
4) جعل اللغة العبرية من بين اللغات الرسمية لفلسطين والإعتراف بأعياد اليهود.
وقد نفذ المندوب السامي جميع هذه النصوص وسن القوانين الخاصة بالهجرة والجنسية وإنتقال الأراضي وسخر كل هذه القوانين لخدمة الوجود الصهيوني بما يمكن اليهود من فلسطين ويمهد لإقامة وطن قومي لهم وأهدر بذلك حقوق الفلسطينيين مخالفا بذلك ما نص عليه صك الإنتداب من ضرورة عدم إلحاق الضرر بحقوق العرب.

سلطة المندوب السامي في هبة الاراضي العمومية:

جاء في المادة" 60" من معاهدة الصلح بين الحلفاء وتركيا الموقعة في فرساي سنة 1925 على أنه" للدولة المنسلخة أراضايها عن الإمبراطورية العثمانية بمقتضى هذه المعاهدة الحق في إمتلاك جميع ما فيها من الأموال والممتلكات العائدة للإمبراطورية العثمانية دون دفع قيمتها".

فالأراضي العربية ومنها فلسطين كانت تابعة للدولة العثمانية عادت إلى أصحابها العرب، ولكن بريطانيا قبل توقيع معاهدة الصلح مع تركيا نصت في "دستور فلسطين" (المادة 2منه) على أن للمندوب السامي جميع الحقوق في الأراضي العمومية ومنحه سلطة ممارسة الحقوق على تلك الأراضي لأنه "أمين على حكومة فلسطين". وبعد هذه الخطوة جاءت المادة 13 من "الدستور" الآنف الذكر ومنحت المندوب السامي صلاحية خاصة في أن يهب أو يؤجر أي أرض من الأراضي بصفة مؤقتة بالشروط والمدد التي يراها ملائمة ، ولكي يتم تنفيذ المخطط الإستعماري ولا يكون تصرف المندوب الأسمي لغير مصلحة اليهود فإن السلطة المنتدبة قيدت حرية المندوب السامي بباقي المادة "13" حتى لاتكون الهبة أو الإيجار إلا لليهود، ومما ورد في هذه المادة"... ويشترط في ذلك أن تجري كل هبة أو إيجارأو تصرف وفقا لما يصدر للمندوب الأسمي من التعليمات بتوقيع جلالته أو بواسطة الوزير المختص تنفيذا لأحكام صك الإنتداب.." ، وأحكام صك الإنتداب تهدف إلى جعل فلسطين في وضع إداري وإقتصادي وسياسي يضمن إنشاء " الوطن القومي اليهودي فيها. فالمندوب السامي طبقا لأحكام صك الإنتداب يضمن إستقرار المهاجرين اليهود في الأراضي الفلسطينية ، ويسهل لهم الإستثمار الإقتصادي في فلسطين. فعلى سبيل المثال لا الحصر منح المندوب السامي شركة البوتاس، الفلسطينية وهي شركة يهودية، إمتيازا لإستخراج الأملاح والمعادن من البحر الميت ووهب لها من الأراضي (75 الف دونم) وما بعاته الدولة المنتدبة لهذه الشركة من الأراضي الفلسطينية وصل إلى ما يقارب (64 الف دونم )، أي أن هذه الشركة تملكت ما مجموعه" 139 "الف دونم . كذلك منحت الشرطة الكهربائية الفلسطينية ،وهي شركة يهودية ايضا، إمتياز إستغلال مياه نهر الأردن واليرموك لتوليد الطاقة الكهربائية فيما يعرف بمشروع" روتنبيرغ "ومنحت الشركة من الأراضي ما يقارب (18 الف دونم مجانا). كل ذلك بإسم قيام هذه الشركات بمشروعاتها.

سلطة المندوب السامي في تحويل صنف من الأراضي إلى آخر :

جاء في المادة 16 من مرسوم " دستور فلسطين" المعدل لسنة 1933 بأنه يجوز للمندوب السامي أن يحول بمرسوم أية أرض من صنف "ميري"( أراضي الدولة) إلى صنف "الملك". وهذه المادة إنما هي مستقاة من أحكام الشرع الإسلامي الذي كان قد خول السلطان العثماني بصفته خليفة للمسلمين صلاحية تحويل الأراضي من "الميري" إلى "الملك". فبموجب هذه المادة حرص " المشرع " البريطاني على أن يعطي هذه الصلاحية التي كان يتمتع بها السلطان إلى المندوب السامي.

وفي عام 1933 أضاف " المشرع" مادتين جديديتين "للدستور" الأولى 16 مكرر"ج" منح فيها للمندوب السامي صلاحية جديدة وهي أن يحول أية أرض من أراضي فلسطين من صنف" المتروكة" كالشواطئ والطرق العامة وبيادر القرى وغيرها إلى صنف لآخر.والمادة 16 مكرر"د" والتي أجازت للمندوب السامي أن يضع أنظمة تقضي بمنع أو تحديد أو تنظيم إنتقالات الأراضي في فلسطين أو في أي يقسم منها وأن يجعل سريانه منحصرا في إنتقالات الأراضي من العرب إلى اليهود أوإلى اشخاص آخرين من غير العرب أو من اليهود إلى العرب .وكل هذه النصوص إنما الهدف منها كان تيسير إنتقال الأراضي لليهود وفتح المسالك والطرق أمام المندوب السامي لإصدار اللوائح والأنظمة اللازمة لتحقيق هذه الغاية إستنادا إلى هذه النصوص الدستورية.

ففي وقت مبكر من ووجود الانتداب منح الدستور للمندوب الاسمي سلطة هبة الاراضي العمومية وفي وقت اخر ومع زيادة عدد المهاجرين اليهود الى فلسطين اعطي صلاحية جديدة بتحويل صنف من الاراضي من نوع الى اخر لتسهيل عملية استقرار المهاجرين الجدد بتمليكهم اراضي اخرى ، فعملية بناء الوطن القومي كانت تجري بخطوات سريعة وبالتالي كان لابد من توفير الارض لليهود المهاجرين الى فلسطين.

وبعد أن تملك اليهود الأراضي في فلسطين ودعموا وجودهم ، وبعد أن شعرو بأن مركزهم ثابت وأحسو بإمتداد سلطانهم السياسي والإقتصادي والإجتماعي ، وبعد أن إطمانت بريطانيا على هذا الوجود الذي تلازمت مصالحه مع مصالحها ، وبعد أن شعر هذا الوجود بقوته ورغبته في التعجيل في إقامة "دولته"، منحت الدولة المنتدبة صلاحيات جديدة للمندوب السامي تقضي بمنع أو تنظيم أو تحديد إنتقال الأراضي. وفعلا أصدر المندوب السامي نظام إنتقال الأراضي الذي بموجبه قسمت فلسطين إلى منطقتين وفقا لحدود معينه إحدى هاتين المنطقتين خاصة بالعرب الفلسطينيين وفيها يقيد المندوب السامي إنتقال الأراضي إلى اليهود ، والمنطقة الأخرى خاصة باليهود وفيها يسمح بإنتقال الأراضي لليهود ويمنعه عن العرب. لقد شكل هذا النظام توطئة عملية لفكرة تقسيم فلسطين لتأسيس الدولة اليهودية.

ومن الأمثلة الحية للأوامر التي كانت تصدر من المندوبين السامين إستنادا إلى " الدستور" بتحويل أراضي فلسطين وتسجيلها بإسم اليهود نذكر:

أمر صادر من المندوب السامي رقم 109 لسنة 1935:"......(يذكر بالمواد الدستورية التي تعطيه الصلاحيات بالتحويل) فإنني أنا اللفتننت جنرال السر آرثر غرينفل واكوب المندوب السامي لفلسطين وإستنادا إلى الصلاحيات المخولة لي والمشار لها آنفا آمر بتحويل قطعة الأرض التي هي من صنف الميري والمبينة أوصافها بصورة خاصة في ذيل هذا الأمر إلى صنف الملك وتسجيلها في مكتب تسجيل الأراضي في حيفا بإسم لجنة الطائفة اليهودية في حيفا.

الذيل: كامل قطعة الأرض الواقعة في محلة الخزان في قرية الطيرة... قضاء حيفاء والبالغة مساحتها "27دونم و771" متر مربع بوجه التقريب. والمحددة كما يلي..........."
أمر رقم 47 لسنة 1945 صادر من المندوب السامي بمقتضى المادة........... لذلك أنا جون ستانديش سوريتز برندر كاست فيركر ،الفيلد مارشال الفيكونت غورت ، المندوب السامي لفلسطين، إستنادا إلى .....، آمر بتحويل قسيمة الأرض المقيدة الآن من صنف الميري المبينة أوصافها في الذيل الملحق بهذا الأمر إلى صنف الملك وتسجيلها في مكتب تسجيل الأراضي بتل أبيب بتلك الصفة.
المجلد: "7" ، الصفحة:"25" ،إسم القرية أو المدينة: تل أبيب،المساحة متر مربع دونم: "42288"،وصف الملك: أرض عليها دار مؤلفة من ثلاثة طوابق."

"بناء على ......أنا اللفتنت جنرال السر آرثر غرينفل واكوب المندوب السامي لفلسطين آمر بتحويل قطعة الأرض أو القسيمة الموصوفة تفاصيلها في الذيل أدناه من أرض ميري إلى أرض ملك وأن تسجل بتلك الصفة في دائرة تسجيل الأراضي في طبريا باسم روفائيل ببياس والراب ماير فاكنين في طبريا.

الذيل: جميع الأرض أو القسيمة الواقعة في باقي القضبان في طبريا والبالغة مساحتها" 1379 مترا مربعا".

فمن خلا الأوامر السابقة نلاحظ أنه عن طريق النصوص "الدستورية" صدرت تلك الأوامر بتحويل صنف الأراضي من الميري وهي أصلا من ملكية الدولة وحولت إلى صنف الملك وسجلت بإسم أشخاص ومؤسسات يهودية.
سلطة المندوب السامي في تعيين الموظفين وتوقيفهم عن العمل:
خولت المادتين 14و 15 من " الدستور" للمندوب السامي أن يعين أو يجيز تعين من يستنسب تعيينهم من الموظفين في حكومة فلسطين. وليس هذا هو المهم بل المهم هو ما يمكن استخلاصه من هاتين المادتين:

1) إن اختيار الموظفين وتعيينهم وعزلهم رهين بمشيئة المندوب السامي ويكون ذلك خاضغا لمشيئة وزير المستعمرات
2) بقاء الموظفين في مركزهم رهين بمشيئة المندوب السامي أيضا
ولما كانت حكومة الإنتداب تعمل على تطبيق سياسة إقامة وطن قومي لليهود فإنها بكل تأكيد ستعين موظفين مأخوذين بهذه الدواعي لتنفيذ سياسة الحكومة فليس هناك مجال لتعيين أشخاص غير مأخوذين بهذه السياسة والدواعي. فبمواصفات وشروط خاصة يعين الموظفون في دوائر الحكومة ومعظمهم من الإنجليز الصهيونيون ، وقد كان الشكل العام للجهاز الحكومي كما جاء في الكتاب الرسمي لحكومة الإنتداب الصادر في سنة1938، إن العرب الفلسطينين كانو يغالبون هذه القوى وتلك الأنظمة في سبيل الحفاظ على وطنهم الذي حكمته فعلا حكومة يهودية فجعلت الأغلبية العظمى من كبار الموظفين يهودا.

علاقة الأرض بسياسة الإنتداب البريبطاني:

كانت الأرض العنصر الأساسي الثاني اللازم لإنشاء " الوطن القومي لليهود "في فلسطين . يقول وايزمان رئيس الجمعية الصهيونية 1904 : "... ولا يمكن أن يكون في فلسطين وطن قومي بدون رجال وبدون أراضي، وأن تضييق هجرتنا لأسباب سياسية أو وضع قانون يجعلنا غير قادرين على شراء الأراضي اللازمة لإنشاء مستعمراتنا معناه الفعلي أن الحركة الصهيونية لا ترمي إلى ادخال أكبر عدد ممكن من اليهود إلى فلسطين فحسب بل إنها ترمي إلى إمتلاك أكبر قسم من أراضي العرب وإنتزاعها بكل وسيلة أيضا.

وفي عام 1918 ارسلت بريطانيا بموافقة الحلفاء البعثة الصهيونية الى فلسطين لتكون بمثابة حلقة الوصل بين اليهود بفلسطين وبين حكومة الانتداب ولتقوم بدور مكتب فلسطين الدسي اسس على اعقاب مؤتمر بال 1897 كاحدى ادوات الاستعمار الصهيوني المنظم، ولا زالة كل العقبات اما استقرار اليهود في فلسطين و مشروع اقامة الوطن القومي .

قوانين الأراضي:

لقد سنت سلطة الإنتداب البريطاني سلسلة من القوانين وإتخذ المندوبون الساميون عددا من الإجراءات، وكان الهدف من هذه القوانين وتلك الإجراءات تشجيع الإستعمار الصهيوني لأراضي فلسطين وتقليص حجم الملكية بالنسبة للعرب والعمل على إخراجهم من أراضيهم وزيادة الضرائب على الأملاك.

وقد صدرت إجراءات بجانب سن هذه القوانين ومن أخطر هذه الإجراءات الإعتراف الرسمي بالصندوق القومي اليهودي مؤسسة ذات منفعة عامة يحق لها شراء الأراضي في فلسطين وتاجيرها الى المهاجرين اليهود الوافدين إليها.

أولا: قانون إنتقال الأراضي:

أول ما فعله المندوب السامي (السير هربرت صموئيل أول مندوب سامي على فلسطين) إلغاء جميع القوانين والأنظمة العثمانية التي كانت تمنع اليهود من إمتلاك الأموال غير المنقولة في فلسطين، وإستبدالها بقوانين جديدة تساعد الصهيونين على تحقيق أهدافهم ومطامعهم ولا سيما قانون إنتقال الأراضي رقم 39 لسنة 1920، وقد وضعت الشروط التي تلائم أهداف الإستيطان ومن ذلك ما جاء في ديباجة القانون "رؤي من المناسب أن يصرح بمعاملات يكون الغرض منها إستعمال الأرض وزرعها حالا..." أي سمح بتسجيل أعمال البيع والشراء.وإشترط القانون في مادته السادسة أن الشخص الذي يرغب في إمتلاك العقار يجب ان:

1) يكون مقيما بفلسطين

2) لايحصل بمقتضى هذا القانون على أراضي زراعية تتجاوز مساحتها (300) دونم ولا تتجاوز قيمتها 300 جنيه مصري ولا على أراضي واقعة داخل المدن تتجاوز مساحتها 30 دونما.

3) أنه ينوي زراعتها أو إعمارها بنفسه حالا.

إن الإقامة وحدها لا تكفي لإنتقال المال غير المنقول إلى شخص لم يحمل الرعاية العثمانية .أو الرعاية الفلسطينية بعد صدور قانون الجنسية الفلسطينية سنة 1925.فهذه المادة فتحت الطريق أمام المهارجين من اليهود لحيازة الأراضي الفلسطينية بمساحات واسعة من الأراضي الزراعية. وعن هذا الطريق تمت صفقات كبيرة، وحصلت المؤسسات الصهيونية على مساحات واسعة من الأراضي الصالحة للزراعة و 90 في المائة من هذه الأراضي إشترتها الجمعيات الصهيونية من الغائبين غير الفلسطينين( عائلات سورية ولبنانية) كما سرنى في ما بعد.

والمادة الثامنة من القانون المذكور آنفا منحت المندوب السامي سلطة إستثنائية بالموافقة على البيوع التي لا تنطبق عليها الشروط السابقة ، فله أن يوافق على إنتقال الأراضي إذا كانت مساحة الأرض أكثر مما نصت عليه المادة 6 الآنفة الذكر. أو يتم البيع إذا كان المشتري غير مقيم بفلسطين بإسم المصلحة العامة.والمصلحة والمنفعة العامة من وجهة النظر البريطانية هي تمليك اليهود أوسع مساحة ممكنة من الاراضي الفلسطينية وإخراج العرب من أراضيهم طبقا للسياسة التي إلتزمت بها أمام اليهود وأمام مصالحها.

دور الشركات الصهيونية:

في ظل قانون إنتقال الأراضي أدت الشركات الصهيونية دورا كبيرا في امتلاك الأراضي ونقلها من الأيدي العربية إلى المهاجرين اليهود، فقد جاء في القسم الثاني من المادة الثامنة المذكورة آنفا" القانون العثماني الصادر بتاريخ 22 ربيع الأول 1331هجرية المتعلق بحق الشركات لإمتلاك الأموال غير المنقول يبقى معمولا به".

إن القانون العثماني المذكور أذن للشركات التجارية والصناعية وشركات الإنشاءات، المصدق على أنظمتها أو مقاولاتها المختصة بها من قبل الحكومة بالتملك والتصرف في الأراضي على أنه إستثنى من ذلك الشركات التي تؤسس بقصد الزراعة فوضع عليها قيودا ومن أهم هذه القيود:

1) أن تكون أسهمها اسمية وليست لحامله. وهذا تحذير من حصول الأجانب عليها فاشترط أن تكون إسمية.

2) أن يكون حاملها من التبعة المحلية

3) أن يكون مصرحا بنظامها المصدق من الحكومة صلاحيتها للتصرف بالأراضي وتملك العقارات.

4) أن لا تكون الأراضي على حدود مزارع القرى.

لكن المادة الثامنة من قانون إنتقال الأراضي المذكور آنفا منحت المندوب السامي إستثناء فأجازت له إن يأذن لأي شركة تشتغل بالصرافة أن ترهن أية أرض ويسمح لأي شركة تجارية أن تمتلك من الأراضي بإسم القيام بمشروعها. بل وذهب أبعد من ذلك بأن سمح بإنتقال الأراضي إلى أي شركة فإنتقال الأراضي أصبح مطلقا لاية شركة حتى ولو لم تنحصر فيها الشروط المذكورة.ونذكر هنا بالأراضي التي منحت لشركة بوتاس البحر الميت وشركة الكهرباء . وفي الوقت الذي سمحت فيه حكومة الإنتداب للشركات اليهودية التي تشتغل بالصرافة أن ترهن أية أراضي، قامت الحكومة بإغلاق المصرف الزراعي العثماني، وهو المصرف الوحيد الذي كان يعتمد عليه المزارعون في أعمالهم.فاضطر المزارعون والمالكون الصغار إلى الإتجاء إلى الشركات الصهيونية للحصول على قروض وعجزو عن تسديدها. لتشدد الحكومة المنتدبة في جميع الضرائب المتراكمة على المالكين والفلاحينن وفرض ضرائب جديدة لا طاقة لهم على أدائها وتحملها دون أن تقدم لهم في مقابل ذلك أية خدمات تساعدهم على زيادة الإنتاج أو تحسين أحوالهم الإقتصادية والإجتماعية، فسمح هذا القانون بإنتقال الأراضي العربية إلى الشركات الصهيوينة نظير التأمينات والرهن.والمادة (1) من قانون إنتقال الأراضي رقم 2 أجازت " للمحاكم أن تأمر ببيع أموال غير منقولة تنفيذا لحكم أو وفاء لرهن.

وإذا كان هناك قيد أو إشتراط شرط على إنتقال الأراضي إلى اليهود في قانون إنتقال الأراضي لسنة 1920 مادة "6" وإذا كانت المادة "7" من نفس القانون تمنع المضاربات في شراء الأراضي والقسم الأول من المادة "8" تقض بإستحصال موافقة المندوب السامي.فإن تعديلا للقانون المذكور آنفا صدر في السنة التالية 1921 ألغى بموجبه هذه المواد "6،7" والقسم الأول من المادة8 فاصبحت جميع الأبواب مفتوحة أمام المؤسسات الصهيونية لحيازة الأراضي، سواء كان ذلك عن طريق الشراء أو عن طريق هبة الحكومة، وبذلك يتبين أن قانون الأراضي لسنة 1920 والتعديل الذي أجري عليه هو عملية تدعيم وبناء للوطن القومي اليهودي في فلسطين، برفع القيود التي كانت موضوعة أمام اليهود.

ثانيا:قانون الأراضي المحلولة:

كثيرا ما تكون الأراضي الزراعية من الأراضي الأميرية.وهي كما ذكرنا عقار يتصرف فيه الفرد أو يتولى عليه بإذن وتفويض الدولة أما الرقبة فتبقى مستقرة في الدولة. وعندما تنتهي حقوق المتصرف المعطاة له بسند تفويض تصبح الأراضي محلولة. ومن ثم يحق للدولة أن تفوضها إلى شخص آخر وتستوفي على ذلك بدل المثل.وليس من الضروري أن يكون معنى هذا الإنتهاء أنه يحق للدولة أن تختار الشخص الذي تريده، بل هنالك أشخاص يفضلون غيرهم في أن تفوض إليهم الاراضي المذكورة بالطابو،( الطابو كلمة تركية الأصل معناها الإجراء القانوني المتعلق بجميع التصرفات المتعلقة بالعقار،

ونظام الطابو متبع في البلدان العربية الآسيوية ودائرة الطابو هي التي تقوم بتسجيل كافة التصرفات التي تجري على العقار واصبحت تسميتها في العراق مؤخرا بإسم دائرة التسجيل العقاري وهي تشبه إلى حد كبير مصلحة الشهر العقاري في مصر والمحافظة العقارية بالمغرب.) لقاء دفع قيمة الرسوم وفي حالة كهذه لا تكون الاراضي محلولة صرفا بل تكون خاضعة ل "حق الطابو" التسجيل العقاري أو مستحقة الطابو. يحق للدولة أن تسترد الأراضي إذا أهملت دون زرع مدة ثلاث سنوات متتابعة.فعلى مالكها حينذاك أن يقدم طلبا جديدا للحصول عليها ثانية بالإستناد على حق الطابو.
حينما ينتهي حق التصرف في الأرض لإهمالها أو لأسباب أخرى متشابهة يطلب إلى صاحب حق التصرف نفسه دفع قيمة الطابو.وهذا يدل على أنه يطلب اليه أن يستفيد من حق الطابو حالا فإذا إستنكف عن ذلك تصبح الأرض محلولة صرفا، وفي جميع الأحوال حينما تنتهي حق التصرف بسبب وقف
الإنتقال( اي عدم وجود وارث) حسب قانون الإرث، تعطى حقوق الطابو بالترتيب الآتي:

أ‌) إلى الذين يملكون البنايات أو المغروسات على الأرض
ب‌) إلى الشركاء والخلطاء
ت‌) إلى أهل القرية التي تقع فيها الأرض.
ث‌) هذه أحكام الأراضي المحلولة في العهد العثماني. وكان الفلاحون العرب مستفيدين من الأراضي الأميرية إذ ضموا إلى ملكيتهم كثيرا من الأراضي لزراعتها حسب العوائد المتبعة في القوانين التركية ولم تشدد الحكومة العثمانية في حق إستعمال حق إسترداد سند الطابو( سند الملكية) من المستفيدين من هذه الأراضي.
ج‌) ولكن سلطة الإنتداب تريد أن تحصل بسرعة على قيد تام لجميع هذه الأراضي، بغية إيجاد أراضي لإسكان المهاجرين اليهود. فأصدرت قانون الأراضي المحلولة بتاريخ 11 اكتوبر 1920. وطلب إلى كل شخص قد وضع يده في أي وقت قبل صدور هذا القانون على أي أراض أصبحت محلولة خلال مدة ثلاثة أشهر من صدور القانون(مادة 1) فالقانون حرم الفلاحين العرب المستفيدين من هذه الأراضي وقت صدور القانون، كذلك حرم المزارعين الذين وضعوا يدهم قبل صدور القانون لأن القانون جاء بأثر رجعي مطلق، فضلا عن حرمان الفلاح العربي من أرضه، فالقانون عرضه للحبس والغرامة إذا لم يخبر الإدارة بوضع يده على أرض محلولة. فالأثر المترتب على هذا القانون هو حصر الأراضي الأميرية المحلولة كمرحلة أولى تمهيدا لإستيلاء الحكومة عليها، لتغيير صنفها إلى نوع آخر لتمليكها لليهود أو بيعها إلى المؤسسات الصهيونية عن طريق طرح هذه الأراضي المحلولة بالمزاد.هذا ما سنراه في قانون الأراضي المعدل الآتي.

قانون الأراضي (المعدل):

لتقليص حجم ملكية الأراضي الأميرية التي أصبحت محلولة أو التي قد تصبح محلولة تمهيد لتسجيلها بإسم اليهود. أصدرت بريطانيا قانون الأراضي المعدل رقم 23 لسنة 1933 وهو يقضي بإجراء بعض تعديلات في قانون الأراضي العثماني.
فقد جاء في المادة"3" من هذا القانون بأنه يمكن إعلان أية أرض أميرية من قبل المندوب السامي، أصبحت أو قد تصبح محلولة بمقتضى أحكام الأراضي ، أراض عمومية حسب مفاد الفقرة"1" من المادة "12" من مرسوم " دستور فلسطين" لسنة 1922 أما الوضع في قانون الأراضي العثماني فتنتقل هذه الأرض إلى الوارث النظامي. وفي حالة إنعدام وارث حسب قانون الإرث، تعطي الحقوق حسب الترتيب الذي ذكره قانون الأراضي المحلولة المذكورة آنفا.ونثبت هنا على سبيل المثال أمرا صادرا من المندوب السامي بهذا الصدد:

" أنا الجنرال السير ألن غوردون كننجهام، المندوب السامي لفلسطين، إستنادا إلى الصلاحية المخولة لي في المادة الثالثة من قانون الأراضي المعدل أعلن الأرض المبينة أوصافها في الذيل المدرج أدناه، أرضا عمومية ضمن المعنى المعقود في الفقرة"1" من المادة الثانية عشرة من" مرسوم دستور فلسطين لسنة 1922-1939.

الذيل: قطعة الأرض الكائنة في قضاء حيفا والمعروفة بالقسيميتن رقم 1، 39 من القطعة 10816 في مدينة حيفا المسجلة كأرض محلولة في القيد رقم 5 بسجل الأراضي المحلولة في حيفا. صدر بتوقيعي في اليوم الرابع من شهر تشرين الثاني نوفمبر سنة 1946".

وعندما أصبحت الأرض عمومية فللمندوب السامي حرية التصرف في هبة أية أرض من الأراضي العمومية طبقا لاحكام المادة ""13" من "الدستور" التي تقول: " للمندوب السامي أن يهب أو يؤجر أي ارض من الأرض العمومية.. ويشترط أن تجري كل هبة او إيجار أو تصرف تنفيذا لصك الإنتداب".

وفي هذا النص إلتزم بان تكون كل هبة أو إيجار أو تصرف طبقا لصك الإنتداب الذي يشترط ويتعهد بجعل فلسطين في وضع إقتصادي وإجتماعي وسياسي يضمن إنشاء الوطن القومي اليهودي فيها.

ونتيجة لهذه الأوضاع التي فرضت على العر ب في فلسطين إتسع دور الشركات الصهيونية في إننتزاع الأرض وقد ساعدها على ذلك قانون الأراضي المعدل ، فقد جاء في الفقرة "4" مادة"4" المذكور آنفا أن الأراضي المحلولة التي لم تعلن أرضا عمومية وتنازل أصحاب حق الطابو عن حقوقهم، تطرح للمزايدة وتحال إلى المزايد الأخير على أن يراعى في ذلك الثمن المحتفظ به لدى مدير دائرة الاراضي. ومن لأسباب التي تجعل أصحاب حق الطابو يتنازلون عن حقهم هذا هو عجزهم عن دفع الثمن الذي قدره مدير الأراضي (الصهيوني)، وليس من ريب بعد هذا في أن يستسلموا للأمر الواقع إذا لم يعد في إستطاعتهم منازلة المزاد الذي تتربع على عرشه ملايين الصهيونية والقوانين البريطانية التي كانت تراعي بصفة دائمة مصلحة اليهود.

قانون الأراضي الموات:

جاء في المادة "103" من قانون الأراضي العثماني: " المحلات الخالية التي لم تكن في تصرف أحد...هي الأراضي الموات، ويمكن لصاحب الضرورة أن ينقب في مثل هذه الأرض، وتتخذ مزارع بإذن المأمور على أن ينقب محلا على الوجه المحرر، ثم لاينقب ما يتفوض به ويتركه على حاله ثلاث سنين بدون عذر صحيح يعطى لغيره، وإذا كان أحد ينقب بدون رخصة ويتخذ مزارع من مثل هذه الأراضي يؤخذ منه مثل الطابو ويتفوض لعهدته المحل الذي نقبه ويعطي له سند طابو".

فالمادة المذكورة آنفا تخول كل إنسان زراعة أية أرض موات وتلزم مأمور الأراضي بتسجيلها له مجانا ، إذا هو زرعها بإذن منه أو مقابل مبلغ قليل من المال، إذا زرعها بدون إذن.
وعدلت الفقرة الاخيرة من المادة 103 وصيغت كما يلي:" كل من نقب أرضا مواتا أو زرعها دون أن يحصل على موافقة مدير الأراضي لا يحق له أن يحصل على سند ملكية بشان تلك الأرض ويعرض نفسه فضلا عن ذلك للمحاكمة لتجاوزه على الأرض".

ومعنى هذا هو الحظر على أي إنسان- وخاصة العرب- ويقوم على إستصلاح شيء من هذه الأرض، وإلا فإنه يعرض نفسه للمحاكمة والعقاب. إن إدراة الإنتداب لم تكن تجهل أن جميع أصحاب الأراضي في فلسطين لم يسجلوا في زمن الحكم العثماني أراضيهم كلها. فلقد كان الكثيرون منهم يكتفون بزراعة أراضيهم ويعدون تصرفهم القديم فيها عنوانا ثابتا لملكيتهم فلقد خسر بعض هؤلاء أراضيهم وأصبح الباقون مهددين بالإتحاق بطبقة المزارعين العاطلين الذين لا أرض لهم بعد أن قدمت بريطانيا للوكالة اليهودية ما مجموعه 300 الف دونم مجانا تطبيقا للمادة 6 من صك الانتداب.

ومن هذا التعديل يتبين حرمان المزارعين العرب من الأراضي التي كانوا يستغلونها وإعتبارهم مخالفين للقانون.

قانون نزع ملكية الأراضي:

على الرغم من تلك الطرق التي سلكتها بريطانيا لإغتصاب الأراضي وتمليكها لليهود، فإنها لم تكن تراها طرقا كافية لغرضها المبيت، ولهذا سرعان ما سنت قانون نزع ملكية الأراضي رقم 28 لسنة 1926 ولا ريب أنه كان قانونا غريبا لا يكون قد سن في غير فلسطين ولا يمكن أن يتجرأ أحد على سنه غير بريطانيا فيها.

وقد حرصت الأمم على النص في دساتيرها بأن حق المليكة مقدس، ولا يجوز مصادرة الأملاك أو التجاوز عليها إلا لمنفعة عامة. والمنفعة العامة هي إقامة المرافق الحيوية للبلاد بإشراف الدولة. كمد الطرق أو إقامة الخزانات والسدود لدرء الفيضانات لتنظيم الري أو غير ذلك مما يشكل منفعة عامة لجميع السكان، ولكن بريطانيا تعمد إلى تشريع جديد، فهي تبيح لصاحب أي مشروع أن يستولي على الأرض التي يراها صالحة لمشروعه إذا لم يوافق مالكها على بيعها له، ونحن نعلم جميعا أن تلك المشروعات كانت دائما يهودية، وأن الذين تشجعهم وتحميهم مع مال الصهيونية العالمية، هم اليهود.

الإستيلاء على الأرض تحت ستار الصالح العام:

من خلال تتبع ما أصدره المندوبون السامون يظهر لنا بأن ما أطلق عليه الصالح العام، لم يكن إلا لليهود، ونؤيد ذلك بالنصوص، فقد جاء في المادة 3 من القانون المذكور آنفا " يحق لمنشئ أي مشروع أن يتفاوضوا ويتفقوا مع صاحب أية أرض يحتاجون إليها لمشروعهم... فأصبح بموجب هذا النص أصحاب المشروعات اليهودية ومجالس البلديات اليهودية أو المحلية لديها سلطة نزع ملكية الأراضي العربية لقيام بمشاريعها أو توسعيها بإسم المنفعة العامة. إضافة إلى ذلك أن مشروعات الإمتياز التي منحها المندوب السامي لليهود، وضعت بنودا في عقد الإمتياز يسمح لأصحاب الإمتياز بضم الأراضي العربية بإسم مقاصد إمتيازها.

ولكن المنفعة العامة من وجهة النظر البريطانية هي الإستيلاء على الاراضي الفلسطينية وتمليكها للمهاجرين اليهود، طبقا لتصريح بلفور والسياسة التي إلتزمت بها أمام اليهود وأمام مصالحها، وقد ذكرنا سابقا ان شركة الكهرباء تم تمليكها ما مقداره 18 الف دونم. وشركة البوتاس اليهودية تم تمليكها ب 75 الف دونم و64 الف دونم بإيجار رمزي.

وقد جاء في الفقرة 1،3 من المادة "5" من القانون المذكور آنفا في حالة عجز منشئ أي مشروع عن الإتفاق مع صاحب الأرض الذي يحتاجها المشروع فيجوز لهم أن يرفعوا إلى المندوب السامي لموافقته على إعلان المفاوضة. ويطلب من صاحب الأرض أن يبين حقوقه في الأرض التي يدعيها بشأنها ومقدار التعويض أو بدل الإيجار الذي يقبل به. فإذا لم يبين حقوقه في الارض خلال خمسة عشرة يوما أو تخلف عن المفاوضة مع المنشئين بشأن مقدر التعويض. أو لم يتفق المنشئون مع صاحب الأرض خلال خمسة عشر يوما فأجازت لهم الفقرة"1" من المادة"7" أن يضعوا يدهم في الحال على الأرض المطلوبة. فيقدم المنشئون طلبا إلى رئيس المحكمة(محكمة الأراضي)، وإذا اقتنع بحق المنشئين في وضع يدهم على الأرض فيصدر قرارا بتسليم الأرض للمنشئين، ويشترط في ذلك إذا كان الإستملاك لشخص أو هيئة غير حكومية فالرئيس أن يأمر بإيداع المبلغ الذي يستصوبه.تنظم هاتان المادتان بفقراتهما تنظيم نزع الملكية للأراضي من أصحابها تمهيدا لبناء الوطن القومي اليهودي.

وقامت " حكومة الانتداب" وفقا لقانون نزع الملكية للمصلحة العامة بإنتزاع ملكية كثير من الاراضي المملوكة للعرب بحجة إستغلالها للمرافق العامة. بل إن المندوببين الساميين البريطانيين دأبوا، في سبيل تمليك اليهود وإعدادهم لإمتلاك فلسطين، على نزع ملكية الأراضي، في سبيل بناء المؤسسات الصهيونية ،ولم يكن هناك شيء يحسن قرى العرب أو ينشئ مؤسسات عربية.ونعرض هنا لبعض الشهادات لنزع الملكية التي أخذت بموجبها الأراضي لبناء المؤسسات الصهيوينة.

" شهادة نزع الملكية" أنا السير ستوارت سبنسر ديفس، القائم بإدارة حكومة فلسطين أثبت بأن سوق ومركز تجاري لليهود في صفد هو مشروع عمومي حسب مفاد المادة الثالثة من قانون نزع ملكية الارض لسنة 1926. حرر في 15 اغسطس 1930. س.س ديفس: القائم بإدارة حكومة فلسطين.
" شهادة نزع الملكية" أنا الجنرال السر آرثر غرنيفل واكوب المندوب السامي واكوب المندوب السامي لفلسطين أشهد أن إنشاء محطة للقوة الكهربائية وغيرها من الأبنية الضرورية لها من قبل شركة الكهرباء الفلسطينية على الأرض الكائنة عند ملتقى وادي أبو لجة بنهر العوجا بتح تقوا، هو مشروع يراد به المنفعة العامة حسب قانون نزع ملكية الأراضي لسنة 1926 ويمكن الإطلاع على خارطة الأرض المذكورة في مكتب اللواء الجنوبي وفي محطة القوة الكهربائية بتل أبيب. 20 اغسطس 1936.

" أنا الجنرال السر آرثر غرينفل واكوب، المندوب السامي لفلسطين، أشهد أن إنشاء محطة للركاب في تل أبيب هو مشروع يراد به المنفعة العامة حسب مفاد قانون نزع ملكية الأراضي لسنة 1926 ويمكن الإطلاع على خارطة الأرض التي ستقام المحطة فيها في مكتب حاكم اللواء الجنوبي بيافا. 8 ديسمبر 1936
" أنا ويليام دنس بترشيل القائم بإدارة حكومة فلسطين أشهد أن الأرض الإضافية التي ترغب في إستملاكها مدرسة نتساح إسرائيل للبنين في هادار هاكارمل بحيفا بقصد توسيع تلك المدرسة هو مشروع يراد به المنفعة العامة حسب مفاد قانون نزع ملكية الأراضي".

ولعل المثال التالي أكثر وضوحا ودلالة" ليكن معلوما أن المندوب السامي، إستنادا إلى الصلاحية المخولة له من المادة الثانية في قانون نزع ملكية الأراضي، قد شهد أن إستملاك قطعة أرض من قبل شركة مستعمرة حيروت المحدودة يبلغ طولها 220 مترا وعرضها 12 مترا ويبلغ مجموع ذلك دونمين و640 مترا مربعا وتقع في القسيمة رقم 11 من القطعة رقم 7749 من أراضي قرية الطيرة من أعمال قضاء طول كرم تؤلف قسما من الطريق المؤدية إلى المستعمرة من طريق تل أبيب حيفا الرئيسة هو مشروع يراد به المنفعة العامة حسب مفاد المادة الثانية من قانون نزع ملكية الأراضي. وقد أودعت خارطة الأرض التي وقع الإختيار عليها في مكتب قائم مقام ناتانيا"

وتلك القوانين لم تترك شيئا دون أن تستخلص منه ما يفيد الصهيونية فإتسعت لتشمل الأوقاف ومما شرع من ذلك الفقرة1 و2 من المادة 21 من قانون نزع الملكية أن هذا القانون يطبق على الأوقاف الإسلامية والأوقاف المسيحية.

إن بريطانيا جعلت قانون نزع ملكية الأراضي يشمل أوقاف المسلمين ليربطوا ذلك كله بطلب اليهود إستملاك وقف أبي مدين الإسلامي المتصل بالبراق الشريف، وأن قصد اليهود من الإستيلاء على هذه الأوقاف إقامة كنيس مكانها تعلو جدار المسجد الاقصى، وتستند عليه، وحينئذ يسهل عليهم النفاذ إلى المسجد الأقصى بوسائل مختلفة. ولكن المسلمين متخذون من حقهم المقدس سلاحا مشروعا للدفاع عن أماكنهم المقدسة فلم يتساهلو في شيء منها. وهم يقفون منذ الإحتلال البريطالني إزاء كل محاولة من اليهود في هذا الشان موقفا لم يتزحزحوا عنه تحت أي ظرف من الظروف.

إن البريطانيين بالنص على سريان هذا القانون على الأوقاف الإسالمية تعمدوا ذلك لإثارة الإضطرابت، كما حدثت في عام 1929 ،لإظهار المشكلة بمظهر طائفي وليكسبوا من الناحية الأخرى ثقة العرب وإطمئنانهم ليستطيعوا المضي في تنفيذ مخططهم الإستعماري لإقامة الوطن القومي اليهودي. وقد تسرب البرنامج البريطاني إلى الأوقاف المسيحية فعملت على تمليكها لليهود فسهلت بيع 22 الف دونم من أوقاف اخوية القبر المقدس الأرثوذكسية لليهود.

وجدير بالذكر هنا أنه ليس لقانون نزع الملكية الآنف الذكر أي أثر في الأحكام المتعلقة بنزع الملكية الواردة في قانون تنظيم المدن، وقانون التعدين وقانون إستملاك الأراضي للجيش ولقوة الطيران.

فالمادة 22 من قانون تنظيم المدن رقم 3 لسنة 1921 أعطيت بموجبها سلطة إلى " اللجنة المركزية"، وهي لجنة الأبنية وتنظيم المدن التي تؤلف بناء على أمر المندوب السامي، بنزع ملكية الأراضي والمباني لإقامة أو تنظيم المدينة المقرر تشييدها. واعتبرت الفقرة 2 من المادة 23 من القانون المذكور نزع ملكية هذه الأراضي للمنفعة العامة.

وبهذا القانون وبإسم المنفعة العامة أقيمت المدن والأحياء اليهودية مثل بتح تقوا، وناتانيا، وناهاريا، على الأراضي الفلسطينية بعد نزع ملكيتها من أصحابها. وإلتزم قانون تنظيم المدن لسنة 1936 في مادته 24 بما جاء في المواد 22،23 من قانون تنظيم المدن الأصلي لسنة 1921. وقانون التعدين رقم 9 لسنة 1925 إعتبر في مادته 12" التعدين منفعة عامة ضمن المعنى المقصود في أي تشريع أو قانون يتعلق بإستملاك الأراضي للمنافع العامة.

فشركة البوتاس "الفلسطينية"، شركة إحتكارية صهيوينة تعمل لمنفعة بريطانيا والصهيوينة ،كانت تستخرج المعادن والأملاح من البحر الميت، هذه الشركة نزعت ملكية آلاف الدونمات من الأراضي الموجودة حول البحر الميت بحجة متطلبات الإمتياز وسجلت بإسم الشركة. وكثير من هذه الأراضي أصبحت مناطق سكنية لعمال الشركة من اليهود المهاجرين.
وفيما يخص قانون الأراضي (إستملاكها للجيش ولقوة الطيران) رقم 12 لسنة 1925 اجازت المادة 3 منه للقائد سلطة إستملاك الأرض التي يحتاج إليها الجيش أو قوة الطيران. إن بناء المعسكرات والمطارات للجيش البريطاني هي عملية تحصين لوجود البريطاني في المنطقة العربية، وضرب لكل الذين يعارضون إقامة الوطن القومي اليهودي. والأخطر من ذلك أن جميع هذه المعسكرات والمطارات التي بنتها السلطات البريطانية لإستعمار فلسطين آلت جميعها إلى المستعمر الصهيوني عند إنسحاب بريطانيا من فلسطين. ونثبت نموذجا واحدا على سبيل المثال عن نزع ملكية الأراضي لإنشاء المعسكرات البريطانية":

" أنا الجنرال السر آرثر غرينفل واكوب، والمندوب السامي لفلسطين أشهد أن إنشاء ثكنة للجيش في حيفا هو مشروع يراد به المنفعة العامة حسب مفاد قانون نزع ملكية الأراضي ويمكن الإطلاع على خارطة الأراضي التي وقع الإختيار عليها لهذه الغاية في مكتب حاكم اللواء الشمالي بحيفا في مكتب مدير تسجيل الأراضي في القدس".

فقانون نزع الملكية يرمي إلى سلب حقوق العرب في أراضيهم والإجحاف بمصالحهم؟، ويدعم في نفس الوقت بناء الوطن القومي اليهودي في فلسطين.

قانون تسوية حقوق ملكية الأراضي:

على أن بريطانيا صاحبة الإنتداب في فلسطين لم تصبر طويلا بعد إصدارها لقانون نزع الملكية فقد تبين لها أنه لايكفي لأن كثيرا من الأراضي ليست ملكا لأفراد يفرض عليهم الإتفاق أو يرغمون على قبوله ولكنها مشاع لأسر ولقبائل ولذلك عمدت إلى سن قانون جديد في 30 مايو 1928 وأسمته قانون "تسوية ملكية الأراضي". وإستهدفت بهذا القانون نزع الملكية العربية بطريق آخر تسلم الدولة تللك الأراضي توطئة لتسليمها لليهود، عن طريق فرز الأراضي المشاع في القرى، لأن وجود المشاع كان حائلا دون تمكن اليهود من شراء الارض، ولمراجعة قيود الأملاك والتثبت من حقوق المالكين فيها وإنتزاع ما لا يثبت ملكيتهم من وجهة نظر الحكومة بقصد تقديمها إلى اليهود.

ولكي يتم التنفيذ جاء في المادة 3 من قانون التسوية المذكور آنفا أن للمندوب السامي إختيار أي أراضي في أية منطقة في فلسطين لتسوية حقوق ملكيتها وتسجيلها. وكان إختيار المندوب السامي قد وقع على مناطق معينة في فلسطين تمتاز بخصوبة التربة والموقع الإستراتيجي. بحيث بدى أنها تنحصر أو تكاد في منطقة معينة وهي منطقة السهول الخصبة والأراضي المروية أو القابلة للإرواء، وهي المنطقة التي ظهر فيها فيما بعد أن السياسة البريطانية ترمي إلى تخصيصها للدولة اليهودية، وكانت تهدف إلى إستخلاص أكبر مساحة ضمن هذه المنطقة من المالكين العرب بحجة أنها معطلة أو لا تدخل ضمن سندات الملكية" كواشين" المالكين العرب ، وتسجيلها بإسم املاك الدولة ومنع إنتفاع العرب بها ثم تسهيل إنتقالها إلى اليهود عاجلا أو آجلا.

ولكي تحكم حلقة التنفيذ منحت المادة 4 فقرة 1 سلطة للمندوب السامي بتعيين مأموري التسوية ومساعديهم. فجاءت أدوات تنفيذ هذا القانون أغلبية يهودية، وبالإطلاع على موظفي المساحة ودائرة التسوية ندرك لماذا كانت أغلبيتهم من اليهود والإنكليز مع قلة عربية صغيرة. فبهؤلاء الرؤساء ومساعيديهم ربطت بريطانيا مستقبل أراضي فلسطين العربية، فهم يتكونون من ثمانية من اليهود مع إنكليزين آخرين وثم عربيين فقط كمساعدين لمأمور التسوية اليهودي. وكانت الإدارة البريطانية تعمد إلى تعين اليهود كمأمورين لتسوية حقوق ملكية الأراضي العربية وهم أصحاب المنفعة والهادفون إلى التملك وطرد الرعب.

وعلى سبيل المثال نورد النص التالي: " إن المندوب السامي عملا بالسلطة المخولة له بالمادة 2،4 من قانون تسوية الأراضي لسنة 1928 قد عين المستر موسى كوهين الحسيد مساعد مأمور تسوية لأجل إجراء التسوية في منطقة التسوية في قضاء يافا وفوضه بأن ينوب عن مأمور التسوية في تلك المنطقة فيما يتعلق بتنفيذ الأحكام." 14 مايو 1929 التوقيع همش لوك السكرتير العام.

واستمرت بريطانيا في هذه التعيينات اليهودية لإجراء تسوية الأراضي العربية.." إن المندوب السامي عملا بالسلطة المخولة له بالمادة 2،4 من قانون تسوية الاراضي لسنة 1928 قدعين المستر موسى كوهين الحسيد مساعد مامور لإجراء تسوية قرية الخضيرة في المنطقة الواقعة بين تلك القرية والبحر في قضاء حيفا وأراضي وادي الحوارث وعتيل وزيتا في أعمال قضاء طول كرم وخربة الشركسي وغابة الشركسي وبركة البطيخ وقيسارية وبرة وقيسارية وعرب الدمايرة وعرب الغفارة، ثم عين لاياهودي هقزي بتح من اعمال قضاء حيفا واراضي عرب النفعيات في قضائي طولكرم وحيفا".

ومما يستحق الذكر هنا أن مأموري التسوية لم ياخذو شبرا واحدا مما كان يملكه اليهود بإسم أملاك الدولة مع أن منه ما أكن بكواشين" سندات" العرب وفي غطلاقها وإحتمالاتها، فكان الكوشان" سند الملكية" محل إعتراض وإدعاء وتحمل في مدى شموله للأراضي التي يحدها إذا كان مالك الأرض وصاحب الكوشان" السند" عربيا أما الكوشان الذي في يد اليهود فكان يقبل به كل ما يدعيه أصحابه ويعتبر شاملا لكل شبر من الأرض المسماة سهلها وجبلها وصالحها ورديئها ومعمورها وبروها.

مباشرة مأمور التسوية السلطات القضائية:

منحت الفقرة 1 من المادة 10 من القانون الآنف الذكر سلطة إلى مأمور التسوية للفصل في الإختلافات المتعلقة بملكية الأراضي والتصرف فيها وله أن يصدر ما يستصوب من الأوامر فيما يتعلق في أية خلافات وهذه السلطة الممنوحة إلى مأمور التسوية هي سلطة قضائية تنظر فيها المحاكم المختصة كمحاكم الأراضي مثلا. فهم يمارسون صلاحيات قضائية ويعينون من غير السلك القضائي وأغلب الذين كانوا يعينون في المناطق التي تشتبك فيها المصالح العربية واليهودية أو يرمي اليهود إلى إستخلاصها من العرب كانوا بإنسجام تام مع المصالح اليهودية ووكلاء الشركات اليهودية الذين كانوا في أثناء عمليات التسوية يعمدون إلى شراء حصص من أصحاب السندات الميتين والوارثين الذين لا يتصرفون في الأرض بأبخس الأثمان مع العرب الذين لهم حقوق قديمة في الأرض والسندات ويضعون أمامهم مختلف العراقيل.

حكومة الانتداب تسجل الأراضي بإسمها لتسهيل إنتقالها إلى اليهود:

جاء بالفقرة1،2،3 من المادة 29 من قانون التسوية الآنف الذكر أنه يحقق في حقوق الحكومة في الأراضي المعروفة بالميري والملك والمتروكة وبإسم هذا القانون يتم تسجيلها وتسويتها بإسم الحكومة، إضافة إلى ذلك تسجل بإسم الحكومة جميع الحقوق في الأراضي الواقعة في أية منطقة تسوية لم يثبت إدعاء ملاك عربي فيها. إن الحكومة هدفت من خلال هذه المادة إستخلاص أكبر مساحة من الأراضي الزراعية من مالكيها العرب بحجة كونها معطلة أو لاتدخل ضمن كواشين المالكين العرب، وتسجيلها بإسم الحكومة. ومنع إنتفاع العرب بها وإخراجهم من أراضيهم التي تتوقف عليها حياتهم وتعتمد عليها معيشتهم، ومن ثم تسهيل إنتقالها إلى اليهود بهبتها لهم طبقا للمادة 13 من " الدستور" المشار إليها سابقا.

ولتمليك الهيئات الصهيونية كل شيء حتى ما خصص للمنافع العامة عدل قانون التسوية لحقوق ملكية الأراضي وقد أضيفت مادة جديدة 29 مكرر في قانون التسوية رقم 48 لسنة 1939. والتي جاء فيها أنه إذا كانت أرض مخصصة لمنافع قرية أو مدينة وكانت قد تشكلت في تلك القرية أو المدينة هيئة قانونية تملك صلاحية إمتلاك الأموال غير المنقولة. فتسجل الحكومة هذه الأراضي المخصصة للمنفعة العامة إلى تلك الهيئة. ولا ريب في أن السياسة البريطانية ترمي بذلك إلى بناء المستعمرات والقرى والمدن اليهودية، وقد تكاثرت هذه الهيئات اليهودية مثل الوكالة اليهودية والمؤسسات المنبثقة منها كالصندوق القومي اليهودي"الكيرن كايمت" لإستملاك الأراضي. واعترفت الحكومة البريطانية بهذه المؤسسات رسميا. وقد منحت بريطانيا للوكالة اليهودية مجانا "300" الف دونم. ولكي يضيق الخناق على العرب ويفسح المجال أمام اليهود منع إنتقال الأراضي غير المفرزة بين العرب لضمان تحقيق نتائج قانون التسوية في القضاء على حالة الشيوع في المناطق الزراعية من فلسطين فجاءت المادة 41 من قانون التسوية لسنة 1928 لا تجيز إنتقال أية حصة في تلك الأرض إلا بعد إجراء إفرازها وسيترتب على ذلك منع إنتقال الأراضي بين العرب إلا بعد إجراء عملية إفراز لتستطيع الحكومة استخلاص أكبر مساحة ضمن هذه الأراضي لتسجيلها بإسمها ، ومن ثم تسهيل إنتقالها إلى اليهود.

قانون الغابات:

حسب هذا القانون فإن الغابات تعني أرضا مشجرة سواء كانت أشجارها نابتة نبتا طبيعيا أو مغروسة. فحسب هذا القانون توجد في فلسطين غابات كثيرة مسجلة بإسم أشخاص مالكين لها وبإسم قرى معينة بحيث يستطيع سكان هذه القرى إستعمال هذه الغابات كمزارع أو لقطع الأخشاب..إلخ. فرأت سلطة الإنتداب إصدار قانون بتاريخ 1 مارس 1926 سمته قانون الغابات وسلطته أيضا على الملاك العرب، إستولت بموجبه على غابات وأحراش فلسطين وبدأت بالإعلان عن مساحات واسعة من هذه الغابات كمناطق حكومية يجب المحافظة عليها حسب قانون الغابات ومعنى هذا أن دخول هذه المناطق يصبح ممنوعا.

الإستيلاء على غابات فلسطين:

1)
الإستيلاء على الغابت العامة:

منحت المادة 3 من قانون الغابات سلطة للمندوب السامي بوضع أية غابة تحت إشراف الحكومة وإدارتها كغابة محفوظة. ولاشك في أن هذه الغابات
مسجلة بإسم أشخاص مالكين لها وبإسم قرى معينة وكان أهالي القرى المجاورة للغابة يستفيدون منها بزراعة الأرض او الإستفادة من نتاج الغابة وكان المندوب السامي يصدر أوامره بمنشور لتصادر به الأراضي ويضع سلطانه عليها. ومن أمثلة تطبيقات هذا القانون :

" منشور رقم 5 لسنة 1942: أنا السر هارولد الفرد مكمايكل المندوب السامي لفلسطين إستنادا إلى الصلاحية المخولة لي في المادة الثالثة من قانون الغابات أعلن الأراضي المبينة أوصافها في الذيل التالي مناطق غابات محفوظة تحت إشراف الحكومة وإدراتها. الرقم المتسلسل:484، إسم الغابة المحفوظة: حموط،، الموقع: ضمن حدود المنطقة القروية في قضاء مركز طبريا وضمن منطقة قرية متصبا ،أرقام قطع التسجيل والقسائم وأرقام الأملاك الأميرية.. مجموع مساحات الغابات المحفوظة 270 دونم و910 مترا مربعا".

"منشور رقم 6 لسنة 1942 أنا السر هارولد مكمايكل المندوب السامي لفلسطين إستنادا إلى الصلاحية المخولة لي في المادة الثالثة من قانون الغابات ، أعلن الأراضي المبينة أوصافها في الذيل التالي مناطق غابات محفوظة تحت إشراف الحكومة وإدارتها". ثم يذكر المندوب السامي كشفا بيانيا بتلك الأراضي وملاكها وجميعهم من العرب الذين وصفهم بأنهم أدعياء تملك، ومجمل مجموع المساحات العربية المستولى عليها حوالي 480.88 دونما. كذلك أعلن المندوب عن 589.36 دونم من أراضي قضاء حيفا غابة محفوظة.، و 297.411 دونم من أراضي قرية بيسان من أعمال قضاء بيسان، و 1116.964 دونم من أراضي قرية جاحولا قضاء صفد. والأثر الذي يترتب على إعلان الغابة محفوظة بعد إعلانها بهذه الصفة من قبل المندوب السامي أن كل الحقوق التي استعملت من تاريخ الإدارة المدنية منذ شهر يولويو سنة 1920 أو بعد هذا التاريخ حقوق غير مكتسبة إلا إذا كان إكتسب هذا الحق كمنحة من حكومة حكومة الإنتداب أو بمقتضى عقد مع الحكومة. ومعنى هذا عدم الإعتراف بالحقوق التي إكتسبها العرب بزراعتهم لهذه الأراضي.

وحرمانهم من زراعة هذه الأراضي ومن المغروسات والنباتات التي أقاموها فوق هذه الأرض.فقرة 1 مادة 4. إضافة إلى عدم الإعتراف بالحقوق المكتسبة لهذه الغابات وحرمان المزارعين العرب من هذه الأراضي فإن الفقرة 2 من المادة المذكورة آنفا منعت نقل أي حق في غابة محفوظة أو عليها أو منحه إيجارها اأو الرهن أو أي تصرف آخر إلا بموافقة المندوب السامي. وهذه الفقرة أشمل وأوسع من الفقرة الأولى وأبعد أثرا، إذ منعت صاحب الحق بالغابة، حتى ولو قبل قيام الإدارة البريطانية، ومنعته القيام بأي تصرف كان ،ما يعني الإستيلاء على الغابة من قبل الحكومة.

ومن الآثار التي تترتب على إعلان الغابة محفوظة هو حرمان أي شخص من أن يقوم بفعل من الأفعال التي بينتها المادة الخامسة ،كأن يأخذ شيئا من نتاج الغابة،أو أن يرعى المواشي فيها ،أو إقامة سد أو حاجز على نهر أو جدول، أو أن يسكن في غابة محفوظة أو يشيد بناء فيها، وبهذا منع أهالي القرى الذين إعتادوا سد حاجاتهم التي من هذا القبيل من هذه الغابة ،والتي هي مسجلة أصلا بإسم قريتهم أو أشخاص عرب. فهذه المناشير المذكورة أعلاه لم تكن في الواقع إلا مقدمة لتغيير تصنيف هذه الأراضي من صنف ميري إلى صنف آخر من الأرض لتحال ملكيتها في الوقت المناسب إلى الهيئات الصهيونية.

2)
الإستيلاء على الغابات الخصوصية:

أجازت المادة 16 من قانون الغابات للمندوب السامي إصدار أمر بوضع تحت حمايته الغابات التي هي من الاملاك الخاصة، وذلك بإسم المصلحة العامة فبعد أن إستولى المندوب السامي على الغابات التي ليست من الأملاك الخاصة إنتقل إلى أملاك العرب الخاصة ليعلنها غابات محفوظة، أي وضعها تحت إشراف الحكومة وإدارتها. واعتبرت الفقرة3 من نفس المادة كل غابة تحت حماية الحكومة غابة محفوظة ، أي ترتب على الغابات المملوكة إلى مالكين عرب نفس الآثار التي تترتب على الغابات التي ليست من الأملاك الخاصة، وعدم الإعتراف بكل حق في هذه الغابة أستعمل للمرة الأولى منذ شهر يوليو 1920 ،ولا يعتبر مكسبا إلا إذا أكتسب كمنحة من حكومة الإنتداب أو بمقتضى عقد معها. كما لايمكن لصاحب الحق في غابة محفوظة أن يتصرف فيها بأي نوع من أنواع التصرف. كما يحرم صاحب الغابة التي أعلن أنها محفوظة من أخذ أي شيء من نتاجها أو أن يرعى الماواشي فيها وكذلك من السكن فيها أو تشييد بناء فيها أو زراعتها. ومن تطبيقات المادة المذكورة مايلي:

" أمر رقم 17 لسنة 1945 أن المندوب السامي إستنادا إلى الصلاحية المخولة له في الفقرة 2 من المادة السادسة عشر من قانون الغابات قد خول محافظ الغابات أن يضع تحت حمايته الغابات المدرجة تفاصيلها في الذيل الملحق بهذا الأمر، لأن ذلك في رأيه يعود بالمنفعة العامة.
الذيل: اسم المنطقة: اغراس الكينا في الطابغة. الموقع: في موقع عين التينة لقرية الطابغة من اعمال قضاء طبريا. المساحة: تبلغ مساحة المنطقة الواقعة ضمن الحدود المبينة اوصافها اعلاه 18 دونما متريا و600 متر مربع. الوصف: ارض مغروسة باشجار الكينا. 22 اذار 1945 صدر بامر فخامته وكيل السكرتير العام روبرت سكوت."

إن الارض التي إستولت عليها الحكومة بالنموذج السابق بإسم المصلحة العامة، هي أرض مزروعة من قبل أصحابها وأنها ملكهم الخاص ومصدر عيشهم فماذا كان مصيرهم بعد حرمانهم من هذا المصدر؟. إنها عملية تشريد للمزارعين والملاك العرب.

نظام إنتقال الأراضي لسنة 1940:

أصدرت حكومة الإنتداب في عهد المندوب السامي هارولد مكمايكل نظام إنتقال الأراضي في 28 فبراير 1940 وإعتبر نافذ المفعول في اليوم الثاني عشر من شهر مايو 1939 وجعلت فلسطين بموجبه ثلاث مناطق: المنطقة "ا" تشمل الجبال بوجه عام مع بعض مناطق واقعة في قضائي غزة وبئر السبع ، وحسب المادة"3" من النظام المذكور يمنع إنتقال الأرض في هذه المنطقة إلى شخص ليس بعربي فلسطيني. ولكن المشرع إستثنى حالات من المادة سمح بها بإجراء إنتقال الأراضي إلى غير العرب الفلسطينين ومنح المندوب السامي سلطة بالتصريح بذلك "فقرة:ا،ب،ج،د" من المادة "3" وأصبح بموجب هذه الفقرات من الممكن نقل ملكية الأراضي إلى غير العرب الفلسطينين. ومن التطبيقات العملية لهذا النظام نذكرالمثال التالي: أمر صادر من المندوب السامي: والذي إستنادا إلى الصلاحية المخولة له في البند "د" في الفقرة الشرطية الأولى الملحقة بالمادة الثالثة من نظام إنتقالات الأراضي لسنة 1940 قد أمر بالسماح بإنتقال أية أرض من الأراضي التالية المبينة في الذيل الملحق بهذا الأمر أو أي جزء منها أو أي حق فيها أو أي قسم منها لأي شخص ليس من العرب الفلسطينين.

الذيل : الأراضي المسجلة في الوقت الحاضر بإسم "شركة قريات يعاريم" الواقعة في قرية العنب أبو غوش من أعمال قضاء القدس.

المنطقة "ب" وتشمل على مرج بن عامر وشرق الجليل والسهول الساحلية الواقعة بين حيفا والطنطورة وبين الحد الجنوبي لقضاء الرملة والقسم الجنوبي في قضاء بئر السبع "النقب" ،وحسب المادة "4" من النظام المذكور آنفا يحظر إنتقال الأراضي الواقعة في المنطقة "ب" من قبل العرب الفلسطينين إلى غير العرب الفلسطينين إلا إذا كان الشخص الذي يراد إنتقال الأرض إليه قد نال موافقة المندوب السامي، والمندوب السامي كان يمنح موافقته على إنتقال الأرض من العربي الفلسطيني إلى غير العربي الفلسطيني إما لتوحيد أو توسيع أو تسهيل ري ممتلكات تكون في ذلك الحين في تصرف المنقول إليه أو في تصرف طائفته مع وجود الأرض التي يراد إنتقالها مجاورة لتلك الممتلكات ، أو لأجل التمكن من إفراز أرض يملكها الناقل والمنقول إليه بحصص غير مفرزة ، أو لأجل مشروع خاص من مشاريع العمران يعود بالفائدة على اليهود والعرب.

وبهذه الحجج كان المندوب السامي يوافق ويسهل عملية إنتقال الأراضي من العرب الفلسطينين إلى اليهود. وبموجب المادة المذكورة آنفا أجازت إنتقال الأراضي التي يملكها غير الفلسطينين كالعائلات اللبنانية والسورية الذين تكثر أراضيهم في هذه المنطقة " ب" إلى اليهود.

المنطقة "ج" و لن تكون هنالك أية قيود على الإنتقالات التي تجري في أنحاء فلسطين غيرالمشمولة في المنطقة "ا" أو في المنطقة "ب"، وتشتمل هذه الأنحاء على جميع مناطق البلديات ومنطقة حيفا الصناعية ،وبصورة عامة السهل الساحلي الواقع بين "الطنطورة" والحد الجنوبي لقضاء الرملة. والمدقق بهذه التقسيمات يدرك أنها وضعت على ضوء خطة لتقسيم فلسطين، فقد أباح الإنتقال في المنطقة التي كانت ستعين للدولة اليهودية، ومنع في المنطقة التي كانت ستعين للدولة العربية ، وقد عمد اليهود إلى الإحتيال على التشريعات على مرأى ومسمع الحكومة المنتدبة وتملكوا كثير من الأراضي في الأقسام المحظورة.

قانون الأراضي" إستملاك الأراضي للغايات العامة":

ولكن يظهر أن جميع القوانين السالفة لم تكن كافية للإستيلاء على الأراضي العربية، فرغم جميع المواد التي سنت، ظلت فجوات خطيرة في شبكات القوانين يستطبع العربي أن يتسلل منها ويستمر في الإحتفاظ بجزء من أرضه. ولسد هذه الفجوات ومنح صلاحيات جديدة لمصادرة أراضي أخرى نشر في العاشر من ديسمبر سنة 1943 قانون الأراضي "إستملاكها للغايات العامة" رقم 24 لسنة 1943 فهذا القانون يشمل ، أو بتعبير أدق : يطبق على كل أرض في الدولة تحتاجها الحكومة أو السلطات البلدية أو المؤسسات العامة الأخرى، والمؤسسات الصهيونية وأصحاب الإمتياز. وتتم عملية الإمتلاك بواسطة المندوب السامي بنشر إعلان في الصحيفة الرسمية يعلن فيه أنه ثبت له أن الأرض مطلوبة لغاية عامة.

ولتنفيذ الإرادة الإستعمارية والصهيونية منحت المادة"3" من قانون الأراضي "إستملاكها للغايات العامة" سلطة إلى المندوب السامي إذا رأى أن ذلك ضروري أو ملائم للغاية العامة أن يستملك أية رض إستملاكا مطلقا أو أن يستملك التصرف بها...، فما هي الغاية العامة المتحدث عنها؟ ، يعرف القانون المتحدث عنه هذه الغاية بأنها: " أية غاية من الغايات العامة التي يشهد المندوب السامي بأنها كذلك"، فالغاية العامة أمرمتروك تقديره لشخص المندوب السامي ويقرره لدى إقتناعه الشخصي أن إستملاك أي أرض هو غاية عامة. ولا ريب بأن بريطانيا إلتزمت أمام مصالحها وأمام الصهيونية بإقامة الوطن القومي اليهودي وبالتالي فإن الغاية العامة من وجهة نظر المندوب السامي هي إستملاك الأراضي وإقامة المؤسسات الصهيونية وتشريد السكان الأصليين وإسكان المهجرين اليهود. إن القرار في ما إذا كانت الغاية تبرر الإستملاك يجب أن تترك للسلطة التشريعية أو السلطة التنفيذية ، وفلسطين في عهد الإنتداب كانت محرومة من هاتبن السلطتين ، فهاتين السلطتين يمارسهما المندوب السامي.

القانون السابق يجيز للمؤسسات الصهيونية أن تستملك الأراضي "لغاية عامة":

أجازت الفقرة "1" من المادة "22" من القانون لأي شخص أن يطلب من المندوب السامي أن يستملك أي أرض بالنيابة عنه أو لمنفعته إذا رأى المندوب إستملاكها منفعة عامة للجمهور جاز له أن يباشر إستملاكها. على أن الفقرة الثانية من المادة المذكورة توسعت في منح هذه الصلاحيات وأجازت للمندوب السامي أن ينيط جميع صلاحياته لإستملاك أي أرض إلى هيئة بلدية أو مجلسا محليا أو أية سلطة محلية أخرى.ومن الأمثلة التطبيقة للمادة السابقة :

1) "أن بلدية بتاح تقوا، إستنادا إلى الصلاحية المخولة لها في الإعلان الصادر من القائم بأعمال الحكومة بمقتضى الفقرة 2 من المادة 22 من قانون الأراضي "إستملاكها للغايات العامة رقم 24 لسنة 1943 المنشورة في الصفحة1365 من الملحق رقم2 العدد131 المؤرخ في 2نوفمبر سنة 1944 الذي يقضي بتفويض بلدية بتح تقوا ممارسة جميع الصلاحيات المخولة للمندوب السامي ، والقيام بجميع الإلتزامات المترتبة عليه وفقا لأحكام القانون المذكور ، تعلن أنها بحاجة إلى إستملاك ذلك القسم من قطعة الأرض المعروفة بالقسيمة رقم 7 من القطعة رقم 6374 بتح تقوا البالغة مساحته8 دونمات و338 مترا مربعا تقريبا .وهو ليس من أملاكها فعلى من يدعي بحق أو مصلحة في الأراضي المذكورة أن يقدم إلى محامي البلدية مستر أي هراري المقيم في شارع آحاد هام رقم 38 بتل أبيب خلال 6 أسابيع من تاريخ نشر هذا الإعلان بيانا بما يملكه من حق أو مصلحة في الأراضي مؤيدا بالبينة أو بأي إدعاء يكون قد قدمه بشأن ذلك الحق أو تلك المصلحة . إن هيأة بلدية بتح تقوا تنوي وضع اليد على قطعة الأرض المذكورة بعد مرور 6 أسابيع من نشر هذا الإعلان ، وتوعز بلدية بتح تقوا إلى الأشخاص الذين يدعون بأي حق أو مصلحة في الأراض المذكورة ، أن يرفعوا يدهم عنها بعد مرور الأسابيع الستة المذكورة. 6فبراير 1945 . رئيس بلدية بتاح تقوا."
أي منفعة عامة هذه التي تضم فيها بلدية بتح تقوا اليهودية حوالي 8 آلاف متر من أراضي يافا العربية اليها . أهي منفعة عامة للشعب الفلسطيني أم هي منفعة خاصة لبناء الوطن القومي اليهودي ، إنها بالتاكيد عملية إستيلاء على أراضي عربية وضمها إلى المؤسسة الصهيونية.

2) " ليكن معلوما أن المندوب السامي إستنادا إلى الصلاحية المخولة له في..... قد فوض مجلس ريشون لصيون المحلي ممارسة جميع الصلاحيات والحقوق المخولة له أو للنائب العام والقيام بجميع الإلتزامات المترتبة على أي منهما بمقتضى أحكام القانونا لمذكور وهو في راأي المندوب السامي مما يعود بالمنفعة على الجمهور .

الذيل : قطعة أرض تقع في ريشون لصيون من أعمال قضاء الرملة تبلغ مساحتها 15 دونم و 490 مترا مربعا أو ما يقارب ذلك وتؤلف القسيمة رقم 46 من قطعة تسجيل الأراضي رقم 3937 المبينه على الخارطة المعنونه بخارطة قطعة تسجيل الأراضي رقم 3937 في ريشون لصيون والمشار اليها باللون الأحمر ويجوز الإطلاع على نسخة منها في مكتب مجلس ريشون لصيون المحلي خلال أوقات الدوام.تحريرا في 26 ابريل 1947 ... ".
لقد طبقت هذا القانون هيئات ومجالس بلديات القرى والمدن اليهودية كافة _هذه القرى والمدن التي تأسست في عهد الإنتداب وضمت إليها آلاف الدونمات_ لبناء المستعمرات والبيوت للقادمين الجدد من المهاجرين وإقامة المرافق والمؤسسات الصهيونية ،كل هذا بفعل قانون الأراضي"إستملاكها للغايات العامة". إنها عملية بناء الوطن القومي اليهودي . ولأهمية هذا القانون فقد أبقت عليه "حكومة إسرائيل" بعد عام 1948 وعن طريقه إستملكت أفضل الأراضي في فلسطين بسم الصالح العام .

الآثار المترتبة على قوانين الأراضي"قلة الأراضي الزراعية":

تبلغ مساحة فلسطين 27.027.032دونم بما فيها مساحة البحيرات( البحر الميت "525 ألف دونم"، وبحيرة طبرية" 165 ألف دونم"، وبحيرة الحولة "14 ألف دونم" ). وعند الإحتلال البريطاني لفلسطين في 1918 كانت الأراضي موزعة من حيث تسجيل ملكيتها رسميا كما يلي:
704.000دونم مساحة البحيرات، 13.673.032 دونم مسجلة أملاكا للعرب، 12.000.000 مسجلة أملاكا للدولة (الأراضي الأميرية) المجموع ( 27.027.032 دونم).

إن الأراضي التي كانت مسجلة بإسم الدولة تتألف في معظمها من الأراضي الصحراوية والقاحلة والجبلية والوعرة والأحراش، وأقلها من أراض زراعية جيدة كثيرة الخصبة وكان العرب يتصرفون في القسم الأوفر من أراضي الدولة "الأميرية". أما المساحة التي كانت مسجلة أملاكا لليهود فهي المساحة التي إستطاعو الحصول عليها خلال سبعين عاما في العهد العثماني "1848الى 1918" وكان اليهود قد إشترو معظمها من مالكين غير فلسطينين.أي أن أراضي فلسطين كانت مملوكة عند الإحتلال البرطاني لها سنة 1918 على أساس النسب التالية: 52 في المائة للعرب، 45.5 في المائة للدولة، 2.5 في المائة لليهود.

الأراضي التي تملكها الصهيونيون في عهد الإنتداب البريطاني:

إستمر الإنتداب البريطاني على فلسطين مدة 30 عاما بذل خلالها الإنجليز والصهيونين أضخم الجهود وأعظم المساعي للإستيلاء على أراضي فلسطين ، ولجأت السلطة البريطانية المنتدبة إلى إجراءات تشريعية وإصدار سلسلة من القوانين، وكما رأينا كانت غاية هذه القوانين تسهيل نقل ملكية الأراضي لليهود تطبيقا لسياسة وضع فلسطين في وضع إقتصادي وإجتماعي وسياسي يضمن إنشاء وطن قومي لليهود. وتم تسجيل 1.425.000 دونما بإسم اليهود من مجموع مساحة فلسطين عدا 650 ألف دونما حصل عليها اليهود في العهد العثماني. وفيما يلي المساحات التي إستولى عليها اليهود وكيفية حصولهم عليها:

500.000دونما أرض أميرية من أحسن أراضي فلسطين الزراعية منحتها الحكومة البرطانية للوكالة اليهودية، 625.000 دونما اشتراها اليهود من ملاك غير فلسطينين موزعة كما يلي: 400.000دونما هي أراضي مرج بن عامر، و 165.000 دونما هي أراضي الحولة، و32.000 دونما هي أراضي وادي الحوارث، 28.000 دونما هي مساحات مختلفة في أقضية "مراكز" الناصرة وصفد وعكا وبيسان وجينين وطول كرم. 300.000 دونما إشتراها اليهود من عرب فلسطين وبعضها بموجب قانون نزع الملكية وقانون تسوية حقوق الأراضي وقانون الأراضي إستملاكها للغايات العامة، 250 ألف دونم سجلت في الدوائر الرسمية ونحو 50 ألف دونم بعقود شخصية لم تسجل في الدوائر الرسمية.1.425.000 دونم تشكل مجموع مساحة الأراضي التي حصل عليها اليهود خلال عهد الإنتداب البريطاني يضاف اليها 650.000 دونم حصل عليها اليهود خلال سبعين عاما في العهد العثماني "1848_1918" وقبل الإحتلال البريطاني. وهكذا فإن مجموع مساحة الأراضي التي كانت في حيازة اليهود وتملكهم حتى أيار 1948 كانت2.075.000، وهذه المساحة تشكل نحو "8 في المائة" فقط من مجموع مساحة فلسطين و"12 في المائة" من ممتلكات العرب المسجلة بأسمائهم " بإستثناء النقب التي كان للعرب فيها حقوق إستفادة قديمة العهد". إلا أن هذه المساحة وإن كانت نسبتها ضئيلة إلا أنها مهمة لأنها تقع في مناطق المدن والقرى العمرانية وفي المناطق المزروعة بالفاكهة أو الصالحة للزراعة عموما ،وقد كان فيها نسبة ضئيلة لا تذكر غير قابلة للزراعة ولذلك فهي كانت تمثل حوالي "20 في المائة" من الأراضي الفلسطينية القابلة للزراعة. فملكية اليهود للأراضي تزداد في المدن الواقعة في مناطق غنية كيافا وحيفا الواقعتين في السهل الساحلي الخصب الغني بالزراعة وكذلك بيسان وطبريا لوقوعهما في أغوار الأردن ذات التربة الخصبة والمياه الوفرة.

إن مسؤولية إنتقال الأراضي إلى الأيدي الصهيونية تقع على عاتق الحكومة الإنتدابية البريطانية لإتباعها سياسة إفقار طبقة الفلاحين كي بييعوا أراضيهم، وقيامها بإصدار قوانين ساعدت وملكت بموجبها أراضي إلى اليهود، ولولا هذه السياسة وهذه القوانين لما إنتقلت الأراضي إلى اليهود ولما توغلوا في البلاد مهما يكن الثمن الذي دفعته الصهيونية.

السياسة البريطانية لإفقار الفلاح الفلسطيني:

قام إقتصاد فلسطين الأساسي على الزراعة، التي كان يعمل بها نحو60-70% من السكان في القرن التاسع عشر، ومعنى هذا أن الفلاحين شكلو الطبقة العريضة من السكان. وقد ساد في فلسطين حتى أواخر العهد العثماني نظام شبه إقطاعي ، قام على ساس ما كان يعرف "بنظام الإلتزام" )وهو نظام لجمع الضرائب بمقتضاه يتم جباية موال الدولة"الأموال الأميرية" بتفويض شخص بأمور الجباية يسمى" الملتزم"، وهو غالبا ما يكون من كبار الملاك، عن طريق المزايدة. وقصد جمع أكبر قدر ممكن من أموال الفلاحين لجأ هؤلاء "الملتزمون" إلى كل وسائل الضغط والتسلط ، وستطاعوا عن طريق هذا النظام الحصول على مساحات واسعة من أراضي الفلاحين المطهدين. لكن سيادة النظام شبه الإقطاعي وكثرة الضرائب التي كان يدفعها الفلاحون" ضريبة العشر أي عشر المحصول الزراعي، والويركو وهي الضريبة على الأراضي والبيوت، وضريبة الحيوانات،والسخرة، والمعارف". بالإضافة إلى ماكانت تضيفه السلطات العثمانية إلى معدلات هذه الضرائب إبان الحرب، وإستيلاء السلطات العثمانية على المحاصيل والدواب في بعض الأحيان، أسفر في النهاية عن إفقار الفلاحين. وقد صور البعض حالة الفلاح العربي إبان الحكم العثماني فقال: " كان نصيب الفلاح العربي يتمثل مجتمعا بالمجاعة والعمل الشاق ونظام السخرة وكثرة الضرائب والفرائض وإنعدام الحقوق وتهكم الإقطاعي وخدمه" .

ومع بداية الخميسنات من القرن التاسع عشر وبدء ظهور الوسطاء التجاريين من العرب والأجانب، أخذ الفلاح يرزح تحت طائلة الدين. ففي وقت جمع الضرائب ، وهو الوقت الذي يكون فيه الفلاح بمس الحاجة إلى النقدـ يتوجه جيش من التجار، أغلبهم وكلاء للتجار الأجانب، إلى القرى" ليساعدوا" الفلاح بتقديم النقد الضروري له ، لقاء رهن محصوله القادم، بفائدة 3-5% في الشهر، أو بشراء المحصول كله لقاء ثلثي أو نصف ثمنه. وبذلك يستولي التجار على المحصول بأرخص الأثمان، أو يربحون فوائد قروضهم والتي كانت تتراوح بين 36و60% في العام. وهكذا يجد رأس المال الأجنبي في القرية المسحوقة بإضطهاد كبار الملاك أفضل تربة لتطوير نشاطه الربوي.

وبصفة عامة لقد عانى الشعب الفلسطيني من ثلاثة أنواع من القهر:

(1 القهر الذي عانته جماهير الشعب الفلسطيني من الإستعمار البريطاني الدذي كان أشد قسوة في فلسطين عنه في أي بلد آخر للمحافظة على مصالحه المقترنة والمرهونة بإلتزامه ببناء الوطن القومي اليهودي في فلسطين، مما جعله لا يمنح فلسطين أي شكل من أشكال الإستقلال النسبي على غرار ما فعله في شرق الأردن ومصر والعراق.
(2 القهر الناتج عن الغزو الصهيوني الدذي تركز على فلسطين دون بقية أجزاء سوريا التي كانت فلسطين تعتبر جزءا منها"حيث كانت تسمى بسوريا الجنوبية".

(3 القهر الطبقي الذي مارسه كبار الملاك والبرجوازيين العرب ضد الطبقات الكادحة العربية الفلسطينية وخاصة الفلاحين.
وإن إعطاء صورة عن الإضطهاد الذي مورس ضد الفلاحين في العهد البريطاني حتى تجبرهم على التخلي عن أرضهم، يعطينا تصور واضح عن حجم المعاناة التي عاناه فلاحين فلسطين والتي بالرغم منها بقوا متشبثن بأرضهم متمسكين بتاريخ أجداهم ما إستطاعوا إلى ذلك سبيلا.

بداية نشير إلى أن جنوب فلسطين وحتى ديسمبر 1917 كانت ميدانا لمعارك شديدة بين القوات الإنجليزية والقوات العثمانية، كما كان شمال فلسطين ميدانا لقتال عنيف في سبتمبر 1918، وقد قام الأتراك في الجنوب بقطع أشجار الزيتون والبرتقال وغيرها لإستخدامها وقودا لأغراض عسكرية، وقدرت أعدا د ما قطع من أشجار الزيتون ب 30 ألف شجرة ، ونتج عن ذلك كله بالاإضافة إلى إنقطاع الصادرات والواردات أزمة إقتصادية طاحنة في البلاد عانى منها الفلاحين الفلسطينين والدذين كانوا يشكلون 69% من المسلمين و 46% من العرب المسيحين في فلسطين. فأسعار الثياب والسكر وغيرها من السلع وغيرها من المصنوعات والبضائع كانت تباع بزيادة 25% عن ثمنها قبل الإحتلال البريطاني، ، كما أن البلاد تفتقر للضروريات اللازمة لإعمار البلاد مما خلفته الحرب من دمار، والإنتاج فيها قليل والمواصلات ووسائل النقل ضعيفة ودون المستوى.

وقد عانى الفلاح الفلسطيني من كل ذلك بالإضافة إلى نقص دواب الزراعة بعد ن إستولى الأتراك على معظمها قبل الإنسحاب من جنوبي فلسطين مما دفع الإدارة العسكرية البريطانية إلى الإتفاق مع السلطات المصرية لتوريد عدد شهري من البهائم للزراعة وبيعها للفلاحين. وأمام هذا الوضع الإقتصادي السيء أقبل الفلاح الفلسطيني إلى الإقتراض بالربا الفاحش إما لسداد قسم من الضرائب المفروضة عليه والتي كانت كثير ومتعددة بحيث يمكن القول بأن ضرائب الدولة كانت تجمع من الفلاحين دون غيرهم، وإما لشراء ما يلزم لزراعة الأرض، وقد عملت البنوك الصهيونية عملها في هذا المجال خاصة بعد قيام الإنجليز بإغلاق البنك الزراعي العثماني الذي كان الوحيد من نوعه الذي يتعامل معه الفلاحين.

إن الضغط والقهر الإنجلو – صهيوني على طبقة الفلاحين العرب، كان قد بلغ مداه في أوائل عام 1936، ويتمثل عظم هذا الضغط والقهر إذا عرفنا أن عدد الفلاحين العرب في ذلك الوقت بلغ 65.566 شخصا فلاحا في عام 1931 مقابل 3.669 يهوديا ، وأن عدد الأجراء العرب في المزارع بلغ 29.589 شخصا مقابل 2.582 يهوديا في العام نفسه، ومع حجم هذه الطبقة وكون فلسطين بلد زراعي إلا أن الحكومة البريطانية لم تبد أي إهتمام لمساعدة الفلاحين، بل على العكس من ذلك أوجدت لليهود ظروفا ملائمة تمكنوا بها من شراء الأراضي وإرغام الفلاحين على تركها. فقد أشار تقرير لجنة جونسون- كروسبي عام 1930"حيث كانت بريطانيا ترسل لجان الى فلسطين لتقييم الوضع فيها" ، إلى أن متوسط الدخل السنوي العادي لأي أسرة من الفلاحين كان يبلغ 31.31 جنيها. وبعد خصم معدل الفائدة البالغ 30% على معدل الدين الذي يبلغ 27 جنيها، أي 8 جنيهات، ينزل الإيراد الصافي إلى 23.37جنيها. ولم يكن هذا الرقم عرضة لضريبة واحدة فقط بل لجميع اأنواع الضرائب المباشرة في البلاد. وطبقة الفالحين هي في الحقيقة الطبقة الوحيدة التي كانت تقوم بدفع جميع أنواع الضرائب في فلسطين. فالفلاح كان يدفع ضريبة العشر والويكرو وضريبة الحيوانات.وقد اتبعت الحكومة البريطانية منتهى القسوة والظلم مع الفلاح الذي كان لا يظهر حيواناته حين الإحصاء فكانت تفرض ضريبة مضاعفة عليه. وأكد التقرير المذكور آنفا أن الفلاح كان يدفع 3.87 جنيهات تسديدا للضرائب الثلاث، ويبقى له 19.5 جنيها كإيراد سنوي صاف لإعاشة العائلة. وفي نفس التقرير ثبت أن المبلغ اللازم لإعاشة العائلة الفلاحية يبلغ 26 جنيها وهذا المبلغ يشتمل على المواد الضرورية وهي: قمح وذرة بعشرة جنيهات، زيتون وزيت زيتون بثلاث جنيهات، منتجات قروية أخرى بأربعة جنيهات، ضروريات أخرى ليست من إنتاج القرية بثلاث جنيهات، ملابس بخمسة جنيهات، مساهمة في مصاريف مشتركة جنيه واحد، هدذا كله بالإضافة إلى ضريبة الطرق في القرى التي كان يدفعها الفلاح ، وضرائب أخرى غير مباشرة تتعلق بالجمارك والمكوس. إن معدل ضريبة الجمارك في فلسطين بلغ 26.6% في عام 1930 بينما لم تكن سوى 11% في بداية عهد الانتداب. ومما زاد الأمر سوءا بالنسبة للفلاح العربي الفلسطيني ن أكثر المواد الضرورية لحياته كانت تفرض عليها ضرائب جمركية عالية. فضريبة السكر كانت تبلغ 100% ،والدخان 149%، والجاز 51%، والبنزين 208%، والكبريت 400%، والأرز 15% ، والبن 26%. هدذا بالإضافة إلى أن الفلاح كان يدفع جنيهين ضريبة جمركية على البضائع التي يشتريها، وبذلك بلغ مجموع الضرائب التي كان الفلاح يدفعها 5.87 جنيهات ، أي 25% من دخله السنوي ،
بينما كان التاجر أو الموظف الذي يبلغ إيراده السنوي 1000جنيه يدفع 12.5% فقط كضريبة.

إن عملية إفقار الفلاح العربي الفلسطيني بدأت في الواقع منذ الإحتلال العسكري البريطاني في أواخر عام 1917 كما سبق ذكره آنفا، فقد كان على الفلاح العربي الفلسطيني أن يشتري البهائم من الإدارة العسكرية على إثر الإحتلال لكي يحرث عليها ،وكانت الأسعار عالية جدا، 60و70و80 جنيها، ويخذها بالدين. وكان الفلاح يرجو أن يبيع مواسمه " محاصيله" في عام 1918 بأسعار جيدة تفي بديونه، فحظرت عليه الحكومة التصدير. ومالبثت أن هبطت أسعار المواسم "المحاصيل" نحو 80% ، وبقي الفلاح مرهقا بالديون التي كانت تتراكم عليه سنة بعد سنة. وبعد ذلك جاءت الحكومة لتستوفي "العشر" منه نقدا بدلا من أن تفعل كتركيا التي كانت تستوفيه عينا بواسطة "الملتزمين" ، وهدذا ما زاد في ضيق الفلاح، ثم جمعت العشر، أي فرضته على معدل خمس سنوات، فازداد خرابه، لأن تخمينها كان بأسعار السنين التي كانت تكون فيها الأسعار عالية، فكان يصل العشر إلى ثلث الموسم "المحصول" أو أكثر. إن إقتراض الفلالحين من بنك باركليز الإنجليزي هو أكبر عامل لخراب الفلاح، فهذا المسكين يدفع 9% فائدة وفي الحقيقة الفائدة تتجاوز ذلك كثيرا.

وهو يلتزم أن يدفع الفائدة سلفا ورأس المال في آخر السنة وهو أمر لايستطيعه ولا يد له فيه ، فيضطر لوفاء هذا الدين أن يبيع موسمه"محصوله" أو أملاكه بأبخس الأثمان.

واستمرت الحكومة البريطانية في عملية فقار الفلاح الفلسطيني حتى بعد تسيس الإدارة المدنية في يوليو 1920. فقد أنشات "دائرة التسوية" لفرز الأراضي المشاع في القرى لأن وجود المشاعات كان حائلا دون تمكين اليهود من شراء الأراضي ، ولمراجعة قيود الملاك، والتثبيت من حقوق الملاكين فيها، وإنتزاع مالا تثبت ملكيتهم عليها. كما إستخدمت القوة المسلحة في طرد 2746 عائلة عربية من 22 قرية في مرج بن عامر، و15.500 عربي من وادي الحوارث، و 15 ألفا من الحولة، وألوفا آخرين من أراضي الساخنة،وغور بيسان، وطبعون، والزبيدات، والمنسى، وغيرها، ممازاد في تضخم طبقة الفلاحين العرب المعدمين ، ففي دراسة أجريت عام 1936 على 322 قرية عربية، ثبت أن 47% من الفلاحين يملكون أقل من 7 دونمات ، و 63% يملكون أقل من 20 دونما، مع أن الحد الأدنى اللازم لإعاشة عائلة عربية كان 130 دونما حسب تقدير المستر شو عام 1930. ويعترف التقرير البريطاني لعام 1935 بأنه حتى 31 ديسمبر 1935 قدم إلى الحكومة 3271 طلبا من أرباب أسر فلاحية يطلبون تسجيلهم على أساس أنهم لايجدون أرضا للمعيشة، وأن الحكومة قبلت فقط 664 طلبا، ورفضت 2607 طلبات.

إن الفلاح العربي الفلسطيني لم يبع أرضه"على قلتها" إلا تحت ضغط عملية الإفقار التي مارستها السلطات البريطانية بالإتفاق والتعاون مع الحركة الصهيونية. ويعترف تقرير لجنة شو بأن نسبة الأراضي التي إشتراها اليهود من الفلاحين العرب لم تزد بأي شكل من الأشكال على 10 % من مجموع ما إشتراه اليهود عام 1930 وذكر "المستر غرانوت خبير الأراضي اليهودي" أن ما كسبته 3 شركات يهودية حتى العام 1936 كان عبارة عن 52.6% من كبار أصحاب الأراضي الغائبين ، و24.6% من كبار أصحاب الأرض المقيمين و13.4% من الحكومة والكنائس والشركات الأجنبية ، و9.4% من الفلاحين العرب الفلسطينين.

كانت عملية شراء اليهود للأراضي تخلق بإستمرا طبقة منتزايدة الإتساع من الفلاحين العرب المعدمين، الذين كانو يتحولون إلى عمال زراعيين موسميين أو كانوا ينزحون إلى المدن في الغالب، ليصبحوا يدا عاملة غير ماهرة ورخيصة، اذ لم يحدث أن أخرج فلاح من أرضه وتحصل على أرض جديدة، ولا في حادثة واحدة. هكذا كانت حالة الفلاحين الفلسطينين.

أسر غير فلسطينية تبيع أرضها في فلسطين لليهود:

في ظل النظام شبه الإقطاعي الذي ساد فلسطين في القرن التاسع عشر ،إبان الحكم العثماني ، وفي ظل نظام الإلتزام وأساليب البطش والإرهاق في جمع الضرائب، تنازل كثير من فلاحي فلسطين العرب للملتزمين، أو للسلطان عبد الحميد، عن راضيهم مقابل حمايتهم ودفع خمس المحصول لهم. وبهذه الطريقة، وبطريقة الشراء بأبخس الأثمان ، وبواسطة نفوذها وصلاتها الوثيقة برجال الحكم في العهد العثماني تمكنت طبقة من الأغنياء من بيروت ودمشق، من الحصول على مساحات واسعة من أحسن الأراضي الزراعية في مناطق فلسطين المختلفة . وقدرت مساحة هذه الأراضي ب "875"ألف دونم. إشترى اليهود جزء من هذه الأراضي قبل الحرب العالمية الأولى، وإستمرت جهودهم لشراء أراض أخرى بعد الحرب.

وبظهور الإستعمار البريطاني _الصهيوني ، سنت بريطانيا القوانين التي تخدم مشروع بناء الوطن القومي لليهود في فلسطين، ووجدت الأسر السورية واللبنانية أن فلسطين لم تعد مكانا للإستثمار والكسب وأن من حصافة الرأي الطامع أن تتخلص من الأراضي التي تملكها ، ليس عن طريق تمليكها لجموع الفلاحين الفلسطينين الذين أقاموا بها وأصلحوا فيها ورووها بعرقهم وواروا فيها أجداث أجدادهم مئات السنين ، ولكن ببيعها لذهب اليهود وأموالهم التي جعلت الصفقات الكبيرة تتوالى.

بيع أرض مرج بن عامر:

كانت أسرة آل سرسق اللبيروتية اللبنانية تملك "400" ألف دونم من أخصب أراضي فلسطين في مرج بن عامر وتضم عددا من القرى العربية تبلغ "22"قرية يسكنها "1746" عائلة عربية. وقد باع ل سرسق اللبنانيون هذه الأراضي الخصبة إلى اليهود بين عامي 1921_1925 ، وقد رفض الفلاحون والقرويون الفلسطينين إعتبار ذلك البيع قانونيا وتمسكوا بأراضيهم وقراهم التي عاشوا عليها مئات السنين وأبو تسليمها إلى اليهود وطلبوا من الحكومة البريطانية لحمايتهم والمحافظة على حقوقهم ، ولكن الحكومة رفضت طلبهم ولجأت الى طردهم من أراضيهم وقراهم . وأطلق الجنود البريطانيون والبوليس النار على العرب الذين رفضوا الخروج من أراضيهم وهدموا أكواخهم ونسفوا بيوتهم وقوضوا خيامهم وطردوهم من الأراضي والقرى ، فقرية معلول العربية والتي كانت أراضيها قد نقلت إلى إسم مشتريها اللبناني العثماني من السراسقة المقيمين في بيروت ، وبقي أهاليها يزرعونها، وبلغت مساحة السهل المفتلح منها عشرون ألف دونم، نقل قيدها في سجل الأراضي بين ليلة وضحاها إلى إسم شركة يهودية، ورفعت أيدي أهالي معلول عن تلك السهول ، إلا ثلاثة آلاف دونما بقيت لهم بصورة مؤقتة ، فما حال من حرم ستة أسباع من أسباب معيشته؟ وبإسم القانون سلمت أراضي العفولة إلى من نقل قيدها إلى إسمه وأجلي عنها أهاليها وتعتبر العفولة أم قرى مرج بن عامر وقد أنشأ اليهود "56"مستعمرة فوق الأراضي التي كان يمتلكها آل سرسق فقط . إن سعي الحركة الصهيونية لإقامة وطن قومي يهودي في فلسطين يعني ضمنيا السعي لإمتلاك الأرض وإقامة المستعمرات فيها، وقد عملت الحركة الصهيونية على خلق إرتباط بين اليهود وبين الأرض عن طريق إقامة المستعمرات الجماعية والتعاونية بتشجيع اليهود الوافدين على الزارعة بعد ما كانو يتعاطون المهن التجارية والحرفية والمصرفية فقط. ولقد إعتبرت الحركة الصهيونية الإستعمار مشروعا قوميا لم ينتج عن هجرة عادية بل هو نتيجة حركة سياسية عامة تهدف إلى إقامة وجود يهودي مستقل في فلسطين ولهذا وضع هدف إستعمار فلسطين فوق كل الأهداف في الحركة الصهيونية. فكان المهاجرون القادمون إلى فلسطين يتلقون العون من صناديق عامة تمتلكها المؤسسات الصهيونية ويقيمون المستوطنات على أراضي عامة إشترتها الحركة الصهيونية مستغلة عبادة بعض العائلات كآل سرسق للذهب الصهيوني .

وادي الحوارث:

تلا مأساة مرج بن عامر مأساة "وادي الحوارث" الخصيبب الواقع بين قيسارية ونهر الفالق على الساحل الفلسطيني، والتي تعطي صورة لأبشع صور مأساة الأرض في فلسطين في تلك الفترة ، وتبلغ مساحة هذه الأرض ما يقارب"'40 ألف دونم"، وفي هذه الحلقة من حلقات مأساة الأرض في فلسطين تم طرد عرب وادي الحوارث من راضيهم بالقوة طردا جماعيا بحجة تنفيذ حكما قضائيا، وكانت تلك الأراضي مسجلة بإسم أمراء القبيلة دون أفرادها فباعوها لأسرة التيان اللبنانية التي رهنتها لبعض الفرنسين ،والذين بدورهم رهنو رهنهم لبعض اليهود الفرنسيين أيضا، وكان ذلك في زمن الدولة العثمانية ، وقد باع ميشيل تيان حصته لليهود فجاء ورثة المرتهنين الآخرين يطالبون بدينهم فحكمت المحكمة بالدفع وبيع الرهن بالمزاد الذي رسا على اليهود، حيث إشتراها الصندوق القومي اليهودي "الكيرن كايمت" في 27 مايو1929، وفي 30 نوفمبر 1929 أصدرت محكمة مركزية نابلس حكما بطرد عرب الحوارث من الأرض، ونفذت السلطات البرطانية الحكم فقوضت بيوت المزارعين وجلتهم عن أرض عرفوا بها وعرفت بهم بالقوة فكان مشهدا أليما حيث غدا" 1500 "عربي حيارى دامعي العين لا يدرون ما يفعلون ولا يملكون ما يقاتلون به . وقد وصف ما جرى في تلك العملية بالقول: " وإذا رأى الحوارث أن الهوان والذل ثم الموت ينتظرهم خارج أراضيهم ، فقد فضلوا الموت فيها على الموت خارجها ، واستخاروا الله في البقاء عليها، ففتحوا صدورهم لبنادق الجنود ، عزلا من السلاح ، ومدوا رقابهم لسيوف السلطة تفعل بها ما تشاء غير إخراجهم من أراضيهم، فهام بعضهم في تلول وادي الحوارث، واقتيد بعضهم إلى غياهب السجون. واستماتت النساء في أرض آبائهن وأجدادهن، فكلما أخرجهن الجند منها ، عدن فدخلنها في حالة تفتت الأكباد، بثياب بالية ، وبطون خالية، وأعين باكية، وعويل وشهيق يستنزل الرحمة من المادة الصماء، والقلوب، وقلوب الظالمين لا تلين". ومع كل هذا إستخدمت السلطة البريطانية كل وسائل بطشها لإخراج عرب الحوارث من واديهم.

إن مأساة أهل وادي الحوارث ليست الوحيدة في تاريخ فلسطين الإنتدابي فكثير من القرى والمزارع التي إشتراها اليهود من الأسر السورية واللبنانية قد مرت بهذا الدور حتى أن بعض مزارعيها قتلوا في أراضيهم برصاص الإنكليز وهم يدافعون عنها. وقد إهتم ثيودور هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية وقائدها الرئيس في مذكراته بطرد الفلاحين العرب من أراضيهم اأيما إهتمام ، واستنبط لتحقيق هذه الغاية وسائل متعددة ولعل الكيبوتز " المزارع الجماعية"كانت في هذا الصدد وسيلة مثالية لإستقدام أعداد كبيرة من المهاجرين وإستيعابهم وربطهم بالأرض الفلسطينية والتنظيمات العسكرية والعمالية الصهيونية ربطا محكما وإجلاء العرب عن أرض فلسطين.

وقد كتب أحد قادة التكتلات العمالية في الاأرض المحتلة:
" لقد تم شراء الأرض التي أقيمت عليها مستعمرات"كيبوتزات" الهستدروت"إتحاد العمال الصهيوني في فلسطين" من الإقطاعيين غير المقيمين وجرى اإبعاد الفلاحين العرب الذين كانوا يعملون عليها لقاء تعويضات ضئيلة أو بدون تعويضات على الإطلاق. وكثيرا ما تعرض الفلاح العربي وعائلته إلى الجلاء القسري لرفضه النزوح عن الأرض. وكان شبان المستعمرة"الكيبوتز" العتيدة يسارعون إلى طرد الفلاح العربي بالقوة ويستعينون بالشرطة أحيانا.
وكثيرا ما كانت "عودة النظام" تعني إهراق دم الفلاح العربي.

أراضي الحولة:

تقع أراضي الحولة بجوار الحد الفاصل بين سوريا وفلسطين مباشرة، وهي تضم مجموعة من القرى العربية ومستنقعا واسعا تكسوه أشجار البردى وتجري مياهه جنوبا حتى تتصل ببحيرة طبريا، وهذه الأرض تشكل قطعة مثلثة الشكل تبلغ مساحتها "44 ميلا مربعا تقريبا".

كانت أسر سلام البيروتية اللبنانية قد أعطيت إمتيازا في أراضي الحولة منحته لهم الحكومة العثمانية لإستصلاح مساحات كبيرة من مستنقعات الحولة وتمليكها إلى الفلاحين العرب الذين نشأوا مع الأرض ودأبوا عليها، وكانت مساحة الأرض حول بحيرة الحولة التي يشملها إمتيازهم "165"ألف دونم فباعوا الإمتياز اإلى شركة صهيونية. ولجأ الفلاحون العرب إلى حكومة الإنتداب يطلبون حمايتهم، ولكن هذه الحكومة سلطت بوليسها وجيشها ليهدم بيوتهم ويشرد جموعهم ويسلم الأراضي لليهود، وتم تشريد 15ألف من أهالي أراضي الحولة.

أراضي فلسطينية اخرى تبيعها أسر أخرى غير فلسطينية:

باعت أسرة القباني البيروتية اللبنانية "16" ألف دونم إلى "الكيرن كاييمت" الصهيونية من وادي القباني الواقع إلى الغرب من طولكرم على الساحل الفلسطيني خلال العام 1937 ، ولم يردعهم عن ذلك أن عملهم هذا يشكل سلخ لأرض عربية من عروبتها، ولا أن ملاكها الحقيقيين من الفلاحين الفلسطينيين سوف يجلون عنها بالحديد والنار، ولم يصرخ في أسماعهم أيضا صوت الحرية والوطنية الذي إرتفع مستنجدا قبل كارثة البيع.
وسلكت الطريق نفسه أسرتا الصباغ والتويني البيروتيتان أيضا اللتان باعتا الأراضي الكائنة في السهل الساحلي من عكا وحيفا، كما باعت أسرة التويني بمفردها قرى الهريج والدار البيضاء والإنشراح ونهاريا في سهل عكا وأخرج المزارعون من أراضيهم تلك بمجرد أن تسلم البائعون أثمانها من جمعيات شراء الأرض الصهيونية، وقد بلغ مساحة ما إشتراه اليهود من هذا الساحل "200" ألف دونم من الأراضي الصالحة لزراعة البرتقال. وباع الأمير سعيد الجزائري من سوريا قسما من أراضيه لليهود، كما باعت عائلي شمعة والقوتلي من سوريا كذلك أراضي قرية المنشية شمال شرقي عكا ، و باع آل مرديني السوريون ال "قدس" من أراضي صفد، وباعت أسرة اليوسف السورية قرى ومناطق " البطيحة، الدكة، تل إبن أعور ، أم عجاج، جبيلة، حسينية، كنف التحتا، كفر عارب، سعدية، أم الدنانير، المسفورة" وجميعها واقع في منطقة الجولان ، مع جميع ما إشتملت عليه القرى المذكورة من بيوت وأبنية ومنابع وجدران وآبار وأحواض وأشجار وبيادر وأنهر ومياه ومنافع والمحصول وكل مالها وعائدا عليها وذلك بموجب عقد مؤرخ في 16 مارس 1934.

والصورة المحزنة والخطرة في الوقت نفسه لعقد المقاولة هذا الذي عقد بين آل يوسف والشركة الصهيونية يوضح إستهانة غير الفلسطينين بالأرض وأهلها. فقد جاء في القسم الثاني من المادة السادسة من عقد المقاولة المذكور " من المتفق عليه بين الطرفين المتعاقدين أن يسلم كل جزء من الأجزاء الستة المذكورة من المبيع تسليما شرعيا خاليا من كل ما يمنع التصرف به ومن كل مزارع ومستأجر ومستحكر ومن كل من يطلب أي حق فيه أو عليه أو على أي قسم منه بصورة لا يبقى أي علاقة لأي كان على القسم المسلم من المبيع.....".

وباع علي سليم العمري ورفيق العمري وإخوانهما "من سوريا، وهم ينتسبون إلى عمر بن الخطاب" أراضي قريتي اجليل والحرم التابعة ليافا والبالغة مساحتها 16 الف دونم لليهود بسعر 4.5 جنيه لكل 1600 ذراع مبيع " كل 919 ذراعا تساوي دونما" ووجهت حكومة الإنتداب في 25 سبتمبر 1924 أوامر الإخلاء إلى واحد وسبعين مزارعا عربيا كانو يقومون بالعمل في تلك الأرض.

ولم تسلم حدود لبنان مع فلسطين من تسرب اليهود إليها مثلما تسربوا إلى حدود سوريا مع فلسطين وهذا يسوقنا إلى أن اليهود ركزوا على مناطق معينه من فلسطين حسب خطة لإقامة شبكة من المستعمرات المتصلة المترابطة لضرب حصار حول المنطقة التي تطمح الحركة الصهيونية في الإستيلاء عليها وقد راعت الحركة الصهيونية في حساباتها وخططها مبدأ عزل فلسطين عن الأراضي العربية المجاورة.


تاريخ النشر الأول للموضوع  بالموقع
8 يونيو 2011

تاريخ التوصل:2يونيو2011

قراءة قانونية في قضية الإستيلاء على الأراضي الفلسطينية: هل باع الفلسطينيون اراضيهم؟
الاربعاء 23 يوليوز 2014




تعليق جديد
Twitter