MarocDroit  -  موقع العلوم القانونية
plateforme des décideurs juridiques - Platform of Legal Decision-Makers



النيابة العامة سلطة خاضعة بطبيعتها ونص الدستور وروحه يؤسسان لخضوع النيابة العامة وليس لاستقلالها

     

ذ وهابي يوسف

محامي بالجديدة

رئيس الجمعية المغربية للنقد القانوني



النيابة العامة سلطة خاضعة بطبيعتها ونص الدستور وروحه  يؤسسان لخضوع النيابة العامة وليس لاستقلالها

جذب موضوع استقلال أم عدم استقلال النيابة العامة انتباه مختلف الفاعلين والمتتبعين للشأن القضائي واختلفت الآراء ما بين مؤيد للاستقلال التام للنيابة العامة عن السلطة التنفيذية وما بين معارض لهذا الاستقلال وما بين متفهم لمطالب الاستقلال مع تحفظه على مداه.

ومساهمة مني في إذكاء شعلة هذا النقاش العمومي أعددت هذه الورقة المختصرة بما يتناسب مع حيز وطبيعة المقالة الصحفية رغم أن لي تفصيلات أكثر تؤيد رأيي على مستوى الدساتير والتشريعات المقارنة لا يتسع المجال لاستعراضها في مقالة صحفية.

إني أتأسف جدا لأنصار استقلال النيابة العامة لأني لن أشاطرهم الرأي وسأدافع عن الرأي المخالف الذي يرى أن النيابة العامة سلطة خاضعة ويجب أن تبقى كذلك.

مع الإشارة إلى أن الموضوع جد معقد ومتشابك ولا يصلح نهائيا أن يحسم أو يحل بترديد الشعارات ولا بجمع التوقيعات في غياب تصورات ديموقراطية دقيقة وبدائل مسؤولة ومتوازنة تتعايش وتتواءم مع النظام الدستوري المغربي.

أولا: النيابة العامة كانت سلطة خاضعة والدستور لم يحررها من التبعية والخضوع:

إن دستور 2011 حينما أسس لاستقلال السلطة القضائية فإنما قصد بهذا الاستقلال قضاء الحكم ولم يقصد قضاء النيابة العامة ، وأي محاولة لإسقاط النيابة على قضاء الحكم وإعطائهما نفس الأحكام هي محاولة غير موفقة، لأن تمييز الدستور بين قضاء النيابة العامة وقضاء الحكم هو كالنهار الذي لا يحتاج إلى دليل ، فالنيابة العامة ليست حكما يفصل بين الخصوم بل هي تحيل الخصوم على قضاء الحكم وهي نفسها تحتكم إلى قضاء الحكم وتقدم ملتمساتها إليه . وهو ما جعل الدستور يمنح قضاة الأحكام وحدهم حصانة ضد العزل والنقل (الفصل 108) كما أن الدستور أخضع قضاة النيابة العامة وحدهم للتعليمات الصادرة عن رؤسائهم (الفصل 110) فكيف يمكن تصور الاستقلال في ظل واجب الخضوع للتعليمات، وكيف يمكن تشبيه قاضي الحكم الذي لا يتلقى بشأن مهمته القضائية أي تعليمات أو أوامر بقاضي النيابة العامة الذي يلزمه الدستور بالخضوع للتعليمات.
وحتى التوازن داخل السلطة القضائية نفسها يقتضي ألا يتطابق قضاء الحكم مع قضاء النيابة العامة ويفرض المراقبة المتبادلة بينهما لأن قضاء الحكم يبسط رقابته على أعمال النيابة العامة ويفحص شرعيتها كما تراقب النيابة العامة وتتتبع عمل قضاء الحكم وتطعن في أحكامه لفائدة القانون وتسهر على تقيد قضاء الحكم بالقانون وتبدي اعتراضها على كل ما يخالفه.     
 
ثانيا: مطلب القطيعة وفك الارتباط مع السلطة التنفيذية مطلب غير دستوري، والسياسة الجنائية يجب أن تضعها وتسأل عنها وزارة العدل ولكن بتشاور مع ممثلي السلطة القضائية:                 

       إن الوثيقة الدستورية هي بنيان متكامل ومترابط له أربعة عشر بابا مفتوحة على بعضها البعض، و لا ينبغي أن يخضع الدستور لقراءة تجزيئية ومنعزلة يدخل فيها المحلل أو القارئ إلى باب واحد من الدستور هو الباب التاسع المتعلق بالسلطة القضائية ويغلقه خلفه ثم يركز كل جوارحه وتأملاته وتخيلاته حول قراءة فصول هذا الباب فقط ويأبى فتحه أو الخروج منه لزيارة الأبواب الأخرى وهو ما يجعل أية قراءة من هذا النوع قراءة منغلقة على نفسها ومخالفة لروح الوثيقة الدستورية.
فالفصل الأول من الدستور في فقرته الثانية حدد مقومات النظام الدستوري للمملكة الذي يتأسس ليس فقط على فصل السلط ولكن أيضا على أساس توازن هذه السلط وتعاونها كما ربط المسؤولية بالمحاسبة ونص على مبادئ التشاركية والحكامة الجيدة ، وهذا يؤكد أن فصل السلطات لا يعني القطيعة أو فك الارتباط بينها كما يحلو للبعض أن يتخيل لأن هذا الفصل مؤطر بتعاون السلطات وتوازنها .
وقد حصل لبعض المدافعين عن استقلال النيابة العامة اندفاع عاطفي كبير جعلهم يخلطون   بين قضاء الحكم وقضاء النيابة العامة ويتمنون لو كانا صنوان سيان، كما قرأنا في معرض دفاعهم عن رأيهم ألفاظا مخيفة ومرعبة مـــن قبيل " الاستقلال المطلق للنيابة العامة " ، مع أن لفظ "المطلق" هو لفظ منبوذ وغير ديموقراطي و لا يمكن القبول باستعماله الآن من طرف أي سلطة كيفما كانت لأن كل سلطة مطلقة هي مفسدة مطلقة كما هو معلوم ، والاستقلال ليس هدفا في حد ذاته وإنما هو وسيلة لتحقيق الأهداف الدستورية التي من أجلها أنشأت الدولة وهذه الأهداف لن تتحقق إلا بتعاون سلطات الدولة وتوازنها وليس بتصادمها وتنازعها ، وهذا ما يلقي تساؤلات عديدة حول الحساسية المفرطة التي يتحدث بها البعض اتجاه وزارة العدل كجزء من السلطة التنفيذية ودعوتهم إلى القطيعة معها لأنها دعوات تبعث إشارات غير مطمئنة لكل المهتمين والمعنيين حول الغرض من نشر هذه الثقافة التي تروج للقطيعة بين سلطات الدولة الواحدة وكأن كل سلطة تسعى إلى تأسيس دولة خاصة بها. وهو ما يدعونا نطرح السؤال التالي:

هل تجوز المطالبة باستقلال النيابة العامة من الأعلى دون المطالبة باستقلالها من الأسفل؟

يكفي لكي نبرهن لأنصار الدعوة إلى القطيعة مع السلطة التنفيذية أن دعوتهم تحمل الكثير من التبسيط والسطحية أن نعطي مثالا واضحا حول تعقد الموضوع وعدم سهولة الحسم فيه بالشعارات والتوقيعات وهذا المثال هو علاقة النيابة العامة بالشرطة القضائية هذه العلاقة التي تجعل البحث عن استقلال النيابة العامة من الأعلى قبل البحث عن استقلالها من الأسفل موقفا مثيرا للاستغراب ، وهذا يجعلنا نطرح سؤالا لا يخلو من الإحراج وهو هل النيابة العامة مستقلة عن الشرطة القضائية؟  قد يبدو هذا السؤال غريبا لأن الدستور في فصله 128 جعل الشرطة القضائية تعمل تحت سلطة النيابة العامة في كل ما يتعلق بالأبحاث والتحريات الضرورية في شأن الجرائم ، وضبط مرتكبيها ولإثبات الحقيقة.
وبعيدا عن هذا النص الدستوري الذي لم تتحمس له بعض تكتلات القضاة وجمعياتهم، فإن الواقع العملي يكشف في الكثير من القضايا والملفات أن الشرطة القضائية هي المسيرة الفعلية للأبحاث والتحريات وهي التي تعطي للأبحاث في الغالب الأعم الوجهة التي تريد سواء في اتجاه الحفظ أو عدم المتابعة بل أحيانا حتى في اتجاه الاعتقال أو السراح.
كما أن الممارسة اليومية تكشف أن أغلب أعضاء النيابة العامة يكتفون بالجلوس في مكاتبهم وإعطاء التعليمات لضباط الشرطة القضائية بعيدا عن أجواء البحث المباشرة وهو ما يجعلهم يفقدون الكثير من استقلاليتهم إلا إذا استثنينا بعض الحالات المحدودة التي يباشر فيها ممثل النيابة العامة البحث بشكل مباشر عن طريق الانتقال إلى مسرح الجريمة والتفتيش...
إن النيابة العامة حاليا عاجزة وليس لها الإمكانيات الفعلية والمادية والبشرية لجعل الشرطة القضائية رهن إشارتها الحصرية كما أنها لا تملك القدرة على تسيير الأبحات والتحريات بشكل مباشر في كل القضايا وأمام هذا العجز لا يمكن الحديث عن استقلال لأن العاجز لا استقلال له.
فأمام هذا الواقع وأمام واقع كون عناصر وضباط الشرطة القضائية ينتمون إلى الأمن الوطني والدرك الملكي ومخابرات مراقبة التراب الوطني وهي كلها فئات وعناصر تنتمي فعليا إلى السلطة التنفيذية وإلى وزارة الداخلية ، وهي التي تباشر فعليا الأبحاث والتحريات، وكون السلطة التنفيذية من الأعلى (وزارة العدل ) ليست هي التي توجه قرارات النيابة العامة في مئات الآلاف من الشكايات وإنما السلطة التنفيذية من الأسفل (محاضر الضابطة القضائية ) هي البوصلة التي ترسم وجهة هذه القرارات في أغلب القضايا والشكايات، وإذا أضفنا إلى ذلك كون مخافر الشرطة والدرك  ومقرات المخابرات التي تجري فيها الأبحاث هي في ملكية السلطة التنفيذية وتحت تصرفها فعن أي قطيعة يتحدث أنصار استقلال النيابة العامة؟
طبعا قد يسارع البعض إلى القول أن هناك مطالب بإنهاء وضعية الازدواجية التي تعيشها الشرطة القضائية من خلال إنشاء شرطة قضائية تابعة فقط للسلطة القضائية دون غيرها ، ونحن نرد أن هذا الحلم لا علاقة له بالواقع أولا لأن تجاربه في العالم بأسره نادرة وغير فعالة، ومن جهة أخرى فإن هذا المطلب يتعذر تحقيقه سواء على المدى القريب أو المتوسط بالنظر إلى الميزانيات والاعتمادات المالية والبشرية الضخمة التي يتطلبها خاصة إذا علمنا أن عمل النيابة العامة يمتد إلى مجموع التراب الوطني بمدنه وقراه ودواويره المترامية الأطراف.
كما أن القراءة المفتوحة للدستور تؤكد استنادا إلى الفصل 93 أن الوزراء مسؤولون عن تنفيذ السياسة الحكومية كل في القطاع المكلف به وفي إطار التضامن الحكومي وهو ما يفيد أن وزارة العدل هي المكلفة بوضع السياسة الجنائية ، ولكن مبدأ التشاركية والتعاون بين السلطات الوارد في الفصل الأول من الدستور يفرض ألا تستفرد السلطة التنفيذية ممثلة في وزارة العدل بوضع هذه السياسة وأن تستشير وتشرك ممثلي السلطة القضائية في ذلك.
علما أن النيابة العامة لا تمثل سيادة الأمة لأن أعضاءها غير منتخبين من الشعب، وفكرة إحلال الوكيل العام لمحكمة النقض أو مجمع وكلاء يقتضي اعتماد طريقة الانتخاب والمساءلة أمام ممثلي الشعب .   

ثالثا: الاختيار الدستوري يفرض التقليص من مجال ملائمة المتابعات المتاح للنيابة العامة والتقنين لشرعية المتابعات:
  

إن الدستور الحالي اتجه في فصله 110 إلى التقليص من السلطة التقديرية الممنوحة لقضاة النيابة العامة فيما يتعلق بالمتابعات إذ نص على أنه : " يجب على قضاة النيابة العامة تطبيق القانون" ، والقراءة المفتوحة لهذا الفصل تحيلنا على الفصل السادس من الدستور الذي ينص على " أن جميع الأشخاص ذاتيين أو اعتباريين بما فيهم السلطات العمومية متساوون أمام القانون وملزمون بالامتثال له". وهو ما يفرض أن تكون تطبيقات القانون موحدة ومتساوية، وهو ما يحتم إعادة النظر في السلطات التقديرية الواسعة وغير المضبوطة الممنوحة للنيابة العامة في إطار ما يعرف بملاءمة المتابعات والتي تعطي للنيابة العامة خيارات واسعة في المتابعة أو الحفظ  أو المتابعة في حالة اعتقال أو سراح ، وهو ما يجعل قانون البلد الواحد يخضع لتطبيقات متعددة ومختلفة وغير متساوية بين المواطنين .
وهذا يقتضي في إطار التنزيل الديموقراطي للدستور الاتجاه في القوانين التنظيمية وباقي التشريعات الأخرى إلى تقليص مجال ملاءمة المتابعات وحصره في أضيق الحدود والاتجاه بالمقابل إلى تقنين مبدأ شرعية المتابعات ولكن بضوابط تراعي عدم إغراق المحاكم بالملفات.
وإذا كنا لا نعارض أن تبقى لوزارة العدل صلاحية التدخل الايجابي لإعطاء  تعليمات للنيابة العامة من أجل تحريك المتابعات فإننا بالمقابل وفي إطار سيادة القانون على الجميع ندعو إلى أن تنص القوانين التنظيمية والتشريعية على  منع وزير العدل من التدخل السلبي لتوجيه تعليمات بعدم تحريك المتابعات أو الحفظ  لأن ذلك لا يشكل مسا باستقلال النيابة العامة كما يعتقد البعض وإنما لكون ذلك يشكل مسا بسيادة القانون أصلا.
وهو ما يجعلنا ندعو أيضا إلى عدم ترك يد النيابة العامة مبسوطة كل البسط في حفظ الشكايات وعدم تحريك المتابعات بناء على اعتبارات ذاتية أو تقديرات شخصية بدعوى سلطة الملاءمة لأن نفس الانتقاد الذي يمكن أن يوجه إلى السلطة التنفيذية بخصوص تدخلها السلبي من أجل تجميد تطبيق القانون يمكن أيضا وبالمثل أن يوجه للنيابة العامة.

رابعا: القوانين التنظيمية يجب أن تحافظ على تماسك جهاز النيابة العامة ولا تترك أي ثغرات يمكن أن تقود إلى تفككه:

إن النيابة العامة تستمد قوتها كجهاز من وحدتها وتماسكها كجسد واحد لا تنافر ولا تنازع بين أعضائه وهو ما يفرض أن تكون قيم الانضباط هي السائدة داخل هذا الجهاز ، وقد حافظ الدستور على نفس الروح الوحدوية والانضباطية من خلال إلقاء واجب طاعة المرؤوسين للتعليمات الكتابية الصادرة عن رؤسائهم .  
ولكن ظهور بعض الدعوات والآراء من داخل هذا الجهاز التي تريد أن تفرغ نظام  التبعية والسلطة الرئاسية من مضمونه بالادعاء بأن الدستور لا يفرض الخضوع إلا للتعليمات القانونية وأن عضو النيابة العامة يمكنه أن يرفض تنفيذ التعليمات إذا ارتأى أنها غير قانونية. واعتماد هذا التفسير سيفتح الباب نحو شلال دافق وغير متوقف من التقديرات الشخصية حول ما هو قانوني وما هو غير قانوني ، ويمكن لأي مرؤوس أن يتملص من التعليمات رئيسه بالادعاء بأنها غير قانونية، وهو ما سيجعل النيابة العامة تعيش على وقع التمرد الدائم الذي يشكل خطرا داهما على وحدة الجهاز وتماسكه.
وهو ما يعطي فكرة واضحة حول ضرورة أن يتضمن أي قانون تنظيمي مرتقب تقنينا واضحا للسلطة الرئاسية التي تعني انضباط قضاة النيابة العامة وامتثالهم للتعليمات وخاصة الكتابية في حال الخلاف حول تنفيذ التعليمات الشفوية، وذلك تحت طائلة التعرض للعقوبات التأديبية . وأي توجه غير هذا سيفتح الطريق نحو تفكك جهاز النيابة العامة وفقدانه للتحكم في أعضائه تحت عناوين الاستقلال وعدم قانونية التعليمات وهو ما سيؤدي إلى نسف السلطة الرئاسية وانهيارها، ولكن إخضاع أعضاء النيابة العامة لواجب طاعة التعليمات لا يعني عدم تحديد المسؤوليات في حالة الخطأ المهني الجسيم إذ يجب تحميل المسؤولية للرئيس وإعفاء المرؤوس منها في حالة تحفظه عليها مع ايجاد صياغة معينة لتقنين شكل هذا التحفظ.



السبت 23 فبراير 2013

تعليق جديد
Twitter