MarocDroit  -  موقع العلوم القانونية
plateforme des décideurs juridiques - Platform of Legal Decision-Makers



الطبيعة الاجتماعية للدولة: أسمى شكل لعلاقتها بالمجتمع

     

عائدة سبيرا

طالبة باحثة في سلك الدكتوراه
القانون العام



الطبيعة الاجتماعية للدولة: أسمى شكل لعلاقتها بالمجتمع
مقدمة:

إن الحديث عن الطبيعة الاجتماعية للدولة، يتطلب منا معالجة الموضوع من خلال تحليل الحاجة إلى الدولة (أولا) وتطور أشكالها (ثانيا)، قبل تحليل طبيعة المجتمع ومختلف الروابط التي تربط أعضاءه ببعضهم البعض (ثالثا)، قصد تحديد أفضل العلاقات الممكنة بين الدولة والمجتمع (رابعا).

أولا: في الحاجة إلى الدولة

تطور مفهوم الدولة بشكل مرتبط بالتطور الحضاري للإنسان. فالفرق بين الدولة في العصور القديمة ،والدولة المعاصرة هو فرق يتمثل في انتقال الإنسان من الخضوع لإنسان من طبيعته إلى الانصياع لمؤسسات يخلقها ويُنظمها ويُؤطرها بنصوص قانونية وتنظيمية. إن الأمر يتعلق بتطور نوعي لا مجال فيه للمقارنة، فقد ترتب عن هذا التحول انتقال الكائن البشري من الخضوع للقوة إلى الخضوع للقانون. ورغم أن فكرة "الخضوع" بقيت هي نفسها، إلا أن تطور الفكرة جاء متلائما مع تطور العلم والمعرفة وسعي الإنسان لبلوغ الكمالات أثناء سيره في البعدين الزماني والمكاني.
إن تكوين الدولة، جاء نتيجة الوضع الثقافي والحضاري لأي مجتمع، فهما معياران يحددان طبيعة الحكم والإدارة والسياسة في المجتمع. وتختلف طبيعة الدولة من خلال الأدوار المسندَة إليها أو التي تقوم بها. فدولة الرفاه الاجتماعي مثلا تعني بلوغ المجتمع حالة متقدمة من الوعي الثقافي والحضاري، بينما الدولة الريعية -التي تتبنى فكرة معيل مستبد ومعال يستجدي من هذا المعيل- تعني انحطاط المجتمع في  الجانبين الثقافي والحضاري. وعلى هذا الأساس، فإن الثقافة والحضارة هي المتحكم في طبيعة الدولة التي يريدها المجتمع. ونقصد هنا بالثقافة معناها العام، الذي يجعلها ليس فقط مجموعة عادات وتقاليد وأعراف متوارثة، ولكن أيضا وأساسا ما يُؤثر منها على الواقع.
وإذا كانت الدولة قد تطورت من حيث وظائفها بشكل جعلها تنتقل من الدولة الحارسة، للدولة المنقدة، والدولة المتدخلة، والدولة الراعية، فإننا نعتقد أن الدولة الاجتماعية هي أفضل الممكنات في عصرنا هذا، لأنها هي النتيجة الطبيعية لأعلى درجات الثقافة والحضارة، وبالتالي فهي تُشكل أسمى أشكال الدولة. وذلك ما سنُحاول إبرازه في هذه المقالة.

ثانيا: في تطور أشكال الدولة

عرفت الدولة أشكالا عديدة من الممارسات التي كانت تُعْرف بها في كل محطة من المحطات التاريخية. لقد انطلقت الدولة من ممارسة مهام محددة، وذلك من خلال إحداث المرافق العمومية المسماة بالمرافق التقليدية والمتمثلة أساسا في كل من الأمن والدفاع والقضاء، وقد جعلت منها دولة "حارسة" بكل المقاييس: تحرس الأفراد من اعتداءات بعضهم ضد البعض، وتحرس حدود الدولة من أي عدوان خارجي، وتحرس المجتمع بفك النزاعات التي تنشأ بداخله. ومع تطور المجتمعات ازدادت الحاجة إلى خدمات أخرى كانت الحاجة إليها ملحة. وهكذا أصبحت الدولة تُشرف على التعليم، وتعمل على توفير الصحة العمومية والبنيات التحتية اللازمة مقابل قيامها بجمع الضرائب والرسوم لتمويل تدخلاتها.
لقد فرضت طبيعة هذه الدولة "الحارسة"، أن تكون أيضا دولة "محايدة"، فهي تحرس كل أفراد المجتمع،[[1]]url:#_ftn1 تاركة لهم حق المبادرة لتدبير شؤونهم الخاصة وتوفير سبل عيشهم. وقد تجسد لك خاصة في المبدأ/الشعار الذي كان سائدا آنذاك: "دعه يعمل، دعه يمر". وقد فرضت التطورات المختلفة ضرورة خروج الدولة عن حيادها، من خلال التدخل في الحياة الاقتصادية والاجتماعية. ورغم أن درجات وأشكال هذا التدخل مختلفة، فإن ما يهمنا هو محاولة الإجابة عن السؤال الرئيسي، والمتمثل في مدى قدرة هذه "الدولة" على الارتباط بالمجتمع من خلال ليس فقط توفير الضروريات، ولكن توفير الأمن والأمان في مواجهة الحاضر من خلال توفير سبل العيش الكريم، ومواجهة المستقبل من خلال توفير كل ما يُمَكن من مواجهة المرض والشيخوخة والحاجة إلى التقاعد[[2]]url:#_ftn2 . وباختصار، ما مدى قدرة الدولة على أن تكون "اجتماعية"؟

ثالثا: في طبيعة المجتمع

من المسلمات أن الدولة المعاصرة هي عبارة عن نظام حكم يُدير مجموعة متجانسة من البشر ضمن نطاق جغرافي محدد. وللمجتمع هنا مفاهيم مُتَعددة:
- فيُقصَد به في العلوم المجتمع "نظام تفاعلي شبه مغلق"؛
- وفي العلوم الإنسانية بصفة عامة: فإن المجتمعات هي "تجمعات من الناس كل منه يعيش وفق إمكانياته (المجتمع البدوي، المجتمع الحضري، المجتمع الزراعي...)؛
- ويُقصد بالمجتمعات في العلوم السياسية "التجمعات المرتبطة ببعضها بنظام تصاعدي مثل العصبات والقبائل والمشيخات والمجتمعات الدولية. 
 ونلاحظ هنا أن المجتمع هو مفهوم يتحدث عن أناس تربطهم علاقة مشتركة يتفاعلون فيما بينهم على أساسها[[3]]url:#_ftn3 ، فاللغة رابطة اجتماعية، وكذلك الدين، والانتماء السياسي والإداري، وحتى الحرف والصنائع تعتبر رابطة اجتماعية بهذا المعنى. وكلما ازدادت هذه الروابط كلما ازدادت قوة المجتمع، ولهذا نجد أن المجتمعات تتشكل من دوائر متداخلة بينها. فالمجتمع الفرنسي دائرة ضمن المجتمع الأوروبي، والمجتمع ا لأوروبي دائرة ضمن المجتمع الغربي، والمجتمع الغربي دائرة ضمن المجتمع المسيحي من زاوية وضمن المجتمع الليبرالي من زاوية أخرى[[4]]url:#_ftn4 ، وهكذا. إن تداخل هذه الدوائر ينتج بدوره تحالفات ما كان لها أن توجد لولا الطبيعة الاجتماعية للكائن البشري. وبذلك، تُصبح الدولة بدورها "كائن" اجتماعي".

رابعا: في العلاقة بين الدولة والمجتمع

عندما نربط بين مفهوم الدولة ومفهوم المجتمع نخلص إلى أن الدولة، التي هي وليدة منظومة قانونية دستورية، أصبحت ترتبط بالمجتمع ارتباطا بنيويا، أي أن الدولة لا يُمكن فصلها عن المجتمع لدرجة أن الدولة "الاجتماعية" تكاد أن تحل محل الأسرة والعائلة في الدول الاسكندنافية مثلا، حيث يشعر الناس أنه لا حاجة لهم إلى الأسرة والعائلة لأن الدولة ارتبطت ارتباطا بنيويا مع المجتمع وانصهرت به. ولهذا من الصعوبة بل شبه مستحيل أن تحدث في تلكم الدول ثورات أو انقلابات لأنه لا يُمكن أن يثور المجتمع على نفسه ويقتل نفسه بنفسه، إلا إذا قرر العقل الجمعي الانتحار، بل إنه يتم دائما البحث عن اشكال جديدة لتدخلات الدولة الاجتماعية وتطوير ما هو موجود منها. ويظهر ذلك من خلال عودة النقاش حول خمس مواضيع أساسية تتعلق بالصحة، والتقاعد، والبطالة، والعائلة.، والفقر والهشاشة[[5]]url:#_ftn5 .
وبخلاف ما سبق، فإنه في الدولة المنفصلة عن مشاكل وهموم المجتمع، نجد فيها أن العائلة لا زالت قوية جدا، وأن التماسك القبلي قويا. لذا، فالعائلة والقبلية والجهوية تتناسب تناسبا عكسيا مع الدولة الاجتماعية.
وهنا لابد أن نفرق بين الدولة الاجتماعية والدولة القوية عسكريا، فالقبلية في الدول الاجتماعية تكاد تكون شبه منعدمة لأنها لم تعد بحاجة إلى الانتماء القبلي أو العائلي فانتماؤها الذي يُشعرها بالأمان والقوة هو الدولة. أما الدولة القوية عسكريا -مثل كوريا الشمالية أو الصين- يظهر ضعف الانتماء القبلي، وذلك ليس بسبب الانتماء وإنما بسبب الخوف والرعب الذي يهدد كل من يظهر ولاءه لغير الجيش[[6]]url:#_ftn6 !!

الخلاصة:

إن مفهوم الدولة الاجتماعية ينطبق أساسا على الدولة التي تسخر نظامها السياسي بسلطاته الثلاث تشريعا وتنفيذا وقضاءً، من أجل خدمة المجتمع في كافة ميادين الحياة، من حق الترشيح والانتخاب، إلى حضانة الأطفال، ورعاية المطلقات والأرامل... بحيث يكون كل فرد من أفراد المجتمع، خادما لهذه المنظومة المجتمعية محققا لأهدافها، وفي نفس الوقت مستفيدا من ث
 

[[1]]url:#_ftnref1 - د محمد حيمودي، المالية العمومية ورهانات السياسات الاجتماعية بالمغرب، الحماية الاجتماعية نموذجا، المركز المتوسطي للدراسات والأبحاث المعاصرة الاصدار 12، الطبعة الاولى، شتنبر2021، ص. 112.
 
[[2]]url:#_ftnref2 - بخصوص تطور إنشاء المرافق العمومية الاجتماعية، أنظر الدكتور حسن حوات، المرافق العامة بالمغرب، الطبعة والتاريخ غير مشار إليهما، ص. 48 وما يليها.
[[3]]url:#_ftnref3 - للتوسع في الموضوع، راجع د. فؤاد زكرياء، مرحل تشكل المجتمعات البشرية، الناشر مكتبة مصر، دار مصر للطباعة، 2010.
[[4]]url:#_ftnref4 عائشة العلوي-عبد الحميد الكام، العدالة الاجتماعية بين الاستبعاد والانصاف الاجتماعي، منشورات دار التوحيدي، الرباط، طبعة يناير2021، ص. 89.
[[5]]url:#_ftnref5 - Philippe BRONGNIART, Arnaud MERCIER, Anna STELLINGER, L’Etat providence face à la mutation des risques sociaux, Fondation pour l’innovation politique, Septembre 2007, P. 27.
 
[[6]]url:#_ftnref6 - ويتبين لك بصفة جلية من خلال الدراسات حول تطور دولة الرفاه، راجع محمد دويدار، تاريخ نشوء وتطور دولة الرفاهية الاجتماعية والتحولات البنيوية في اقتصاديات الدول المتقدمة صناعيا، منشور في إطار كتاب لمجموعة مؤلفين، دولة الرفاهية الاجتماعية، بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مرز دراسات الوحدة العربية بالتعاون مع المعهد السويدي بالإسكندرية، الطبعة الأولى، بيروت، شتنبر 2006، ص. 113.
 



الاثنين 14 نونبر 2022

تعليق جديد
Twitter