MarocDroit  -  موقع العلوم القانونية
plateforme des décideurs juridiques - Platform of Legal Decision-Makers



الاجتهاد في القضايا الأسرية: قواعد وضوابط

     







محمد توفيق الرقبي
دكتوراه في الدراسات الإسلامية
بنية تأهيل الأسرة وآفاق التنمية
جامعة القاضي عياض- مراكش



الاجتهاد  في القضايا الأسرية: قواعد وضوابط
 
 
من  المقرر شرعا  أن  لتغيير الواقع والأحوال الزمنية وغيرها  تأثيرا  واضح  المعالم  على الأحكام  الشرعية  الاجتهادية ،  نظرا  لكونها  مبنية على  القياس  والمصلحة في  الحال والمآل.

فاستقراء النصوص يبين أن أحكام الشريعة إنما جاءت لتحقق مصالح العباد، وإزالة المفاسد والمظالم عنهم، وهو  ما يجب مراعاته عند تفسير النصوص وتطبيق الأحكام، فلا يجمد المجتهد  على رأي واحد، بل يراعي تغير الزمان والمكان، والعرف والحال، ومقاصد الشريعة الكلية، وأهدافها العامة عند الحكم في الأمور الجزئية الخاصة، وهذا  من  باب  تحقيق المناط ،فمراعاة الشريعة للأحوال والعوائد، وتغير الأحكام تبعا لتغيرها، يعتبر عاملا من عوامل المرونة والسعة  في الشريعة الإسلامية.
       
"فالفقه  الإسلامي ليس بذلك  النظام الذي يرفض  كل حديث لحداثته، وكل جديد لجدته،  بل يتناول الأمور والمسائل  باعتبار الواقعية والمصلحة ، ويستقطب كل تغيير ويدفع به  إلى مختبره ليقيسه بمقياسه  الخاص ،ويزنه بميزانه الدقيق الحساس ،فما  وافق أصوله  العامة  وضعه  في قالبه  وأعطاه  صفة  الإباحة  والمشروعية ،وما  نافى تعاليمه العامة والخاصة  وخرج  عن نطاقه العريض، أبعده عن ساحته ، وبهذه  المرونة استطاع الفقه  الإسلامي أن  يبني كيانه وأن يثبت  استقلاله  الذاتي وقوته  الأصيلة وخلوده  الدائم  ،ومواجهته لكل أمر يتمخض عنه  كل عصر"([1]) . 

فقد جاءت أحكام الشريعة في شأن الأسرة على قدر من التفصيل قد لا يفوقه إلاّ ذلك التفصيل الذي حظيت به أحكام العبادات، ومع ذلك فإنّ بعض ما يتعلّق بالأسرة تُركت الأحكام فيه للاجتهاد مراعاة لتغيّر الأوضاع والأحوال المتعلّقة به، فيكون الاجتهاد محقّقا لمصلحة الأسرة بحسب ذلك التغيّر في أحوالها، ولكن مع ذلك فقد وردت في تلك المناطق الاجتهادية توجيهات كلّية عامّة من شأنها أن تسدّد الأحكام فيها لتكون مكمّلة في توافق لتلك الأحكام الواردة على سبيل التفصيل.

إن الثنائيات المتحكمة في المادة الأسرية من قبيل الأصالة والمعاصرة ،والتراث والحداثة والثابت والمتغير، والمطلق والنسبي، والخصوصية والكونية...، تجعل عملية الاجتهاد في القضايا الأسرية بصفة خاصة صعبة تحتاج إلى الكثير من التفكير والتروي العلمي الرصين .

 الاجتهاد في القضايا الأسرية: القواعد  والضوابط


 لذلك من  المفروض  أن  ينطلق  كل اجتهاد  في المادة  الأسرية من القواعد و الضوابط التالية:
 
  •  الفهم  الصحيح  والاستيعاب الكامل للفلسفة  العامة  التي تعامل معها  الوحي مع  الأسرة  باعتبارها  كيانا  أخلاقيا وتربويا تسوده معاني المودة و الرحمة ابتداء  وانتهاء.
  •  الاجتهاد  وفق المبادئ الناظمة  للعلاقات  الأسرية ، والتي تتمحور حول ثنائية  الإمساك  بالمعروف والتسريح  بالإحسان،  وما  تفضي إليه  هذه  الثنائية  من  مقتضيات  سلوكية  قائمة على العدل والمساواة .
  • التمييز بين الثابت والمتغير قي قضايا الأسرة ،و إزالة الخلط بين الموروث الاجتماعي  وما قد تبلور من أفهام وترسبات  عبر التاريخ وفي ظروف خاصة وبين الأحكام الشرعية الثابتة ، عبر فهم  سليم  ينتح  من  النبع  النبوي الصافي  ،ومن ثم فلا غرابة أن تجد أحكاما شاذة و"ظالمة" في حق الأسرة عامة والمرأة بالخصوص ،مع العلم أن
المنطلق والدليل هو النص، لكن بفهم موروث بعيد عن التطورات والتغيرات.
 
هذه الأحكام الشاذة انطلقت من التفسير الضيق والفقه المنحبس للأحكام والمبادئ العامة من قبيل "القوامة " و"الدرجة" و"الطاعة "، والتي دفعت إلى تفسير آخر مضاد أو مقابل لهذا الفقه المنحبس يجعل من مفهوم "المساواة " شعاره وبرنامج نضاله ، فكانت النتيجة "صراعا" مرجعيا داخل مرجعية واحدة.
 
  • أن  لا يخالف الحكم  الاجتهادي مقاصد  الشريعة وقواعدها الكلية ذلك  أن استقراء لمجمل الأحكام والقواعد والتوجيهات الشرعية المتعلّقة بالأسرة يجد أنّها محكومة كلّها بمقاصد يبغي الشارع تحقّقها في هذه المؤسّسة الاجتماعية لتكون محقّقة هي بدورها للمقاصد العليا للشريعة ،فيما يتعلّق بالإنسان والغاية من وجوده والدور المناط بعهدته في الحياة. ويمكن استخلاص تلك المقاصد في شأن الأسرة من البيانات النصّيّة المباشرة التي ترد بين الحين والآخر في هذا الشأن صريحة أو ضمنية، ومن التصرّف العامّ للأحكام
التفصيلية والاطّراد الذي تجري عليه أنساق ذلك التصرّف.([2])
 
 مع  ضرورة  التنبه في هذا  السياق  إلىٰ بعض المخاطر التي قد تصاحب إعمال المقاصد  في الاجتهاد ، ذلك أن قضية المقاصد أو التوسع بالرؤية والاجتهاد  باسم المقاصد دون  ضوابط منهجية وثوابت شرعية، يمكن أن  تشكل منزلقًا خطيرً ا ينتهي بصاحبه إلى التحلل من أحكام الشريعة، أو تعطيل أحكامها باسم المصالح، ومحاصرة النصوص باسم المصالح ،واختلاط مفهوم المصالح بمفهوم الضرورات، في محاولة لإباحة المحظورات،فتوقف الأحكام الشرعية تارة باسم الضرورة، وتارة باسم تحقيق المصلحة، وتارة تحت عنوان النزوع إلىٰ تطبيق روح الشريعة لتحقيق المصلحة، فيستباح الحرام، وتوهن القيم، وتُغيّر الأحكام وتعطّل([3]).
 
  • أن لا يخالف الحكم الاجتهادي النصوص القطعية الثبوت والدلالة، فالاجتهاد المعول عليه يجب أن  لا يعارض نصا  قطعيا  ذلك  أن  هذا  التعارض سيؤول إلى  تقرير تعارض بين القواطع الشرعية وهذا  محال في حقها.
  • . أن  يكون  الهدف من  هذه  العملية  الحفاظ  على  سلامة الأسرة   من  التفكك والترهل وصيانة هويتها  وأصولها  وثقافتها .
  •  الاستيعاب الكامل للتطورات  المتلاحقة والمستجدات  والنوازل والفقه  بالواقع  بنظرة  سديدة غائية  مقاصدية تبني ولا  تهدم ، تجمع  ولا  تفرق، تؤلف ولا تبدد مع  الاستفادة  من  المشترك  الإنساني مادام يتماشى مع  قواعد  الشريعة وأحكامها  العادلة  .
  • أن يكون التصدي لهذه القضايا  بشكل جماعي نظرا لما تتميز به المادة الأسرية من تداخل وترابط  بين  أبعاد ها الاجتماعية والنفسية  والقانونية  التنظيمية والاقتصادية و الطبية... ولن  يتم  مقاربة الموضوع وإصابة  الهدف وتحقيق المراد الشرعي ،إلا  عبر اجتهاد جماعي  وتضافر جهود كل المتدخلين محاولة الإفادة من كل الخبرات ، وتأكيد
لمبدأ الشورى المأمور به شرعا .
 
إن  هذه  الضوابط والقواعد وغيرها ما  وضعت  عبثا  ،وإنما وضعت  لجلب المصالح  ودرء المفاسد ، وكميزان توزن به الاجتهادات حتى  يبقى  كيان الأسرة راسخ  القدم عظيم  الشأن، ذلك  أن  فتح المجال على مصراعيه  مدعاة لتدخل  الأهواء والآراء المتعددة  ذات  المشارب المختلفة  في الأحكام  الشرعية ، فليس معنى  الاجتهاد هنا أن  نحاول تبرير  هذا الواقع على  ما به  ولي أعناق النصوص وجرها  من تلابيبها لتأييده ،  وافتعال  الفتاوى  لإضفاء الشرعية على  وجوده،  والاعتراف بنسبه مع  أنه  دعي زنيم.

 إن  الله جعلنا  أمة  وسطا لنكون  شهداء على  الناس ،  ولم  يرض لنا أن نكون  ذيلا لغيرنا  من  الأمم  ،  فلا يسوغ  لنا  أن  نلغي تميزنا ونتبع سنن من  قبلنا شبرا  بشبر وذراعا  بذراع ،  وأدهى  من  ذلك أن  نحاول تبرير هذا  وتجويزه بأسانيد شرعية ،  أي أننا  نحاول الخروج  من  الشرع  بمستندات من الشرع،  وهذا غير مقبول ([4]).

 
 
[1])- الاجتهاد  في الإسلام  أصوله  -  أحكامه - آفاقه  الدكتورة  نادية شريف العمري  ص 7  /ط 3  -1985  مؤسسة  الرسالة -  بيروت – بتصرف
[2] )-  مقاصد الشريعة في أحكام الأسرة توجيها لأحكام الأسرة المسلمة في الغرب عبد المجيد النجار ص 8 المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث- http://www.e-cfr.org/ar/index.php?ArticleID=369   بتصرف  .
 
[3] )-  من  تقديم عمر عبيد  حسنة  للاجتهاد  المقاصدي حجيته .. ضوابطه.. مجالاته  لنور الدين  بن  مختار الخادمي ج 1 – ص33 كتاب الأمة  سلسلة  تصدر عن  وزارة  الأوقاف والشؤون  الإسلامية  بدولة  قطر  رقم  65 رجب 1419  السنة  18. بتصرف. 
وقد  تحدث العلماء والباحثون  المختصون  عن  ضوابط  وقواعد  إعمال المقاصد في الاجتهاد، و التي يجب مراعاتها، ذلك أن العمل بهذه الضوابط عمل بالمقاصد نفسها ، والتفريط فيها وتفويتها هو تفويت لما جعله الشارع مرادا لشرعه، وهي :

 -  التحقق من  صحة  المقصد  وإعماله 
 -   تحديد درجة المقصد ومرتبته، بحيث يعرف هذا المقصد هل هو من الضروريات أو الحاجيات أو التحسينيات أو المكملات، ثم هل هو من المقاصد الأصلية أو التابعة؟وهل هو من المقاصد العامة أو الخاصة؟ وهل هو من المقاصد القطعية أو الظنية؟ ،وإذا كان
من الضروريات هل هو عائد إلىٰ حفظ الدين أو النفس أو العقل أو المال أو النسب؟. وتظهر أهمية  هذا  الضابط   بإعطاء المقصد  مايناسبه  من الأحكام ليكون  بناء الحكم  على  تلك  المصلحة محققا لمقصد  الشارع على  أكمل وجه ، وبالتالي القدرة  على  الترجيح بين  المقاصد  المتعارضة ، ذلك أن  معرفة  المقصد  ودرجته  ومرتبته  ييسر الحكم ،ويهيئ طرق الترجيح .
-حصول إعمال  المقاصد ممن هو من أهل  النظر والاستدلال والاجتهاد .
- الموازنة بين الكليات والجزئيات، بحيث لا يجعل العمل بأحدهما علىٰ حساب الآخر، بل ينبغي أن يؤخذا جميعًا في الاعتبار عند الإعمال.  
- الموازنة بين  المصالح والمفاسد ،فمن المهم لمن يتصدىٰ لإعمال المقاصد أن يعرف التعامل مع المصالح
المتعارضة، وهو جد خطير، لأن الإنسان قد يدرك كون الأمر مصلحة أو مفسدة، ثم يواجه مصلحة أخرىٰ ، أو مفسدة، ربما كانت أكبر خطرً ا، وأعظم أثرً ا، هذا بالإضافة إلىٰ تفاوت المصالح وضوحًا وخفاءً، وكذلك المفاسد ،وكل ذلك يحتاج إلىٰ تأنٍّ في تقدير المصلحة أو المفسدة، والنظر إلىٰ الآثار المترتبة علىٰ كل منهما، والممارسة لنصوص الكتاب والسنة حتىٰ يكون له بصيرة بذلك فيدرك ما يقصد من المصالح وما يدرأ من المفاسد..
  -  التحقق من مآلات  المقاصد ، فالفقه يقتضي استشراف المستقبل، وإدراك آثار الفعل، وليس فقيهًا من لم ينظر إلىٰ مآل الأفعال، وآثار  الأحكام.
 -  أن  يراعي في كل  باب  خصوصيته وقواعده  الكلية  فإعمال المقاصد في قضايا الأسرة  يحتاج إلىٰ إدراك دقيق لخصوصيات هذا الباب  مع مرعاة للأصول والضوابط العامة، والقواعد الكلية ،والمميزات التشريعية  وللأسس الناظمة للعلاقات  الأسرية ؛ ليقع الإعمال في محله، محققًا للمقاصد الشرعية علىٰ أكمل الوجوه.
  - عدم  معارضة  إعمال المقاصد للنصوص الشرعية و الغاية التي ترمي الشريعة إلىٰ تحقيقها من تلك النصوص، وسواء ثبتت تلك المقاصد بالاستقراء أو بالبحث والاستنباط.
للتوسع  في الموضوع  ينظر : ضوابط  إعمال  مقاصد  الشريعة في الاجتهاد  لمحمد  سعيد  بن  أحمد  اليوبي-  مجلة الأصول والنوازل العدد الرابع رجب 1431 ص 36  ومابعدها .
 
[4] )- الاجتهاد  في الشريعة الإسلامية  مع  نظرات تحليلية في الاجتهاد  المعاصر للدكتور يوسف القرضاوي ص 181 ط1 /1996  دار القلم  بيروت .بتصرف .



الاربعاء 27 ماي 2015

تعليق جديد
Twitter