MarocDroit  -  موقع العلوم القانونية
plateforme des décideurs juridiques - Platform of Legal Decision-Makers





الإشكالية الفقهية للموت الدماغي و زرع الأعضاء البشرية.

     

الدكتور : رياض مناسب




الإشكالية الفقهية للموت الدماغي و زرع الأعضاء البشرية.
ما معنى موت الدماغ؟ وهل يعتبر الإنسان ميتاً شرعاً بمجرد موت دماغه مع أن قلبه لا يزال ينبض؟ وهل يجوز شرعاً رفع أجهزة الإنعاش عن المريض إذا قرر الأطباء أنه مات دماغياً؟ و من تم، هل يجوز نزع أعضائه البشرية؟

هذه من أهم الاشكاليات التي تطرحها مسألة زرع الاعضاء البشرية التي تعتبر من المسائل الجديدة, والتي يتعلق بها كثير من الأحكام الشرعية, فلابد فيها من التفصيل والتحليل والإطناب في الاستدلال للقول الراجح, علما أنه قد اتفق أهل العلم رحمهم الله تعالى على أن من مات دماغه وتوقف قلبه عن النبض توقفاً كلياً أنه يحكم عليه بالموت, لأن هذا هو حقيقة الموت .

واتفقوا أيضاً على أن من طرأ على دماغه ما يمنعه من أداء مهمته وكان العارض معلوماً ويعلم زواله ولو بعد حين أنه يحكم بحياته فلا يجوز التعدي عليه بشيء .
وإنما الخلاف بينهم حصل فيما إذا مات الدماغ ولا يزال القلب ينبض, فهل موت دماغه هذا كافٍ في الحكم عليه بأنه ميت شرعاً, أي هل موت الدماغ هو الحقيقة الشرعية للموت؟ هذا فيه خلاف طويل بين أهل العلم, والأرجح, بل الحق والصواب المعتمد في هذه المسألة هو أن موت الدماغ ليس بكافٍ للحكم على المريض بأنه ميت, فالقول بعدم اعتبار الإنسان ميتاً بمجرد موت دماغه هو القول الذي دلت عليه الدلائل النقلية والعقلية وأصول الشرع وقواعده والاعتبار الصحيح.

فمن الأدلة قوله تعالى " أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً, إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمه وهيئ لنا من أمرنا رشداً فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عدداً، ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمداً " فقوله تعالى "بعثناهم" أي أيقظناهم وهذه الآيات فيها دلالة واضحة على أن مجرد فقد الإحساس والشعور لا يعتبر وحده دليلاً كافياً للحكم بموت الإنسان لأن هؤلاء النفر فقدوا الإحساس والشعور ولم يعتبروا بذلك أمواتاً والحكم باعتبار موت الدماغ موتاً مبني على فقد المريض للإحساس والشعور, وهذا وحده لا يعتبر كافياً للحكم بالموت لأن هذه الآية الكريمة دلت على عدم اعتباره مع طول الفترة الزمانية التي مضت على أهل الكهف فإذا كان فقد الإحساس والشعور في هذه الفترة الطويلة جداً لا يعتبر موتاً فلأن يكون فقد الإحساس والشعور فيما هو أقل من ذلك لا يعتبر موتاً من باب أولى .

ومن الأدلة أيضاً:- أن المتقرر عند أهل العلم رحمهم الله تعالى أن اليقين لا يزول بالشك بل لا يزول اليقين إلا بيقين آخر ينقض اليقين الأول, والمتيقن هنا هو الحياة والموت مشكوك فيه, لأنه لا يستطيع أحد أن يجزم جزم المتيقن أن هذا الشخص قد مات بمجرد موت دماغه وإنما هو ظنون وشكوك, وحيث تعارض اليقين والشك فالأصل هو البقاء على اليقين لأن اليقين لا يزول بالشك, أي أن الأمر المتيقن ثبوتاً أو نفياً لا ينقض بشك عارض .

ومن الأدلة أيضاً:- أن المتقرر عند أهل العلم رحمهم الله تعالى أن الأصل بقاء ما كان على ما كان, أي أن ما كان الأصل انتفاؤه في الماضي فهو منتف الآن حتى يثبت خلاف ذلك, وما كان الأصل ثبوته في الماضي فهو ثابت الآن حتى يثبت خلاف ذلك يقيناً, والأصل في الماضي ثبوت حياته, فكذلك يحكم به الآن أن حياته ثابتة لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان, فلما كانت حياته ثابتة في الماضي فهي ثابتة الآن, فيقال حينئذٍ:- الأصل بقاء الروح وعدم خروجها فنحن نبقى على هذا الأصل ونعتبره والمتقرر عند أهل العلم أن الأصل هو البقاء على الأصل حتى يرد الناقل .

ومن الأدلة أيضاً:- الاستصحاب, وذلك أن حالة المريض قبل موت الدماغ متفق على اعتباره حياً فيها, فنحن نستصحب الحكم الموجود فيها إلى هذه الحالة التي اختلفنا فيها ونقول:- إنه حي وروحه باقية لبقاء نبضه, وقد تقرر في الأصول أن الاستصحاب من مصادر الشرع المعتبرة إلا إذا قام دليل على خلافه .

ويدل على ذلك أيضاً:- أن حفظ النفس يعتبر من مقاصد الشريعة الإسلامية التي بلغت مرتبة الضروريات التي تجب المحافظة عليها بكل الطرق وكافة الوسائل ولا شك أن الحكم على المريض في هذه الحالة حياً فيه حفظ للنفس وحماية وصيانة لها, وذلك يتفق مع هذا المقصد الذي شهدت دلائل الشرع المتواترة باعتباره .
ويوضح ذلك:- أن حقيقة الموت هو خروج الروح من الجسد، وإذا خرجت الروح منه تعطلت كل منافعه ولا يبقى فيه شيء يعمل ويكون جثة هامدة، والمريض في حالة موت الدماغ لا يزال قلبه ينبض أي لا تزال الروح فيه بدليل وجود هذا النبض، فكيف يقال:- قد مات ولا تزال روحه فيه؟ فميت الدماغ وإن كان فيه شبه كبير بالميت إلا أنه لا يحكم عليه بالموت الذي تترتب عليه أحكامه إلا بوقوف القلب عن النبض فما دام القلب ينبض فهو حي وإن مات دماغه لأن هذا النبض علامة على وجود الروح في بدنه والله المستعان .

ويوضح ذلك أيضاً:- أن الفقهاء رحمهم الله تعالى قد احتاطوا في أمر الوفاة والحكم بها احتياطاً كبيراً, فخذ مثلاً على ذلك وهو ما ذكره صاحب المغني فإنه قال:-
( وإن اشتبه أمر الميت اعتبر بظهور أمارات الموت من استرخاء رجليه وانفصال كفيه وميل أنفه وامتداد جلدة وجهه وانخساف صدغيه وإن مات فجأة كالمصعوق أو خائفاً من حرب أو سبع أو تردى من جبلٍ انتظر به هذه العلامات حتى يتيقن موته ), ومن ذلك أيضاً ما ذكره النووي رحمه الله تعالى فإنه قال:- ( فإن شك في موته بأن يكون به علة واحتمل أن يكون له سكتة أو ظهرت عليه علامات فزع أو غيره كأن يكون هناك احتمال إغماء أو خلافه أخر حتى اليقين بتغير الرائحة وغيره ), وحالة موت الدماغ تعتبر من الحالات المشكوك فيها وذلك نظراً لبقاء القلب نابضاً والجسم يقبل التغذية ولم يتغير لونه, فهذا أمر موجب للشك وحينئذٍ فينبغي الانتظار إلى توقف القلب عن النبض بالكلية.

ويوضح ذلك أيضاً:- أن الحكم بموت الدماغ إنما يعرف بالتشخيص وكثير من الأطباء يعترفون ويسلمون بوجود أخطاء في بعض التشخيصات ولذلك فإن الحكم بموت الدماغ يحتاج إلى فريق طبي ذي خبرة عالية وإلى فحص دقيق وهذا لا يتوفر في كثير من المستشفيات, ففتح الباب للقول باعتبار هذه العلامة موجبة للحكم بالوفاة سيؤدي إلى خطرٍ عظيم فالواجب قفله صيانة للأرواح التي يعتبر حفظها مقصداً ضرورياً من مقاصد الشريعة الإسلامية.

ويوضح ذلك أيضاً:- أن هناك بعض الأشخاص حكم الفريق الطبي عليهم بالموت دماغياً ثم كتب الله له الحياة, وقد ثبت ذلك في حوادث مختلفة, يفيد مجموعها أن موت الدماغ ليس سبباً حتمياً موجباً للوفاة بذاته, وقد ذكر فضيلة الشيخ بكر بن عبدالله أبو زيد طرفاً من ذلك فقال:- ( حكم جمع من الأطباء على شخصية مرموقة بالوفاة لموت جذع الدماغ لديه, وأوشكوا على انتزاع بعض الأعضاء منه, لكن ورثته منعوا من ذلك ثم كتب الله له الحياة وما زال حياً إلى تاريخه ).

ويوضح ذلك أيضاً:- أن هناك أولاد يولدون بلا مخ أصلاً وعاش بعضهم على حالته أكثر من عشر سنوات وهذا يدل دلالة واضحة على أن موت الدماغ لا يعتبر موجباً للحكم بالوفاة إذ لو كان كذلك لما عاش هؤلاء لحظة واحدة بدون المخ الذي يعتبر موته أساساً في الحكم بموت الدماغ, فإذا كانت الحياة موجودة في حال فقد المخ بالكلية فإنه لا مانع من أن يحكم بوجودها في حال موت الدماغ وبقاء القلب نابضاً والله أعلم.

ومما يوضحه أيضاً:- أن الفقهاء رحمهم الله تعالى جعلوا التنفس دليلاً على الحياة كما نص على ذلك المرداوي في الإنصاف, وجزم أنه المذهب المعتمد, فالصدر يتحرك مع النبض وهذا يدل على حياة صاحب ذلك الجسد, وبالجملة فالقول الصحيح المجزوم به في هذه المسألة هو أن موت جذع الدماغ ليس كافياً للحكم بوفاة الشخص حتى يموت قلبه تماماً ويتوقف نبضه بالكلية وتتوقف جميع حركاته, هذا ما ندين الله به في هذه المسألة والله أعلم.



الثلاثاء 11 ديسمبر 2012

تعليق جديد
Twitter