MarocDroit  -  موقع العلوم القانونية



قراءة أولية في مشروع قانون التحكيم و الوساطة الاتفاقية

     

بقلم: زهير الزرزاري
طالب باحث في سلك الدكتوراه في مجال التحكيم الداخلي و الدولي.



قراءة أولية في مشروع قانون التحكيم و الوساطة الاتفاقية

أعتقد أنه آن الأوان لإصدار قانون خاصة بالتحكيم و الوساطة الاتفاقية بعدما تدفق الاستثمار و طال انتظار التجار، فلم يعد بدا من تعزيز الترسانة التشريعية المغربية بذلك القانون في إطار التشجيع على تحريك عجلة الاقتصاد المغربي.

لم تكن هذه الخطوة وليدة اللحظة بل جاءت بعد محاولات عديدة و تفكير طويل قبل أزيد من عقدين من الزمن[1]، و جاء نتيجة حتمية للتطور و لمواكبة أوضاع الظرفية الحالية للمغرب في ظل الحراك القانوني الاقتصادي، ذلك الحراك الذي لم يلبث إلا و تجد له متغيرات وطنية و دولية، و إنه لمن العبث أن يصادق المغرب على مجموعة من الاتفاقيات الدولية الجماعية منها و الثنائية في إطار التعاون القضائي بين الدول، هذا الأمر بدأ  منذ أن أخذ المغرب استقلاله بمصادقته على أول أهم اتفاقية تتعلق بالاعتراف و تنفيذ المقررات التحكيمية الأجنبية المعروفة باتفاقية نيويورك لسنة 1958 و ذلك بمقتضى ظهير شريف رقم 1.59.266 المؤرخ في 19 فبراير 1960، و قد توالت بعد ذلك الاتفاقيات المصادق عليها من طرف المغرب و المتعلقة بالتحكيم نذكر على سبيل المثال اتفاقية واشنطن لسنة 1965 الخاصة بتسوية الخلافات الراجعة للاستثمارات بين الدول و رعايا الدول الأخرى و التي انضمت إليها المملكة بمقتضى مرسوم ملكي رقم65ـ564 بتاريخ 31 أكتوبر1966، أما على المستوى الإقليمي نذكر اتفاقية عمان العربية للتحكيم التجاري المؤرخة بتاريخ 1987... هذا ناهيك عن العدد الكبير من الاتفاقيات الثنائية مع عدة دول متضمنة شرط اللجوء للتحكيم.

لكل هذه الاعتبارات فإن الاهتمام بالتحكيم عن طريق فصل مقتضياته عن قانون المسطرة المدنية أصبح أمرا ضروريا لا يختلف فيه عاقلان[2]، هذا الأمر سيحمل بالضرورة إطارا تشريعيا متكاملا يرنو إلى مواكبة التطور الحاصل على مستوى التحكيم و الذي يستتبع التطور الاقتصادي و الاجتماعي للدول، فإذا كان للتحكيم دورا أساسيا في التشجيع على الاستثمار فإنه من جهة أخرى يلعب دورا اجتماعيا يتمثل في التخفيف من ثقل القضايا المعروضة أمام القضاء مقابل قلة الموارد البشرية لجهاز العدالة، مما سيؤدي إلى التسريع في البث في القضايا و تحقيق العدالة في الأحكام الصادرة عن القضاء.

إذا ثبتت أهمية هذا المشروع الذي نتمنى أن يرى النور قريبا و الذي حاول المشرع من خلاله تجاوز الانتقادات و الفراغات الموصوم بها قانون 08ـ 05، فإننا سنعمل من خلال هذه القراءة أن نسلط الضوء على بعض تجليات الإصلاحات) الفقرة الثانية( على أن نؤكد قبل ذلك على أهمية قانون التحكيم و الوساطة الاتفاقية و دورها في تحسين مناخ الأعمال بالمغرب)الفقرة الأولى(.

الفقرة الأولى: دور قانون التحكيم في تحسين مناخ الأعمال

لا يمكن أن ننكر أفضلية التحكيم كأهم وسيلة لحل النزاعات نظرا لمآل أحكام التحكيم و الحجية التي تكتسيها مقارنة بباقي الوسائل البديلة لحل النزاعات، لهذا فلسنا مخطئين و لا متعصبين للتحكيم إذا اقتصرنا اسم مشروع القانون بقانون التحكيم رغم أن تسميته الكاملة قانون التحكيم و الوساطة الإتفاقية المغربية، لأن التحكيم إلى حدود اللحظة على الأقل[3] هو المراد و الغاية منه و هو الدافع الأساسي لإحداثه، و هذا واضح جليا من خلال المواد المخصصة له مقارنة بالوساطة {التحكيم: 85 مادة. مقابل 15مادة للوساطة الاتفاقية }،  لذلك نجد من المنادين بتخصيص هذا المشروع للتحكيم فقط دون غيره، على غرار المشرع التونسي الذي كان سباقا و تعتبر تجربته رائدة في هذا المجال بإحداثه مجلة التحكيم التونسية المشهود لها بالدقة و الوضوح و التطور.
يعتبر القانون أحد أهم أسس النماء الاقتصادي ولا جدال في أن أي حديث عن تطور اقتصادي لا بد من مواكبة تشريعية و تطور قانوني و أي إخلال يلحق هذه المعادلة يحدث خلل في التنمية المنشودة، و في هذا الإطار فإن تحديث منظومة التحكيم بالمغرب سيكون مشجعا على التجارة و الاستثمار كونه يبث الاطمئنان في نفوس المستثمرين سواء الأجانب منهم أو الوطنيين، من جهة لما يتسم به القضاء في كل الدول بصفة عامة و المغرب على الخصوص من بطء في الإجراءات و تعقيد المسطرة ومن جهة أخرى لفعالية التحكيم في حل النزاعات خاصة التي يستعصي على القضاء حلها نظرا لمرونة مسطرة التحكيم و سرعة البث في النزاعات المعروضة على هيئة التحكيم بالإضافة إلى السرية خلاف مبدأ العلنية الذي يعتبر الأصل أمام القضاء الرسمي.
تتماشى خصائص التحكيم مع طبيعة التجارة و الأعمال التي كما أسلفنا تقوم على السرعة و السرية حفاظا على المصالح المشتركة للمستثمرين و رجال الأعمال، هذا الأمر سيساهم في تحسين مناخ الأعمال في المغرب خاصة بعدما أصبح المغرب في الآونة الأخيرة قبلة مفضلة لإنجاح المشاريع الاقتصادية الضخمة من طرف العديد من الدول المتقدمة، لذلك يقتضي التشجيع على هذه الاستثمارات إرضاء المنعشين و الفاعلين الاقتصاديين بتعزيز منظومة الأعمال بالمغرب بقانون خاص بالتحكيم حتى يتسنى و يسهل على المستثمرين و كل المهتمين في مجال التحكيم الإطلاع عليها، وهذا التخصيص وحده يعتبر خطوة إيجابية و محمودة من طرف المشرع، وبالطبع فإن هذه الخطوة لابد أن تكون مدعمة بإحداث قانون مساير للاتفاقيات الدولية و أكثر وضوحا متجاوزا الثغرات و الإغفال التي اتسمت بها المقتضيات الحالية و القديمة التي تنظم التحكيم، فهل بالفعل يستجيب مشروع قانون التحكيم للتطلعات المنتظرة؟ وهو الشيء الذي سنتطرق إليه في الفقرة الموالية.

الفقرة الثانية: تمظهرات الجدة في قانون التحكيم

تعددت المناقب المتوفرة في قانون 08 ـ 05 و التي دعت إلى ضرورة التعديل الأمر الذي سارع المشرع من أجله من خلال مشروع قانون التحكيم، ولقد ساهم الاجتهاد القضائي المغربي بشكل كبير في تجاوز نقائص قانون التحكيم السالف الذكر[4]، ومن تم شكلت تلك الاجتهادات أرضية و مرجع أخذت بعين الاعتبار عند وضع هذا المشروع ، ليصبح القضاء بذلك مصدرا مهما من مصادر التشريع خاصة في مجال التحكيم.
كثيرة هي التعديلات التي جاء بها مشروع قانون التحكيم حيث شملت التحكيم الداخلي و الدولي، لكن شأننا في هذه الفقرة الاقتصار على البعض من تجليات و مظاهر تلك التعديلات التي أراد المشرع من خلالها تجاوز معيقات تطور التحكيم في المغرب.

أولا: إعادة تحديد المفاهيم مفتاح لتجاوز بعض الإشكاليات

يقال أن التعريف من مهام الفقه و ليس القانون، لكن نظرا لأهمية تحديد المفاهيم في مادة التحكيم لما قد يثار حول تأويلها و تفسيرها مما ينعكس سلبا على التعاطي مع تلك المصطلحات، خصص المشرع المادة الأولى من المشروع لتحديد تلك المصطلحات الواردة فيه وذلك خلاف قانون 08 ـ 05 الذي جاءت فيه المقتضيات المحددة لتلك المفاهيم في نصوص متفرقة مع إغفاله تحديد البعض منها. و سنخص بالذكر إشكالية الاختصاص التي خلفها تحديد مفهوم رئيس المحكمة في التحكيم الداخلي {أ} ثم تحديد معيار دولية التحكيم {ب}.

أ. تجاوز إشكالية الاختصاص النوعي بإعادة صياغة مفهوم "رئيس المحكمة":

جاء في الفصل 312 ق.م.م أنه " يراد في هذا الباب بما يلي: .... 3ـ رئيس المحكمة: رئيس المحكمة التجارية ما لم يرد خلاف ذلك".
يعني هذا الفصل أن الاختصاص حصري لرئيس المحكمة التجارية ما لم يرد خلاف ذلك، و قد منح  قبل هذا الفصل الاختصاص للمحكمة الإدارية للنظر في طلب تذييل الحكم التحكيمي الصادر في المنازعات المالية الناتجة من التصرفات الأحادية للدولة أو الجماعات المحلية[5] في الفصل 310 ق.م.م. الفقرتين 3 و 4.
 يتضح إذن أن الأمر يتعلق بجهتين للاختصاص لا ثالث لهما، مما طرح إشكالية الاختصاص في النزاعات المدنية {نزاعات الشغل الفردية مثلا} مقابل صراحة الفصل، وهو ما انتقل أيضا إلى التحكيم الدولي فقد اعتمدت بعض المحاكم على الفصل 310 السالف الذكر للقول باختصاص رئيس المحكمة التجارية لتذييل الأحكام التحكيمية الدولية، الوطنية منها و الأجنبية، إلا أن هذا التوجه القضائي اعتبر نشازا حيث نجد العديد من الاجتهادات القضائية من رؤساء المحاكم و محكمة النقض[6] أكدت في أكثر من محطة أن النزاعات ذات الطابع المدني و الصادر في شأنها مقرر تحكيمي يقدم طلب تذييله بالصيغة التنفيذية إلى رئيس المحكمة الابتدائية، ومن تم فقد تواترت الاجتهادات القضائية التي تقر بأن رئيس المحكمة المراد به هو رئيس المحكمة المختصة حسب طبيعة موضوع النزاع، وهذا المعيار في منح الاختصاص الذي يمكن القول عنه أنه محدد قضائي، قبل أن يعتمده المشرع في مشروع قانون التحكيم متجاوزا بذلك تلك النقاشات بشأن الاختصاص، فقد نص في الفقرة الأخيرة من المادة الأولى في المشروع أنه " يراد في هذا القانون بما يلي: ....12 ـ رئيس المحكمة: رئيس المحكمة الابتدائية أو رئيس المحكمة الإدارية أو رئيس القسم المتخصص في القضاء الإداري بالمحكمة الابتدائية، أو رئيس المحكمة التجارية، أو رئيس القسم المتخصص في القضاء التجاري بالمحكمة الابتدائية، أو من ينوب عنهم".
 وحد المشرع جهة الاختصاص في شخص رئيس المحكمة إما الإدارية[7] أو التجارية أو الابتدائية حسب طبيعة النزاع و بالتالي يكون قد اعتمد المعيار الموضوعي لتحديد الاختصاص هذا المعيار نفسه المعتمد في تحديد دولية التحكيم.

ب. اعتماد المعيار الموضوعي في تحديد دولية التحكيم

  لم يكن المشرع دقيقا في المادة 327 ـ 40 ق.م.م. فيما يخص تحديد معيار دولية التحكيم[8]، هذا الغموض ناتج عن كثرة الحالات التي اعتبر فيها التحكيم دوليا مع أن القاسم المشترك بينها هو المصالح التجارية الدولية[9]، لكن إذا كانت الحالة الأولى و الثانية الواردة في المادة أعلاه مقبولة فإن الحالة الثالثة وجهت لها عدة انتقادات حيث جعلت من اتفاق الأطراف وحده كفيلا لإضفاء الدولية على التحكيم رغم وجود ما يخالف ذلك، و على إثر ذلك فإن مشروع قانون التحكيم تجاوز كثرة تلك المعايير و جعل معيار تعلق الموضوع بمصالح التجارة الدولية محددا أساسيا لدولية التحكيم في المادة الأولى منه و بالتالي يكون المشرع قد اعتمر معيارا موضوعيا محضا لإضفاء الصبغة الدولية على التحكيم، لكن المادة 70 من نفس المشروع أضافت محدد آخر بالإضافة إلى تعلق موضوع النزاع بمصالح التجارة الدولية "أن يكون لأحد أطرافه على الأقل موطن أو مقر بالخارج"، وهو الأمر الذي اعتبر تراجعا من المشرع عن المعيار الموضوعي، هذا الأخير الذي لقي استحسانا من طرف أغلب الممارسين و المهتمين بمجال التحكيم، لذلك هناك مطالب بإلغاء تلك الجملة الأخيرة من المادة 70 من المشروع  على اعتبار أن معيار تعلق الموضوع بمصالح التجارة الدولية كافيا لتحديد دولية التحكيم.
 
ثانيا: نحو تحكيم أكثر ليبرالية

يقال أن التحكيم هو مجموعة من الحريات، لذلك فأي تعزيز لمنظومة التحكيم يجب أن يتجه نحو توسيع نطاق تلك الحرية لكافة الأطراف سواء المتخاصمين أو المحكمين، تلك الحرية التي قد تحد منها إلزامية التصريح الواردة في المادة 321 ق.م.م {أ}. بالإضافة إلى ضرورة توسيع دائرة النزاعات القابلة للتحكيم، و هو الأمر الذي انتبه إليه المشروع بتنصيصه على مفهوم العقود الإدارية الدولية.

أ. إلزامية التصريح بين الإبقاء و الإلغاء:

اعتبر بعض المهتمين بمادة التحكيم أن إلزامية تصريح المحكمين طبيعيين كانوا أو معنويين الذين يمارسون اعتياديا أو في إطار المهنة مهام التحكيم إلى الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف... م. 321 ق.م.م[10]. فيه نوع من تقييد حرية الأطراف في اختيار المحكم من جهة و من جهة أخرى فيه نوع من تقييد عمل المحكمين في حين هي مهمة حرة، و ما يؤكد هذا الطرح صيغة الوجوب التي أوردها المشرع في مطلع المادة أعلاه "يجب...".
 طرحت هذه المادة مجموعة من التساؤلات منها مثلا ما مدى إلزامية التصريح؟ و هل المحكمين الذين يمارسون هذه المهام لا يعترف لهم إلا من تاريخ الموافقة على تصريحهم بعد البحث الذي يجريه الوكيل العام للملك؟ و لماذا هذا الجهاز؟ و هل هو من يصدر القرار أم رئيس المحكمة التابع له؟ و ماذا لو اتفق الأطراف على محكم غير مسجل في اللائحة؟ وكيف يتم دراسة وضعية المحكم التي على أساسها يقبل التصريح و يدرج في القائمة؟
كل هذا لكون تلك المادة تتنافى مع مبدأ حرية التحكيم و اختيار المحكم.
أصدر وزير العدل و الحريات رسالة دورية توضيحية إلى السادة الرؤساء الأولين لمحاكم الاستئناف و الوكلاء العامين لديها و الرؤساء الأولين لمحاكم الاستئناف التجارية و السيدين الرئيسين الأولين لمحكمتي الاستئناف الإدارية، بخصوص تطبيق المادة 321 ق.م.م. حاول من خلالها تجنب الاختلاف بشأن تأويلها و في نفس الوقت شكلت إجابة عن الانتقادات التي وجهت إلى تلك المادة، و مما جاء في تلك الدورية: "...وحرصا على أن تتم ترجمة مقتضيات هذا الفصل على أرض الواقع، بشكل موحد بين كافة محاكم المملكة، ووفقا لما توخاه المشرع، أذكركم بضرورة التقيد في هذا النطاق، بالأعمال التحضيرية و مختلف النقاشات التي جرت بشأنه على مستوى البرلمان، حيث يتبين بوضوح أو مقاصد و أهداف المشرع من وراء هذا الفصل جاءت كما يلي:
أولا: إلزام فئة المحكمين ممن يثبت قيامهم على وجه الاعتياد بمهمة التحكيم أو المخولين صراحة القيام بهذه المهمة بمقتضى القوانين الجاري بها العمل، بالتصريح بذلك للسيد الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف لتقييدهم في القائمة.
ثانيا: لم يكن هدف المشرع جعل مهمة التحكيم حكرا على المقيدين في اللائحة، كما لم يقصد تقييد حرية الأطراف بإلزامهم اختيار المحكمين من هذه القائمة، بل هو إجراء توخى منه المشرع تسهيل مهمة رئيس المحكمة حين يلجأ إليه أطراف التحكيم في إطار مقتضيات الفصلين 327.4 و 327.5 ق.م.م قصد تعيين أو إتمام تشكيل هيئة التحكيم...
ثالثا: هذا التصريح لا يعني فئة الوسطاء، كما لا يتعلق بما نص عليه المشرع في مدونة الشغل في المادة 568..."[11].
ظل النقاش و الانتقاد موجها إلى هذا المقتضى رغم تلك الدورية التي لم تذهب بعيدا عن التأويل المعطى الذي يشكل في عمقه تقييدا لحرية أطراف التحكيم، و في إطار التفاعل التشريعي موازاة مع ما يثار من إشكاليات فقها و قضاء جاء مشروع قانون التحكيم  و الذي كان من المنتظر فيه حل هذا الإشكال إلا أنه اقتصر في هذا الإطار على تغيير الجهة التي يقدم إليه التصريح المثار بشأنه النقاش، فبدل تقديم التصريح إلى الوكيل العام للملك لمحكمة الاستئناف أصبح في ظل المشروع يقدم إلى الرئيس الأول لتلك المحكمة[12] وفي إطار دراسة المشروع ظهر توجهين:

التوجه الأول: يقول بإلغاء هذه المادة كون أن التحكيم باعتباره من الوسائل البديلة هذه الأخيرة التي يجب أن تبقى بعيدة عن أي رقابة قضائية لا من طرف الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف و لا من طرف الوكيل العام للملك لديه، لكون ان هذه الأطراف تقيد حرية الأطراف في اختيار المحكمين.

التوجه الثاني: يرى بالإبقاء على هذا المقتضى لأهميته في تيسير اختيار رئيس المحكمة لأحد المحكمين المسجلين و ذلك في إطار دوره في مسطرة التحكيم من خلل الاستجابة لطلب تعيين محكم المقدم من أحد أطراف النزاع، فهذا التعيين حسب هذا التوجه يجب أن لا يكون مبني على  تقديرات شخصية لرئيس المحكمة و إنما على لائحة رسمية يختار منها المحكم، ومن تم لابد من هذا الإجراء التنظيمي.
 و فيما يخص الجهة التي تتولى مهمة وضع قائمة المحكمين فالتوجه الثاني يقول بإسناده إلى مديرية الشؤون المدنية بوزارة العدل و الحريات كما هو الشأن بالنسبة للائحة الخبراء و التراجمة، بدل إثقال كاهل القضاء بأمور إدارية ليس من اختصاصه.
يبدو أن المشرع استحضر الإشكاليات المثارة بشأن إلزامية التصريح و غير الجهة المقدم لها الطلب نظرا لحساسية عمل النيابة العامة، لكن نعتقد أن المادة ما زالت تحتاج إلى وضوح أو بالأحرى إصدار نص تنظيمي يبين المعايير أو شروط التقييد في قائمة المحكمين. علما أنه بدورنا نعتبر أن التصريح هو إجراء شكلي الهدف منه بالأساس وجود قائمة محكمين يسهل معها اختيار أحدهم، في الحالة التي يتلكأ أحد أطراف اتفاق التحكيم في اختيار محكمه، ويلجأ الطرف الآخر إلى رئيس المحكمة، في إطار مهامه كجهة مساعدة لقضاء التحكيم[13].
 
ب. الاعتراف بالعقود الإدارية الدولية:

رغم عدم تنصيص المادة 327 ـ 46 ق.م.م على العقد الإداري الدولي و الجهة المختصة التي تنظر في تذييل الأحكام التحكيمية الصادرة بشأن نزاع يتعلق بالعقود الإدارية الدولية بالصيغة التنفيذية، فإن القضاء قضى في مجموعة من القرارات على وجود العقد الإداري الدولي، إلا أن الاختلاف كان حول الجهة المختصة للنظر في تذييل هذا النوع من موضوعات الأحكام التحكيمية، في أغلب الاجتهادات القضائية مددت فيها المحكمة مقتضيات التحكيم الداخلي للعمل بها في التحكيم الدولي لذلك كانت تمنح الاختصاص للمحكمة الإدارية بناء على المادة 310 ق.م.م.[14] في المقابل نجد قرارات نادرة، خاصة من محاكم الموضوع التي لم تميز بين عقود التجارة الدولية و العقود الإداري الدولية، و التي تتعرض للنقض في آخر المطاف حيث تطبق حرفيا ما جاء في المادة 327 ـ46 ق.م.م و تمنح الاختصاص لرئيس المحكمة التجارية، و تقصي بذلك بث القضاء الإداري في طلبات التذييل بالصيغة التنفيذية لهذا النوع من النزاعات.
أدى هذا الأمر إلى إشكالية ازدواجية الاختصاص في مسطرة الاعتراف و التنفيذ و هو نفس الإشكال الذي تعاني منه بعض التوجهات القضائية المقارنة[15].
وحسنا ما فعله المشرع من خلال مشروع قانون التحكيم لما أقر و اعترف بوجود العقود الإدارية الدولية و منح اختصاص النظر في تذييل الأحكام التحكيمية المتعلقة بها للمحكمة الإدارية صراحة ليصبح بذلك معيار موضوع النزاع هو المحدد للاختصاص على غرار التحكيم الداخلي.

ج. مراعاة السرعة في التحكيم الدولي

خلاف الحكم التحكيمي الصادر خارج المملكة فإن الحكم التحكيمي الدولي الصادر في المغرب يكون قابلا للطعن بالبطلان طبقا للمادة 327ـ 52 ق.م.م و ذلك بمجرد صدوره و لا يقبل هذا الطعن إذا لم يقدم داخل أجل 15 يوما من تبليغ الحكم القابل للتنفيذ.
تركت المادة المشار إليها أعلاه الغموض على مستويين، أولا على مستوى طريقة التبليغ، التي لم يكن المشرع صريحا في مدى الأخذ بقواعد التبليغ العامة أو أن أي طريقة يبلغ بها الحكم التحكيمي يمكن أن تشكل دليلا على قيام التبليغ صحيحا، و هذا الرأي الأخير هو الذي يتماشى وواقع التحكيم الدولي الذي يقوم على السرعة في حل النزاعات، و هو نفس التوجه الذي سايره المشرع في مشروع قانون التحكيم، الذي ترجم فيه انفتاحه على الوسائل الحديثة للاتصال كدافع و مشجع على الأخذ بالتحكيم الدولي، و ذلك بنصه على إمكانية تبليغ الحكم التحكيمي الصادر بالمملكة في مادة التحكيم الدولي، بجميع الوسائل بما فيها التبليغ الإلكتروني {م. 83 من المشروع}.
ثانيا أوخذ على المادة 327 ـ 52 ق.م.م إضافة عبارة "...القابل للتنفيذ..." بحصره الطعن بالبطلان على الأحكام القابلة للتنفيذ، في حين أن معرفة مدى قابلية الحكم التحكيمي للتنفيذ، هي مرحلة تالية لمرحة الطعن بالبطلان ومن تم تبقى تلك العبارة مجرد حشو قد تؤول تأويلا معيبا  يؤثر على تطور و فعالية التحكيم الدولي.
وفي اللحظة التي كنا ننتظر فيها من المشروع تجاوز هذه الصياغة المعيبة، نلاحظ أنه احتفظ بها في صياغة المادة 83 منه المقابل للمادة 327 ـ 52 ق.م.م. و نأمل مراجعة المادة قبل المصادقة على المشروع.
ختاما وفي خضم الإصلاحات التي همت مختلف المجالات القانونية نزكي خطوة المشرع لإحداثه قانونا خاصا و مستقلا بالتحكيم و الوساطة الاتفاقية و في ذلك دليل على نيته لمواكبة القوانين المقارنة و كذا الاتفاقيات الدولية المتعلقة بالتحكيم و هذا ما هو باد في التعديلات المشار إلى بعضها أعلاه و نرجو قبل إخراج هذا المنتوج القانوني إلى الوجود  أن يزيد من درجة الدقة في صياغة مقتضياته، و يأخذ بعين الاعتبار كل  المؤاخذات على المشروع من طرف الباحثين في مجال التحكيم.

الهوامش
1كان الاسم المتداول خلال محاولات إصدار ذلك القانون هو "مدونة التحكيم"، اقتداء بالمشرع التونسي مثلا الذي أطلق عليها مجلة التحكيم.
[2]  قليلة هي التشريعات التي تخصص مقتضيات قانونية مستقلة للتحكيم، و إنما غالبة التشريعات الوطنية باستثناء تونس من الدول العربية، تلحقه بقانون الإجراءات أو المسطرة المدنية، نذكر على سبيل المثال فرنسا في تعديلها الأخير لمقتضيات التحكيم بمرسوم سنة 2011 احتفظت بها ملحقا بقواعد المسطرة المدنية، وقد أبدا بعض الباحثين الفرنسيين في مجال التحكيم استيائهم من هذا الأمر بعدما كانوا يتطلعون لقانون مستقل ينظم التحكيم. راجع هذا الموقف في:
 Thomas Clay, Le nouveau droit française de l’arbitrage,2011,p.10 ss. 
 نظيف كذلك أن أغلب دول الخليج و الشرق الأوسط تعتمد نفس النهج في إلحاق مقتضيات التحكيم بالقواعد الإجرائية {السعودية، قطر، الأردن، مصر، سوريا...إلخ}
[3]  هناك من يرى بأن الوساطة الاتفاقية سيكون لها شأن مهم في حل المنازعات، نظرا لفعاليتها و فاعليتها و بالتالي فإن مستقبل الوسائل البديلة سيكون مشرقا مع الوساطة الاتفاقية و هذا النجاح يقف على شرط واقف هو اهتمام الدولة بتلك الوسيلة البديلة بالتشجيع عليها من جهة و بتكوين وسطاء محترفين في مراكز و معاهد متخصصة من جهة أخرى.
[4]  كان للاجتهاد القضائي المغربي منذ وقت مبكر قبل اتفاقية نيويورك و بعدها في ظل قانون 1974 و في ظل قانون 08 ـ 05  الفضل الكبير في مواكبة التوجهات الدولية في التحكيم و تجاوز الغموض و النقص التشريعي، هذا الأمر يظهر من خلال مجموعة من القرارات القضائية الصادرة عن رؤساء المحاكم و كذا عن الغرفة التجارية لدى محكمة النقض.
[5]  التي أصبحت تسميتها الجماعات الترابية بتعديل القانون التنظيمي للجماعات.
و في هذا الصدد يجب التمييز بين اختصاص المحكمة الإدارية التي سيتم التنفيذ في دائرتها، أو المحكمة الإدارية بالرباط إذا كان تنفيذ الحكم سيشمل مجموع التراب الوطني {م. 310 ق.م.م}.
[6]  في أمر صادر عن المحكمة التجارية بالدار البيضاء، ع. 569، في الملف ع. 2008/1/261، بتاريخ 2008/03/05 ومما جاء فيه أن الاختصاص بمنح الصيغة التنفيذية يرجع إلى رئيس المحكمة الابتدائية إن تعلق الأمر بنزاع مدني، ولرئيس المحكمة إذا تعلق الأمر بنزاع تجاري، أما إذا كان النزاع إداريا فإن المشرع منح النظر فيها إلى المحكمة الإدارية بمقتضى المادة 310 ق.م.م. منشور بكتاب " التحكيم التجاري من خلال العمل القضائي المغربي ـ رصد لقرارات محكمة النقض ومحاكم الموضوع ـ "، مصطفى بونجة  و نهال اللواح، مطبعة اسبارطيل، طنجة، الطبعة الأولى، ص. 182.
و هو نفس التوجه لمحكمة النقض انظر قرار هذه الأخيرة عدد 430 بتاريخ 2008/04/16 في الملف التجاري ع. 2004/1/3/1387. منشور بالمرجع قبله، ص. 67.
[7]  بعدما كان الاختصاص يعود إلى المحكمة الإدارية و ليس إلى رئيسها في بعض النزاعات التي تكون الدولة أو أحد جماعاتها طرفا في النزاع.
[8]  ترجع إشكالية تحديد معايير دولية التحكيم و تمييزها عن التحكيم الأجنبي  إلى ما قبل اتفاقية نيويورك 1958 حيث ثار النقاش حول متى يكون التحكيم أجنبيا أو دوليا،  و ما هو المسمى الانسب في اتفاقية نيويورك إلى أن انتصر إلى تسمية التحكيم الأجنبي و التي مازالت مفعلة إلى حدود الآن، و من تلك اللحظة طرح إشكال معيار تحديد دولية التحكيم، فهناك من اعتمد المعيار القانوني { القانون الواجب التطبيق سواء على المسطرة أو على الإجراءات} و الآخر اعتمد معيار جغرافي { مكان التحكيم..}. للتعمق أكثر في هذا الأمر انظر:
[9]  و تعرف مصالح التجارة الدولية بكونها تبادل السلع و الخدمات و انتقال الأموال عبر الحدود و المناطق المختلفة و ما يتعلق بهذا الانتقال من عمليات تجارية ممكنة كالنقل و التأمين و الخدمات الإضافية الأخرى.. و من تم فأي نزاع متعلق بها يدخل في منازعات التجارة الدولية
[10]  جاء في المادة المذكورة ما يلي: " يجب على الأشخاص الطبيعيين الذين يقومون اعتياديا أو في إطار المهنة بمهام المحكم إما في صورة منفردة أو في حظيرة شخص معنوي يعتبر التحكيم أحد أغراضه الاجتماعية، أن يصرحوا بذلك إلى الوكيل العام لمحكمة الاستئناف الواقع في دائرة نفوذها محل إقامة الأشخاص الطبيعيين المذكورين أو المقر الاجتماعي للشخص المعنوي.
يسلم الوكيل العام وصلا بالتصريح و يقيد المعنيين بالأمر في قائمة المحكمين لدى محكمة الاستئناف المعنية و ذلك بعد دراسة وضعيتهم".
[11]  المجلة المغربية للتحكيم العربي و الدولي، ع. 2، ، 2016، ص. 299.
[12]  نصت المادة 11 من مشروع قانون التحكيم على ما يلي: " يجب على الأشخاص الطبيعيين الذين يقومون اعتياديا أو في إطار المهنة بمهام المحكم إما في صورة منفردة أو ضمن شخص اعتباري أن يصرحوا بذلك إلى الرئيس الأول لمحكم الاستئناف الواقع في دائرة نفوذها محل إقامة الأشخاص الطبيعيين المذكورين أو المقر الاجتماعي للشخص المعنوي.
يسلم الرئيس الأول وصلا بالتصريح و يقيد المعنيين بالأمر في قائمة المحكمين لدى محكمة الاستئناف المعنية و ذلك بعد التأكد من أهليته".
[13]  للوقوف على الآثار السلبية و الإيجابية للتصريح و تقييد حرية الأطراف في تشكيل هيئة التحكيم راجع رسالتنا بعنوان "الرضى في التحكيم الداخلي و الدولي ـ دراسة مقارنة ـ " رسالة لنيل شهادة الماستر، 2014/ 2015، فاس، ص.  60 و ما بعدها.
[14]  انظر مثلا تعليل رئيس المحكمة التجارية بالرباط أمره الذي قضى فيه بعدم اختصاصه النوعي في الطلب المقدم من شركة " سليني كونستروتوري س.ب.أ" ضد الدولة المغربية.
[15]  للوقوف أكثر على هذه الإشكالية في الاجتهادات القضائية لكل من فرنسا و مصر راجع: مصطفى بونجة، الاختصاص القضائي في الاعتراف بالأحكام التحكيمية الدولية و تنفيذها بين الوحدة و الازدواجية، منشور في دفاتر محكمة النقض، التحكيم و الوساطة الاتفاقية، ع. 25، 2015، ص. 24 و بالضبط  36ـ 45. 




السبت 7 ماي 2016

تعليق جديد
Twitter