MarocDroit  -  موقع العلوم القانونية



قاض في الجنة وقاضيان في مجلس التأديب بقلم الدكتور خالد شيات

     



قاض في الجنة وقاضيان في مجلس التأديب بقلم الدكتور خالد شيات
قرأنا حكايات عن كون العدل أساس الملك، وروي لنا عن سؤال شرشل الأنجليز، بعد الحرب العالمية الثانية، عن وضع القضاء فلما أخبر بكونه بخير أجابهم أن إنجلترا بخير، وكأنه لم يكن يعلم أن الذي جعلهم ينتصرون في الحرب هو القيم التي يحملها الناس وليس العمران الذي خربته حرب طاحنة أتت على الأخضر واليابس.

القضاء له هذه الأهمية لاعتبارات عديدة، منها أنه ضامن محور كل السلط والأنشطة داخل الدولة؛ به يضمن المتنازع حقوقه، من خلاله تدار آلية الإيمان بوجود الدولة ومؤسساتها. وعليه لا يمكن من هذا المنطلق تخطي الدور الاستثنائي الذي يقوم به، وكأنه روح الدولة وعصبها ومحورها. ولم يتنبه فلاسفة الأنوار لضرورة استقلاليته عبثا ولا أعطاه المسلمون قداسة خاصة حتى في مقابل رؤساء الدول أو أمرائها وسادتها من باب الترف، التاريخ حافل بقضاة شجعان ردوا شهادة الحكام وناقضوا قراراتهم ورغباتهم وأهواءهم أحيانا، حتى أن القضاة لم يكونوا يحملون في أقاصي الأرض سلطة سوى سلطة كلمتهم التي كان يحميها قوة الحق ورجاحته. وطبعا، وكما هو حال البشر، كان من القضاة المنافق والمداهن والوصولي المستنفع، وقد كان ذلك يمثل أقلية، لتقابل القضاء مع الإفتاء في الدين في العموم، أو دلالة على استرخاء السلطة سواء في المركز أو الأطراف، أو لعامل التخلف ببساطة.

لكل ذلك لا يمكن أن نفرح لمتابعة الوضع الذي يوجد فيه قضاء المملكة الشريفة اليوم، فهو يمثل من جهة الدولة كسلطة والدولة ككيان حي يحمل إرثا ثقيلا يتجسد في إمارة المؤمنين كأحد روافده، ولا يمكن أن يبقى القضاء مجرد موضوع للتنبيه لضرورة الإصلاح، بل لا بد لهذا الإصلاح أن يكون قاعدة ليس للقضاء بل لما يتحرك من وراء القضاء، وبذلك يمكن أن نستشف أي وضع نوجد فيه فعلا.

يسهل أن نبقى في هذه المستويات المتدنية، ويسهل أن نتابع ما يقع في وحول هذه السلطة الكبرى الناشئة عقب دستور 2011، لكن لا يسهل التغاضي عن الوضع العام المائل للعرقلة لكل إصلاح، وإن كان مصطلحي إصلاح والقضاء لا يلتقيان إلا لحذف أحدهما، لأنه من المفترض ألا نصلح القضاء بل أن نصلح به، وعندما يفسد جزء منه أو كله فإن التفكير في البتر يصبح قائما.

في هذا الجسم الساشع المسمى العدالة بالمملكة هناك الأكثرية التي تضحي بوقتها ومالها وصحتها أحيانا من أجل هذه الأمة، لكن هناك أيضا أنواع كثيرة من المشاكل تزخرفها تناقضات متعددة مرتبطة بما هو ثقافي وأخلاقي وسياسي واقتصادي وغيرها، وإذا أضفت إشكالات عملية وتقنية فإنك ستحصل على خلطة غير قابلة للفهم، ناهيك عن الإصلاح، لكن ولأن الدولة ووزارتها الوصية لها مسؤولية كبرى في هذا النسق يمكن التذكير بأن ما يبدو عصيا عن الإصلاح إنما هو تعبير عن استعصاء فك الترابطات المصلحية ذات التشعبات السالفة، أليس في هذه المحاكم ثغرات قانونية تستغل للانتفاع الشخصي من طرف بعض منعدمي الضمير في الميدان، أولم تكن هناك حالات في السابق استدعت الحاجة للتساهل أو حتى التغاضي عن المتابعة أو العقاب في حالات معينة، كيف يمكن أن نقتنع بالمساواة أمام القضاء في الوقت الذي لم يكن يعامل فيه المغاربة على قدر واحد؟

الأسئلة التي تبدو محيرة وتقام لها الندوات والدورات تعالج بكلمة واحدة؛ المساواة، والمساواة أمام القانون، والحرية التي يحوزها القضاة مع النزاهة والعفة والأمانة التي لا يستقيم القضاء إلا بها، والتي هي سمة أغلب قضاتنا اليوم، يلطف من المعنى الجامد للمساواة وتتداخل معها قيم الإنسانية والرحمة وغيرها.

كان القضاء بمغرب ما بعد الاستقلال دوما متأثرا بالظرفيات السياسية والاقتصادية والثقافية المؤثرة في طبيعة بناء الدولة نفسها، وعندما نتحدث عن القضاء لا ننتظر منه أن يكون، في خضم الواقع الصعب، استثناء، لكنه يمكن أن يكون فعلا قاطرة لأن له ذاكرة، فهو ليس سلطة جاءت من عدم بل هو موجود بوجود الدولة نفسها، والأضرار التي لحقته في السنوات الماضية يمكن تداركها بسهولة، ويمكن أيضا أن نؤمن بالانفتاح والتحول والتغير الذي يجب أن يطال عقليات بعض القضاة، وبعض المرتبطين بالقطاع، قبل أن يطال المحاكم والمراكز التي يمارسون بها، عقلية محافظة في أحسن أحوالها لا تقبل التغيير، وأحيانا كثيرة لا تفضل الاجتهاد إلا في حدود، وهو أمر لن يساعد أيا كان على العطاء، إذا لم تنزاح القيود التي وضعت لخدمة مسار خاص فلن يكون هناك حديث عن إصلاح القضاء.

مؤخرا، وفي خضم النقاش عن الإصلاح، حدث أن استغل محامون في ولاية تكساس أشياء عامة وأشياء خاصة للتنصل من حق ثابت للمغرب ومغاربة في قضية بترول تالسينت، وقد كان التعليل أقبح من المشكل نفسه، في الوقت الذي نريد أن نقتص لكرامتنا من ظلم بين نتفاجأ بظلم مضاف، لكن أسفنا يرتبط أيضا بذلك السؤال الدفين فينا المرتبط بدوره بمجرد التساؤل عن جزء من صحة التعليل نفسه، القسوة التي نجلد بها ذاتنا لا نريد أن نجلد بها من طرف الأجانب، وهذا أمر ليس دائما حقيقة.

الأمر الثاني الذي ربما تناساه القرار الصادر عن هذه المحكمة الأمريكية مرتبط بالعقوبات التي نالها بعض القضاة، ولحسن حظنا أن القرار صدر قبل هذه العقوبات التي طالت تصرفات من قبيل أخذ صورة لقاض ببهو محكمة يحتج من خلالها على بعض أوضاعه، وآخر عن سجال "عنيف" ربما مع قاض آخر أعلى رتبة حول أحقيته بمسؤولية معينة، وربما هناك عقوبات سابقة تدور حول ممارسات مشابهة. وطبعا لا نجادل في ضرورة العقاب واعتباره إجراء عاديا يطال القاضي كما يطال غيره، بل اعتباره ضرورة أيضا في القضاء لحساسيته ولخطورة تبعات أي تصرف أرعن صادر عن أي قاض، لكن نرجو ألا تكون العقوبة هي فقط في يد اتجاه تقليدي مدافع عن نمط جامد وغير تطوري يتناقض بالمطلق مع مفهوم الإصلاح الذي هو عنوان المرحلة، وألا يكن العقاب هو سوء فهم كبير يخلط بين الذاتي والموضوعي، بين الحق وبين الارتهان والتبعية العمياء، بين أن تكون قاضيا وأن تكون مجرد موظف في قطاع القضاء، لأني شخصيا ضد أن يأخذ القاضي صورة في بهو محكمة احتجاجا، ولست مع كل الاجتهادات التي ذهب إليها آخر في المجال الإداري، لكن كيف يمكن أن نفهم ما يتعرض له بعضهم، إن كانت هذه القرارات الصادرة ضدهم لها علاقة من قريب أو بعيد بهذه الأبعاد؟
الإصلاح عملية منسجمة تمس القاضي بالقدر الذي تمس جسم القضاء ككل، ولعل النجاح يستدعي التنبه لكل العراقيل التي توضع في طريقه لفرملته أو إبطائه أو حتى إفراغه من محتواه، وإذاك لن نكن قد ربحنا سلطة أو قطاعا سنكون قد ربحنا وطنا.



الثلاثاء 2 سبتمبر 2014

تعليق جديد
Twitter